مستقبل النظام السياسي.. في ظل ملامح "أخونة" الدولة
الأحد 29/ديسمبر/2013 - 11:45 ص
يسري العزباوى
تسود حالة الشك والريبة بين جميع القوى السياسية وبعضها البعض، خاصة بعد الاشتباك الذي حدث بين أنصار جماعة الإخوان المسلمين وبين التيارات الأخرى فيما كان يعرف باسم “,”جمعة تصحيح المسار“,”، وخروج مسودة الدستور الأولى للنور، التي حدث حولها نوع من الاتفاق غير المباشر بين القوى الليبرالية والعلمانية وبين بعض تيارات الإسلامي السياسي -التي توصف بأنها متشددة- على رفضها، وإن اختلفت دوافع وأهداف الرفض بين الاثنين.
وعلى صعيد آخر، فإن جماعة الإخوان المسلمين وحزبها السياسي غارقة في الكثير من المشاكل السياسية التي تنشأ إما نتيجة لقرارات خاطئة من قبل مكتب الإرشاد أو محاولاتها المتكررة في فرض رأيها السياسي على مجمل الأوضاع الداخلية وقضايا المرحلة الانتقالية، مثل استمرار الوضع كما هو عليه في الجمعية التأسيسية والانتهاء من وضع الدستور، ومن ثم عدم حل الجمعية التأسيسية، في تحدٍّ واضح لجميع قوى المجتمع المختلفة معها، بعد حديثها الدائم والمتكرر عن ضرورة توافق وإجماع وطني، على وجه التحديد في عملية وضع الدستور.
ارتباك مؤسسي:
ثمة حالة من الضبابية داخل أروقة مؤسسات الدولة في عملية صنع القرار، فعلى سبيل المثال فإنّ مؤسسة الرئاسة تردد قبل سفر الدكتور محمد مرسي -في إحدى زياراته الخارجية- إنه سيقوم بتفويض نائبه المستشار محمود مكي في جميع الاختصاصات والصلاحيات، إلا إننا فؤجئنا جميعًا بأنه لم يقم بذلك ، ولم توضح مؤسسة الرئاسة سبب عدم تفويض النائب، ومر القرار مرور الكرام على الجميع. والمثال الثاني، هو عدم تحديد اختصاصات فريق المساعدين للرئيس، وماذا يفعلون؟ وما هي حدود اختصاصاتهم؟ على الرغم من تسمية ملفات محددة لكل واحد منهم. وهل بالفعل هم مستشارو الرئيس أم غيرهم؟ ولماذا لم نلاحظ نشاطًا لأي منهم في أية قضية محددة؟ بل على العكس تمامًا، كادت تصريحات بعضهم تؤدي إلى حرب بين مصر وإحدى الدول العربية، التي لم تكتمل فيها الثورة بعد. أما البعض الآخر فيحاول بكل ما أوتي من قوة الدفاع عن الرئيس وصدق نواياه في زياراته الخارجية وجولاته الداخلية لأداء صلاة الجمعة في ربوع محافظات مصر.
أما المثال الثالث والأبرز، فيتمثل في طريقة إصدار قرار إقالة النائب العام والمحاولات المتكررة لاختراق القضاء. وعلى الرغم من أن إقالة النائب العام كانت مطلبا لعدد من القوى الثورية، فإن الطريقة ال غير قانونية أو الدستورية التي تم بها جعلت العديد من القوى المدنية تصطف حوله وحول السلطة القضائية حماية لها من تغول السلطة التنفيذية، وانتهى الأمر بخروج النائب العام من الأزمة كمناضل ضد محاولة اختراق السلطة القضائية . وعلى الرغم من احتواء الأزمة بين القضاة ومؤسسة الرئاسة فإن لم يحاسب أحد من مستشاري الرئيس الذين أشاروا عليه بأمر غير مشروع.
مؤشرات الأخونة
بدأت جماعة الإخوان بالفعل في اختراق مؤسسات الدولة، وذلك عقب حركة تغيير واسعة في رؤساء تحرير ومجالس إدارات الصحف القومية، في حركة لم تشهدها هذه الصحف منذ العهد الناصرى. أيضًا حدث ذلك في حركة المحافظين، حيث تم تعيين عدد ليس بالقليل من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، إمّا في منصب المحافظ أو نائب المحافظ، كما حدث نفس ذلك في فريق المساعدين للرئيس ووزارة الدكتور هشام قنديل، بتولي أكثر من قيادة داخل الجماعة منصب وزيرًا.
ومن الخطوات الإضافية التي قامت بها جماعة الإخوان، التحدي لأحكام القضاء بإصدار قرار رئيس الجمهورية بدعوة مجلس الشعب المنحل للانعقاد رغم حكم المحكمة الدستورية بالحل. والترويج لفكرة إصدار قانون للطوارئ، وآخر لتقييد حق التظاهر والإضراب باسم حماية مكتسبات الثورة، والاستمرار في الجمعية التأسيسية التي تشكلت على نفس الأسس التي حُلت بسببها الجمعية الأولى دون اعتبار لحكم القضاء، مع ترويع وإرهاب الصحفيين بإقالة رئيس تحرير الجمهورية، بقرار منفرد من رئيس مجلس الشورى الإخواني، وبالمخالفة للقانون والترويج لثقافة التكفير لكل من يخالفهم الرأي، وذلك عبر وسائل الإعلام، ويمارس ذلك العديد من قادتهم وقادة تيار الإسلام السياسي. أيضًا كانت هناك محاولة لتمرير لائحة طلابية – أقل ما توصف به بإنها استبدادية- تحرم على الطلاب حق العمل الثقافي والسياسي في الجامعة، والتصدي بالضرب للمتظاهرين السلميين كما حدث يوم الجمعة 12 أكتوبر 2012 بميدان التحرير.
ونشير هنا إلى بعض الأرقام، التي ربما توضح أو تجيب على تساؤل مهم، يتمثل فى: هل هناك بالفعل محاولة لأخونة الدولة؟، وتشير الأرقام إلى ما يلي:
أولاً: الفريق الرئاسي، المكون من 22 شخصًا: منهم 4 مساعدين و17 مستشارا“,”، فإن جماعة الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة لا يمثلهم أكثر من 7 أفراد فقط بنسبة 32%، وبالنسبة للنواب فليس هناك نائب إلا المستشار محمود مكي، وهو ليس من الإخوان أو من الحرية والعدالة (0/1)، وفي المساعدين هناك الدكتور عصام الحداد مساعد الرئيس لشئون العلاقات الخارجية والتعاون الدولي، وهو مساعد من أربعة مساعدين للرئيس (1/4)، وفي المستشارين هناك سبعة مستشارين من الـ17، وهم: د. أميمية كامل، ود. أيمن علي، ود. حسين القزاز، ود. عصام الحداد، ود. محيي حامد، ود. رفيق حبيب (6/17).
