يعاني الاتحاد الأوروبي من مشكلة ديمقراطية، حيث يشعر كثير من الأوروبيين أن التكامل أمر مفروض عليهم؛ والأسوأ من ذلك هو أنهم قد يكونون على حق في ذلك الأمر. ويقدم لنا بحث جديد أجراه عدد من خبراء الاقتصاد هم لويجي غويسو، وباولا سابينزا، ولويجي زينغاليز، صورة قاتمة للمشروع الأوروبي من منظور المشاركين فيه. وقد توصلوا بعد تحليل بيانات قدمتها استطلاعات الرأي العام الأوروبية على مدى أربعة عقود إلى أن ثلاثة أحداث مهمة، وهي معاهدة ماستريخت عام 1992، والتوسع نحو أوروبا الشرقية عام 2004، والأزمة الأوروبية عام 2010، أحدثت أكبر أثر سلبي على آراء الناخبين إزاء الاتحاد الأوروبي.
في كل حالة من تلك الحالات كانت نتائج الاستطلاع تشير إلى نظرة الأوروبيين إلى تلك الأحداث باعتبارها قوة دافعة نحو تكامل أكبر وإلى عدم رضاهم عما حدث.
على الجانب الآخر، ظل القادة الأوروبيون يستعدون لتعزيز التكامل رغم تنامي السخط. المثير للدهشة هو أن عدم إدراكهم للشعور العام كان هو بالضبط ما سعى إليه صانعو التكامل الأوروبي الأوائل على ما يبدو.
والتاريخ كما يقدمه لنا الخبير الاقتصادي لويجي غويسو غويسو وزملاؤه مدهش ومربك للعقل. وقد تصور الدبلوماسي وعالم السياسة الفرنسي جان مونيه، الذي يُنظر إليه بشكل كبير كواحد من الآباء المؤسسين للاتحاد الأوروبي، أن نخبة من البيروقراطيين من ذوي التوجه الأوروبي هم الذين سيتولون إدارة عملية التكامل، وكان من المفترض أن يكون المشروع محصنا من مخاوف الناخبين وغير قابل للإلغاء افتراضيا، وأن تدفعه المشكلات نحو الأمام من خلال كشف الحاجة إلى اتساع نطاق النفوذ السياسي الأوروبي. وكان الهدف أن يرى الناخبون في النهاية الحكمة من وراء ذلك. وكتب جان مونيه عام 1976: «سوف تشكل الأزمات أوروبا وستكون نتاج مجموعة من الحلول التي سيتم تبنيها لتجاوز تلك الأزمات».
وتحدث مؤيدو التكامل الأوروبي عن خلق سلسلة تفاعلات مستمرة، بحيث لا تكون العودة إلى الوراء حتى ولو بشكل مؤقت خيارا مطروحا. وكانت قوة اليورو الكبيرة كما رآها المستشار الألماني السابق هيلموت شميدت تكمن في «عدم قدرة أي شخص على الخروج دون إلحاق ضرر كبير بدولته واقتصادها». لسوء الحظ، لم تنجح نظرية سلسلة التفاعلات عند التطبيق؛ وكانت النتيجة هي جمودًا يحمل في جوهره تناقضًا. وأحب الناخبون الأوروبيون، كما يشير الخبراء، عملة اليورو ويريدون لها أن تستمر، لكنهم في الوقت ذاته لا يحبون طريقة إدارة المؤسسات الأوروبية حاليًا، ويعارضون الاتجاه نحو تعزيز التكامل الذي يعد ضروريًا بحسب خبراء الاقتصاد من أجل الإبقاء على وحدة العملة.
ويمكن القول بعبارة أخرى إن الناخبين الأوروبيين لا يرغبون في التقدم أو التراجع، وكذلك لا يريدون الثبات والبقاء في أماكنهم. لذا هل هذا حقا خطأ وقع فيه مونيه كما يتساءل غيسو وزملاؤه؟ وهل أخطأت النخبة الأوروبية في حساباتها؟ يبدو هذا أمرا ممكنا جدًا، بل وقد يكون كارثيًا. وقد تبعث بآراء الناس المتضاربة اليأس في نفوس القادة الأوروبيين الذين يريدون تعزيز التكامل، وربما لا يتقبلون بسبب ذلك تزايد قوة الأحزاب المناهضة للاتحاد الأوروبي في مختلف أنحاء أوروبا كرد فعل على التراجع الاقتصادي. وربما أيضا يرون في هذه الأزمة فرصة جديدة للتوجه نحو تعزيز التكامل. فكما يقولون، تكاليف اتخاذ أي خطوة إلى الخلف تفوق الخيال مما يجعل العودة ضربا من ضروب المحال. مع ذلك يهيمن الجمود على اللحظات التي تسبق الانكسار؛ ومقابل كل ساعة يقضيها القادة الأوروبيون في حساب كيفية الإبقاء على الاتحاد قائما، حري بهم أن يقضوا ساعة أخرى في تأسيس ممرات تسمح بانهياره على الأقل جزئيا وربما بصورة مؤقتة من أجل تخفيف الضغط والتوتر. وقد يعني هذا على سبيل المثال منح مساحة أكبر للحكم الذاتي المحلي لتطبيق اللوائح والقوانين الأوروبية، خاصة فيما يتعلق بالسيطرة على تدفق المهاجرين. وقد يكون هناك قدر من الصواب والحكمة في تضارب مشاعر الناخبين الأوروبيين، فعلى الأقل يعد فقدانهم الثقة في المشروع الأوروبي بمثابة تحذير. وعلى عكس المبتغى، قد تعجل المحاولات المتعنتة لتوحيد أوروبا بنهايتها وانحلالها على نحو لا يمكن السيطرة عليه، محدثا عواقب غير معلومة. وقد يكون تمكين الدول من اتخاذ خطوات محدودة بعيدا عن التكامل الأوروبي هو أفضل طريق للحفاظ على ما يتضمنه الاتحاد من مزايا على المدى الطويل. نقلا عن الشرق الأوسط
* بالاتفاق مع بلومبيرغ