نحيا فى
مصر الآن فى ظل دائرة جهنمية من المشكلات المعقدة والمتداخلة والمتوالدة
والممتدة، والانقسامات السياسية الرأسية، والتناحر الاجتماعى، واستخدام
الدين كأحد أقنعة هذه الصراعات الخطيرة التى تهدد فى العمق بقايا الأمة،
والدولة الحديثة المتصدعة.
حيث
تتفكك عرى التماسك القومى، والروابط الرمزية والتاريخية التى تبنى حولها الولاءات والذاكرات
الجماعية. أحد أخطر هذه الأمراض النخبوية تتمثل فى أولاً:- هيمنة العقل المنحط وتجلياته فى النزعة الشعاراتية والغوغائية
الزاعقة، ومن أبرز سماتها ما يلى:
شيوع
اللغة الغامضة واللا تواصلية، والتى يزعم بعضهم فى السلطة أو فى الجماعات المسماة بالثورية، وفى
المعارضة الإسلامية أنهم يفهمون بعضهم بعضاً
بينما لا يوجد نسق لغوى موحد من المعانى والدلالات التى تؤدى إلى
تواصل بين هذه النخب، ييسر الوصول إلى
المشتركات وبلورة أسس للحوار أو السجال
اللغوى، يساعد على التوصل إلى حد أدنى من الوفاق الوطنى. وربما يعود
ذلك إلى عديد الأسباب يأتى على رأسها
بإيجاز ما يلى:
1 - الفوضى اللغوية وهى نتاج تدهور مستمر فى نظام التعليم أدى إلى
انحطاطه مقارنة
بمراحل سابقة فى تاريخناً، وتهدم الجسور التاريخية المنظمة فى
العلاقة بين جامعاتنا ومراكز العلم
والمعرفة فى أوروبا والولايات المتحدة، وبعض
الاستثناءات من المجيدين لا تمثل نقلة نوعية فى المستويات التكوينية
للمؤسسات التعليمية الجامعية، أو فى
تجديد أو تلقيح نظام التجنيد للنخبة الحاكمة.
2 - تراجع مستويات تعليم اللغة العربية وآدابها، واستمرارية بعض
الأساليب التلقينية
فى تعليمها، بالإضافة إلى تدهور الذائقة، والحساسية اللغوية عموماً، ومن ثم تراجع الطلب السياسى
والاجتماعى النخبوى على العربية وآدابها
وأجناسها الأدبية، وهو ما يظهر فى شيوع اللغة العامية فى أكثر
صورها رداءة كما يبين ذلك فى اللغة
والخطابات التى تتداول فى وسط الناشطين على
مواقع التفاعل الاجتماعى وذلك بقطع النظر عن بعض الأحكام القيمية التى
تتداول سلبياً بين بعض الكتاب حول نوعية
ومستوى خطاب التغريدات على الواقع الافتراضى.
3 - غياب تطوير للبنى النحوية للغة العربية وتبسيطها على نحو ما تم
فى بعض اللغات الكبرى - كالفرنسية - الأمر الذى يُعسر عملية تعليمها، ومن ثم انعكاس ذلك سلباً على
مستويات الكتابة وإنتاج الخطابات السياسية والدينية وغيرها.
4 - قلة المتابعة لتطور لغة المصطلحات الكونية فى مجال العلوم الاجتماعية
- فى السياسة والاجتماع والقانون والثقافة
والأديان المقارنة والفلسفة والجمال -،
وهو الأمر الذى أدى إلى فوضى فى ترجمة
هذه المصطلحات وتعريبها على نحو دقيق،
بالإضافة إلى الفجوة الكبيرة التى تتسع بين التطور الإصطلاحى فى هذه
العلوم، وبين جمود بعض المفردات اللغوية
العربية.
