تشكل محاكمة رئيسين للجمهورية، وبعض من رموز السلطة السياسية ظاهرة جديدة فى الحياة السياسية والقضائية المصرية، وهو أمر يعود إلى بعض
التغير السياسى النسبى الذى حدث بعد الانتفاضة الثورية فى 25 يناير 2011، ومفاد ذلك ألا أحد كائناً من كان فوق القانون، حتى هؤلاء الذين أداروا الدولة والنظام التسلطى عند القمة، وكانوا يتعاملون مع قانون الدولة بوصفه أداة لتحقيق أهدافهم ومصالحهم السياسية والاجتماعية بل والشخصية، وأنهم فوق النظام القانونى كله، وأن إرادتهم تعلو فوق إرادته، وفوق أجهزة الدولة وسلطاتها. هذا الإدراك هو جزء لا يتجزأ من ثقافة عامة سادت لدى النخبة الحاكمة المصرية منذ تأسيس الجمهورية بعد 23 يوليو 1952. كان التحليل السابق لدى قلة القلة من المفكرين المصريين، أن النظرة الأداتية للقانون، هى جزء من ثقافة العسكر، والعسكريين فى تعاملهم مع قانون الأحكام العسكرية، والقضاء العسكرى اللذين يعكسان نمط العقلية العسكريتارية، وطبيعة تنظيم الجيوش التى تتطلب الانضباط والحزم وعدم الإخلال بمقتضيات النظام العسكرى القائم على التراتبية، والأوامر التى تصدر من أعلى قمة القيادة إلى المستويات المختلفة فى الجيوش. هذا الفهم لم يعد مقصوراً على النظام السائد فى الجيش، وإنما نستطيع القول إن هذا الإدراك الأداتى الصارم للقواعد القانونية امتد من المجال العسكرى إلى مجال السلطة والحكم فى النظام الجمهوري، ومن ثم إلى المدنيين وهو ما برز فى ظل حكم الرئيس السابق محمد مرسى وجماعة الإخوان المسلمين، وذلك على نحو ما برز من نمط تعاملهم مع قانون الدولة، والأخطر مع الفكرة الدستورية، لاسيما أثناء وضعهم لدستور 2012، وكذلك اصدارهم الإعلانات الدستورية، لاسيما إعلان نوفمبر 2012 ذائع الصيت، الذى شكل انقلاباً دستورياً هو الأكثر خطورة فى تاريخنا السياسى منذ الانقلاب الدستورى عام 1930 على أيدى إسماعيل صدقى باشا، وذلك من خلال اعتداء الرئيس وجماعة الإخوان ومؤيديها من الجماعات الإسلامية على استقلال السلطة القضائية، وتحصين الإعلانات الأخرى التى أصدرها رئيس الجمهورية السابق. من ناحية أخرى كانت القرارات الجمهورية بقوانين، وكذلك ممارسات مجلسى الشعب والشورى بعيدة تماماً عن مبدأ الفصل بين السلطات، وذلك من خلال التغول على السلطة القضائية، وبما يتجاوز حدود اختصاصات وعمل السلطة التشريعية الرقابي، وفى إصدار القوانين، التى تحولت إلى محض أداة فى أيدى أغلبية تصورت نفسها فوق القانون والسلطات الأخرى. ولعل هذا السبب، ومحاولة تغيير نمط الحياة المصري، وفرض رقابة وهيمنة من آحاد الإسلاميين على حريات الناس الشخصية، ومحاولة فرض قانونهم وسلوكهم خارج إطار قانون الدولة هو الذى أدى إلى ظاهرة الاحتجاجات السياسية والاجتماعية الممتدة، حتى أحداث 30 يونيو وما بعد... ظاهرة محاكمة السياسيين فى تاريخ نظام يوليو التسلطي، مستمرة منذ الحكم الناصرى لاسيما المحاكمات العسكرية بعد هزيمة يونيو 1967 الماحقة، ثم بعد حركة مايو على أيدى السادات، واستخدام مبارك القضاء والقانون فى محاكمات عديد الخصوم السياسيين، هى أحد العوامل التى أدت إلى تشكيل أحد أكبر الجروح البنائية والإدراكية لمبدأ دولة القانون لدى قطاعات واسعة من المواطنين، ودفعت بهم إلى إدارة ظهورهم لقانون الدولة، واللجوء إلى قانون القوة والفساد والأعراف، بل والقضاء العرفى الذى ساد عديد المناطق فى الأرياف والمناطق الطرفية من الجمهورية، والتى لجأت إليه أجهزة الدولة لحل المشاكل الطائفية، على نحو كرس إدراك شبه جماعى بأن قانون الدولة يفتقر إلى وظائفه الردعية والمنعية للجرائم، وأن الفساد والقوة والمكانة فى السلطة أو فى دوائر المال والأعمال هو القانون السائد، فى ظل عدم تطبيق الدولة والسلطة للقانون ولجوئها إلى القانون والقضاء العرفيان لحل أنماط من الأزمات الطائفية أو فى المنازعات التى تسود أبنية القوة التقليدية فى الأرياف.
