الصراع على روح الدولة المصرية الحديثة! انهيار أم اختلالات هيكلية؟
الأحد 29/ديسمبر/2013 - 01:17 م
بقلم: نبيل عبدالفتاح
الخطاب حول الدولة في مصر يبدو استثنائيًّا، لا سيما بعد 25 يناير 2011، بعد مرور عامين على الانتفاضة الثورية، أو الثورة، على نحو ما يشيع في المجازات الشائعة التي يرددها غالب النخب السياسية في الحكم والمعارضة، وعلى ألسنة الجمهور أيًّا كانت حظوظهم من التعليم أو الثقافة!
الطابع الاستثنائي للجدل حول الدولة مرجعه أن ثمة بعضًا من اليقينيات، التي سادت في الوعي شبه الجمعي لدى شرائح اجتماعية عديدة، أن الدولة في مصر تبدو أكثر رسوخًا وقِدمًا واستقرارًا، على الرغم من بعض الأزمات الاجتماعية أو الاقتصادية والسياسية... الخ، التي تعترض حياة المصريين! من هنا لم تكن مسألة الدولة تطرح من زاوية انهيارها أو تفككها أو تقوّض بعض أركانها!
ومن هنا يبدو هذا “,”اليقين“,” شبه المستقر في الوعي شبه العام موضوعًا للشك حينًا، واستخدام غالب الجمهور لعديد الأوصاف “,”اليقينية“,” الصادمة من قبيل: انهيار الدولة، وغياب الدولة، وغيرها من النعوت التي تشير إلى أن موضوع الدولة تحوّل إلى جزء من الخطابات اليومية لغالب المواطنين، وهو أمر ينطوي على استثنائية ربما لم نشهدها طيلة عديد الحقب السياسية في تاريخ تطور الدولة القومية الحديثة، منذ محمد علي وإسماعيل باشا حتى مرحلة حكم الرئيس السابق.
كانت الدولة في الخطابات السياسية، وتلك التي تدور على ألسنة الجمهور، تختلط بالسلطة والنظام السياسي التسلطي.. وأحيانًا ما تختلط بعديد المصطلحات الأخرى من مثيل المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية الشرطية، أو رئيس الجمهورية أو السلطة التنفيذية... الخ. الخلط بين الدولة والقوة والسلطة والنفوذ شاع، ولا يزال، خاصة بعد 25 يناير 2011، وفي أعقاب رحيل الرئيس السابق عن سدة السلطة.
كان الجدل حول مسألة الدولة وتعقد مشاكلها الهيكلية جزءًا من هموم قلة قليلة جدًّا من النخبة الأكاديمية والمفكرين، على الرغم من عديد المتغيرات التي شملت الجدل في الدراسات السياسية المقارنة، حول أثر العولمة والشرط ما بعد الحديث على الدولة ومفاهيمها وأدوارها وسلطاتها على اختلافها.
كانت النخبة السياسية قبل وبعد 25 يناير 2011 بعيدة تمامًا عن النظرة التجديدية أو الإصلاحية، ولو في حدها الأدنى للدولة المصرية!
قضايا تجديد الدولة وإصلاحها ليس جديدًا في تاريخ الأدبيات السياسية على مستوى الدول الأكثر تقدمًا، أو دول جنوب العالم، بعد الاستقلال عن الاستعمار الغربي.
سنتناول مسألة الجدل حول الدولة على النحو التالي:
أولًا: نظرة عامة على جذور الجدل حول الدولة.
ثانيًا: راهنية الجدل حول الدولة: العولمة والأزمة المالية.
ثالثًا: الجدل حول أزمات الدولة المصرية: ملاحظات أولية.
رابعًا: أزمة الدولة المصرية: إلماعات.
أولًا: نظرة عامة على جذور الجدل حول الدولة
الجدل حول مفهوم الدولة القومية، أو الدولة/ الأمة، التي عرفتها التقاليد السياسية الغربية كان يشكل أحد اهتمامات بعض النخب السياسية بعد الاستقلال عن الاستعمار الغربي، وشمل بعض قادة حركات التحرر الوطني في القارات الثلاث، وثارت أسئلة من قبيل: هل يصلح هذا النموذج للدولة الناشئة؟ هل تساهم أسس الدولة التي فرضها الاستعمار في تحقيق أهداف التحرر والاستقلال والتنمية أم لا؟
هذه الأسئلة وغيرها، التي تبدو بسيطة واختزالية تحملُ في أعطافها عديد الهموم والقضايا فيما وراء عموميتها.
ويمكن القول إن وراء الجدل حول دولة الاستقلال عديد من الاعتبارات الهامة، نذكر منها ما يلي:
1. أن آباء وقادة ونخب الاستقلال ورثوا دولاً أسسها الاستعمار الغربي على مساحات جيو-سياسية تتفق ومصالحه؛ ومن ثم وضْع حدودٍ مصطنعة، كما هو الحال في القارة السمراء (إفريقيا)، حيث تتنافر الحدود في بعض الأحيان مع التركيبات البشرية، والعرقية والقبلية، بل الجغرافيا الطبيعية لهذه البلدان.
2. أحد أبرز الإعاقات البنيوية في مواجهة إستراتيجيات بناء الأمة والاندماج الداخلي في دول ومجتمعات ما بعد الاستقلال، تمثل في الطبيعة الانقسامية لمجتمعات الدول الجديدة بعد الاستقلال، والتي تنطوي على تعدديات عرقية وقومية ولغوية ودينية ومذهبية ومناطقية (جهوية)، بكل محمولات هذه التركيبات من تعقيدات ومصالح متعارضة، وفي ظل ندرة بعض الموارد، بل وضعف مستويات التعليم ونقص الكوادر الوطنية.
3. السعي إلى محاولة فرض نموذج الدولة/الأمة الغربي بالقوة من خلال إستراتيجيات التكامل القسري؛ حيث أدت إلى استخدامات مفرطة ومروعة للقوة؛ مما أدى إلى خلط الدولة بالقوة القمعية، والدولة بالسلطة، ووصل الأمر إلى حدود قمع جماعات وأقليات، ومحاولة دمجها عبر أساليب القهر السياسي والثقافي، بل ومحاولة فرض لغات، واستبعاد أخرى... الخ.
