المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
هشام قدري أحمد
هشام قدري أحمد

الخوف كدافع للحرب .. كيف أدى تجاهل مخاوف روسيا الأمنية إلى غزو أوكرانيا؟

الأحد 29/ديسمبر/2024 - 02:50 ص
المركز العربي للبحوث والدراسات

تتعدد الدوافع التي يُعزى إليها اشتعال الصراعات والحروب بين الدول والجماعات السياسية. وفي هذا السياق، يجادل ريتشارد نيد ليبو Richard Ned Lebow في كتابه المهم «لماذا تتحارب الأمم: دوافع الحرب في الماضي والمستقبل» الصادر عام 2010، بأن ثمة أربعة دوافع، تشكل أكثر من غيرها، مبرِّرا لاندلاع الحرب وحافزًا للتوسع الإقليمي تاريخيًا، وهي المصلحة، والمكانة، والانتقام، بالإضافة إلى الخوف (المقترن بالأمن)، وهذا الأخير يمثل في اعتقادي المحرك أو الحافز الرئيس الذي أدى إلى تحرك القوات الروسية نحو أوكرانيا وغزوها عسكريًا في فبراير 2022. فلم يكن هذا الغزو نوعًا من تخيلات الهيمنة أو استعراض القوة، بل كان مدفوعًا بهاجس الخوف والقلق من فقدان أوكرانيا وانضمامها لحلف شمال الأطلسي «الناتو» وما يعنيه ذلك من تهديد مباشر للأمن القومي الروسي. ففي أعقاب تفكك الاتحاد السوفيتي وتحوُّل النظام الدولي إلى نسق أحادي القطبية تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية، اتجه الغرب في سياسته تجاه روسيا ما بعد السوفيتية إلى تبني استراتيجية «الاحتواء المتقدم» من خلال التحرك في مناطق نفوذها التقليدية ومحاولة التغلغل السياسي والعسكري فيها، وقد تحقق ذلك على صعيدين مُتوازيين؛ فتح أبواب الاتحاد الأوروبي على مصراعيها أمام حكومات دول شرق أوروبا، وتوسيع حدود حلف الناتو شرقًا باتجاه دول الجوار الروسي، مما زاد من مخاوف روسيا التي تطلعت خلال السنوات التالية لنهاية الحرب الباردة إلى جسر الخلافات مع الغرب ومحاولة الانخراط معه في علاقات جديدة قوامها التعاون والإقرار بالمصالح المشتركة عوضًا عن التنافس الأمني، لكن الغرب لم يكن قد تخلى تمامًا عن تصوراته حول روسيا بوصفها مصدر تهديد.

هاجس الأمن: تمدد الناتو شرقًا وتصاعد المخاوف الروسية

 مع نهاية الحرب الباردة وانفراط عقد الاتحاد السوفيتي ومعه حلف وارسو، كان حلف الناتو يضم في عضويته ست عشرة دولة، آخرها إسبانيا التي التحقت بقاطرة الحلف عام 1982، لكن هذا الوضع ما لبث أن تغير سريعًا، حيث شرعت الولايات المتحدة في توطيد دعائم نفوذها بما يكرس تفوقها عالميًا على الصُعد كافة، فكانت إحدى استراتيجياتها لتحقيق ذلك تتمثل في إعادة تنشيط حلف الناتو وإخراجه من حالة التجمد الجغرافي، وذلك عبر توسيع عضويته لتضم دولاً جديدة في الشرق الأوروبي، وهو ما نجحت في تحقيقه. ففي مارس 1999، أعلنت ثلاث دول في وسط وشرق أوروبا: المجر، والتشيك، إضافةً إلى بولندا انضمامها رسميًا للناتو، وفي مارس 2004، استقطب الحلف إلى عضويته سبع جمهوريات في شرق أوروبا دفعةً واحدةً، من بينها جمهوريات البلطيق الثلاث (إستونيا، لاتفيا، وليتوانيا) التي كانت تشكل حتى وقت قريب جزءًا من نسيج الاتحاد السوفيتي، بالإضافة إلى سلوفينيا، وسلوفاكيا، وبلغاريا، ورومانيا. واستمرارًا لسياسة التوسع شرقًا، اتجهت أنظار الناتو نحو منطقة البلقان في جنوب شرقي أوروبا، حيث ضم إليه كل من كرواتيا وألبانيا عام 2009، والجبل الأسود عام 2017، قبل أن تعلن جمهورية مقدونيا الشمالية انضمامها رسميًا إلى الناتو في مارس 2020 لتكون بذلك العضو الـ 30 في الحلف.

