المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
عبد المجيد بن شاوية
عبد المجيد بن شاوية

الكيان الصهيوني ومتلازمة "الخلق الدميري"

الأحد 29/ديسمبر/2024 - 03:08 ص
المركز العربي للبحوث والدراسات

تقديم

               إن قراءة الوضع الراهن وما قبله للشرق الأوسط في ظل العدوان الإسرائيلي الصهيوني على غزة وكل فلسطين المحتلة وعلى لبنان وسوريا واليمن ... بعد بدء عملية طوفان الأقصى يوم 7 من أكتوبر 2023... تفتح أعيننا من جديد على ما يمكن أن يستشف من خلال ما استجد من معطيات الصراع العربي/الإسلامي-  الإسرائيلي الصهيوني في صورتها الراهنة، رغم وضوح وبداهة التصورات والأسس المعتمدة لدى الكيان الصهيوني منذ أول بذرة في عمليات تفكيراته ومخططاته الاستئصالية والتدميرية لكيانات تاريخية وحضارية في المنطقة، والتي لا تُخفى على أي عاقل ومتأمل في كل بقاع العالم، فالجديد من معطيات الصراع هو قائم على تنفيذ التفاصيل والمخبوء في تلافيف القديم من المخططات والبرامج الإستراتيجية الصهيونية والغربية، ومن ثمة إنشاء كيان وطن ممتد من النيل إلى الفرات، أو ما يصطلح عليه بحسب بنود وأهداف المخططات الإسرائيلية الصهيونية بإسرائيل الكبرى، بدعم ومعاول القوى الغربية الإستراتيجية والسياسية والإيديولوجية والحضارية .

والملفت للنظر وبشكل فظيع جدا، في معطيات الوضع العربي/ الإسلامي الراهن عموما، ما يلاحظ من تردي عربي/ إسلامي استفحلت معه العلل المرضية المزمنة، وما يسجل على الأنظمة، أيضا، من المحيط إلى الخليج، من صمت وأفول وانعدام ردود فعل موازية وندية، في مواجهة عنترية وهمجية الشرذمة الصهيونية، الصائلة والجائلة خرابا وتقتيلا وتدميرا وتنكيلا وتهجيرا وإبادة جماعية للفلسطينيين واللبنانيين ... وكل من سولت له نفسه مقاومة / ممانعة جبروت الآلة الصهيونية، بل ما حدث لهذه الأنظمة هو " موت سريري " مؤكد، تنتعش على لقاحات من دماء الفلسطينيين واللبنانيين واليمنيين والسوريين .. وفصائل المقاومة في كل المنطقة، وتتغذى بسيرومات / محاليل التغذية الوريدية من خلال قهر الشعوب واستلابها وخلق الفتنة والمقالب فيما بين طوائفها وعشائرها وقبائلها وأحزابها وفصائلها، حيث كل ما يشكل مقومات وتشكيلات وتنظيمات نظامها الاجتماعي والسياسي والثقافي معرض للهزات وللقلاقل والارتجاجات هنا وهناك، كما يحدث الآن في السودان.