4. شيوع ظاهرة شخصنة السلطة حول رؤساء الدول الذين استمر بعضهم في السلطة إلى عديد العقود، والبعض الآخر لم يخرج عن السلطة إلا من خلال الموت الطبيعي، أو الاغتيال عبر الانقلابات العسكرية، أو المحاكمات. إن شخصنة السلطة ودمجها ببعض الرؤساء في بعض الدول أدت إلى شخصنة الدول ذاتها ودمجها ببعض شخوص الرؤساء، أو اختزالها في الأجهزة القمعية! وهو أمر شاهدناه مصريًّا وفي بعض البلدان العربية الأخرى!
5. حاول عديد القادة والنظم السلطوية إنتاج الأمة رمزيًّا من خلال: أجهزة الدولة الأيديولوجية، أجهزة الإعلام السلطوية، الحزب الوحيد الحاكم أو “,”القائد“,”! من التعدديات الشكلية المقيدة، أو عبر الخطاب السياسي السلطوي المسيطر، أو من خلال أنظمة التنشئة الاجتماعية والسياسية!
هذا الإنتاج الرمزي للأمة على صعيد الخطاب السياسي المسيطر ظل مفارقًا لواقع موضوعي شكَّل نقيضًا للأمة المجاز، التي لم تتحقق شرائطها في الواقع التاريخي والحيّ، ولا يزال، كما حدث في بعض الأمثلة والحالات العربية، ومنها عراق ما بعد سقوط صدام حسين والاحتلال الأمريكي، وسوريا ولبنان، وليبيا... الخ.
6. تراكَمَ في الوعي شبه الجمعي بعضُ الإدراكات السلبية والملتبسة حول الدولة بوصفها حاملة شرور لعديد الطبقات والشرائح المعسورة والمهمشة، خاصة في ظل الخلط والدمج بين الدولة والسلطة الباطشة والفاسدة. والأخطر في هذه الظاهرة بروزها في بعض الدول القديمة ذات التقاليد الدولتية في تاريخ التطور الإنساني، بل ودولة/ أمة حديثة منذ نهاية القرن التاسع عشر ومتصلة إلى حد ما بعالمها كمصر!
ثانيًا: راهنية الجدل حول الدولة: العولمة والأزمة المالية
الجدل حول الدولة مستمر في التقليد الأكاديمي المقارن في العلوم السياسية والقانونية والاجتماعية، لا سيما أن بعضهم في منطقتنا ومصر لا يزالون يتصورون أن الدولة حقيقة أبدية! أو هكذا تبدو لدى بعضهم في خطاباتهم حولها، ولا ينظرون إلى الدولة القومية بوصفها تعبيرًا عن حالة مختلفة وجديدة في تطور الرأسمالية والفكرة القومية؛ ومن ثم تعد رهينة تطورات بنيوية عميقة في مجتمعاتها وبلدانها الأكثر تطورًا، لا سيما في ظل تطور الرأسمالية العولمية والمجتمعات ما بعد الحديثة وصيروراتها!
من هنا نحن إزاء جدل راهن كونيًّا؛ وذلك لعديد الاعتبارات:
1) أن للدولة القومية والرأسمالية ارتباطًا تاريخيًا بالجدليات فيما بينهما، وبالتطور الذي يحدث في إحديهما ويؤثر على الأخرى، وهكذا! ومن ثم يعاد النظر في مسألة الدولة ووظائفها وهياكلها في ضوء هذا التطور.
2) أن مفهوم الدولة/ الأمة، الغربي الكلاسيكي! أو هكذا يبدو الآن! بدأ يخضع للمراجعات مع التطورات الهيكلية في العلوم والتكنولوجيا، لا سيما ما بعد الثورة الصناعية الثالثة، والثورة الاتصالية والمعلوماتية الرقمية متعددة الوسائط؛ وهو ما أثر على بعض المفاهيم التقليدية حول الدولة والأمة –في ظل الشرط ما بعد الحديث– والمفاهيم المؤسسة لنظرية الدولة الحديثة والمعاصرة وأجهزتها وسلطاتها.
3) أثر نمو الاقتصاديات الرقمية المتطورة على بعض تجسيدات مفهوم السيادة.
4) تراجع بعض من مظاهر سيادة قانون الدولة؛ من خلال لجوء الدول والمؤسسات والشركات الكبرى إلى التحكيم الدولي في المنازعات القانونية التي تنشب بين هذه الأطراف وبعضها بعضًا، لا سيما في ظل تعقد ظاهرة الشركات متعدية الجنسيات؛ وهو ما يعكس خروج عديد المنازعات القانونية عن نطاق القانون والقضاء الوطني!
5) تمدد ظاهرة الشركات الأمنية الخاصة التي تقوم ببعض الوظائف الأمنية التي كانت حكرًا على الدولة القومية، وتنازلها لجزء من هذه الوظيفة لشركات خاصة.
6) بروز النقود الرقمية، وتزايد استخداماتها على مستوى الشركات والبنوك والدول، وتراجع استخدام النقود الورقية التي كانت تصدرها الدول.
7) تراجع مفهوم السيادة التقليدي للدولة في السيطرة على الأثير، وما يبث في التلفزات التي كانت حكرًا على الدولة والشركات الخاصة المسموح لها بالبث التلفازي، وظهور التلفزات الفضائية، والإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي –الفيس بوك وتويتر... الخ– على نحو يعيد تشكيل الرؤى والأفكار والعيون والخيال... الخ.
مما سبق نستطيع القول -مع آخرين- إن الجدل حول الدولة بدا مرتبطًا بتطور عمليات بناء دولة ما بعد الاستقلال في جنوب العالم، واستمر مسألةً غير ناجزة، رغم الجيوش والقمع وهراوات الجنود والقنابل المسيلة للدموع والرصاص الحي والمطاطي... الخ! والاستثناءات من هذه الحالات محدودة في جنوب العالم، كالهند، بوصفها المثال رفيع المقام في التطور الديمقراطي!
ها هو الجدل حول الدولة يعود مجددًا في ظل تطور النموذج المثالي أو النمطي للدولة القومية مع تطور الرأسماليات إلى رأسمالية عولمية، وانعكاس ذلك على بعض مكونات وهياكل الدولة والأمة والقومية، وعلى تركيبة التجانسات الوطنية الداخلية.
في هذا الإطار ثمة عديد المقاربات المنهجية للدولة المصرية سادت في بعض الدراسات، ومنها الاستبداد والطغيان الشرقي، ونمط الإنتاج الآسيوي، والدولة النهرية، والدولة القومية، إلى الدولة الريعية.
