إشكالية الأمن والقانون والحرية، شكلت ولا تزال واحدة من أهم إشكاليات الفكر القانونى،
والسياسى المصرى منذ تأسيس الدولة الحديثة وحتى مراحل الانتقال عقب 25 يناير 2011، ويبدو أن ثمة غموضا يعترى مقتربات التفكير حولها لدى كل الفاعلين السياسيين، من حيث كيفية الوصول إلى توازن وتكامل بين مكونات هذه الثلاثية الهامة التى من خلالها يمكن تحقيق بيئة سياسية وقانونية تتسم بالتوافق العام فى حدوده الدنيا، يتحقق فى ضوئه استقرار سياسى وأمنى يساعد على تفكيك هياكل التسلطية السياسية والدينية، وثقافة اللا مسئولية واللا مبالاة بقيمة العمل داخل سلطات الدولة وأجهزتها.
أحد مصادر الغموض فى طرح الإشكالية يتمثل فى أن السلطة الانتقالية وبعض أجهزة الدولة تتصور أن القانون هو محض أداة بيدها وليس قيداً عليها وفق الأطر الإجرائية التى يتعين عليها إتباعها - وأنها فى مواجهتها للإرهاب والعنف السياسى، وعصب المجرمين والخارجين على القانون، تستخدم العنف الغشوم وكأنه هو القانون أو أن غاية تحقيق الأمن تبرر الوسائل التى تلجأ إليها من أجل تحقيقه! إن إشاعة أقصى درجات الخوف من الإرهاب والعنف بهدف تحقيق السيطرة- وفق مقولة هوبز الشهيرة -، هى بذاتها ما قد تؤدى إلى تحقيق هدف الإرهاب وعملياته ومنتجيه، وهو إشاعة الخوف والترويع على نطاقات واسعة. من هنا يسيطر على بعض أجهزة الدولة منطق أن القانون ليس قيداً على سلطتها وأن إرادتها تعلو فوقه وعلى إرادات المواطنين، ومن ثم لا تأبه كثيراً فى سبيل تحقيق الأمن بالحدود والضمانات المفروضة على سلطاتها، على نحو رسخ إدراك شبه جمعى بأن الدولة وأجهزتها أكبر من القانون وحريات المواطنين العامة والشخصية، ومن ثم تبدو فى بعض الأحيان حرمات المواطنين مستباحة، ومن ثم وقر لدى بعضهم عدم احترام مفهوم قانون الدولة.
من ناحية أخرى يسود لدى بعض الأجيال الشابة من الطبقة الوسطى المدنية فى القاهرة وبعض المدن الأخرى أن الدولة القوية أو الدعوة إلى عودتها لممارسة مهامها لا تعدو أن تكون الدولة الأمنية الباطشة التى ستسحق الحريات العامة والشخصية، وأن طرح الأمن كأولوية على قائمة أعمال الرئيس الجديد تعنى تفويضا شعبيا له بأن يمارس أقصى درجات القمع والعنف «المشروع» بما يؤدى إلى انتهاك مكتسبات العملية الثورية فى يناير 2011 وما بعد، ويسوغون هذا الفهم بالنزعة الغلابة لدى «مشرعى» السلطة الانتقالية، باللجوء إلى سياسة تغليظ العقاب فى عديد من القرارات الجمهورية بقوانين بهدف تحقيق الردع العام الذى لم يتحقق إلا قليلاً، ويضربون على ذلك مثلاً بقانون تنظيم حق التظاهر.
من الشيق ملاحظة أن تغليظ العقاب فى عديد من القوانين لا يؤدى إلى تحقيق التنظيم أو الردع العام والخاص، بل قد تدفع إلى تزايد أشكال الخروج على هذه القوانين لاسيما تلك التى تضع قيودا على الحريات العامة بمقولة تنظيمها، لاسيما عقب عملية ثورية كان أحد أبرز دوافعها هو الحرية والكرامة الإنسانية. القانون هو تعبير عن توازنات فى المصالح الاجتماعية والسياسية وبين الحريات والواجبات والمسئوليات، وبين السلطة والحرية. من هنا يحتاج الرئيس الجديد إلى بلورة رؤية سياسية حول تنظيم للحريات العامة يؤدى إلى إشباعها ودعم تمتع المواطنين بها، وممارستها دونما تجاوزات وانتهاكات جسيمة. ثمة سياسة تجريمية متزايدة فى عديد المجالات أدت إلى قمع المبادرة الفردية والجماعية، بينما العالم شهد سياسة الردة عن التجريم، لاسيما فى ظل تطورات سياسية كونية داعمة لحقوق الإنسان بأجيالها المختلفة.
من هنا يبدو التصدى لمصادر تهديد الأمن السياسى والجنائى أمر مطلوب من خلال احترام الضوابط القانونية الموضوعية والإجرائية التى تضعها سياسة تشريعية انتقالية تتسم بالتوازن بين الحرية وتنظيمها، وبين مواجهة الإرهاب واحترام القانون. من ناحية أخرى الاستمرار فى تطوير سياسة الأمن وإعادة التوازن إلى محاورها المختلفة. لا شك أن الأجهزة الأمنية حققت نجاحات بارزة منذ بدء المرحلة الانتقالية الثالثة، وذلك على الرغم من تزايد التهديدات الأمنية، وعودة موجات العنف الإرهابى المنظم، وبعض العنف المصاحب لعمليات التظاهر. هذا النجاح النسبى يعود إلى تراكم بعض الخبرات الجديدة، واستعادة الأجهزة الأمنية للعافية التنظيمية والروح الأمنية والنزعة للتضحية.
ومن ثم يمكن فى هذا الإطار طلب دعم بعض الدول العربية النفطية الشقيقة لتمويل صفقات لتقنيات أمنية. هذا أمر مطلوب لأنه لا حرية ولا حقوق إنسان دونما بيئة أمنية مستقرة. من هنا لا أحد ضد تطوير سياسة الأمن وبنيته الأساسية إلا أن ذلك لابد أن يحاط بضمانات قانونية وسياسية على سلوك الأجهزة الأمنية. إن إعادة النظر فى قانون تنظيم التظاهر وتخفيف العقاب على الخروج عن بعض قواعده من الأهمية بمكان. من ناحية أخرى إعادة النظر فى أوضاع المحكوم عليهم، والإفراج عنهم، يمكن أن تشكل بداية جديدة لحوار وطنى جاد بين الجماعة القانونية، وبعض كبار المثقفين والشباب لبناء تصور جديد حول العلاقة بين الحريات وتنظيمها القانونى، والاعتبارات الأمنية، وذلك من خلال وضع رؤية وسياسات ترمى إلى رصد وتحليل لمصادر إنتاج التسلطية السياسية والقانونية والأمنية، وفى هياكل الدولة وثقافاتها، وما هى السياسات المطلوبة لتفكيك الأبنية التسلطية وثقافتها الغشوم التى أدت إلى إفقاد فكرة القانون معناها ووظائفها تحت دعاوى كاذبة هى تحقيق الأمن، لأنه لا أمن دونما حرية وسيادة القانون العادل والمتوازن.. قانون الحرية.