ثانيًا: التشكيل الوزاري، لم يكن لأعضاء الإخوان مع الحرية والعدالة سوى 6 وزراء فقط من 37 وزيرًا مع رئيس الوزراء (6/37)، بنسبة لم تتجاوز الـ17% فقط، حيث يشغل الدكتور أسامة ياسين منصب وزير الدولة لشئون الشباب، وصلاح عبد المقصود متولي منصب وزير الإعلام، والدكتور مصطفى السيد مسعد منصب وزير التعليم العالي، والدكتور محمد رشاد المتيني منصب وزير النقل، والدكتور طارق وفيق محمد منصب وزير الإسكان والمجتمعات العمرانية، وخالد الأزهري منصب وزير القوى العاملة والهجرة.
ثالثًا: المحافظين الـ27، فهناك خمسة فقط من أعضاء الجماعة وحزب الحرية والعدالة بنسبة 18% فقط، حيث يشغل المهندس سعد الحسيني منصب محافظ كفر الشيخ، والدكتور محمد علي بشر منصب محافظ المنوفية، والدكتور مصطفى عيسي كامل منصب محافظ المنيا، والدكتور محمد كشك محافظ أسيوط، والدكتور أسامة كمال محافظ القاهرة. وبالإضافة إلى ذلك قام رئيس الجمهورية بتعيين عدد من أعضاء الجماعة كنواب للمحافظين، وكان آخرها تعيين د. حسن البرنس نائبًا لمحافظ الإسكندرية، والمهندس محمد عزت بدوي نائبًا لمحافظ الشرقية.
رابعًا: المجلس القومي لحقوق الإنسان، فإن المنتمين للجماعة والحزب لم يتعد عددهم 4 من 27 هم أعضاء المجلس بالكامل، حيث ضم التشكيل كلاًّ من عبد المنعم عبد المقصود محامي الجماعة، والدكتور محمود غزلان المتحدث باسم مكتب الإرشاد، والدكتور محمد البلتاجي أمين الحزب بمحافظة القاهرة، ومحمد طوسون رئيس اللجنة التشريعية بمجلس الشورى.
خامسًا، المجلس الأعلى للصحافة: لم يضم التشكيل سوى أربعة فقط من إجمالي 39 عضوًا؛ وهم الدكتور أحمد فهمي رئيس مجلس الشورى، وعادل الأنصاري رئيس تحرير جريدة الحرية والعدالة، وفتحي شهاب الدين رئيس لجنة الإعلام بمجلس الشورى، وقطب العربي الكاتب الصحفي.
والجدير بالذكر هنا، أن لغة الأرقام تؤكد على محاولة الجماعة تواجدها داخل كل مؤسسات الدولة المختلفة، مما يدل على محاولة اختراقها، وإعداد وتجهيز كوادر الإخوان لتولي مسئوليتها في المستقبل.
وبذلك يمكن أن يوصف المشهد الراهن بأنه يزيد من حالة التخبط والارتباك والتي ستنعكس على مستقبل النظام السياسي المصري الجديد. وإزاء عملية الولادة المتعثرة للتحول الديمقراطي يجد المصريون أنفسهم أمام ثلاثة سيناريوهات للنظام السياسي الجديد، الذي يوجد على سدته رئيس ينتمي لجماعة ظلت تعمل في الظل لمدة تقارب خمسة وثمانين عامًا.
السيناريو الأول: وهو سيناريو العصيان المؤسسي وتأكيد الدولة المدنية ، وهو الأصعب تحقيقًا في المدى القريب؛ حيث يكون لعنصر الكفاءة والخبرة والاختصاص أساس تولي أي منصب فيها. ولا شك في أن الدولة المدنية الجديدة ستحافظ على منظومة حقوق الإنسان، وتحقيق تداول سلمي للسلطة، وحرية تكوين الأحزاب السياسية، والحفاظ على الهوية الوسطية وتحقيق دولة المواطنة، والتي يكون الحكم فيها للقانون، والاعتماد على التوافق السياسي الوطنى. ومن ثم سنكون أمام عدة نتائج لهذا السيناريو على الصعيد الداخلي والخارجى.
فعلى الصعيد الداخلي، سيكون هناك إعادة لبناء مؤسسات الدولة على أسس ومعايير جديدة، تتوافق مع روح وأهداف ومبادئ ثورة 25 يناير، خاصة وأن مؤشرات التحول الديمقراطي بها قدر كبير من التقدم على الرغم من كل المعوقات التي تواجهها، ولكن قوة الشارع والشباب قادرة دومًا على تصحيح المسار للسير قدما في الاتجاه الصحيح، هذا من جانب.
من جانب ثان، ستكون الدولة المدنية خير حافظ للهوية المصرية الضاربة بجذورها في عمق التاريخ لأكثر من 7000 سنة. والهوية المصرية هناك هي أكبر بكثير من مسألة الحفاظ على المصالح والثوابت العليا للدولة الوطنية المصرية، ولكنها تشمل القوة الناعمة التي تمتلكها مصر من تأثير ثقافي واجتماعي وفكري وسياسي ملموس ليس فقط لدى الأمة العربية، ولكن لدى الأمة الإسلامية (بشكل عام).
وعلى الصعيد الخارجي، عربيًا، ستكون مدنية الدولة المصرية قاطرة لباقي ثورات الربيع العربي، ومن ثم إعادة الوحدة واللحمة مرة أخرى للشعب الليبي والسوري واليمني، ولن تقوم المملكات العربية التي اهتزت عروشها نتيجة هذه الثورات بمحاولات وأدها، بل على العكس، ربما تساعد في إعادة بناء هذا الدولة على الأقل أقتصاديًا. ودوليًا ، ستكون مدنية الدولة المصرية هي الضمان الحقيقي لعدم حدوث أي صدام خارجي محتمل مع القيادة السياسية الجديدة؛ وذلك لأن السياسية الخارجية المصرية ستبنى على أساس المصلحة الوطنية فقط ولن يكون هناك اعتبارات أخرى.
السيناريو الثانى: التمكن الإخواني وانتصار الأخونة ، يقوم هذا السيناريو على أساس أسلمة الدولة وأسلمة مؤسسات المجتمع (إنشاء ديوان المظالم نموذجًا). وربما نجد أنفسنا أمام النموذج الإيراني الشيعي أي (سمة وجود مرجعية عليا)، يمكن أن تمثلها جماعة الإخوان المسلمين وهيكلها التنظيمي، وعلي قمته المرشد العام، ويأخذ من النموذج الوهابي السني فكرة “,”تطبيق الحدود“,” في الإسلام. وبالرغم من أن هذا السيناريو هو الأكثر إثارة للجدل، بحيث يمكن أن تصحبه درجة عالية من عدم الاستقرار وإمكانية إحلال نظام سلطوي جديد فإنه من غير المستبعد تحقق هذا السيناريو.