متلازمة " الخلق التدميري " الصهيونية والقضاء على الوجود العربي / الإسلامي

فارتباطاً بسياسات واستراتيجيات الصهاينة الممنهجة بكل عدوانية ووحشية  في كل ربوع الشرق الأوسط، بدء بفلسطين المحتلة إلى كل البقاع العربية/ الإسلامية، وذلك بهدف القضاء على الوجود العربي / الإسلامي، وفق ما يمكننا الاصطلاح عليه ب " متلازمة الخلق التدميري "، متلازمة تبناها الكيان الصهيوني منذ أول بذرة في تفكيره في اتجاه إنشاء وإرساء وجوده في منطقة الشرق العربي / الإسلامي، وذلك بخلق كيان على أرض فلسطين/ أرض الميعاد، ومشروع إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات، بناء على عمليات تدمير كل الكيانات العربية / الإسلامية، بدعم ومباركة من القوى الغربية الامبريالية، باعتماد منظومة إستراتيجية تخريبية تفكيكية، تعمل على تفكيك الجوامع والقواسم المشتركة بين شعوب المنطقة برمتها، سياسيا كان أم ثقافيا، أيديولوجيا أو عقائديا، تاريخيا أو حضاريا، جغرافيا أو اقتصاديا، لتجعل منها كيانات خانعة وخاضعة دون مقاومة تذكر، ولا سياسات إستراتيجية مناوئة من قبل الشعوب وأنظمتها السياسية، وبلا قضايا تاريخية وحضارية، مما يفرض عليها التبعية المطلقة للكيان الصهيوني وللقوى الغربية، خاصة الدركي الأول المتمثل في أمريكا في زمننا الراهن، حيث تأتى في بعض المحطات الإستراتيجية والأيديولوجية، للكيان الصهيوني في جر أغلبية الأنظمة السياسية إلى مستنقع التطبيع السياسي والدبلوماسي والاقتصادي، ومعها بعض التنظيمات المدنية والأهلية، ثقافيا واجتماعيا، سياسيا وأيديولوجيا.. وذلك بإنشاء وترسيم شراكات مدنية بين شبكات الكيان الصهيوني المدنية ومنظمات أهلية/ مدنية في العديد من الدول العربية / الإسلامية، فتم اختراق واسع لكل المؤسسات الرسمية وتنظيمات حزبية وثقافية واجتماعية وعرقية، من قبل المنظومة الصهيونية، وبشكل مثير للغاية، انبرت أصوات بداخل الكيانات العربية / الإسلامية تنادي بالتطبيع مع الصهاينة، فانتصبت بأصواتها جهرا، بعلاقاتها مع أحد أو مجموعة أو فعالية من الفعاليات والتنظيمات الإسرائيلية الصهيونية، سواء في المجال الاجتماعي أو الثقافي، العلمي أو المعرفي، الاقتصادي أو السياسي، الديني أو الأيديولوجي ... في إشارة قوية إلى أفول " المقولات الجوهرية الممانعة " التي سادت في زمن من أزمنة الصراع العربي / الإسرائيلي الصهيوني، وانسحابها من قاموس ردات الفعل التاريخية والحضارية والسياسية والأيديولوجية تجاه الكيان الصهيوني المحتل والغاصب، مما أثار حفيظة البعض ممن يهمهم الشأن العام بداخل الكيانات العربية الإسلامية، فأطلق على هذه الخرجات الرسمية وغير الرسمية، اصطلاح " صهينة " بعض ممن ينتمون للمجال العربي/ الإسلامي، بل أكثر من ذلك، هناك من يحمّل فصائل المقاومة أوزار وويلات جرائم الحرب الإسرائيلية الصهيونية البشعة على الفلسطينيين واللبنانيين وكل من يحمل شارة المقاومة في كل ربوع جبهات القتال والجهاد ضد الكيان الصهيوني، وما ترتب عن منظومة الإبادة الصهيونية في تجلياتها وصورها اللاإنسانية واللاأخلاقية، فيدافع، دون خجل ولا أي اعتبار قيمي إنساني، عن وجود الكيان الغاصب وحقه في الوجود الآمن والمشروع في أرض اغتصبها من أصحابها غصبا وعدوانا وجورا، وخليق به أن يوجد بين ظهراني إنسيات جغرافية العالم العربي / الإسلامي، إلى حد التماهي كلية مع تصوراته ومعتقداته الأيديولوجية والثقافية ..

متلازمة " الخلق الدميري " الصهيونية و "الزمن العربي الرديء"