ثالثًا: الجدل حول أزمات الدولة المصرية: ملاحظات أولية
تشير متابعة الجدل أو الكتابة أو الخطاب السياسي، حول الدولة المصرية وأزماتها واختلالاتها، إلى أننا إزاء آراء تقليدية نسبيًّا، وتنطوي على تخليط بين المفاهيم التي تبدو لدى بعضهم متداخلة أو متشابهة، وعلى رأسها -على سبيل المثال لا الحصر- ما يلي:
1. الخلط بين الدولة كمفهوم كلي وجامع ومجرد وبين مكوناتها أو بعضها؛ ومن هنا نجد بعض الارتباطية بين الدولة وبعض المؤسسات القومية، كالمؤسسة العسكرية أو المؤسسة الشرطية.. نجد بعضًا من هذا الربط في بعض الخطابات السياسية الرسمية أو المعارضة، أو في الإدراك السياسي شبه الجمعي “,”للمواطنين“,”؛ حيث سيطر الحضور الكثيف لهذه المؤسسات في الحياة اليومية، بحيث بات حضورها في الخطاب العام تعبيرًا اختزاليًّا عن المعنى الشائع للدولة لدى غالب الجمهور.
2. بروز بعض مظاهر تجسد الدولة في شخصية رئيس الجمهورية، وبرز ذلك في بعض إشارات الخطاب السياسي الساداتي، وغالبًا ممارسات حسني مبارك –خطاب الواقع- وساعد ذلك الطابع التسلطي للحكم وممارساته وإعلامه، وتحديدًا الحزب الحاكم الوحيد، هيئة التحرير والاتحاد القومي والاتحاد الاشتراكي وحزب مصر ثم الحزب الوطني المنحل – والممارسات الإعلامية السلطوية، وبعض الإعلام المعارض والمستقل، وهو أمر يعود إلى سوء التعليم ومستواه التكويني، وبعض النقص في المعرفة والتقاليد المهنية.
3. سيطرت المقاربة المنهجية الشكلية، أو الشكلانية، السائدة في الدراسات القانونية والدستورية والحقوقية حول الدولة، كما استقر على ذلك الفقه التقليدي في القانون العام (القانون الدستوري، والقانون الإداري). هذا التوجه كان -ولا يزال- يشكل استمرارية للتقليد الفرنسي في دراسات القانون العام في النظم الدستورية والإدارية اللاتينية في مصر وبعض الجامعات العربية. غالبُ هذه المقاربات دار حول الترسيمات أو المبادئ العامة للنظريات للدولة في النظم الدستورية للديمقراطيات الغربية، وبعضها الآخر حول النظرية الماركسية في الدولة، إلى آخر هذا النمط في خطابات التنشئة الأيديولوجية للكادرات والدعاوى الماركسية أحزابها، كما سادت في مصر وغالب دول العالم العربي.
4. يمكن ملاحظة أن الكتابات الرصينة والمعمقة، النظرية والتطبيقية، حول الدولة والقانون في المكتبة العربية، والاستثناءات محدودة في الكتب أو بعض التقارير الحزبية النادرة لبعض الأحزاب الشيوعية العتيدة. على مستوى الترجمة لا نجد عملاً مترجمًا متميزًا إلا قليلًا، وعلى رأس هذه الأعمال كتاب ميشيل مياي حول الدولة والقانون المترجم عن الفرنسية، ولكنه ظل بعيدًا عن الدرس الأكاديمي وتطبيقاته البحثية إلا استثناء!
5. مع تأسيس دراسات العلوم السياسية الحديثة، والمعاصرة، بدأت بعض الدراسات النظرية المحدودة وبعض التطبيقات حول الدولة.
وجيز ما سبق أن الجدل والبحث حول الدولة يحتاج إلى الكثير من الجهد والعمل الجاد نظريًّا وتطبيقيًّا حول الدولة في مصر وبعض اختلالاتها التكوينية، وأزماتها الممتدة أو العارضة حتى تآكلها وعدم تطورها، وبعض العجز في أداءاتها بعد 25 يناير 2011 وما بعد.
رابعًا: أزمة الدولة المصرية : إلماعات رئيسة
إحدى كبرى مشكلات الدولة المصرية الحديثة، خلال أكثر من أربعين عامًا مضت، تتمثل في الجمود الدولتي، الانفجار الديموغرافي الكبير –أكثر من 92 مليون نسمة منهم أكثر من 82 مليون داخل مصر– الذي لا يزال مستمرًا؛ وهو ما أدى إلى تمدد وتضخم المجتمع المصري في ظل تراجع السياسات الاجتماعية، والخلل في سياسات التوزيع؛ ومن ثم برزت ظاهرة أن المجتمع أصبح أكبر كثيرًا من الدولة التي ران عليها الجمود في هياكلها وشبكاتها، وتمدد أجهزتها القمعية، واختزال الدولة في إطارها في التعامل مع المواطنين في تفاصيل الحياة اليومية.
هذا التضخم الديموغرافي للشعب المصري وتشكيلاته المجتمعية وشبكاته، بعيدًا عن اهتمامات الدولة ولامبالاة النظام السياسي التسلطي بالعديد من مصالح المواطنين، على نحو أدى إلى عديد الظواهر السلبية والمؤثرة على كيان الدولة وقدراتها وهيبتها وحيويتها، نذكر بعضها على سبيل التمثيل لا الحصر فيما يلي:
1) تركيز النخبة السياسية الحاكمة قبل 25 يناير 2011، وبعدها، على الجوانب الأمنية التي تضخمت أجهزتها وأدواتها القمعية؛ وذلك دفاعًا عن السلطة الحاكمة. من هنا دارت محاور التركيز السلطوي في عهد الرئيس السابق حسنى مبارك على بولسة الدولة –إذا جاز التعبير وساغ- وهو ما يزال مستمرًا في أعقاب 25 يناير 2011 وحتى الآن، وهو النظر إلى الدولة مجسدة في بعض سلطاتها الأمنية أو العسكرية أو في رئيس الجمهورية وسلطاته الواسعة.
2) تم التركيز طيلة عهدي السادات ومبارك على الجوانب السياسية، والحركات الإسلامية السياسية، وبعض الحركات اليسارية والقومية الأخرى.. وهو ما أثر على التوازن في السياسة الأمنية، سواء على مستوى القيم المؤسسة لها، أو أهدافها أو مجالاتها.. أدى هذا التوجه السياسي لمفهوم أمن الدولة وعموميته وغموضه ومرونته إلى تمدده المفرط ليشمل كافة مناشط الحياة المصرية، وإلى تداخله في كافة قطاعات ومفاصل الدولة وهياكلها وشبكاتها؛ ومن ثم إلى هيمنة الأمن السياسي وسيطرة الأجهزة البوليسية؛ ومن ثم قراراتها وتمددها إلى تفاصيل وجزئيات الدولة والحياة اليومية.
