تدابير بناء الدور .. إثيوبيا وجهود الوساطة في الأزمة السودانية
تُعد زيارة الرئيس الإثيوبي آبي أحمد إلى السودان في 7
يونيو 2019، أحد أهم الجهود الإقليمية للوساطة التي برزت في القارة الإفريقية في
الفترة الأخيرة؛ حيث عملت أديس أبابا على القيام بدور فاعل في الأزمة للعديد من
الاعتبارات أهمها التقارب الجغرافي بين البلدين، والخوف من تأثير الأحداث في
السودان على الداخل الإثيوبي، بالإضافة إلى الرغبة الإثيوبية في ممارسة دور هام في
الأزمة ومزاحمة العديد من الدول العربية والإقليمية والإفريقية والدولية في تنفيذ
أهدافها خاصة تلك المتعلقة بحماية مصالحها الداخلية والإقليمية، ومنذ توليه السلطة
في إثيوبيا في إبريل 2018، بدأ أبي أحمد إصلاحات سياسية واقتصادية واكتسب تقديرًا واسعًا
بسبب مهاراته الدبلوماسية التي أتاحت تحقيق السلام مع إريتريا، خصم بلاده القديم،
مما يمنحه هامش كبير لممارسة دور مهم في المصالحة السودانية الداخلية.
وتمثل أهمية زيارة أبي أحمد إلى الخرطوم كونها تأتي في
ظل تزايد معدل التوترات بين المجلس العسكري الانتقالي وقادة الحركة الاحتجاجية (قوى
الحرية والتغيير)، وذلك في محاولة لتسوية النزاع بين الطرفين، خاصة بعد أحداث ميدان
الاعتصام التي راح ضحيتها العشرات، وإعلان المجلس العسكري في أعقاب أحداث الاعتصام،
إلغاء كل الاتفاقات التي توصل إليها مع قوى الحرية والتغيير بشأن الانتقال الديمقراطي،
وأعلن عن خطط لإجراء انتخابات في غضون تسعة أشهر، لكن الحركة الاحتجاجية رفضت هذه الخطط.(1)
مبادرة
إثيوبية
أعلنت إثيوبيا بأن نتائج المحادثات التي أجراها رئيس وزرائها
آبي أحمد، مع الفرقاء السودانيين في الخرطوم، تسير في الاتجاه الذي يخدم المصالح
السودانية خاصة بعد أحداث التوترات بين الفرقاء السودانيين فيما يتعلق بإدارة
المرحلة الانتقالية، وإعلان الاتحاد الإفريقي أنه علق بمفعول فوري عضوية السودان في
المنظمة القارية إلى حين إقامة سلطة انتقالية مدنية خاصة بعد أن شهد تصعيدًا لأعمال
العنف.
الجدير بالذكر أن قوى الحرية والتغيير قد عقدت اجتماعًا خاصًا
لبحث مشروع الوساطة الذي تقدم به المؤتمر الشعبي لاستئناف المفاوضات مع المجلس العسكري،
والذي نتج عنه اتفاق أعضاء تجمع المهنيين على أنهم لن يقبلوا أي وساطة مع المجلس العسكري
في الظرف الراهن، بعد أحداث فض الاعتصام وقبل التمكن من التواصل مع بعض أعضاء التجمع
المفقودين، إلا أن قبول الطرفين للوساطة الإثيوبية يزيد من فرص التحاور مجددًا حول
إدارة المرحلة الانتقالية كما يمنح المجلس العسكري الانتقالي فرصة ذهبية لإعادة تصحيح
السياسات المتبعة من جانبه والتي عملت على تأزم الوضع بصورة كبيرة في الفترة
السابقة، وفيما يلي أبرز الأهداف الإثيوبية تجاه الأزمة في السودان: (2)
1) حث المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير على
التحلي بالشجاعة لحل المأزق الذي أعقب إزاحة الرئيس السوداني السابق عمر البشير،
ومن ثم أجرى أبي أحمد محادثات بشكل منفصل مع الجانبين عقب التوترات المتزايدة بين الجانبين،
كما أكدت إثيوبيا على ضرورة أن يتخذ الفاعلين السياسيين السودانيين قراراتهم بشأن مصيرهم
الوطني في استقلالية تامة، بعيدًا عن أي طرف غير سوداني.
2) الدعوة إلى انتقال سياسي وديموقراطي بصورة عاجلة في
السودان، مطالبًا بضرورة بقاء بعثة الاتحاد الإفريقي في خدمة الأطراف السودانية حتى
التوصل إلى اتفاق، كما أعلن أنه سيقوم بجولة ثانية من المباحثات خلال أسبوع مع كل من
طرفي الأزمة السودانية.
