عندما أسمع أو أقرأ خطاب النخبة السياسية فى
ألوانها وأطيافها السياسية حول أى قضية من القضايا الداخلية أو الإقليمية أو الدولية،
يثور لدى عديد الأسئلة الأساسية هل ما يقال سياسة أو ذات صلة بها؟
أم نحن أمام خطابات بيروقراطية أو تكنقراطية
أو أمنية محدودة الكفاءة والخبرة فى تخصصاتها؟ من أين جاء هؤلاء؟ ومن يمثلون فى مصر؟
ومن الذى اختارهم؟ وعلى أية معايير تتم هذه الاختيارات البائسة؟ بل من اختار من يقومون
بعملية الاختيار؟ الأمر لم يعد قصراً على التشكيلات الوزارية المتعاقبة والتدهور المستمر
فى عمليات التجنيد السياسى للحكومات أو اختيارات قيادات الصحف والإعلام، أو فى مواقع
الدولة ذات الأهمية والحساسية فى قطاعات الأمن أو الاستخبارات أو المصارف، من يختار
من؟! ان الإجابة عن الأسئلة السابقة وغيرها كثيرة، تشير إلى حالة من الوهن العام فى
تركيبة النخب فى الدولة، وفى الأحزاب السياسية الضعيفة فى هياكل عضويتها، وفى برامجها،
وقادتها وفى أدائها، وفى اللامبالاة الجماهيرية بهذه الأحزاب القديمة والجديدة، بل
لا يكاد يعرف أسماءها أو قادتها إلا قلة محدودة لأسباب إعلامية، ويثار السؤال مجدداً
من هؤلاء؟ من أين جاءوا؟ هل هى ثرواتهم المالية الكبيرة؟ من أين أتت؟ وما هى مصادرها؟
وهل يكفى الثراء الفاحش لبعض هؤلاء المليارديرات أن يتلاعبوا بالإرادة العامة للأمة؟
ويفرضوا مصالحهم وأهواءهم على الجماعة الناخبة؟ ما الذى يعطى للسذاجة أو التفاهة حضورها
الكثيف والتى تتجلى فى غالب خطابات نخبة لم تعرف السياسة، وليس لدى غالبها تكوين السياسى
أو عقل أو خيال أو حس رهيف أو قدرة على اتخاذ القرارات السياسية؟ أسئلة تتوالى من ظاهرة
تاريخية سوسيولوجية وثقافية ودينية، هى موت السياسة، والتجريف السلطوى المستمر للكفاءات
واغتيال الأجنة الموهوبة فى مهادها كنتاج لثقافة سائدة تكره المواهب والكفاءات فى كافة
المجالات! لم يخرج من دائرة الموت المعلن للكفاءات- الموت هنا مجازى بامتياز - ويتجلى
فى الاستبعادات والاقصاءات لأهل الكفاءة والموهبة عن التطور والنضج، وعن وصولها إلى
مواقع القيادة فى كافة مستوياتها -، ومن ثم تبلوُر خبراتها وتشكيل حساسياتها السياسية
والمهنية والوظيفية. موت الكفاءات المعلن يبدو دائماً فى استبعادات ممنهجة للألباب
المصرية، لأن المواهب والكفاءات تشكل خطراً على جسد النخبة والبيروقراطية والتكنقراطية
والأمن،، وا... الخ! لايزال التشكيل التاريخى للنخبة والنظام مستمراً منذ أكثر من ستين
عاماً مضت، ولا تزال أيضاً معايير التجنيد للنخب هى الولاء والتوريث والمحسوبية والأقدمية،
وعدم التسيسس، لأن نخبة 23 يوليو 1952 العسكرية والأمنية والبيروقراطية والتكنقراطية
- تكره السياسة، لأنها لا تعرفها، ومن هنا تناسلت أخطاءها الكبرى وهزائمها فى غالب
مجالات العمل الوطني! هذا هو واقعنا الآن! وانظر إلى الاختيارات الوزارية واختيارات
بعض الوزراء لمعاونيهم وتساءل من هؤلاء؟ ومن أين جاءوا؟ وماذا لديهم؟ وستعرف خيباتنا!
وانظر أمامك ووراءك فى سخط! أبناء موت السياسة والكفاءة والموهبة والمعرفة والعلم فى
صدارة المشاهد فى الدولة والأحزاب والنخبة وخارجها.!
من فضلك نحن نتحدث عن سياسة دولة ومجتمع متخلفين!