لقد بدا واضحًا أن سياسة الباب المفتوح التي انتهجها الناتو تجاه دول شرق أوروبا تعكس إلى حد بعيد نوايا الغرب المعادية لروسيا وتجاهله المستمر لمخاوفها وهواجسها الأمنية إزاء تمدد الحلف باتجاه حدودها، على الرغم من الوعد الذي قطعه وزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر James Baker للزعيم السوفيتي حينذاك ميخائيل جورباتشوف Mikhail Gorbachev بعدم تمدد الحلف شرق الحدود الألمانية، وفي المقابل وافق جورباتشوف على توحيد ألمانيا وسحب القوات السوفيتية تدريجيًا من مناطق انتشارها في دول وسط وشرقي أوروبا. كما كشفت السياسة التوسعية للناتو أنها تستهدف بوجه خاص منطقة الفضاء السوفيتي السابق، التي تشكل عمقًا تاريخيًا واستراتيجيًا للمصالح القومية الروسية، الأمر الذي عدته روسيا تهديدًا غربيًا يستهدف مصالحها وأمنها القومي على وجه الخصوص.

هذه الهواجس الأمنية لروسيا يمكن تبريرها وفهمها عند مطالعة خريطة توسُّع حلف الناتو والدول المكونة له، والتي تكشف كيف أصبحت حدود الحلف قريبةً جدًا من الحدود الروسية، بل ومتاخمةً لها أيضًا في بعض المناطق (دول البلطيق)، وهو ما يُفسر الانزعاج الشديد للدولة الروسية وشعورها الدائم بالتهديد نتيجة السياسات التوسعية للناتو، فمن ناحية أصبحت الدول القريبة منها جغرافيًا جزءًا من التكتل الغربي، ومن ناحيةٍ أخرى باتت القواعد والدروع الصاروخية، التي نصبها الحلف في هذه الدول، على مقرُبة من الأهداف الحيوية الروسية، بعد أنْ كانت تبعد عنها آلاف الأميال إبان الحقبة الشيوعية. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، فالأجزاء الغربية من روسيا، المجاورة للناتو والواقعة غرب نهر الأورال، يتكتل فيها أكثر من 70% من سُكان روسيا، كما تتركز فيها غالبية القطاعات الصناعية والاستراتيجية، ما يجعل هذه المناطق الحيوية أكثر عرضةً للتهديد، لقربها جغرافيًا من قواعد الناتو المنتشرة في دول الجوار.

أوكرانيا: خط روسيا الأحمر

يُفسر تحرك موسكو عسكريًا تجاه أوكرانيا، من خلال قيامها بعملية عسكرية ضدها في فبراير 2022، الأهمية الاستراتيجيَّة التي تحظى بها أوكرانيا من منظور السياسة الخارجية والعقيدة العسكرية للدولة الروسية، فمنطقة شرق أوروبا، بما في ذلك أوكرانيا وروسيا البيضاء، تشكل أهميةً بالغةً من الناحيتين التاريخية والجيوبوليتيكية، ولطالما كانت تلك المنطقة أقرب لروسيا منها إلى أوروبا، وإذا كانت روسيا البيضاء  هي حليف موسكو بالأساس، فإن إبعاد أوكرانيا عن دائرة النفوذ الغربي سيظل على الدوام أحد شواغل السياسة الخارجية الروسية. إذ تدرك موسكو جيدًا أن تراخي قبضتها في أوروبا الشرقية سيجعل من هذه الأخيرة جدارًا أطلسيًا لا يُمكن تقويضه، ويمهد لتحوِّل روسيا إلى دولة آسيوية معزولة ومُهددة باحتمالات تكالب القوى الكُبرى الأخرى عليها بهدف اخضاعها وتجزيئها. فالسيطرة على شرق أوروبا، كما يقول عالم الجيوبوليتيك البريطاني هالفورد ماكندر Halford Mackinder في نظريته الشهيرة «قلب العالم» التي طرحها مطلع القرن الفائت، تُعد مفتاحًا للهيمنة على قلب العالم، وأن السيطرة على هذا القلب «مركز الأرض» يمهد لحكم الجزيرة العالمية (أورواسيا) التي يمكن لمن يُهيمن عليها أن يحكم العالم برمته، ولذلك تكابد روسيا في سبيل تأمين حضورها ونفوذها التقليديين في هذه البقعة وحماية منطقة القلب خاصتها، من خلال تعزيز علاقاتها بدولها، ومنع الحلف الأطلسي «الناتو» من الزحف باتجاهها وتقويض محاولاته الرامية إلى دفع حكوماتها للانتساب إليه، ونشير في هذا الصدد إلى الحرب القصيرة التي اندلعت رحاها في أغسطس 2008 بين روسيا وجورجيا، فحتى وإن كان استخدام روسيا للقوة العسكرية في هذا الصراع جاء بدافع حماية أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية الانفصاليتين المواليتين لها، إلا أن انخراط موسكو في هذا الصراع كان تحذيرًا مباشرًا لحلف الناتو بأن محاولة ضم جورجيا إليه مستقبلاً سيجابه بالقوة، وهو ما يفسر تأخر «تبليسي» في الالتحاق بركب الناتو حتى اليوم.