3) دعم الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية البنيوية وفق
تخطيط استراتيجي ومنهجي على أسس الحوكمة الرشيدة، لنهضة السودان الجديدة.
4) إلتزام إثيوبيا بدعم السلام في المنطقة، على أن المطلب
الوحيد لعودة السلام إلى السودان هو الوحدة الداخلية.
وفي هذا الإطار قدم رئيس الوزراء الإثيوبي مبادرة
أفريقية التي حازت على القبول المشروط من الجانبين؛ حيث اقترح من ضمنها تشكيل مجلس
سيادي من 15 شخصًا، تكون الأغلبية فيه للمدنيين، وعلى الرغم من أن المبادرة
الإثيوبية لم تتضح ملامحها بصورة كلية على الوضع الداخلي السوداني، إلا أنها نجحت
في تهدئة التوترات بين الجانبين بصورة نسبية؛ حيث نجح في استصدار مواقف أكثر مرونة من المجلس العسكري
الانتقالي السوداني وقوى إعلان الحرية والتغيير خلال ساعات افتصرت عليها زيارته للخرطوم،
وبرغم تحفظ المجلس العسكري على المقترح، لكنه أبدى استعداده الدائم للتفاوض، أما قوى
الحرية والتغيير فعبرت عن قبولها الوساطة الإثيوبية، لكن بشروط، أهمها تشكيل لجنة تحقيق
دولية في أحداث فض الاعتصام، وإطلاق سراح المعتقلين وأسرى الحرب في السودان،
بالإضافة إلى اشتراط قوى الحرية والتغيير بأن يتحمل المجلس العسكري مسؤولية فض الاعتصام
أمام القيادة العامة للجيش في الخرطوم، وكذلك وإتاحة الحريات العامة وحرية الصحافة
ورفع الحظر عن خدمات الإنترنت.
وعلى خلفية الضغوط التي تمارسها قوى الحرية والتغيير
فيما يتعلق بتدابير العصيان المدني؛ أعلن المتحدث باسم المجلس العسكري الانتقالي في
السودان الفريق الركن شمس الدين كباشي، إن المجلس "وافق تماما" على مقترحات
الوساطة التي قدمها رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد، مقللًا من تأثير العصيان المدني،
وأن المجلس العسكري الانتقالي لا يمانع العودة إلى المفاوضات مع المعارضة والتوصل إلى
توافقات.
توترات
متلاحقة
تتزايد وتتصاعد حدة الخلافات بين ممثلي المعارضة والمجلس
العسكري بشأن تشكيل المجلس السيادي، المفترض أن يتولى إدارة شؤون البلاد. ولم يتفق
الجانبان بعد على مستوى تمثيل المدنيين والعسكريين في المجلس؛ حيث تريد قوى الحرية
والتغيير أن تكون للمجلس قيادة مدنية، وتعهدوا بالاستمرار في الاعتصام أمام مقر الجيش
حتى تلبية مطالبهم، وفي المقابل، يريد المجلس العسكري أن يتشكل المجلس السيادي من عشرة
مقاعد، سبعة منها لممثلين عن الجيش وثلاثة للمدنيين، ومن ثم تتعثر المفاوضات بين خلاف
قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري الحاكم في السودان. وأبرز نقاط الخلاف هي نسب
التمثيل ورئاسة المجلس السيادي.
وفي ظل عدم التوصل إلى اتفاق على أسس إدارة المرحلة الانتقالية،
واستمرار تراشق الاتهامات بين قوى المعارضة والجيش، ما يشير إلى أن السودان لم يتجه
بعد إلى نقطة الاستقرار، وتبادل الطرفان الاتهامات؛ حيث يتهم كل طرف الآخر مسؤولية
فشل المحادثات الهادفة إلى تسوية الأزمة، فضلاً عن اتهامات صريحة ووجهها المجلس لقوى
الحرية والتغيير، بأنها تراجعت عن التزامها بفتح الطرقات والجسور ومسارات خطوط السكة
الحديد لانسياب حركة السير، وذلك على خلفية مطالب قوى التغيير بسلطة مدنية كاملة، تتكون
من مجلس سيادي مدني، ومجلس وزراء مدني مكون من كفاءات وطنية، ومجلس تشريعي بكامل الصلاحيات،
بينما يتمسك العسكريون بمجلس ذو أغلبية عسكرية.