فعمليات متلازمة " الخلق التدميري " الصهيونية أتت في سياقات تاريخية وحضارية، في سياق الزمن العربي / الإسلامي الرديء، بكل دلالاته،  بل الأدهى والأمر  من هذه الرداءة، أن تفشت المسوخ في كل جوانب الحياة السياسية والدبلوماسية والثقافية والأيديولوجية العربية/ الإسلامية، وفي ذروة زمن " الفوضى الخلاقة" كما  جاءت في تنظيرات السياسة الخارجية الأمريكية، لأجل إعادة ترتيب الأوراق وإعادة بناء القائم من المعطيات داخل الأوطان العربية / الإسلامية، في حلة جديدة، تترجم توجهات السياسات الصهيونية والأمريكية، بعد الاشتغال على هدم وتقويض وتدمير وخلخلة  كل ما يجسد اللحمة التاريخية والحضارية لمكونات الجغرافية العربية/ الإسلامية، من المحيط إلى الخليج، باللعب على أوتار الطائفية والعشائرية والمذهبية والدينية وتأجيج الصراعات بين مكوناتها، وخلق التصدعات بين الدولة والمواطن، وإثارة الفتن والقلاقل بين المكونات والتنظيمات الأهلية والأحزاب السياسية والمؤسسات الرسمية، عملا بقاعدة " تحريك الفئران " بداخل الكيس حتى لا تحدث ثقوبا، لكي لا تستقيم الأوضاع الداخلية ووضع مخططات ومشاريع لمخرجات جيو- سياسية وإستراتيجية هادفة، إذ يتم الإجهاز على ممكنات القدرة والفاعلية لكل بلد على حدة، وعرقلة الآفاق والمآلات المصيرية المستقبلية الممكنة  للحسم مع السائد من الأزمات الداخلية وانتكاسات السياسات الإقليمية والدولية، إضافة إلى بث النعرات والخصومات بين أنظمة الدول العربية / الإسلامية، لترهنها في أزمات بينية، تخدم أجندات الساهرين على منظومة " الخلق التدميري"  الصهيونية ومفاعيل " الفوضى الخلاقة " الأمريكية والغربية، ومن ثمة القضاء على " جوامع الكلم " ووحدة المشروع العربي / الإسلامي الجيو- سياسي والاستراتيجي، في كل اتجاهاته ومساراته الوجودية والحضارية، لاجتثاث كل إمكان وقدرة على التفكير الاستراتيجي والأيديولوجي منذ الوهلة الأولى في عملية استحضار الأفكار وبحث السبل الناجعة لإعادة ترميم المهدم والمقوض من المشترك على اختلاف مجالاته والإبداع في خلق آليات الاشتغال الوحدوي المشترك، فيتم سحب البساط من تحت أرجل الإرادات والقوى الرائدة والطموحة لبناء وحدة وقوة الصف العربي/ الإسلامي، بفعل الاختراقات وعمليات التدمير الممنهجة من طرف الصهاينة والغربيين عموما.

فرغم " وحدة السماء " و " وحدة الجغرافيا " الممتدة، تلك الوحدة التي تشكلها التقاطعات والمشتركات البينية في غالبيتها، التي بإمكانها أن تُخلق معها قوة وحدوية على أكثر من صعيد، إلا أن رجات الخلافات والنزاعات والخصومات بين مكوناتها، سياسيا، مذهبيا، وأيديولوجيا، تقضي على كل إرادة صاعدة في اتجاه بناء مصير مشترك ومستقبل واعد ضدا على إرادات المناوئين الداخليين والخارجيين، في اتجاه تجزيء المشتت وتفتيت المفتت، وإعادة مخططات سايكس – بيكو المعدمة لكل نقلة عربية / إسلامية وجودية وحضارية وتاريخية، عبر مشاريع القوى الغربية الاستعمارية / الامبريالية ومخططات الحركة الصهيونية، منذ أول مؤتمر لها في سويسرا بمدينة بازل  بسويسرا يوم 29 أغسطس 1897، الذي كان من أهدافه ومقرراته إنشاء وطن قومي يهودي.

التغلغل الصهيوني وانقسامات السماء وفوضى الأرض

لقد اعتمد التغلغل الصهيوني والغربي، خصوصا الأمريكي، عبر منظومة من الميكانيزمات السياسية والأيديولوجية والثقافية والجيو- سياسية، سياسة " فرق تسد " داخل الكتلة العربية/ الإسلامية، فإن كنا نعتقد أن " السماء " ضامنة لوحدتنا بوحدتها في ذاتها، فقد عادت تشكل بؤرة الخلاف وليس الاختلاف فقط، ما دامت تشكل ينبوع التأويلات والاستعارات الوجودية، لتمتح العقول، أكانت رسمية أم جماهيرية، من النص ما يعمل على تفعيل الرؤى والتصورات في اتجاه المشترك على الأرض / الجغرافيا، وتدبيره والعمل على إخراج وبناء البنى المؤسساتية على اختلاف مجالاتها، إلا أن ما أصاب " السماء " من أزمات تصورية وانقسامات عديدة، انعكس جدليا على " وحدة الجغرافيا "، لتعرف بدورها الشتات والتيهان  والفوضوية.. حيث لم تهدأ براكينها ولم تتوقف الهزات بداخلها، ولا حركات طبقاتها التكتونية المزلزلة لفضاءاتها همدت، ولو للحظة واحدة عبر السيرورات السياسية والأيديولوجية والتاريخية فيما بين مكوناتها الدولتية الوطنية، نتاج ما اصطلحنا عليه بمتلازمة " الخلق التدميري" الصهيونية، ومقالب " الدرس الفوضوي الخلاق الأمريكي "  مع  استحضار تحالف القوى الغربية الأوربية، والقوى المتخاذلة عربياً وإسلامياً، و "طالما أن الانقسام موجود، فإن نتائجه وآثاره ستبقى موجودة وباقية".