فلا يذهب بك الفكر والخيال إلى السياسة فى عالمنا المعولم، ولا تعقيداتها التى تغيرت
كثيراً منذ انهيار القطبية الثنائية عند قمة النظام، إلى شبه الإمبراطورية الأمريكية،
ثم تراجعها. لم تعد السياسة فى النظم الديمقراطية الغربية، ولا أساليب ادارتها وصنع
القرارات فيها، تعتمد فقط على المفاهيم والهياكل التقليدية، لأن بعض المشكلات تبدو
أكثر تعقيداً تداخلاً وتركيباً من غيرها، ومن ثم تحتاج إلى رؤى مغايرة فى المقاربة
والتشخيص والحلول، ومن ثم لا تستطيع السلطة والمؤسسات السياسية أن تجد حلولا لها؟ من
هنا ولدت ما سبق أن اسميته فى عديد الكتابات قبل 25 يناير 2011- بسياسة الملفات، أى
أن يسند رئيس الدولة بعض الملفات التى تنطوى على مشكلات وقضايا معقدة أياً كانت مجالاتها
إلى شخصية مرموقة ذات كفاءة وموهبة وتاريخ من الانجاز فى تخصصه، فضلاً عن توافر شرط
المتابعة المستمرة- فكراً وممارسة- لما يحدث عولمياً وإقليمياً وداخل البلاد، وذلك
لكى يدير هذا الملف أو ذاك، من تشخيص دقيق وعلمى للمشكلة وتداخلاتها وتعقيداتها وتطوراتها
عبر الزمن، ثم أثر عديد المغيرات عليها، وكيف يمكن مواجهة هذه المشكلة أو مجموعة المشكلات
معاً! ومن البديهى أن تقدم الدولة كافة المعلومات والملفات الخاصة بهذه المشكلة، وتيسر
لمن أسند إليه هذا الملف كل الأمور لإنجاز مهماته. هذا ما حدث فى ملف الحجاب فى فرنسا
فى عهد شيراك، وملف المرأة فى عهد زين العابدين بن على فى تونس، وملف التعليم فى الولايات
المتحدة، وتقرير أمة فى خطر زائع الصيت، وتقرير وضع التعليم فى اليابان. من هنا تبدو
سياسة الملفات بمثابة سعى للخروج من أطر البيروقراطية والتكنقراط والاستخبارات والأمن،
وعالم موظفى الدولة، ومراكز البحث والمعلومات فيها، وذلك سعياً وراء خبرة مغايرة، وعقل
وثابّ، وخيال سياسى خلاق، ورؤية قادرة على استيعاب حقائق عصرها وتحولاته.
من هنا تبدو من الأهمية بمكان الأخذ بهذه السياسة،
بعيداً عن «بؤس العقل المنحط» الذى أعد للماضي، وليس لضرورات الوضع الحالى واستثنائية
ظروفه وتعقيداته. نحتاج لعقول أعدت نفسها لمواجهة صدمات الحاضر وللتعامل مع سياسة المستقبل.
ان حالة الوّسنُ العقلي، والاغفاءة التاريخية الطويلة عن تحولات الزمن ما بعد الحديث
والعولمي، تعنى ضرورة البحث عن العقل السياسى الخلاق، وأن أوضاعنا الراهنة والأجيال
الجديدة لم تعد تقبل التعايش مع تركة نظام للتجنيد السياسى للمحاسيب والأبناء والأحفاد،
ولا نخبة بليدة لم تعد قادرة على توليد الرؤى والسياسات والحلول الخلاقة، لأن عقلها
وحساسيتها لم تعد هنا! وإنما جزءاً من ماضى التخلف التاريخى المستمر! أزمات ومشكلات
متفجرة أينما وليت وجهك، وكانت ولاتزال تعبيراً عن تفاقم ظاهرة موت السياسة، ومن ثم
انحطاط العقل العام وتخلفه كما عقل النخبة كما يطلق عليها مجازاً- عن مجاراة عالمه
وعصره وواقعه، وتطورات العلم والمعرفة والسياسية، ومن ثم لا نزال نعيد إنتاج مشاهد
سياسية، وروئ وتشكيلات غير قادرة على مواجهة متطلبات عصرنا. إذن فلتكن سياسة الملفات،
محاولة للخروج من الأفق المسدود لنخب لم تعد قادرة على الخروج من إطار العقل المعتقل
أو العقل المنحط، فى وقت نحتاج إلى عقول ورؤى قادرة على الطيران نحو آفاق غير مألوفة.