فلا شك أنه في حالة تبني الساسة الجدد في مصر لنهج الدولة الدينية، نكون بصدد عدة نتائج، أقلها خطورة هو تغيير جذري في بنية المؤسسات الوطنية، وأكثرها خطورة محاولة نقل دور مصر من المحيط إلاقليمي لتلعب دورًا عالميًا، وهذا ما لا تحمد عقباه، وسيأتي بنتيجة عكسية على الصعيد الداخلي والخارجي؛ لأن دولاً إقليمية ودولية لن تسمح بهذا الدور، ولنا في تجربة محمد على التوسعية أو حتى التجربة الناصرية خير دليل على ذلك.
ويمكن بلورة خطورة الدولة الدينية على المستوى الداخلى في، أولا: أسلمة الدستور والقوانين المكملة، والنص على ذلك صراحة، وهذا يتضح حاليًا مع رفض السلفيين مسودة الدستور، خاصة المادة الثانية منه والتي لم تذكر “,”أحكام الشريعة“,” واكتفت فقط بمبادئ الشريعية الإسلامية. والجدير بالذكر هنا أنه لا توجد في النظم السياسية المعاصرة أية دولة دينية سوى ثلاث دول فقط هى: الفاتيكان وإسرائيل وإيران. وباستثناء الدولة الأولى التي لها وضعية خاصة جدًا نجد الدولتين الثانية والثالثة تواجهان مشاكل وصعوبات مستمرة على المستوى الداخلي والخارجي، ووضعهما دائمًا أشبه بوضع دولة “,”في حالة حرب“,”، وهذا يؤثر كثيرًا في البنية الثقافية والاجتماعية للأمم. وإذا نظرنا لحالة الهجرة من الدولتين سنجدها في ازياد مستمر؛ لذلك تحاول إسرائيل على وجه التحديد دائمًا “,”استيراد البشر“,” من الخارج مع تقديم مغريات مادية ومعنوية عالية لهم.
ثانيًا: أسلمة وتديين مؤسسات الدولة: للتوافق مع الهوية الإسلامية للدولة؛ حيث تعمل القوى الجديدة على إسلمة وتديين المؤسسات الوطنية المختلفة؛ حتى تستطيع أن تصل إلى الهدف الأسمى وهو “,”الخلافة الإسلامية“,” أو “,”تطبيق الشريعة“,”، وذلك سيكون عن طريق تغذية هذه المؤسسات بقوى بشرية موالية لها ومؤمنة بعقيدتها وبالهدف الأسمى. ومن ثم سنكون أيضًا أمام سمة من سمات الأنظمة القديمة، وهي تقديم أهل الولاء عن أهل الخبرة والكفاءة، وسيتم إعادة إنتاج نظام أسوأ حالا من النظام السابق. والسؤال هنا كيف ستعمل مؤسسات وطنية مثل الأجهزة الأمنية أو المخابرات العامة أو حتى العسكرية مع مسألة تدينها؟ وهل ستسمح بذلك؟ وما هي الأسس والمفاهيم والآليات التي سوف تستخدمها هذه المؤسسات في الدولة الجديدة؟
ثالثًا: تغيير في دوائر صنع السياسة الخارجية، إن توجهات عملية صنع السياسة الخارجية معروفة منذ ثورة 23 يوليو 1952 في ظل نظرية الدوائر الثلاثة (العربية والإفريقية والإسلامية). ولكن في ظل الدولة الدينية بالضرورة ستتوحد هذه الدوائر في دائرة واحدة أشمل وأعم تتمثل في “,”الدائرة الإسلامية“,”، لأن نصرة المسلمين في غزة وباكستان وأفغانستان وبنجلاديش وأفريقيا الوسطى وربما في بلاد الفرنجة، هي نصرة واجبة، وهي من مقاصد الشريعة الإسلامية. واللافت، أن الدولة الدينية الجديدة ستكون عابرة للحدود القومية، وأن الولاء لن يكون للدولة الوطنية القومية في معناها الضيق، وسيتم استبدال “,”المواطنة للدولة الوطنية“,” بـ “,”المواطنة العالمية الإسلامية“,”. وبناء على ذلك فإن التحالفات المصرية المتعارف عليها مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول العربية سيحدث بها تغيير جذري وبناء تحالفات جديدة. ومن ثم ستتبوأ دول مثل إيران والسعودية وربما باكستان وأفغانستان على اعتبارهما دولاً إسلامية نطاق اهتمام أوسع، وسيكون لها الأولوية في التحالفات المصرية الجديدة. وفي هذه الحالة سنكون أمام حالة إحياء “,”الخلايا النائمة“,” من الجماعات الأصولية المتطرفة في بعض مناطق آسيا وإفريقيا، وهو ما بدأ بالفعل من تواجد عدد غير معروف من الجماعات الجهادية في سيناء، والتي يقوم الرئيس مرسي بالتفاوض معها بشكل مباشر، في سابقة هي الأولى في تاريخ مصر، والتي ربما تؤشر على ضعف مؤسسات الدولة –الداخلية والدفاع- في مواجهة مثل هذه البؤر المتطرفة. وكل هذه الأمور ستأتي، بالتأكيد، على مصر بتحديات إقليمية ودولية جديدة خاصة من الولايات المتحدة القطب الأوحد الآن. والأهم من كل ما سبق، تبرير السياسات الخارجية باستخدام الدين وليس من منطلق المصلحة القومية الوطنية العليا.
رابعًا: تراجع دور المؤسسة االثقافية، فمن المعروف للجميع أن المؤسسات الثقافية المصرية، خاصة الأزهر المعروف بالوسطية والاعتدال هو الأسبق في النشأة من تيارات الإسلام السياسي الأخرى بحوالي مائة عام، وتمتلك ما يطلق عليه في العلوم السياسية “,”قوة ناعمة“,” كبيرة، وله تأثير في كل دول العالم الإسلامية وغير الإسلامية. ومن ثم ستعمل القوى الجديدة على تغيير هذا المنهج لإيجاد منهج جديد يتواكب مع فكرتها العالمية للإسلام، ومن ثم سيفقد الأزهر ميزة الاعتدال والوسطية في حالة سيطرة هذه التيارات عليه، كما سيفتقد الإعلام والفن دوره الرائد في المنطقة.
خامسًا: السماح بنشأة الأحزاب الدينية، لن تمانع الدولة الدينية في نشأة الأحزاب على أسس دينية وربما نكون أمام -ولأول مرة – أحزاب يكون برنامجها وأهدافها هو تطبيق الحدود بدلاً من السعي إلى الوصول إلى السلطة، أو الدفاع عن فلسطين المحتلة رافعًا في ذلك راية الجهاد ضد العدو الإسرائيل، مستغلة في ذلك حالة الفقر وضعف التعليم لدى الكثير من الشباب الذي تلقى مثل هذه الأفكار رواجًا داخله.