عامل آخر يُعزى إليه اندفاع روسيا إلى استعمال القوة العسكرية ضد أوكرانيا بالرغم من التداعيات الوخيمة المحتملة لهذه الخطوة، فهذه الأخيرة تشكل من المنظور الاستراتيجي خاصرة روسيا وتشترك معها في حدود برية طويلة، وعبر أراضيها تعرضت روسيا خلال الحقب التاريخية الحديثة للاجتياح الأوروبي في مناسبتين؛ الغزو الفرنسي بداية القرن التاسع عشر، ثم العدوان النازي في أربعينيات القرن المنصرم. كما أن أوكرانيا تطل بسواحلها على البحر الأسود الذي يُعد المنفذ الروسي الوحيد للوصل إلى المياه الدافئة وترسو في مياهه قطع الأسطول الروسي. ولذلك فإن الهدف الرئيس للسياسة الخارجية الروسية إزاء أوكرانيا يكمُن في الإبقاء عليها ضمن مجالها الحيوي المباشر، أو على أقل تقدير، ابعادها عن دائرة النفوذ الأورو- أمريكية، عن طريق اجبار الغرب على سحب أي مطالب مبطنة أو صريحة لحكومة كييف تستهدف انتسابها أو جرها إلى معقل الحلف الأطلسي.

انفجار الأزمة: عواقب التقارب الأوكراني مع الغرب

شهدت المدن الأوكرانية بنهاية عام 2013 احتجاجات شعبية واسعة، ردًا على تعليق الحكومة الأوكرانية لمباحثاتها مع الاتحاد الأوروبي بشأن توقيع اتفاقية للتجارة والشراكة بين الجانبين، وأمام تصاعد وتيرة العنف أعلن البرلمان الأوكراني إقالة الرئيس فيكتور يانكوفيتش Viktor Yanukovych الموالي لروسيا، تبع ذلك إلغاء قانون الأقليات واعتماد اللغة الأوكرانية كلغة رسمية ووحيدة في كافة أقاليم ومدن البلاد. وقد اعتبرت روسيا أن ما يجري في أوكرانيا يمثل انقلابًا على السلطة الشرعية وتعديًا على الحقوق السياسية للأقليات الروسية، واعتبرت أن هذا الأمر لا يخرج عن تدبير المخابرات الغربية في إطار مخططها لإشعال الثورات الملونة، وبالنظر إلى الأهمية الجيوستراتيجية التي تمثلها أوكرانيا بالنسبة للأمن القومي الروسي، فقد شرعت روسيا في اتخاذ جملة من التدابير المضادة، كان أولها إثارة مشاعر القوميات الروسية في شرق أوكرانيا التي رفعت شعارات مناهضة لكييف ومؤيدة للاستقلال والتقارب مع روسيا، تلى ذلك تدخل القوات العسكرية الروسية في شبه جزيرة القرم الواقعة جنوب أوكرانيا على البحر الأسود مدعومةً في ذلك من القوات الانفصالية الموالية لها، وأعلنت موسكو أن القرم أصبحت جمهورية تابعة للاتحاد الفيدرالي الروسي، ولم تكتفِ بذلك، بل شرعت في تنظيم استفتاء لتقرير مصير لوغانسك ودونيتسك الشعبيتين الواقعتين شرق أوكرانيا، تحولتا بموجبه إلى جمهوريتين مستقلتين ومنفصلتين عن أوكرانيا بفعل الأمر الواقع. وقد أبانت هذه الأزمة عن وجود شرخ عميق بين روسيا والغرب، وأنه بالرغم من انتفاء الصراع الإيديولوجي بينهما مع نهاية الحرب الباردة، إلا أن تناقض المصالح واستمرار منطق التنافس لا يزال يحكم العلاقات بين الجانبين.