5 - الانقسام فى النظم التعليمية بين المدنى والدينى والعسكرى على
نحو أحدث فجوات
اتصالية على مستوى التداول اللغوى، بين أنظمة تعليمية تتداخل فيها
اللغة الدينية مع اللغة الاصطلاحية
الحديثة دونما تمايزات وتدقيق. من ناحية أخرى استمرارية النقص التكوينى فى تعليم
أبناء كل نظام تعليمى ومعرفتهم عن اللغة
المستخدمة فى النظام الآخر، حتى فى ظل مشروع تطوير الأزهر الذى لم
يؤد إلى تحقيق بعض الغايات المستهدفة من
ورائه لاسيما فى مجال العلوم الاجتماعية،
فى بناء جسور بين اللغة الدينية واصطلاحاتها فى العلوم الشرعية، وبين مناهج واصطلاحات العلوم
الاجتماعية، وبعض الاستثناءات الجادة واردة
فى هذا الصدد.
ما
سبق يمثل أسباب اتساع الفجوة الاتصالية فى العلاقات بين النخب المدنية
والدينية والعسكرية، ومن ثم بعض الفوضى
اللغوية المنتجة ضمن أسباب أخرى للانقسامات
بين النخب المصرية على تعدد مصادر تكوينها وتشكيل ملامحها.
ثانياً:
من أبرز معالم الاستخدامات النخبوية
الشائعة لدى بعضهم وهم كُثر - الترهل البيانى والخطابى وغياب الاقتصاد اللغوى فى استخدام
عديد المفردات للتعبير
عن معنى واحد من خلال الإطناب المفرط، وعدم التمييز بين طرائق
إنتاج الخطاب الشفاهى عن الخطاب
الكتابى، وهو ما يؤدى فى الغالب إلى ما يلى:
أ
- العفوية والتلقائية اللفظية واللغوية
التى تؤدى إلى الميل لتلاوة وكتابة الشعارات
الشائعة فى التداول السياسى اليومى، أو إلى غيرها لدى بعضهم، وذلك
أكثر من التعبير عن صياغة رؤية ما فى
إطار موضوع الخطاب - الكتابى أو الشفاهى - أو فى تشخيص مشكلة أو أزمة أو صياغة إشكالية ما، ومن ثم ضعف
القدرة على تقديم تصور «النخبوى»
لموضوعه، لاسيما فى المجالات السياسية،
أو الدينية، أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الثقافية.
ب
- شيوع الركاكة اللغوية عموماً
والاستثناءات محدودة -،
والنزوع إلى الإنشائية والمبالغة
والتعميم، وهو ما يعبر عن ضعف وركاكة الفكر،
لأن اللغة وفق بداهاتها النظرية والتداولية الحداثية وما بعدها هى
الفكر ذاته، وليست تعبيراً عنه وفق
موروثات نظريات اللغة السائدة فى بعض دوائرنا.
ج
- بعض الاستخدام الإنشائى والمجازى
لإصطلاحات علمية، وانتزاعها من سياقاتها ونمط استخدامها الدقيق، وتغيير معانيها
ودلالاتها أو سوء استخدامها الاصطلاحى،
وذلك «كمكياج لغوى»، أو
أداة للتأنق الأسلوبى، وليس للتواصل العلمى، أو التوظيف الاصطلاحى
الساعى لتشخيص الظواهر والمشكلات
والإشكاليات، أو الأزمات أياً كان مجالها العام أو الخاص. وأدى تدهور مستويات
اللغة واستخدامها إلى تداخل عقل بعض النخب
مع ذهنيات العوام والجمهور.
د
- بعض النزعة الالتقاطية اللفظية التى تتسم
بالعشوائية وعدم الانضباط اللغوى أو الدلالى.
وبعض النزعة اللغوية السلطوية، التى تتسم باللغة الآمرة والفوقية
التى تصدر من أعلى إلى دوائر التلقى،
وهى تعبير عن نمط ثقافى تسلطى سائد فى الثقافة
السياسية الطغيانية السائدة فى دوائر السلطة الحاكمة. أزمة اللغة
والعقل المنحط والغوغائى أكثر تعقيداً..