أما على المستوى الخارجي، أولاً، إقامة تحالف ديني- ديني جديد في المنطقة ، وسيشمل هذا التحالف مصر الإخوانية وإيران ولاية الفقيه وربما السعودية السلفية. والميزة الوحيدة في ذلك أن التكلفة المادية والبشرية ستتوزع على الدول الثلاث المتحالفة، وسيضم عددًا كبيرًا من الدول الأخرى خاصة وأن السعودية لها القول الفصل في منطقة الخليج وإيران ستؤثر بلا شك في الدول الإسلامية الآسيوية المتجاورة معها، أما مصر فستؤثر في كل من ليبيا والسودان وفلسطين المقاومة. وسينضم لهذا التحالف في حالة تحقيق نجاح سياسي واقتصادي حقيقي بعض دول الأطراف ربما تونس والمغرب وماليزيا وأندونسيا في المستقبل، وبذلك تتحقق دولة الخلافة (الهدف الأسمى لدى الجماعة) وإن كان هذا مستبعدًا، فستكون هناك محاولات لتحقيقه على الأقل.
ثانيًا، دخول المنطقة في صراع سياسي جديد مع الويات المتحدة والاتحاد الأوروبي ، وعسكري مع إسرائيل، خاصة أن إيران تحاول جاهدة إقحام مصر في صراعها مع إسرائيل تحت راية المقاومة الإسلامية للكيان الصهيونى. ومن ثم ستكون المنطقة بؤرة توتر سياسي وعسكري جديد ربما تؤدي إلى حرب عالمية رابعة في ظل عودة الدب الروسي ومحاولة التنين الصيني البحث عن دور عالمى.
السيناريو الثالث: دولة التوافق المدني الديني وذلك في ظل محاولات من القوى السياسية المدنية التصدي لجماعة الإخوان والسلفيين انتخابيًا على الأقل، مع مقاومة مؤسسات الدولة محاولة اختراقها، كما يفعل القضاء حاليًا، والذي أصبح المؤسسة الوحيدة التي يأمل المصريون استمرار تماسكها على الرغم من الفساد بداخلها. ومن ثم فإن نتائج هذا السيناريو على الصعيد الداخلي يتمثل في استمرار حالة التخبط والارتباك في صنع القرار، والدخول في مرحلة العنف والفوضى بعض الأحيان، وهو أخطرها على الإطلاق، أو إقامة دولة مدنية إسلامية عصرية على غرار تركيا بأيدي وبصمات مصرية معتدلة، تحتكم فيها القوى السياسية إلى المهنية والكفاءة في بناء مؤسسات الدولة بمعناها الحديث.
واللافت أن هذا السيناريو يبدو مقبولاً من قطاعات واسعة من المواطنين. ويستهدف إقامة دولة ديمقراطية على النموذج التركي، ولكنها غير متطرفة في علمانيتها، كما هو الحال بالنسبة لتركيا، حيث يقوم نظام برلماني، أو رئاسي برلماني يحوز فيه حزب ذو مرجعية إسلامية علي أغلبية مقاعد البرلمان، ويشكل حكومة ذات مرجعية إسلامية لديها رؤية واضحة لتحقيق برامج للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
أما على الصعيد الخارجي، فسينتج عن هذا السيناريو الاستقرار في المنطقة من خلال محاولة إقامة الدولة الفلسطينية وحل الصراع النووي الإيراني، وتقارب مصري تركي، مع محاولة تفعيل بعض المنظمات الإقليمية مثل منظمة المؤتمر الإسلامي وعدم الانحياز لحشد بعض أفراد المجتمع الدولي لمساندة القضايا العربية والإسلامية.
ملاحظات عامة علي السيناريوهات السابقة
في الواقع هناك عدة ملاحظات علي السيناريوهات السابقة، منها على سبيل المثال: أولاً، يبقى الرهان على المؤسسة العسكرية في تحقيق أو عدم تحقيق أيًا من هذه السيناريوهات. فقد تلعب المؤسسة العسكرية دورًا مهمًا وفعّالاً في حماية الدولة وحماية مصالح الشعب، حتي لو لم تتم دعوتها من جانب النظام القائم للاضطلاع بهذا الدور. وما دفع المؤسسة العسكرية للخروج على النظام السياسي السابق والانحياز لحماية الشعب والدولة، ويمكن أن يدفعها للتدخل مرات أخرى طوال المرحلة الانتقالية للثورة، والتي قد تمتد لسنوات قادمة لا يعلم أحد عددها في ظل حالة التخبط المستمرة، ومحاولة الاستثأر من جانب جماعة الإخوان المسلمين، والتشدد في مطالب السلفيين والجماعة الإسلامية. والجدير بالقول أيضًا أن مراجعة هذه السيناريوهات، تكشف عن أنها قد لا تمثل مسارات أو سيناريوهات مختلفة لتطور النظام السياسي قدر ما يمكن أن تمثل مسارات أو سيناريوهات متلاحقة، يقود فشل أحدها في المرحلة الانتقالية إلى ضدها في مراحل لاحقة.
ثانيًا ، إن هذه السيناريوهات تبدو وكأنها تقع على خط مستقيم، يمثل طرفه الأول السيناريو الأول والأكثر انسجامًا مع فكرة التحول الديمقراطي الحقيقي (الدولة المدنية)، ويمثل طرفه الثاني السيناريو الأكثر إثارة للجدل (دولة دينية يستمد فيها الحكم شرعيته من الدين). وما بين هاتين النقطتين، يأتي السيناريو الثالث ( نظام مدني بصبغة دينية) وعدد آخر من السيناريوهات التي تقف في منطقة وسط بينهما، منها سيناريو إعادة عسكرة الدولة -وإن كان مستبعدًا- لأنه يتطلب إنقلابًا عسكريًا على الرئيس محمد مرسى.
ثالثًا، قدرة مؤسسات الدولة المختلفة على استيعاب التغيير أو الاستجابة له قبولاً أو رفضًا. بمعنى آخر، إذ اتخذت النظام السياسي مسارًا معينًا، على غير رغبة المجتمع، فإن مؤسسات الدولة المختلقة قد تقف حجر عثرة في تنفيذه، وهذا ما يحدث حاليًا من وقوف مؤسسة القضاء تجاه محاولة تقليص دورها في الدستور الجديد، أو تغول السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية.
ومجمل القول، فإنه يترتب على تحقيق السيناريوهات السابقة بالنسبة للدولة المدنية أو الدينية الكثير من الأمور، منها: أولاً تحقيق توافق واسع لدى النخب المختلفة على ضرورة الخروج من المأزق الذي نعيشه حاليًا من حالة تخبط وارتباك كبير، وثانيًا الاتفاق على معيار واحد يتم الاحتكام إليه في حالة عدم التوافق، وليكن “,”شرعية صندوق الانتخابات“,” على أن يكون الحكم والفيصل الوحيد في هذه المرحلة الانتقالية. وثالثًا إنهاء حالة الاستقطاب الحادة في المجتمع والتي انتقلت من الأحزاب السياسية والائتلافات الشبابية إلى أفراد الشعب ومؤسساته، وأخيرًا جعل المصلحة العليا الوطنية أمام نصب أعيننا والتخلي عن الذاتية والشرنقة الضيقة التي تحمل في طياتها الهلاك للجميع.