من هنا يبدو تلاعب النخبة الحاكمة منذ 23 يوليو 1952 وإلى المحاكمات الحالية، هى أحد تجليات هذا الإدراك السلطوى الغشوم لمعنى دولة القانون، بل ولفكرة القانون الحديث ذاتها، فى حين أن قواعد القانون هى ضبط للسلوك الاجتماعى والسياسي، وتنظيم له، ولحماية مجموعة من المصالح العليا للأمة والدولة وللأفراد (المواطنين)، وأنها تنظم الصراعات الاجتماعية، وتحقق التوازن بين المصالح المتصارعة أو المتنازعة، ومن ثم القانون ليس محض أداة فقط، ولا هو تعبير عن مصالح القوة الاجتماعية المسيطرة على سلطات الدولة وأجهزتها، وليس أداة بين يدى أجهزة الدولة القمعية التى تحتكر استخدام القوة المشروعة، وإنما هو تنظيم للتوازنات الاجتماعية، ومصالح أغلبية المواطنين والمخاطبين بأحكامه، القانون ليس أداة لانتهاك الحريات العامة والشخصية، وإنما يقررها ويصونها ويحميها من أى اعتداء، حتى ولو كان من قبل السلطات والأجهزة المنوط بها تطبيقه، وانفاذه فى العلاقات الاجتماعية والسياسية.
من هنا تبدو النظرة الأداتية المسيطرة للقانون، أحد أخطر أزمات دولة القانون، من هنا تتشكك قطاعات عديدة فى استقلال السلطة القضائية والقضاة، وفى السلطة التشريعية، وفى رجال الحكم وفى فكرة ومعنى دولة القانون الحديث، وهو ما يدفع بعض المتشددين والغلاة فى الحركة الإسلامية للتشكيك فى مشروعيته. الفهم السلطوى أياً كانت مواقعه وسلطاته هو ما يجعل القانون محضُ لعبة سياسية بأيدى النخب الحاكمة، وعندما يحدث تغير سياسى يتحول الرئيس ومراكز القوى حوله إلى متهمين، ويطبق عليهم القانون ويتحدثون عن ضرورة الحيدة والنزاهة والعدالة واستقلال القضاء، وهم الذين سبقت لهم الاستهانة بهذه القيم واعتداؤهم عليها.
من هم فى السلطة الآن عليهم أن ينظروا إلى تاريخ انتهاك دولة القانون، فلعل مصائرهم وحركة الأجيال الثائرة تصنعهم فى مكان من حوكموا، أو يحاكموا الآن!.
إن تاريخ المحاكمات السياسية والعسكرية فى بلادنا يشير إلى ذروة أزمات سيادة القانون العادل والمتوازن بين المصالح المتنازعة، والذى لا يفرق فى النصوص والتطبيق والمحاكمات بين المواطنين أياً كانت انتماءاتهم السياسية أو أوضاعهم الاجتماعية، أو حظوظهم من الثروة والنفوذ والسلطة. من ثم تشكل محاكمات الإخوان، وحسنى مبارك وأبنائه وآخرين درساً بليغاً لمن يديرون البلاد فى المرحلة الانتقالية الحالية وما بعد.