3) التمدد البوليسي أدى إلى تضخم في المجالات والأدوار والصلاحيات، وذلك خَصمًا من أجهزة ومؤسسات الدولة القومية الأخرى؛ بما أدى إلى تناقضات بنيوية في بعض الأحيان، وإلى منافسات تحولت إلى صراعات على الأدوار والحدود بين الأجهزة حول اختصاصاتها.
ما سبق أثر على النقاش حول مسألة الدولة وتجديدها وجعلها رهينة تصورات بوليسية راهنت على تمدد سلطاتها ونفوذها وقراراتها، وبقاء الأوضاع على ما هي عليه! دونما إدخال تعديلات هيكلية وإصلاحية على الدولة وأجهزتها؛ كي تواكب عديد التغيرات والتحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بالإضافة إلى تحولات بنية النظام الدولي المعولم. بعض التعديلات التي كانت تتم على مستوى تمدد السياسة الأمنية، وبعض أجهزة الدولة التسلطية كانت جزئية ومحدودة، وتعبيرًا عن ردود الأفعال، في ظل تمدد للفسادات الهيكلية، والسياسية والاقتصادية، وتمددها ومعها عُصب الفساد وأشكاله وشبكاته. هذه التوجهات أثرت سلبًا على ما يلي:
(1) تراجع أية توجهات تجديدية أو إصلاحية من داخل بعض أجهزة الدولة أو الحكومة؛ مما دفع بعض الإصلاحيين إلى التراجع عن طرح أفكارهم، أو مراعاة وجهات نظر الأجهزة البوليسية أو الاستخباراتية، بما يؤدي إلى إضعافها.
(2) أن الحراك الوظيفي، أو التكنقراطي، إلى أعلى ظل رهين تقارير أجهزة الدولة الأمنية والاستخباراتية طيلة أكثر من ثلاثين عامًا مضت، وحتى بعد 25 يناير 2011 في ظل السلطة الفعلية –الحكومة والمجلس العسكري– وبعد وصول الرئيس محمد مرسي إلى السلطة بعد الانتخابات الرئاسية، ظلت ذات المفاهيم لم تتغير، بالإضافة إلى الدور المحوري لجماعة الإخوان ومراكز صنع القرار الأساسي داخل مكتب الإرشاد.
(3) أدى التمدد الواسع النطاق لظاهرة “,”بولسة الدولة“,” إلى تضخم الأجهزة وصلاحياتها، وإلى بروز ظواهر النفاق الإداري، والبطالة المقنعة؛ ومن ثم إلى تراجع مستويات الكفاءة والإنجاز، وشيوع ظواهر الإيحاء بالعمل دونما عمل حقيقي وجاد ومهني؛ مما أدى إلى التأثير سلبًا على أداء أجهزة الدولة!
(4) بروز ظاهرة عدم التوازن المؤسسي على مستوى البنية الأمنية بين التحيز للاعتبارات السياسية المتصلة بالمفهوم السلطوي المفرط لأمن الدولة، على حساب الأمن الجنائي، والاقتصادي، والاجتماعي.
(5) لوحظ تاريخيًا من تطور الدولة/ النظام/ الأمن إلى تجاوز بعض أجهزة الأمن حرمات الشرعية القانونية في جوانبها الموضوعية والإجرائية؛ وهو ما أثر سلبًا في الوعي شبه العام على معنى وقيمة دولة القانون، ومن ثم على احترام المواطنين للقواعد القانونية.
(6) تضخم الأجهزة التنفيذية، وتغولها على السلطتين التشريعية والقضائية؛ مما أدى إلى تيسير سطوة الأمني والبوليسي على الجوانب السياسية المتصلة، بالسياسات التشريعية والقضائية، بل وامتد إلى الخلل في تطبيقات وحدود وممارسات مبدأ الفصل بين السلطات.
(7) تزايد أعمال الخروج على قانون الدولة وتنظيماتها الإدارية في الحياة اليومية، في أعقاب سقوط النظام الأمني وانكشاف بعض فجواته في يوم 28 يناير 2011.
(8) ظهور بعض الجماعات الدينية التي ترفع شعار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتطبيق تصوراتها على قواعد السلوك الشخصي في المجالين العام والخاص؛ بما أدى إلى انتهاكات للحقوق الشخصية والعامة من قبل بعض هذه الجماعات الإسلامية المتشددة والمتزمتة، والتي تنتهك في سلوكها قواعد الدستور والقانون. لا شك أن ذلك أثر على هيبة دولة القانون، وأجهزتها على اختلافها.
(9) بروز ظواهر تهريب السلاح من ليبيا ما بعد العقيد القذافي إلى داخل البلاد، على نحو بات يشكل ظاهرة خطرة على الأمن الداخلي، ويؤثر على هيبة الدولة، ويدعم العصب الإجرامية الخارجة على القانون.
(10) تآكل أسس الاندماج القومي أو التكامل الداخلي؛ مما أثر على الوحدة القومية المصرية، بين المصريين، وبروز أشكال من التمييزات الدينية والمذهبية والمناطقية والعرقية... الخ.
(11) فوضى في العلاقات بين السلطات الثلاث، وتغول رئيس الجمهورية في استخدام السلطة من خلال إصدار إعلانات دستورية لا يملك إصدارها من الناحية الدستورية؛ لترتيب أوضاع تمكن من سطوة رئيس الجمهورية على الدولة واستخدام الأداتين الدستور والقوانين، ولتيسير سياسة تمكين جماعة الإخوان المسلمين من الدولة وأجهزتها.
من ناحية أخرى الاعتداءات على السلطة القضائية، والتشكيك في استقلاليتها والاعتداء عليها من قبل جماعة الإخوان وبعض القوى السلفية، لا سيما ما ظهر أثناء نظر بعض قضايا مجلس الدولة، أو حصار المحكمة الدستورية العليا لمنع نظرها بعض القضايا المحورية في مرحلة الانتقال السياسي، والتي تمس مشروعية مجلس الشورى. أو إصدار الإعلان الدستوري الثاني الذي “,”حصن“,” مجلس الشورى من الحكم بعدم شرعيته.