وعلى صعيد آخر، فإن جماعة الإخوان المسلمين وحزبها السياسي غارقة في الكثير من المشاكل السياسية التي تنشأ إما نتيجة لقرارات خاطئة من قبل مكتب الإرشاد أو محاولاتها المتكررة في فرض رأيها السياسي على مجمل الأوضاع الداخلية وقضايا المرحلة الانتقالية، مثل استمرار الوضع كما هو عليه في الجمعية التأسيسية والانتهاء من وضع الدستور، ومن ثم عدم حل الجمعية التأسيسية، في تحدٍّ واضح لجميع قوى المجتمع المختلفة معها، بعد حديثها الدائم والمتكرر عن ضرورة توافق وإجماع وطني، على وجه التحديد في عملية وضع الدستور.
ارتباك مؤسسي:
ثمة حالة من الضبابية داخل أروقة مؤسسات الدولة في عملية صنع القرار، فعلى سبيل المثال فإنّ مؤسسة الرئاسة تردد قبل سفر الدكتور محمد مرسي -في إحدى زياراته الخارجية- إنه سيقوم بتفويض نائبه المستشار محمود مكي في جميع الاختصاصات والصلاحيات، إلا إننا فؤجئنا جميعًا بأنه لم يقم بذلك ، ولم توضح مؤسسة الرئاسة سبب عدم تفويض النائب، ومر القرار مرور الكرام على الجميع. والمثال الثاني، هو عدم تحديد اختصاصات فريق المساعدين للرئيس، وماذا يفعلون؟ وما هي حدود اختصاصاتهم؟ على الرغم من تسمية ملفات محددة لكل واحد منهم. وهل بالفعل هم مستشارو الرئيس أم غيرهم؟ ولماذا لم نلاحظ نشاطًا لأي منهم في أية قضية محددة؟ بل على العكس تمامًا، كادت تصريحات بعضهم تؤدي إلى حرب بين مصر وإحدى الدول العربية، التي لم تكتمل فيها الثورة بعد. أما البعض الآخر فيحاول بكل ما أوتي من قوة الدفاع عن الرئيس وصدق نواياه في زياراته الخارجية وجولاته الداخلية لأداء صلاة الجمعة في ربوع محافظات مصر.
أما المثال الثالث والأبرز، فيتمثل في طريقة إصدار قرار إقالة النائب العام والمحاولات المتكررة لاختراق القضاء. وعلى الرغم من أن إقالة النائب العام كانت مطلبا لعدد من القوى الثورية، فإن الطريقة ال غير قانونية أو الدستورية التي تم بها جعلت العديد من القوى المدنية تصطف حوله وحول السلطة القضائية حماية لها من تغول السلطة التنفيذية، وانتهى الأمر بخروج النائب العام من الأزمة كمناضل ضد محاولة اختراق السلطة القضائية . وعلى الرغم من احتواء الأزمة بين القضاة ومؤسسة الرئاسة فإن لم يحاسب أحد من مستشاري الرئيس الذين أشاروا عليه بأمر غير مشروع.
مؤشرات الأخونة
بدأت جماعة الإخوان بالفعل في اختراق مؤسسات الدولة، وذلك عقب حركة تغيير واسعة في رؤساء تحرير ومجالس إدارات الصحف القومية، في حركة لم تشهدها هذه الصحف منذ العهد الناصرى. أيضًا حدث ذلك في حركة المحافظين، حيث تم تعيين عدد ليس بالقليل من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، إمّا في منصب المحافظ أو نائب المحافظ، كما حدث نفس ذلك في فريق المساعدين للرئيس ووزارة الدكتور هشام قنديل، بتولي أكثر من قيادة داخل الجماعة منصب وزيرًا.
ومن الخطوات الإضافية التي قامت بها جماعة الإخوان، التحدي لأحكام القضاء بإصدار قرار رئيس الجمهورية بدعوة مجلس الشعب المنحل للانعقاد رغم حكم المحكمة الدستورية بالحل. والترويج لفكرة إصدار قانون للطوارئ، وآخر لتقييد حق التظاهر والإضراب باسم حماية مكتسبات الثورة، والاستمرار في الجمعية التأسيسية التي تشكلت على نفس الأسس التي حُلت بسببها الجمعية الأولى دون اعتبار لحكم القضاء، مع ترويع وإرهاب الصحفيين بإقالة رئيس تحرير الجمهورية، بقرار منفرد من رئيس مجلس الشورى الإخواني، وبالمخالفة للقانون والترويج لثقافة التكفير لكل من يخالفهم الرأي، وذلك عبر وسائل الإعلام، ويمارس ذلك العديد من قادتهم وقادة تيار الإسلام السياسي. أيضًا كانت هناك محاولة لتمرير لائحة طلابية – أقل ما توصف به بإنها استبدادية- تحرم على الطلاب حق العمل الثقافي والسياسي في الجامعة، والتصدي بالضرب للمتظاهرين السلميين كما حدث يوم الجمعة 12 أكتوبر 2012 بميدان التحرير.
ونشير هنا إلى بعض الأرقام، التي ربما توضح أو تجيب على تساؤل مهم، يتمثل فى: هل هناك بالفعل محاولة لأخونة الدولة؟، وتشير الأرقام إلى ما يلي:
أولاً: الفريق الرئاسي، المكون من 22 شخصًا: منهم 4 مساعدين و17 مستشارا“,”، فإن جماعة الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة لا يمثلهم أكثر من 7 أفراد فقط بنسبة 32%، وبالنسبة للنواب فليس هناك نائب إلا المستشار محمود مكي، وهو ليس من الإخوان أو من الحرية والعدالة (0/1)، وفي المساعدين هناك الدكتور عصام الحداد مساعد الرئيس لشئون العلاقات الخارجية والتعاون الدولي، وهو مساعد من أربعة مساعدين للرئيس (1/4)، وفي المستشارين هناك سبعة مستشارين من الـ17، وهم: د. أميمية كامل، ود. أيمن علي، ود. حسين القزاز، ود. عصام الحداد، ود. محيي حامد، ود. رفيق حبيب (6/17).
ثانيًا: التشكيل الوزاري، لم يكن لأعضاء الإخوان مع الحرية والعدالة سوى 6 وزراء فقط من 37 وزيرًا مع رئيس الوزراء (6/37)، بنسبة لم تتجاوز الـ17% فقط، حيث يشغل الدكتور أسامة ياسين منصب وزير الدولة لشئون الشباب، وصلاح عبد المقصود متولي منصب وزير الإعلام، والدكتور مصطفى السيد مسعد منصب وزير التعليم العالي، والدكتور محمد رشاد المتيني منصب وزير النقل، والدكتور طارق وفيق محمد منصب وزير الإسكان والمجتمعات العمرانية، وخالد الأزهري منصب وزير القوى العاملة والهجرة.