وتسعى قوى الحرية والتغيير إلى ممارسة مزيد من الضغوط على
المجلس العسكري الانتقالي، كي يسلم الحكم إلى سلطة مدنية، وذلك عبر صياغة وثيقة دستورية
تحدد بشكل متكامل طبيعة السلطات ومستوياتها في الفترة الانتقالية. وقالت القوى إنها
عملت في الوقت الحالي على التركيز في طبيعة السلطات في السودان ومستوياتها، وليس الحديث
عن نسب التمثيل في مجلس السيادة، وتطالب القوى بـ"مجلس رئاسي مدني" يضطلع
بالمهام السيادية خلال الفترة الانتقالية، و"مجلس تشريعي مدني"، و"مجلس
وزراء مدني مصغر" من الكفاءات الوطنية، لأداء المهام التنفيذية.(3)
فرص
وتحديات الوساطة
تأتي زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي إلى السودان في سياق
الدبلوماسية المكوكية النشطة التي تنتهجها أديس أبابا منذ وصوله لسدة الحكم،
ورؤيته للدور الإقليمي الذي يمكن أن تلعبه إثيوبيا في العديد من الملفات المثارة
على الساحة الإفريقية، ولم تكن السودان المحطة الأولى لمثل هذه السياسات، إلا أنها
تأتي بعد سلسلة من السياسات المماثلة التي يتبعها أبي أحمد في مسارات حركته
الإقليمية والدولية كما هو في حالة التوتر بين الصومال وكينيا مؤخرًا؛ حيث يري أن أي
تدهور في داخل البلدان الإفريقية أو بين البلدان في علاقاتهما الثنائية سينعكس حتمًا
علي بقية بلدان المنطقة، ومن بينها إثيوبيا.
بالإضافة لذلك تمثل السياسة الإثيوبية في مجملها تتويجًا
لمسارات الدبلوماسية الوقائية تجاه الأزمات المندلعة في المنطقة، وذلك لتفادي خطر
التأثير على الأوضاع الداخلية والإقليمية المحيطة بها، وذلك في ظل التخوف الحاكم
للسياسة الإثيوبية من أن أي تفاقم للصراع السياسي في السودان واحتمالات انزلاق البلاد
إلي عنف واسع النطاق سيشكل ذلك تهديدًا للأمن القومي لها، خاصة في ضوء الهشاشة الأمنية
في بعض الاقاليم الإثيوبية المتاخمة للسودان.
كما أن أبي أحمد يهدف من زيارته تلك تسجيل موقف إثيوبي
قوي تجاه الأحداث الداخلية في السودان عن طريق تصدير نفسه كراعي لجهود المصالحة
الداخلية في الأزمات التي تمر بها القارة الإفريقية وخاصة تلك التي تقع في الدول
المجاورة له، بالإضافة إلى مزاحمة الأطراف الإقليمية والدولية في عملية التسوية
السياسية، لاعتبارات الأمن القومي الإثيوبي وكذلك لاعتبارات الأمن الإقليمي
بمفهومة الشامل.(4)
ختامًا: من المتوقع أن تلعب إثيوبيا دورًا مهمًا في توجيه الأحداث الداخلية السودانية بما يحقق جانبين أساسيين، هما التوصل إلى صيغة داخلية مقبولة وتوافقية يشكلها الطرفان من المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير، والثاني يتعلق بالداخل الإثيوبي وكذلك الوضع الإقليمي والمتمثل في الحفاظ على وحدة الأراضي الإثيوبية من خطر انتقال الأحداث إلى الداخل، والبعد الآخر يتعلق بالدور الذي يسعى أبي أحمد لصياغته إقليميًا ودوليًا بحيث تكون إثيوبيا دولة محورية في جهود الوساطة وفض النزاعات بالطرق السلمية، ويدلل على ذلك الدور ونجاحه ما أعلنه المجلس العسكري الانتقالي عن رغبته العودة مجددًا إلى طاولة المفاوضات، وبذلك نجحت إثيوبيا في تحقيق أهدافها المتعلقة بالمصالحة السودانية الأمر الذي سينعكس ليس فقط على الداخل السوداني ولكن على الدور الإثيوبي في القارة السمراء ويضفي ملمح جديد لسياستها الخارجية.
المراجع
1)
آبي أحمد يدعو إلى انتقال "ديمقراطي سريع" في السودان، على الرابط:
2) مظاهرات السودان: رئيس الوزراء
الإثيوبي آبي أحمد يصل البلاد للوساطة بين المجلس العسكري والمعارضة، على الرابط:
http://www.bbc.com/arabic/middleeast-48555939
3) مظاهرات السودان: تصاعد
الخلاف بين المعارضة والمجلس العسكري، على الرابط:
http://www.bbc.com/arabic/middleeast-48115259
4) لماذا يعتقد الإثيوبيون
أن أبي أحمد "نبي"؟، على الرابط: