المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

تأجيل الحسم: الجولة الرابعة في مفاوضات سد النهضة

الإثنين 29/سبتمبر/2014 - 11:41 ص
المركز العربي للبحوث والدراسات
د. أيمن السيد عبد الوهاب

تفاؤل حذر، عنوان حاكم للجولة الرابعة من المحادثات حول سد النهضة، فرغم التقدم الذي أحرزته تلك الجولة مقارنة بالجولات الثلاثة السابقة، فإن الفجوة القائمة بين الموقفين المصري الإثيوبي لا تزال متسعة، وأن قوة الدفع التي توافرت بالموافقة الإثيوبية على إيجاد آلية لتنفيذ توصيات لجنة الخبراء الدوليين (التي انتهت من أعمالها في مايو 2013) لا تعبر عن تجاوز إثيوبيا لموقفها الرافض للحقوق المائية المصرية بقدر ما تعبر عن قبولها بصيغة وسط لآلية توفر لها المزيد من الوقت، وتخفف الضغوط المصرية والدولية التي واجهتها في توفير التمويل الكافي لاستكمال بناء السد.

فعلى امتداد نحو 8 أشهر، منذ انتهاء الجولة الثالثة ( يناير 2014)  وبداية الجولة الرابعة (25ـــــ 26 أغسطس 2014) حدثت العديد من التفاعلات والمستجدات التي أثرت بشكل كبير على وتيرة عملية بناء السد وعلى قدرة إثيوبيا على التشبث بموقفها، فضلًا عن تجاوز مصر لمرحلة عدم الاتزان التى استغلتها إثيوبيا في الشروع في تنفيذ حلمها بالإعلان عن عملية بناء السد بعد ثلاثة أشهر فقط من 25 يناير 2011 ، حيث أسهمت مرحلة عدم الاتزان المصرية في تنفيذ المخطط الإثيوبي الساعي لتحقيق مجموعة من المكاسب، يأتي في مقدمتها تجاوز حق مصر في الإخطار بأي مشروعات تقام على نهر النيل، ثانيًا رفع السعة التحزينية للمشروع القديم الذي كانت تتفاوض عليه مع مصر من 14 مليار م 3 إلى 74 مليار م3، وثالثًا الشروع في تنفيذ اتفاقية عنتيبي التي رفضتها مصر، وفرضها كأمر واقع بالشروع في بناء السد والإعلان عن الحقوق المتساوية في المياه، بما يعني تجاوز حقوق مصر في حصتها التاريخية (55.5 مليارم3).

التجاوزات الإثيوبية تشير بدورها إلى أهمية الحرص والحذر في تحليل نتائج الجولة الرابعة، لاسيما وأن المرونة المصرية والحرص الذي أظهرته على استمرار المحادثات والحوار، تضعنا أمام ضغوط عامل الوقت واستمرار عملية بناء السد التي تصب في صالح الجانب الإثيوبي، وهو ما يقودنا لتساؤل مبدئي حول آلية المحادثات وقدرتها على تسوية ملف سد النهضة في ظل ثوابت مصرية معلنه تتعلق بحصتها من المياه وحقوقها المكتسبة؟ والتساؤل أيضًا حول الخيارات المصرية المتاحة في ظل تمسك إثيوبيا بالسعة التخزينية الكبيرة ورفضها لمشاركة مصر في التمويل أو إدارة وصيانة السد؟ والتساؤل كذلك حول فاعلية اللجنة الوطنية وحدود قدرتها على تجاوز الإطار الفني ومناقشة القضايا الخلفية؟ وأخيرًا التساؤل حول مدى الحاجة لمبادرة سياسية وإطار سياسي داعم للمحادثات الفنية لاسيما وأن عامل الوقت يظل حاسما، كما أن الدراسات ونتائجها تعطي إطارًا زمنيًا يمكن أن يمتد إلى نحو العام، رغم تحديدها بستة أشهر، وهي فترة ترجح من كل التحركات الإثيوبية وتزيد من هامش مناورتها. بعبارة أخرى، إن التمسك والتعنت الإثيوبيين تجاه بناء السد يفرض تحركًا سياسيًا مصريًا مستندًا إلى خيارات متعددة توفر في النهاية القدرة على استمرار الضغوط الإقليمية والدولية بعيدًا عن نتائج الدراسات.