وتستمد شبه جزيرة القرم أهميتها بالنسبة لروسيا من موقعها الاستراتيجي المطل على مضيق «كيرتش» الذي يربط البر الروسي الواقع على بحر آزوف بالبحر الأسود الذي يُعد المنفذ البحري الوحيد لوصول روسيا إلى المياه الدافئة، فضلاً عن ذلك، تضم منطقة القرم قاعدةً للأسطول الروسي وهي «قاعدة سيفاستوبول». وكانت منطقة القرم تابعةً لروسيا، قبل أن يقوم الزعيم السوفيتي نيكيتا خروتشوف Nikita Khrushchev في خمسينيات القرن العشرين بنقل ملكيتها والحاقها بأوكرانيا؛ لذا سارعت موسكو باحتلالها عام 2014 بذريعة حماية الأغلبية الروسية فيها، لضمان وصولها إلى البحر الأسود، خاصةً بعد أن أدركت القيادة الروسية حقيقة خسارتها لأوكرانيا عقب الاطاحة بحليفها يانكوفيتش. في خضم هذه الأحداث، قام الانفصاليون المؤيدون لروسيا في إقليم دونباس، جنوب شرقي أوكرانيا، بالسيطرة على المقار الحكومية في مدينتي لوغانسك ودونيتسك وأعلنوا قيام حكومتين شعبيتين فيهما بعيدًا عن سُلطة كييف، تبع ذلك اجراء استفتاءين شعبيين، جاءت نتائجهما لصالح مشروع الانفصال عن أوكرانيا والإعلان عن قيام جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك الشعبيتين المواليتين لروسيا.

حتمية الصراع: اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية

مهد هذا الوضع الجديد في أوكرانيا لاندلاع اشتباكات حدودية بين قوات الجيش الأوكراني المدعومة عسكريًا من الناتو والجماعات الانفصالية في شرق أوكرانيا الموالية لموسكو، وفي سبيل ايجاد مخرج للأزمة، وقَّعت الأطراف المعنية في سبتمبر 2014 اتفاقية «مينسك» بالعاصمة البيلاروسية، لكن هذا الاتفاق ظل حبرًا على ورق ولم يُفض إلى وقف لإطلاق النار، مما أوجب البحث عن صيغة سياسية جديدة، تمثلت في اتفاقية «مينسك–2» التي تم التوصل إليها في فبراير 2015، والتي قضت بإقامة حكم ذاتي في المناطق المتنازع عليها وسحب الأسلحة الثقيلة من منطقة العمليات، بالرغم من ذلك استمرت المناوشات الحدودية بين الجيش الأوكراني والجماعات الانفصالية، لكن دون حدوث تصعيد خطير أو إخلال بالوضع الجغرافي الجديد الذي فرضته أحداث 2014.

ظل هذا الوضع قائمًا حتى زادت روسيا من حشودها العسكرية على طول الحدود مع أوكرانيا أواخر العام 2021، قبل أن يوقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين Vladimir Putin في 21 فبراير 2022 مرسومًا اعترف فيه باستقلال جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك الانفصاليتين، وفي اليوم التالي وافق البرلمان الروسي على مشروع قرار يقضي بنشر قوات روسية في إقليم دونباس بهدف حفظ السلم في المناطق المعترف باستقلالها، وهو ما كان يعني نسف اتفاقيات مينسك ومخرجاتها، باعتبارها حجر الأساس لأي حل سياسي للأزمة الأوكرانية. كان ذلك مؤشرًا واضحًا وطبيعيًا على أن الأزمة الأوكرانيّة بصدد التحول إلى مرحلة أكثر خطورة، تلك المرحلة التي أقدمت فيها روسيا على اتخاذ قرارها بالهجوم العسكري على أوكرانيا في 24 فبراير 2022، وهو القرار الذي لم يكن مفاجئًا أو مستبعدًا بالنسبة للغرب الذي أستمر في سياساته الداعمة لأوكرانيا والمحفزة لها على استعداء روسيا، وبدلاً من تأييده لسياسة تحييد أوكرانيا وجعلها منطقة عازلة بين روسيا والناتو كبادرة لطمأنة موسكو وخفض حدة التوتر معها، مضى في مضاعفة استفزازاته لها بوعوده التي قدمها لكييف بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والناتو، فكان تجاهل الغرب لهواجس موسكو الأمنية والخوف الذي بثه إمكانية خسارة النفوذ في أوكرانيا والتحاقها بركب الناتو هو ما جعل تفجر الحرب الروسية الأوكرانية، وليس تفاديها، نتيجة حتمية.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