فتأويلاً لأشهر مقولة من مقولات ماو تسي تونغ، في سياق مغاير، نقلا عن سلافوي جيجيك في كتابه الموسوم بعنوان: فلسفة الفوضى.  "الوضع ممتاز ما دامت فوضى كثيرة تسود تحت السماء "، (سلافوي جيجيك، فلسفة الفوضى، ترجمة عماد شيحة، دار الساقي، الطبعة الورقية، 2022، الطبعة الإلكترونية 2023 ص، 9). فتفكك الأنظمة الاجتماعية والسياسية الذي يسود العالم العربي / الإسلامي، أتاح الفرصة للمزيد من التحكم في مصائر الدول والشعوب العربية / الإسلامية، حيث " سماؤ " نا منقسمة أيما انقسام، وغارقة في أوحال التأويلات والتفسيرات المغرضة وغير العقلانية، لتحجب معها كل إمكانية عقلانية وعلمية لتدارك ما علق بها من فهومات وإدراكات عممت على العقول وسادت الأذهان، مما نتج عنه تبعية الأنظمة السياسية لما تمليه القوى الصهيونية والغربية، ناهينا عن الانقسامات فيما بينها في تصوراتها وآليات اشتغالها، علاوة على اللعب بالأوراق تحت الطاولة في علاقاتها مع القوى الفاعلة دوليا، وكذا الاستمرار في تعنتها على عدم اجتماعها على كلمة جامعة مانعة في قراراتها ومخرجاتها، ثم اتكالية وخضوع وانبطاح وتسليم بالوضع الراهن -  بئسما آل إليه الوضع الثقافي والوعي السياسي والأيديولوجي - لدى عموم جماهير العالم العربي / الإسلامي، مع استثناءات قليلة مازالت تشكل قوى حراكية ممانعة ومقاومة، وعيا باللحظة التاريخية المريرة التي يمر بها الوضع العربي/ الإسلامي، لتفتح الأبواب على مصراعيها لفوضوية في طابعها المميز والممتاز في الآن نفسه بداخل الجغرافيا المنقسمة على نفسها، سواء جغرافية سياسية أو اقتصادية أو ثقافية أو عقدية ومذهبية أو أيديولوجية .. الأمر الذي يهيئ الشروط والظروف المواتية للصهاينة والغربيين وغيرهم بالخارج والداخل للعمل على الاشتغال أكثر في وضع المخططات والاستراتيجيات من جديد بكل أريحية، لضمان المصالح التاريخية والحضارية والجيو- سياسية المقدسة لدى كل منها، لنتساءل على لسان سلافوي جيجيك من جديد: ألا تزال هذه الفوضى تجعل الوضع ممتازا، أم أن مخاطر التدمير الذاتي مرتفعة للغاية؟

في عرض لرواية كلاسيكية موسومة بعنوان " سماء منقسمة " (1963)، من أيام جمهورية ألمانيا الديمقراطية، للروائية كريستا وولف،  يتناولها سلافوي جيجيك مستحضرا أحداثها وعلاقات شخوصها  للتدليل على حجم وهول الانقسامات وآثارها على الكتل الإنسية وما تثيره من فوضى وحروب ونزاعات فيما بين مكوناتها،  ف" الرواية تتحدث عن الآثار الذاتية المترتبة على تقسيم ألمانيا، يقول مانفريد ( اختار الغرب) لمحبوبته ريتا عندما يلتقيان للمرة الأخيرة: " ولكن حتى لو قسمت أرضنا، فلا نزال نتشاطر السماء عينها "، فتجيب ريتا ( اختارت الشرق ) بمرارة: " لا لقد قسموا السماء أولا ". والرواية تقدم كيف أن الانقسامات والحروب " الأرضية " متأصلة في نهاية المطاف في " سماء منقسمة". ( فلسفة الفوضى، نفس المرجع، ص، 10).

ختاماً

إنها المخاطر والأزمات التي تحدق بالكيانات العربية الإسلامية من كل حدب وصوب، والفوضوية والانقسامات التي تعصف بالداخل، بفعل آليات متلازمة " الخلق التدميري " الصهيونية، برمجة وتخطيطا وتنفيذا لسياسات الكيان الصهيوني، الذراع المتين / المتبنى لسياسات القوى الغربية، الأمريكية والأوربية في تناغم  مع /تبني تفعيل تنظيرات " الفوضى الخلاقة " كما أتى بها جهابذة المخططات الإستراتيجية الأمريكية، علاوة على المتخاذلين والأتباع المنتمين للفضاء الجغرافي العربي / الإسلامي.   

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