اتساقًا مع هذه الرؤية، فسوف يعالج هذا التقرير الجولة الرابعة ونتائجها في إطار ما أفرزته من نتائج ومستجدات على مسار عملية بناء السد والخيارات المصرية المطلوبة.

أسهمت مرحلة عدم الاتزان المصرية في تنفيذ المخطط الإثيوبي لتجاوز حق مصر في الإخطار بأي مشروعات تقام على نهر النيل، ورفع السعة التحزينية للمشروع القديم

أولا- الجولة الرابعة.. مسار التفاعلات

عُقدت الجولة الرابعة من المباحثات بعد توقفها لنحو ثمانية أشهر، لتثير الكثير من التساؤلات بقدر أكبر من تقديم الإجابات، فلا تزال الرؤى والمواقف بعيدة وآليات التوافق موضع اختبار.

1-    مواقف الأطراف الثلاثة

فالإعلان عن التوافق وتبلور إرادة سياسية للحل لدى قيادة الدولتين تمثلان عاملين إيجابيين ودافعين لاستمرار الحوار، أما نتائج المحادثات فسوف تظل مرتهنة بالقدرة على تجاوز إثيوبيا لمنهجها التفاوضي الساعي لفرض سياسة الأمر الواقع واكتساب المزيد من الوقت، فضلًا عن إدراكها الصحيح لدرجة مرونة الموقف المصري، وأسبابه الحقيقية، وكون هذه المرونة لا تنم عن ضعف أو افتقاد الخيارات، بقدر ما تنم عن قوة الموقف المرتبطة بحقوقه التاريخية.

 فبالنسبة لمصر فقد استمر نهجها التفاوضي مستندًا إلى مجموعة من الثوابت الحاكمة والتي تنم عن رغبة في توسيع أطر التعاون وتكامل الأهداف مع التعبير في نفس الوقت عن المخاوف بشأن التأثيرات السلبية للسد على الأمن المائي، فضلًا عن امتلاك زمام المبادرة من خلال طرح بعض الأفكار المرتبطة بتمويل السد والسعة التخزينية وعملية تشغيله، وهو النهج الذي بدأ في الجولات السابقة. وهنا يجب الإشارة إلى مجموعة من الرسائل أو الركائز التي استند إليها الموقف المصري خلال المباحثات الأربع، نذكر منها:

·     عدم التفريط في أي كمية من حصة مصر المائية، لا سيما مع تزايد العجز المائي المصري إلى نحو 25 مليار م3، وثبات حصة مصر منذ عام 1959 وعدم امتلاك مصر لبدائل مائية كما هو متوافر لدى غيرها من دول حوض النيل، حيث إن حصتها من مياه النهر تمثل المصدر الرئيسي والأساسي لتلبية احتياجاتها من المياه.

·     التأكيد على مشروعية المخاوف المصرية بشأن التأثيرات السلبية لسد النهضة سواء بالنسبة لعملية بناء أو ملء وتشغيل السد، لاسيما في ضوء نقص المعلومات وعدم استكمال الدراسات المطلوب.

·             تنفيذ توصيات التقرير النهائي للجنة الخبراء الدولية.

·             التأكيد على عامل الوقت كعامل ضاغط ومهم، لاسيما في ظل استمرار عملية بناء السد.      

تشير ثوابت الموقف المصري إلى متغير أساسي متمثل في مجموعة من المستجدات والتطورات التي ساعدت على عودة المحادثات، وتغيير أجواء البيئة المحيطة بالمحادثات بالقدر الذي أسهم في توفير عدد من الآليات الدافعة لمسار المحادثات.