ثالثًا: المحافظين الـ27، فهناك خمسة فقط من أعضاء الجماعة وحزب الحرية والعدالة بنسبة 18% فقط، حيث يشغل المهندس سعد الحسيني منصب محافظ كفر الشيخ، والدكتور محمد علي بشر منصب محافظ المنوفية، والدكتور مصطفى عيسي كامل منصب محافظ المنيا، والدكتور محمد كشك محافظ أسيوط، والدكتور أسامة كمال محافظ القاهرة. وبالإضافة إلى ذلك قام رئيس الجمهورية بتعيين عدد من أعضاء الجماعة كنواب للمحافظين، وكان آخرها تعيين د. حسن البرنس نائبًا لمحافظ الإسكندرية، والمهندس محمد عزت بدوي نائبًا لمحافظ الشرقية.
رابعًا: المجلس القومي لحقوق الإنسان، فإن المنتمين للجماعة والحزب لم يتعد عددهم 4 من 27 هم أعضاء المجلس بالكامل، حيث ضم التشكيل كلاًّ من عبد المنعم عبد المقصود محامي الجماعة، والدكتور محمود غزلان المتحدث باسم مكتب الإرشاد، والدكتور محمد البلتاجي أمين الحزب بمحافظة القاهرة، ومحمد طوسون رئيس اللجنة التشريعية بمجلس الشورى.
خامسًا، المجلس الأعلى للصحافة: لم يضم التشكيل سوى أربعة فقط من إجمالي 39 عضوًا؛ وهم الدكتور أحمد فهمي رئيس مجلس الشورى، وعادل الأنصاري رئيس تحرير جريدة الحرية والعدالة، وفتحي شهاب الدين رئيس لجنة الإعلام بمجلس الشورى، وقطب العربي الكاتب الصحفي.
والجدير بالذكر هنا، أن لغة الأرقام تؤكد على محاولة الجماعة تواجدها داخل كل مؤسسات الدولة المختلفة، مما يدل على محاولة اختراقها، وإعداد وتجهيز كوادر الإخوان لتولي مسئوليتها في المستقبل.
وبذلك يمكن أن يوصف المشهد الراهن بأنه يزيد من حالة التخبط والارتباك والتي ستنعكس على مستقبل النظام السياسي المصري الجديد. وإزاء عملية الولادة المتعثرة للتحول الديمقراطي يجد المصريون أنفسهم أمام ثلاثة سيناريوهات للنظام السياسي الجديد، الذي يوجد على سدته رئيس ينتمي لجماعة ظلت تعمل في الظل لمدة تقارب خمسة وثمانين عامًا.
السيناريو الأول: وهو سيناريو العصيان المؤسسي وتأكيد الدولة المدنية ، وهو الأصعب تحقيقًا في المدى القريب؛ حيث يكون لعنصر الكفاءة والخبرة والاختصاص أساس تولي أي منصب فيها. ولا شك في أن الدولة المدنية الجديدة ستحافظ على منظومة حقوق الإنسان، وتحقيق تداول سلمي للسلطة، وحرية تكوين الأحزاب السياسية، والحفاظ على الهوية الوسطية وتحقيق دولة المواطنة، والتي يكون الحكم فيها للقانون، والاعتماد على التوافق السياسي الوطنى. ومن ثم سنكون أمام عدة نتائج لهذا السيناريو على الصعيد الداخلي والخارجى.
فعلى الصعيد الداخلي، سيكون هناك إعادة لبناء مؤسسات الدولة على أسس ومعايير جديدة، تتوافق مع روح وأهداف ومبادئ ثورة 25 يناير، خاصة وأن مؤشرات التحول الديمقراطي بها قدر كبير من التقدم على الرغم من كل المعوقات التي تواجهها، ولكن قوة الشارع والشباب قادرة دومًا على تصحيح المسار للسير قدما في الاتجاه الصحيح، هذا من جانب.
من جانب ثان، ستكون الدولة المدنية خير حافظ للهوية المصرية الضاربة بجذورها في عمق التاريخ لأكثر من 7000 سنة. والهوية المصرية هناك هي أكبر بكثير من مسألة الحفاظ على المصالح والثوابت العليا للدولة الوطنية المصرية، ولكنها تشمل القوة الناعمة التي تمتلكها مصر من تأثير ثقافي واجتماعي وفكري وسياسي ملموس ليس فقط لدى الأمة العربية، ولكن لدى الأمة الإسلامية (بشكل عام).
وعلى الصعيد الخارجي، عربيًا، ستكون مدنية الدولة المصرية قاطرة لباقي ثورات الربيع العربي، ومن ثم إعادة الوحدة واللحمة مرة أخرى للشعب الليبي والسوري واليمني، ولن تقوم المملكات العربية التي اهتزت عروشها نتيجة هذه الثورات بمحاولات وأدها، بل على العكس، ربما تساعد في إعادة بناء هذا الدولة على الأقل أقتصاديًا. ودوليًا ، ستكون مدنية الدولة المصرية هي الضمان الحقيقي لعدم حدوث أي صدام خارجي محتمل مع القيادة السياسية الجديدة؛ وذلك لأن السياسية الخارجية المصرية ستبنى على أساس المصلحة الوطنية فقط ولن يكون هناك اعتبارات أخرى.
السيناريو الثانى: التمكن الإخواني وانتصار الأخونة ، يقوم هذا السيناريو على أساس أسلمة الدولة وأسلمة مؤسسات المجتمع (إنشاء ديوان المظالم نموذجًا). وربما نجد أنفسنا أمام النموذج الإيراني الشيعي أي (سمة وجود مرجعية عليا)، يمكن أن تمثلها جماعة الإخوان المسلمين وهيكلها التنظيمي، وعلي قمته المرشد العام، ويأخذ من النموذج الوهابي السني فكرة “,”تطبيق الحدود“,” في الإسلام. وبالرغم من أن هذا السيناريو هو الأكثر إثارة للجدل، بحيث يمكن أن تصحبه درجة عالية من عدم الاستقرار وإمكانية إحلال نظام سلطوي جديد فإنه من غير المستبعد تحقق هذا السيناريو.
فلا شك أنه في حالة تبني الساسة الجدد في مصر لنهج الدولة الدينية، نكون بصدد عدة نتائج، أقلها خطورة هو تغيير جذري في بنية المؤسسات الوطنية، وأكثرها خطورة محاولة نقل دور مصر من المحيط إلاقليمي لتلعب دورًا عالميًا، وهذا ما لا تحمد عقباه، وسيأتي بنتيجة عكسية على الصعيد الداخلي والخارجي؛ لأن دولاً إقليمية ودولية لن تسمح بهذا الدور، ولنا في تجربة محمد على التوسعية أو حتى التجربة الناصرية خير دليل على ذلك.
ويمكن بلورة خطورة الدولة الدينية على المستوى الداخلى في، أولا: أسلمة الدستور والقوانين المكملة، والنص على ذلك صراحة، وهذا يتضح حاليًا مع رفض السلفيين مسودة الدستور، خاصة المادة الثانية منه والتي لم تذكر “,”أحكام الشريعة“,” واكتفت فقط بمبادئ الشريعية الإسلامية. والجدير بالذكر هنا أنه لا توجد في النظم السياسية المعاصرة أية دولة دينية سوى ثلاث دول فقط هى: الفاتيكان وإسرائيل وإيران. وباستثناء الدولة الأولى التي لها وضعية خاصة جدًا نجد الدولتين الثانية والثالثة تواجهان مشاكل وصعوبات مستمرة على المستوى الداخلي والخارجي، ووضعهما دائمًا أشبه بوضع دولة “,”في حالة حرب“,”، وهذا يؤثر كثيرًا في البنية الثقافية والاجتماعية للأمم. وإذا نظرنا لحالة الهجرة من الدولتين سنجدها في ازياد مستمر؛ لذلك تحاول إسرائيل على وجه التحديد دائمًا “,”استيراد البشر“,” من الخارج مع تقديم مغريات مادية ومعنوية عالية لهم.
ثانيًا: أسلمة وتديين مؤسسات الدولة: للتوافق مع الهوية الإسلامية للدولة؛ حيث تعمل القوى الجديدة على إسلمة وتديين المؤسسات الوطنية المختلفة؛ حتى تستطيع أن تصل إلى الهدف الأسمى وهو “,”الخلافة الإسلامية“,” أو “,”تطبيق الشريعة“,”، وذلك سيكون عن طريق تغذية هذه المؤسسات بقوى بشرية موالية لها ومؤمنة بعقيدتها وبالهدف الأسمى. ومن ثم سنكون أيضًا أمام سمة من سمات الأنظمة القديمة، وهي تقديم أهل الولاء عن أهل الخبرة والكفاءة، وسيتم إعادة إنتاج نظام أسوأ حالا من النظام السابق. والسؤال هنا كيف ستعمل مؤسسات وطنية مثل الأجهزة الأمنية أو المخابرات العامة أو حتى العسكرية مع مسألة تدينها؟ وهل ستسمح بذلك؟ وما هي الأسس والمفاهيم والآليات التي سوف تستخدمها هذه المؤسسات في الدولة الجديدة؟
ثالثًا: تغيير في دوائر صنع السياسة الخارجية، إن توجهات عملية صنع السياسة الخارجية معروفة منذ ثورة 23 يوليو 1952 في ظل نظرية الدوائر الثلاثة (العربية والإفريقية والإسلامية). ولكن في ظل الدولة الدينية بالضرورة ستتوحد هذه الدوائر في دائرة واحدة أشمل وأعم تتمثل في “,”الدائرة الإسلامية“,”، لأن نصرة المسلمين في غزة وباكستان وأفغانستان وبنجلاديش وأفريقيا الوسطى وربما في بلاد الفرنجة، هي نصرة واجبة، وهي من مقاصد الشريعة الإسلامية. واللافت، أن الدولة الدينية الجديدة ستكون عابرة للحدود القومية، وأن الولاء لن يكون للدولة الوطنية القومية في معناها الضيق، وسيتم استبدال “,”المواطنة للدولة الوطنية“,” بـ “,”المواطنة العالمية الإسلامية“,”. وبناء على ذلك فإن التحالفات المصرية المتعارف عليها مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول العربية سيحدث بها تغيير جذري وبناء تحالفات جديدة. ومن ثم ستتبوأ دول مثل إيران والسعودية وربما باكستان وأفغانستان على اعتبارهما دولاً إسلامية نطاق اهتمام أوسع، وسيكون لها الأولوية في التحالفات المصرية الجديدة. وفي هذه الحالة سنكون أمام حالة إحياء “,”الخلايا النائمة“,” من الجماعات الأصولية المتطرفة في بعض مناطق آسيا وإفريقيا، وهو ما بدأ بالفعل من تواجد عدد غير معروف من الجماعات الجهادية في سيناء، والتي يقوم الرئيس مرسي بالتفاوض معها بشكل مباشر، في سابقة هي الأولى في تاريخ مصر، والتي ربما تؤشر على ضعف مؤسسات الدولة –الداخلية والدفاع- في مواجهة مثل هذه البؤر المتطرفة. وكل هذه الأمور ستأتي، بالتأكيد، على مصر بتحديات إقليمية ودولية جديدة خاصة من الولايات المتحدة القطب الأوحد الآن. والأهم من كل ما سبق، تبرير السياسات الخارجية باستخدام الدين وليس من منطلق المصلحة القومية الوطنية العليا.
رابعًا: تراجع دور المؤسسة االثقافية، فمن المعروف للجميع أن المؤسسات الثقافية المصرية، خاصة الأزهر المعروف بالوسطية والاعتدال هو الأسبق في النشأة من تيارات الإسلام السياسي الأخرى بحوالي مائة عام، وتمتلك ما يطلق عليه في العلوم السياسية “,”قوة ناعمة“,” كبيرة، وله تأثير في كل دول العالم الإسلامية وغير الإسلامية. ومن ثم ستعمل القوى الجديدة على تغيير هذا المنهج لإيجاد منهج جديد يتواكب مع فكرتها العالمية للإسلام، ومن ثم سيفقد الأزهر ميزة الاعتدال والوسطية في حالة سيطرة هذه التيارات عليه، كما سيفتقد الإعلام والفن دوره الرائد في المنطقة.
خامسًا: السماح بنشأة الأحزاب الدينية، لن تمانع الدولة الدينية في نشأة الأحزاب على أسس دينية وربما نكون أمام -ولأول مرة – أحزاب يكون برنامجها وأهدافها هو تطبيق الحدود بدلاً من السعي إلى الوصول إلى السلطة، أو الدفاع عن فلسطين المحتلة رافعًا في ذلك راية الجهاد ضد العدو الإسرائيل، مستغلة في ذلك حالة الفقر وضعف التعليم لدى الكثير من الشباب الذي تلقى مثل هذه الأفكار رواجًا داخله.
أما على المستوى الخارجي، أولاً، إقامة تحالف ديني- ديني جديد في المنطقة ، وسيشمل هذا التحالف مصر الإخوانية وإيران ولاية الفقيه وربما السعودية السلفية. والميزة الوحيدة في ذلك أن التكلفة المادية والبشرية ستتوزع على الدول الثلاث المتحالفة، وسيضم عددًا كبيرًا من الدول الأخرى خاصة وأن السعودية لها القول الفصل في منطقة الخليج وإيران ستؤثر بلا شك في الدول الإسلامية الآسيوية المتجاورة معها، أما مصر فستؤثر في كل من ليبيا والسودان وفلسطين المقاومة. وسينضم لهذا التحالف في حالة تحقيق نجاح سياسي واقتصادي حقيقي بعض دول الأطراف ربما تونس والمغرب وماليزيا وأندونسيا في المستقبل، وبذلك تتحقق دولة الخلافة (الهدف الأسمى لدى الجماعة) وإن كان هذا مستبعدًا، فستكون هناك محاولات لتحقيقه على الأقل.
ثانيًا، دخول المنطقة في صراع سياسي جديد مع الويات المتحدة والاتحاد الأوروبي ، وعسكري مع إسرائيل، خاصة أن إيران تحاول جاهدة إقحام مصر في صراعها مع إسرائيل تحت راية المقاومة الإسلامية للكيان الصهيونى. ومن ثم ستكون المنطقة بؤرة توتر سياسي وعسكري جديد ربما تؤدي إلى حرب عالمية رابعة في ظل عودة الدب الروسي ومحاولة التنين الصيني البحث عن دور عالمى.
السيناريو الثالث: دولة التوافق المدني الديني وذلك في ظل محاولات من القوى السياسية المدنية التصدي لجماعة الإخوان والسلفيين انتخابيًا على الأقل، مع مقاومة مؤسسات الدولة محاولة اختراقها، كما يفعل القضاء حاليًا، والذي أصبح المؤسسة الوحيدة التي يأمل المصريون استمرار تماسكها على الرغم من الفساد بداخلها. ومن ثم فإن نتائج هذا السيناريو على الصعيد الداخلي يتمثل في استمرار حالة التخبط والارتباك في صنع القرار، والدخول في مرحلة العنف والفوضى بعض الأحيان، وهو أخطرها على الإطلاق، أو إقامة دولة مدنية إسلامية عصرية على غرار تركيا بأيدي وبصمات مصرية معتدلة، تحتكم فيها القوى السياسية إلى المهنية والكفاءة في بناء مؤسسات الدولة بمعناها الحديث.
واللافت أن هذا السيناريو يبدو مقبولاً من قطاعات واسعة من المواطنين. ويستهدف إقامة دولة ديمقراطية على النموذج التركي، ولكنها غير متطرفة في علمانيتها، كما هو الحال بالنسبة لتركيا، حيث يقوم نظام برلماني، أو رئاسي برلماني يحوز فيه حزب ذو مرجعية إسلامية علي أغلبية مقاعد البرلمان، ويشكل حكومة ذات مرجعية إسلامية لديها رؤية واضحة لتحقيق برامج للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
أما على الصعيد الخارجي، فسينتج عن هذا السيناريو الاستقرار في المنطقة من خلال محاولة إقامة الدولة الفلسطينية وحل الصراع النووي الإيراني، وتقارب مصري تركي، مع محاولة تفعيل بعض المنظمات الإقليمية مثل منظمة المؤتمر الإسلامي وعدم الانحياز لحشد بعض أفراد المجتمع الدولي لمساندة القضايا العربية والإسلامية.
ملاحظات عامة علي السيناريوهات السابقة
في الواقع هناك عدة ملاحظات علي السيناريوهات السابقة، منها على سبيل المثال: أولاً، يبقى الرهان على المؤسسة العسكرية في تحقيق أو عدم تحقيق أيًا من هذه السيناريوهات. فقد تلعب المؤسسة العسكرية دورًا مهمًا وفعّالاً في حماية الدولة وحماية مصالح الشعب، حتي لو لم تتم دعوتها من جانب النظام القائم للاضطلاع بهذا الدور. وما دفع المؤسسة العسكرية للخروج على النظام السياسي السابق والانحياز لحماية الشعب والدولة، ويمكن أن يدفعها للتدخل مرات أخرى طوال المرحلة الانتقالية للثورة، والتي قد تمتد لسنوات قادمة لا يعلم أحد عددها في ظل حالة التخبط المستمرة، ومحاولة الاستثأر من جانب جماعة الإخوان المسلمين، والتشدد في مطالب السلفيين والجماعة الإسلامية. والجدير بالقول أيضًا أن مراجعة هذه السيناريوهات، تكشف عن أنها قد لا تمثل مسارات أو سيناريوهات مختلفة لتطور النظام السياسي قدر ما يمكن أن تمثل مسارات أو سيناريوهات متلاحقة، يقود فشل أحدها في المرحلة الانتقالية إلى ضدها في مراحل لاحقة.
ثانيًا ، إن هذه السيناريوهات تبدو وكأنها تقع على خط مستقيم، يمثل طرفه الأول السيناريو الأول والأكثر انسجامًا مع فكرة التحول الديمقراطي الحقيقي (الدولة المدنية)، ويمثل طرفه الثاني السيناريو الأكثر إثارة للجدل (دولة دينية يستمد فيها الحكم شرعيته من الدين). وما بين هاتين النقطتين، يأتي السيناريو الثالث ( نظام مدني بصبغة دينية) وعدد آخر من السيناريوهات التي تقف في منطقة وسط بينهما، منها سيناريو إعادة عسكرة الدولة -وإن كان مستبعدًا- لأنه يتطلب إنقلابًا عسكريًا على الرئيس محمد مرسى.
ثالثًا، قدرة مؤسسات الدولة المختلفة على استيعاب التغيير أو الاستجابة له قبولاً أو رفضًا. بمعنى آخر، إذ اتخذت النظام السياسي مسارًا معينًا، على غير رغبة المجتمع، فإن مؤسسات الدولة المختلقة قد تقف حجر عثرة في تنفيذه، وهذا ما يحدث حاليًا من وقوف مؤسسة القضاء تجاه محاولة تقليص دورها في الدستور الجديد، أو تغول السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية.
ومجمل القول، فإنه يترتب على تحقيق السيناريوهات السابقة بالنسبة للدولة المدنية أو الدينية الكثير من الأمور، منها: أولاً تحقيق توافق واسع لدى النخب المختلفة على ضرورة الخروج من المأزق الذي نعيشه حاليًا من حالة تخبط وارتباك كبير، وثانيًا الاتفاق على معيار واحد يتم الاحتكام إليه في حالة عدم التوافق، وليكن “,”شرعية صندوق الانتخابات“,” على أن يكون الحكم والفيصل الوحيد في هذه المرحلة الانتقالية. وثالثًا إنهاء حالة الاستقطاب الحادة في المجتمع والتي انتقلت من الأحزاب السياسية والائتلافات الشبابية إلى أفراد الشعب ومؤسساته، وأخيرًا جعل المصلحة العليا الوطنية أمام نصب أعيننا والتخلي عن الذاتية والشرنقة الضيقة التي تحمل في طياتها الهلاك للجميع.