لا شك أن بعض الملاحظات السابقة هي تعبير عن أزمة الدولة المصرية والضعف الذي ران عليها، وهي جزء من عديد الجوانب الأخرى التي تحتاج إلى معالجات أخرى.
الطابع الاستثنائي للجدل حول الدولة مرجعه أن ثمة بعضًا من اليقينيات، التي سادت في الوعي شبه الجمعي لدى شرائح اجتماعية عديدة، أن الدولة في مصر تبدو أكثر رسوخًا وقِدمًا واستقرارًا، على الرغم من بعض الأزمات الاجتماعية أو الاقتصادية والسياسية... الخ، التي تعترض حياة المصريين! من هنا لم تكن مسألة الدولة تطرح من زاوية انهيارها أو تفككها أو تقوّض بعض أركانها!
ومن هنا يبدو هذا “,”اليقين“,” شبه المستقر في الوعي شبه العام موضوعًا للشك حينًا، واستخدام غالب الجمهور لعديد الأوصاف “,”اليقينية“,” الصادمة من قبيل: انهيار الدولة، وغياب الدولة، وغيرها من النعوت التي تشير إلى أن موضوع الدولة تحوّل إلى جزء من الخطابات اليومية لغالب المواطنين، وهو أمر ينطوي على استثنائية ربما لم نشهدها طيلة عديد الحقب السياسية في تاريخ تطور الدولة القومية الحديثة، منذ محمد علي وإسماعيل باشا حتى مرحلة حكم الرئيس السابق.
كانت الدولة في الخطابات السياسية، وتلك التي تدور على ألسنة الجمهور، تختلط بالسلطة والنظام السياسي التسلطي.. وأحيانًا ما تختلط بعديد المصطلحات الأخرى من مثيل المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية الشرطية، أو رئيس الجمهورية أو السلطة التنفيذية... الخ. الخلط بين الدولة والقوة والسلطة والنفوذ شاع، ولا يزال، خاصة بعد 25 يناير 2011، وفي أعقاب رحيل الرئيس السابق عن سدة السلطة.
كان الجدل حول مسألة الدولة وتعقد مشاكلها الهيكلية جزءًا من هموم قلة قليلة جدًّا من النخبة الأكاديمية والمفكرين، على الرغم من عديد المتغيرات التي شملت الجدل في الدراسات السياسية المقارنة، حول أثر العولمة والشرط ما بعد الحديث على الدولة ومفاهيمها وأدوارها وسلطاتها على اختلافها.
كانت النخبة السياسية قبل وبعد 25 يناير 2011 بعيدة تمامًا عن النظرة التجديدية أو الإصلاحية، ولو في حدها الأدنى للدولة المصرية!
قضايا تجديد الدولة وإصلاحها ليس جديدًا في تاريخ الأدبيات السياسية على مستوى الدول الأكثر تقدمًا، أو دول جنوب العالم، بعد الاستقلال عن الاستعمار الغربي.
سنتناول مسألة الجدل حول الدولة على النحو التالي:
أولًا: نظرة عامة على جذور الجدل حول الدولة.
ثانيًا: راهنية الجدل حول الدولة: العولمة والأزمة المالية.
ثالثًا: الجدل حول أزمات الدولة المصرية: ملاحظات أولية.
رابعًا: أزمة الدولة المصرية: إلماعات.
أولًا: نظرة عامة على جذور الجدل حول الدولة
الجدل حول مفهوم الدولة القومية، أو الدولة/ الأمة، التي عرفتها التقاليد السياسية الغربية كان يشكل أحد اهتمامات بعض النخب السياسية بعد الاستقلال عن الاستعمار الغربي، وشمل بعض قادة حركات التحرر الوطني في القارات الثلاث، وثارت أسئلة من قبيل: هل يصلح هذا النموذج للدولة الناشئة؟ هل تساهم أسس الدولة التي فرضها الاستعمار في تحقيق أهداف التحرر والاستقلال والتنمية أم لا؟
هذه الأسئلة وغيرها، التي تبدو بسيطة واختزالية تحملُ في أعطافها عديد الهموم والقضايا فيما وراء عموميتها.
ويمكن القول إن وراء الجدل حول دولة الاستقلال عديد من الاعتبارات الهامة، نذكر منها ما يلي:
1. أن آباء وقادة ونخب الاستقلال ورثوا دولاً أسسها الاستعمار الغربي على مساحات جيو-سياسية تتفق ومصالحه؛ ومن ثم وضْع حدودٍ مصطنعة، كما هو الحال في القارة السمراء (إفريقيا)، حيث تتنافر الحدود في بعض الأحيان مع التركيبات البشرية، والعرقية والقبلية، بل الجغرافيا الطبيعية لهذه البلدان.
2. أحد أبرز الإعاقات البنيوية في مواجهة إستراتيجيات بناء الأمة والاندماج الداخلي في دول ومجتمعات ما بعد الاستقلال، تمثل في الطبيعة الانقسامية لمجتمعات الدول الجديدة بعد الاستقلال، والتي تنطوي على تعدديات عرقية وقومية ولغوية ودينية ومذهبية ومناطقية (جهوية)، بكل محمولات هذه التركيبات من تعقيدات ومصالح متعارضة، وفي ظل ندرة بعض الموارد، بل وضعف مستويات التعليم ونقص الكوادر الوطنية.
3. السعي إلى محاولة فرض نموذج الدولة/الأمة الغربي بالقوة من خلال إستراتيجيات التكامل القسري؛ حيث أدت إلى استخدامات مفرطة ومروعة للقوة؛ مما أدى إلى خلط الدولة بالقوة القمعية، والدولة بالسلطة، ووصل الأمر إلى حدود قمع جماعات وأقليات، ومحاولة دمجها عبر أساليب القهر السياسي والثقافي، بل ومحاولة فرض لغات، واستبعاد أخرى... الخ.
4. شيوع ظاهرة شخصنة السلطة حول رؤساء الدول الذين استمر بعضهم في السلطة إلى عديد العقود، والبعض الآخر لم يخرج عن السلطة إلا من خلال الموت الطبيعي، أو الاغتيال عبر الانقلابات العسكرية، أو المحاكمات. إن شخصنة السلطة ودمجها ببعض الرؤساء في بعض الدول أدت إلى شخصنة الدول ذاتها ودمجها ببعض شخوص الرؤساء، أو اختزالها في الأجهزة القمعية! وهو أمر شاهدناه مصريًّا وفي بعض البلدان العربية الأخرى!
5. حاول عديد القادة والنظم السلطوية إنتاج الأمة رمزيًّا من خلال: أجهزة الدولة الأيديولوجية، أجهزة الإعلام السلطوية، الحزب الوحيد الحاكم أو “,”القائد“,”! من التعدديات الشكلية المقيدة، أو عبر الخطاب السياسي السلطوي المسيطر، أو من خلال أنظمة التنشئة الاجتماعية والسياسية!
هذا الإنتاج الرمزي للأمة على صعيد الخطاب السياسي المسيطر ظل مفارقًا لواقع موضوعي شكَّل نقيضًا للأمة المجاز، التي لم تتحقق شرائطها في الواقع التاريخي والحيّ، ولا يزال، كما حدث في بعض الأمثلة والحالات العربية، ومنها عراق ما بعد سقوط صدام حسين والاحتلال الأمريكي، وسوريا ولبنان، وليبيا... الخ.
6. تراكَمَ في الوعي شبه الجمعي بعضُ الإدراكات السلبية والملتبسة حول الدولة بوصفها حاملة شرور لعديد الطبقات والشرائح المعسورة والمهمشة، خاصة في ظل الخلط والدمج بين الدولة والسلطة الباطشة والفاسدة. والأخطر في هذه الظاهرة بروزها في بعض الدول القديمة ذات التقاليد الدولتية في تاريخ التطور الإنساني، بل ودولة/ أمة حديثة منذ نهاية القرن التاسع عشر ومتصلة إلى حد ما بعالمها كمصر!
ثانيًا: راهنية الجدل حول الدولة: العولمة والأزمة المالية
الجدل حول الدولة مستمر في التقليد الأكاديمي المقارن في العلوم السياسية والقانونية والاجتماعية، لا سيما أن بعضهم في منطقتنا ومصر لا يزالون يتصورون أن الدولة حقيقة أبدية! أو هكذا تبدو لدى بعضهم في خطاباتهم حولها، ولا ينظرون إلى الدولة القومية بوصفها تعبيرًا عن حالة مختلفة وجديدة في تطور الرأسمالية والفكرة القومية؛ ومن ثم تعد رهينة تطورات بنيوية عميقة في مجتمعاتها وبلدانها الأكثر تطورًا، لا سيما في ظل تطور الرأسمالية العولمية والمجتمعات ما بعد الحديثة وصيروراتها!
من هنا نحن إزاء جدل راهن كونيًّا؛ وذلك لعديد الاعتبارات:
1) أن للدولة القومية والرأسمالية ارتباطًا تاريخيًا بالجدليات فيما بينهما، وبالتطور الذي يحدث في إحديهما ويؤثر على الأخرى، وهكذا! ومن ثم يعاد النظر في مسألة الدولة ووظائفها وهياكلها في ضوء هذا التطور.
2) أن مفهوم الدولة/ الأمة، الغربي الكلاسيكي! أو هكذا يبدو الآن! بدأ يخضع للمراجعات مع التطورات الهيكلية في العلوم والتكنولوجيا، لا سيما ما بعد الثورة الصناعية الثالثة، والثورة الاتصالية والمعلوماتية الرقمية متعددة الوسائط؛ وهو ما أثر على بعض المفاهيم التقليدية حول الدولة والأمة –في ظل الشرط ما بعد الحديث– والمفاهيم المؤسسة لنظرية الدولة الحديثة والمعاصرة وأجهزتها وسلطاتها.
3) أثر نمو الاقتصاديات الرقمية المتطورة على بعض تجسيدات مفهوم السيادة.
4) تراجع بعض من مظاهر سيادة قانون الدولة؛ من خلال لجوء الدول والمؤسسات والشركات الكبرى إلى التحكيم الدولي في المنازعات القانونية التي تنشب بين هذه الأطراف وبعضها بعضًا، لا سيما في ظل تعقد ظاهرة الشركات متعدية الجنسيات؛ وهو ما يعكس خروج عديد المنازعات القانونية عن نطاق القانون والقضاء الوطني!
5) تمدد ظاهرة الشركات الأمنية الخاصة التي تقوم ببعض الوظائف الأمنية التي كانت حكرًا على الدولة القومية، وتنازلها لجزء من هذه الوظيفة لشركات خاصة.
6) بروز النقود الرقمية، وتزايد استخداماتها على مستوى الشركات والبنوك والدول، وتراجع استخدام النقود الورقية التي كانت تصدرها الدول.
7) تراجع مفهوم السيادة التقليدي للدولة في السيطرة على الأثير، وما يبث في التلفزات التي كانت حكرًا على الدولة والشركات الخاصة المسموح لها بالبث التلفازي، وظهور التلفزات الفضائية، والإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي –الفيس بوك وتويتر... الخ– على نحو يعيد تشكيل الرؤى والأفكار والعيون والخيال... الخ.
مما سبق نستطيع القول -مع آخرين- إن الجدل حول الدولة بدا مرتبطًا بتطور عمليات بناء دولة ما بعد الاستقلال في جنوب العالم، واستمر مسألةً غير ناجزة، رغم الجيوش والقمع وهراوات الجنود والقنابل المسيلة للدموع والرصاص الحي والمطاطي... الخ! والاستثناءات من هذه الحالات محدودة في جنوب العالم، كالهند، بوصفها المثال رفيع المقام في التطور الديمقراطي!
ها هو الجدل حول الدولة يعود مجددًا في ظل تطور النموذج المثالي أو النمطي للدولة القومية مع تطور الرأسماليات إلى رأسمالية عولمية، وانعكاس ذلك على بعض مكونات وهياكل الدولة والأمة والقومية، وعلى تركيبة التجانسات الوطنية الداخلية.
في هذا الإطار ثمة عديد المقاربات المنهجية للدولة المصرية سادت في بعض الدراسات، ومنها الاستبداد والطغيان الشرقي، ونمط الإنتاج الآسيوي، والدولة النهرية، والدولة القومية، إلى الدولة الريعية.
ثالثًا: الجدل حول أزمات الدولة المصرية: ملاحظات أولية
تشير متابعة الجدل أو الكتابة أو الخطاب السياسي، حول الدولة المصرية وأزماتها واختلالاتها، إلى أننا إزاء آراء تقليدية نسبيًّا، وتنطوي على تخليط بين المفاهيم التي تبدو لدى بعضهم متداخلة أو متشابهة، وعلى رأسها -على سبيل المثال لا الحصر- ما يلي:
1. الخلط بين الدولة كمفهوم كلي وجامع ومجرد وبين مكوناتها أو بعضها؛ ومن هنا نجد بعض الارتباطية بين الدولة وبعض المؤسسات القومية، كالمؤسسة العسكرية أو المؤسسة الشرطية.. نجد بعضًا من هذا الربط في بعض الخطابات السياسية الرسمية أو المعارضة، أو في الإدراك السياسي شبه الجمعي “,”للمواطنين“,”؛ حيث سيطر الحضور الكثيف لهذه المؤسسات في الحياة اليومية، بحيث بات حضورها في الخطاب العام تعبيرًا اختزاليًّا عن المعنى الشائع للدولة لدى غالب الجمهور.
2. بروز بعض مظاهر تجسد الدولة في شخصية رئيس الجمهورية، وبرز ذلك في بعض إشارات الخطاب السياسي الساداتي، وغالبًا ممارسات حسني مبارك –خطاب الواقع- وساعد ذلك الطابع التسلطي للحكم وممارساته وإعلامه، وتحديدًا الحزب الحاكم الوحيد، هيئة التحرير والاتحاد القومي والاتحاد الاشتراكي وحزب مصر ثم الحزب الوطني المنحل – والممارسات الإعلامية السلطوية، وبعض الإعلام المعارض والمستقل، وهو أمر يعود إلى سوء التعليم ومستواه التكويني، وبعض النقص في المعرفة والتقاليد المهنية.
3. سيطرت المقاربة المنهجية الشكلية، أو الشكلانية، السائدة في الدراسات القانونية والدستورية والحقوقية حول الدولة، كما استقر على ذلك الفقه التقليدي في القانون العام (القانون الدستوري، والقانون الإداري). هذا التوجه كان -ولا يزال- يشكل استمرارية للتقليد الفرنسي في دراسات القانون العام في النظم الدستورية والإدارية اللاتينية في مصر وبعض الجامعات العربية. غالبُ هذه المقاربات دار حول الترسيمات أو المبادئ العامة للنظريات للدولة في النظم الدستورية للديمقراطيات الغربية، وبعضها الآخر حول النظرية الماركسية في الدولة، إلى آخر هذا النمط في خطابات التنشئة الأيديولوجية للكادرات والدعاوى الماركسية أحزابها، كما سادت في مصر وغالب دول العالم العربي.
4. يمكن ملاحظة أن الكتابات الرصينة والمعمقة، النظرية والتطبيقية، حول الدولة والقانون في المكتبة العربية، والاستثناءات محدودة في الكتب أو بعض التقارير الحزبية النادرة لبعض الأحزاب الشيوعية العتيدة. على مستوى الترجمة لا نجد عملاً مترجمًا متميزًا إلا قليلًا، وعلى رأس هذه الأعمال كتاب ميشيل مياي حول الدولة والقانون المترجم عن الفرنسية، ولكنه ظل بعيدًا عن الدرس الأكاديمي وتطبيقاته البحثية إلا استثناء!
5. مع تأسيس دراسات العلوم السياسية الحديثة، والمعاصرة، بدأت بعض الدراسات النظرية المحدودة وبعض التطبيقات حول الدولة.
وجيز ما سبق أن الجدل والبحث حول الدولة يحتاج إلى الكثير من الجهد والعمل الجاد نظريًّا وتطبيقيًّا حول الدولة في مصر وبعض اختلالاتها التكوينية، وأزماتها الممتدة أو العارضة حتى تآكلها وعدم تطورها، وبعض العجز في أداءاتها بعد 25 يناير 2011 وما بعد.
رابعًا: أزمة الدولة المصرية : إلماعات رئيسة
إحدى كبرى مشكلات الدولة المصرية الحديثة، خلال أكثر من أربعين عامًا مضت، تتمثل في الجمود الدولتي، الانفجار الديموغرافي الكبير –أكثر من 92 مليون نسمة منهم أكثر من 82 مليون داخل مصر– الذي لا يزال مستمرًا؛ وهو ما أدى إلى تمدد وتضخم المجتمع المصري في ظل تراجع السياسات الاجتماعية، والخلل في سياسات التوزيع؛ ومن ثم برزت ظاهرة أن المجتمع أصبح أكبر كثيرًا من الدولة التي ران عليها الجمود في هياكلها وشبكاتها، وتمدد أجهزتها القمعية، واختزال الدولة في إطارها في التعامل مع المواطنين في تفاصيل الحياة اليومية.
هذا التضخم الديموغرافي للشعب المصري وتشكيلاته المجتمعية وشبكاته، بعيدًا عن اهتمامات الدولة ولامبالاة النظام السياسي التسلطي بالعديد من مصالح المواطنين، على نحو أدى إلى عديد الظواهر السلبية والمؤثرة على كيان الدولة وقدراتها وهيبتها وحيويتها، نذكر بعضها على سبيل التمثيل لا الحصر فيما يلي:
1) تركيز النخبة السياسية الحاكمة قبل 25 يناير 2011، وبعدها، على الجوانب الأمنية التي تضخمت أجهزتها وأدواتها القمعية؛ وذلك دفاعًا عن السلطة الحاكمة. من هنا دارت محاور التركيز السلطوي في عهد الرئيس السابق حسنى مبارك على بولسة الدولة –إذا جاز التعبير وساغ- وهو ما يزال مستمرًا في أعقاب 25 يناير 2011 وحتى الآن، وهو النظر إلى الدولة مجسدة في بعض سلطاتها الأمنية أو العسكرية أو في رئيس الجمهورية وسلطاته الواسعة.
2) تم التركيز طيلة عهدي السادات ومبارك على الجوانب السياسية، والحركات الإسلامية السياسية، وبعض الحركات اليسارية والقومية الأخرى.. وهو ما أثر على التوازن في السياسة الأمنية، سواء على مستوى القيم المؤسسة لها، أو أهدافها أو مجالاتها.. أدى هذا التوجه السياسي لمفهوم أمن الدولة وعموميته وغموضه ومرونته إلى تمدده المفرط ليشمل كافة مناشط الحياة المصرية، وإلى تداخله في كافة قطاعات ومفاصل الدولة وهياكلها وشبكاتها؛ ومن ثم إلى هيمنة الأمن السياسي وسيطرة الأجهزة البوليسية؛ ومن ثم قراراتها وتمددها إلى تفاصيل وجزئيات الدولة والحياة اليومية.
3) التمدد البوليسي أدى إلى تضخم في المجالات والأدوار والصلاحيات، وذلك خَصمًا من أجهزة ومؤسسات الدولة القومية الأخرى؛ بما أدى إلى تناقضات بنيوية في بعض الأحيان، وإلى منافسات تحولت إلى صراعات على الأدوار والحدود بين الأجهزة حول اختصاصاتها.
ما سبق أثر على النقاش حول مسألة الدولة وتجديدها وجعلها رهينة تصورات بوليسية راهنت على تمدد سلطاتها ونفوذها وقراراتها، وبقاء الأوضاع على ما هي عليه! دونما إدخال تعديلات هيكلية وإصلاحية على الدولة وأجهزتها؛ كي تواكب عديد التغيرات والتحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بالإضافة إلى تحولات بنية النظام الدولي المعولم. بعض التعديلات التي كانت تتم على مستوى تمدد السياسة الأمنية، وبعض أجهزة الدولة التسلطية كانت جزئية ومحدودة، وتعبيرًا عن ردود الأفعال، في ظل تمدد للفسادات الهيكلية، والسياسية والاقتصادية، وتمددها ومعها عُصب الفساد وأشكاله وشبكاته. هذه التوجهات أثرت سلبًا على ما يلي:
(1) تراجع أية توجهات تجديدية أو إصلاحية من داخل بعض أجهزة الدولة أو الحكومة؛ مما دفع بعض الإصلاحيين إلى التراجع عن طرح أفكارهم، أو مراعاة وجهات نظر الأجهزة البوليسية أو الاستخباراتية، بما يؤدي إلى إضعافها.
(2) أن الحراك الوظيفي، أو التكنقراطي، إلى أعلى ظل رهين تقارير أجهزة الدولة الأمنية والاستخباراتية طيلة أكثر من ثلاثين عامًا مضت، وحتى بعد 25 يناير 2011 في ظل السلطة الفعلية –الحكومة والمجلس العسكري– وبعد وصول الرئيس محمد مرسي إلى السلطة بعد الانتخابات الرئاسية، ظلت ذات المفاهيم لم تتغير، بالإضافة إلى الدور المحوري لجماعة الإخوان ومراكز صنع القرار الأساسي داخل مكتب الإرشاد.
(3) أدى التمدد الواسع النطاق لظاهرة “,”بولسة الدولة“,” إلى تضخم الأجهزة وصلاحياتها، وإلى بروز ظواهر النفاق الإداري، والبطالة المقنعة؛ ومن ثم إلى تراجع مستويات الكفاءة والإنجاز، وشيوع ظواهر الإيحاء بالعمل دونما عمل حقيقي وجاد ومهني؛ مما أدى إلى التأثير سلبًا على أداء أجهزة الدولة!
(4) بروز ظاهرة عدم التوازن المؤسسي على مستوى البنية الأمنية بين التحيز للاعتبارات السياسية المتصلة بالمفهوم السلطوي المفرط لأمن الدولة، على حساب الأمن الجنائي، والاقتصادي، والاجتماعي.
(5) لوحظ تاريخيًا من تطور الدولة/ النظام/ الأمن إلى تجاوز بعض أجهزة الأمن حرمات الشرعية القانونية في جوانبها الموضوعية والإجرائية؛ وهو ما أثر سلبًا في الوعي شبه العام على معنى وقيمة دولة القانون، ومن ثم على احترام المواطنين للقواعد القانونية.
(6) تضخم الأجهزة التنفيذية، وتغولها على السلطتين التشريعية والقضائية؛ مما أدى إلى تيسير سطوة الأمني والبوليسي على الجوانب السياسية المتصلة، بالسياسات التشريعية والقضائية، بل وامتد إلى الخلل في تطبيقات وحدود وممارسات مبدأ الفصل بين السلطات.
(7) تزايد أعمال الخروج على قانون الدولة وتنظيماتها الإدارية في الحياة اليومية، في أعقاب سقوط النظام الأمني وانكشاف بعض فجواته في يوم 28 يناير 2011.
(8) ظهور بعض الجماعات الدينية التي ترفع شعار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتطبيق تصوراتها على قواعد السلوك الشخصي في المجالين العام والخاص؛ بما أدى إلى انتهاكات للحقوق الشخصية والعامة من قبل بعض هذه الجماعات الإسلامية المتشددة والمتزمتة، والتي تنتهك في سلوكها قواعد الدستور والقانون. لا شك أن ذلك أثر على هيبة دولة القانون، وأجهزتها على اختلافها.
(9) بروز ظواهر تهريب السلاح من ليبيا ما بعد العقيد القذافي إلى داخل البلاد، على نحو بات يشكل ظاهرة خطرة على الأمن الداخلي، ويؤثر على هيبة الدولة، ويدعم العصب الإجرامية الخارجة على القانون.
(10) تآكل أسس الاندماج القومي أو التكامل الداخلي؛ مما أثر على الوحدة القومية المصرية، بين المصريين، وبروز أشكال من التمييزات الدينية والمذهبية والمناطقية والعرقية... الخ.
(11) فوضى في العلاقات بين السلطات الثلاث، وتغول رئيس الجمهورية في استخدام السلطة من خلال إصدار إعلانات دستورية لا يملك إصدارها من الناحية الدستورية؛ لترتيب أوضاع تمكن من سطوة رئيس الجمهورية على الدولة واستخدام الأداتين الدستور والقوانين، ولتيسير سياسة تمكين جماعة الإخوان المسلمين من الدولة وأجهزتها.
من ناحية أخرى الاعتداءات على السلطة القضائية، والتشكيك في استقلاليتها والاعتداء عليها من قبل جماعة الإخوان وبعض القوى السلفية، لا سيما ما ظهر أثناء نظر بعض قضايا مجلس الدولة، أو حصار المحكمة الدستورية العليا لمنع نظرها بعض القضايا المحورية في مرحلة الانتقال السياسي، والتي تمس مشروعية مجلس الشورى. أو إصدار الإعلان الدستوري الثاني الذي “,”حصن“,” مجلس الشورى من الحكم بعدم شرعيته.
لا شك أن بعض الملاحظات السابقة هي تعبير عن أزمة الدولة المصرية والضعف الذي ران عليها، وهي جزء من عديد الجوانب الأخرى التي تحتاج إلى معالجات أخرى.