 في المقابل، استند الموقف الإثيوبي إلى إظهار قدر أكبر من المرونة في التعامل مع التحفظات المصرية المرتبطة ببناء الثقة كهدف لتسهيل عمل اللجنة الوطنية الثلاثية عبر توفير ضمانات تتعلق بالمعلومات والبيانات الخاصة بالسد، كما تشير نتائج المحادثات ـــ كما سيتضح لاحقًا ـــ عن تطور ملموس في الموقف الإثيوبي ومنهاجها التفاوضي الذي ارتكز على خطاب رسمي، وتحركات داعمة للحوار والمحادثات من أجل الحوار فقط وتجنب الظهور بموقف المتعنت، وهو النهج الذي لم يتغير طوال مراحل التفاوض وعكسته اتفاقية عنتيبي، فالرفض الإثيوبي للحقوق المصرية المكتسبة يمثل إحدى أهم ركائز موقفها التي لم تتغير حتى الآن، فمن المعروف أن مصر رفضت اتفاق عنتيبي الذي لم تصدق عليه سوى دولتين فقط هما إثيوبيا ورواندا، استنادًا لعدم التوصل لاتفاق حول ثلاث قضايا رئيسية، أولاها يتعلق بحصة مصر عبر الحديث عن الاستخدامات المتساوية، وثانيتها: التصويت حيث طالبت مصر والسودان أن تكون موافقتهما شرطا لإقامة أي مشروعات على النهر، وثالثتها: حق الإخطار الذي يعطي لمصر حق معرفة أية مشروعات تقام على النهر، وأن تعترض عليه إذا كان يسبب ضررًا بأمنها المائي.

ولذا يجب النظر بحرص للموقف الإثيوبي الأخير فهو لا ينم عن تغيير حقيقي تجاه الأمن المائي المصري أو حقوقها، وإنما يعكس درجة من التوافق على صيغ وسيطة وحلول توافقية فيما يتعلق بآليات تنفيذ التقرير النهائي للجنة الدولية. ويتجلى هذا التباين بين المواقف والرؤى الإستراتيجية الإثيوبية وتحركاتها التكتيكية من خلال حرصها على تأكيد عدد من الرسائل خلال جولة المباحثات، أولاها استمرار محاولة تحميل مصر وتحديدًا الإعلام المصري مسئولية التصعيد السياسي والإعلامي بين البلدين خلال المرحلة السابقة، وهو ما يعني رغبة إثيوبيا في رسم صورة ايجابية لدى الرأي العام العالمي والخروج من مأزق الضغوط الإقليمية والدولية عليها. ثانيتها: التأكيد على استمرار العمل بالسد وعدم إلحاق أية أضرار بأي دولة من دول المصب، فضلًا عن الإعلان عن تفهم مخاوف مصر والسودان، وهنا يجب الانتباه إلى مضمون هذه الرسالة، فإثيوبيا لا تتحدث عن حقوق ولكن على مخاوف يمكن التعامل معها. ثالثتها: محاولة الإيحاء بموافقة مصر على استمرار العمل في السد بالإعلان أن مصر لم تطلب وقف البناء أو بسد أقل حجمًا، والحقيقية أن الموقف المصري طالب بهذه المطالب في الجولات السابقة ورفضتها إثيوبيا وأدت إلى فشل المحادثات. ولذا فقد انتهجت مصر نهجًا جديدًا عبر طرح هذه الإشكاليات على لجنة الخبراء وعلى المكتب الاستشاري لإبداء الرأي الفني الخاص بتقدير السعة وحجم الأضرار. وتجدر الملاحظة، أن الدراسات الإضافية سوف تنتهي في 30 مارس، أي قبل انتهاء أديس أبابا من المرحلة الأولى من بناء السد بنحو 6 أشهر، حيث ستكون سعة السد 14 مليار م3، وهي السعة التي لا تسبب ضررًا ملموسًا لمصر.

استمر نهج مصر التفاوضي مستندًا إلى مجموعة من الثوابت الحاكمة والتي تنم عن رغبة في توسيع أطر التعاون وتكامل الأهداف مع التعبير في نفس الوقت عن المخاوف بشأن التأثيرات السلبية للسد

من هنا نجد أن عامل الوقت سوف يكون حاسمًا، وهو ما سوف تراهن علية إثيوبيا مع محاولة تجاوز أزمة تمويل السد التي نجحت الحكومة المصرية بعد 30 يونيه 2013 في محاصرة التحركات الإثيوبية وإظهار تعنتها.

 وما بين الموقفين المصري والإثيوبي يبرز الموقف السوداني الذي يجب قراءته عبر مجموعة من الأبعاد الداخلية والإقليمية والدولية المتشابكة، والتي جعلت من حجم تفاعلاته مع إثيوبيا أكبر كثيرًا من مصر، وبالتالي لتفهم أبعاد الموقف السوداني لا يجب قصر تناوله على البعد المائي ـ وبعيدًا عن الكثير من التفاصيل ـ فيكشف مسار التفاعل الثلاثي خلال الجولات الأربع من المحادثات أن تغير الموقف السوداني من التضامن مع الموقف المصري الذي استمر منذ بداية التفاوض في "إطار مبادرة دول حوض النيل" عام 2000 وحتى توقيع اتفاق عنتيبي في مايو 2010 قد تغير وأخذ مسارًا متباينًا عن الموقف المصري تجاه عملية بناء سد النهضة؛ إذ انتقل من خانة التضامن والمشارك للموقف المصري إلى موقف الوسيط الساعي للتقريب بين الموقفين المصري والإثيوبي، وهو ما شكل ضغطًا متزايدًا على الموقف التفاوضي المصري، حيث بدت الموافقة السودانية على بناء السد غير مشروطة في كثير من الأحيان محاولة سودانية للضغط على مصر، لا سيما في فترة توتر العلاقات التي مرت بها الدولتان بعد سقوط حكم الإخوان في 3 يوليو 2013، كما سعت حرصت الخرطوم على تعميق تفاعلاتها مع إثيوبيا نظرًا لامتلاك أديس أبابا العديد من الأوراق الضاغطة على السودان، منها على سبيل المثال تلك المتعلقة بالمفاوضات مع جنوب السودان، وتحسين علاقات "البشير" بالغرب وتخفيف الضغوط الإقليمية.

وهنا يمكن الإشارة، لمضمون خطاب الحكومة السودانية، ومحاولات توضيح الكثير من الملابسات التي أحاطت بموقفها التفاوضي، وخاصة تصريحات وزير الموارد المائية والكهرباء، حيث ذكر "أن السودان شريك في المفاوضات وليس وسيطًا، وأن ملف مياه النيل بين مصر والسودان فوق كل الحسابات السياسية، وأن هناك تنسيقا وتعاونا، وأن هناك اتفاقات مشتركة" هذه العبارات تشير في مجموعها إلى رغبة سودانية لإعادة التأكيد على مجموعة من الثوابت الحاكمة لعلاقاتها بمصر بعد فترة من التوتر امتدت من يوليو 2013 وحتى لقاء رئيس الدولة في الخرطوم في 27 يونيو 2014.

 

1-    بيئة المحادثات ومستجداتها

فرضت مجموعة من التطورات والتفاعلات السياسية المحيطة بملف المياه بشكل مباشر وبتحركات مصر أفريقيًا ودوليًا بشكل غير مباشر على تهيئة الأجواء لعقد جلسة المباحثات الرابعة بعد تجمد الحوار مع نهاية الجولة الثالثة. وهنا يمكن رصد عدد من هذه التفاعلات.

أ‌.        لقاءات القمة

شكل اللقاء الذي جمع الرئيس عبد الفتاح السيسي ورئيس الوزراء الإثيوبي "هيلي ماريام ديسالين" على هامش القمة الأفريقية في "مالابو" عاصمة غينيا الاستوائية، محددًا أساسيًا لشكل وطبيعة التفاعلات التي حكمت الإعداد لجولة المباحثات الرابعة وللخطاب الرسمي بين البلدين، وهو ما انعكس بوضوح في البيان الختامي، الذي رسم الملامح العامة لمنهاج التفاوض والتعامل مع أزمة بناء سد النهضة ومسار التعاون في كل المجالات.

فقد ركز البيان على خمس ركائز أساسية، هي:

·        استئناف المفاوضات الثلاثية حول السد.

·   تشكيل لجنة عليا تحت إشرافهما المباشر لتناول جميع جوانب العلاقات الثنائية والإقليمية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية.

·   التزام الحكومة الإثيوبية بتجنب أي ضرر محتمل من سد النهضة على استخدامات مصر من المياه، والتزام الحكومة المصرية بالحوار البناء مع إثيوبيا، والذي يأخذ احتياجاتها التنموية.

·   احترام مبادئ الحوار والتعاون كأساس لتحقيق المكاسب المشتركة وتجنب الإضرار ببعضهما بعضا، وأولوية إقامة مشروعات إقليمية لتنمية الموارد المالية لسد الطلب المتزايد على المياه، ومواجهة نقص المياه واحترام مبادئ القانون الدولي والاستئناف الفوري لعمل اللجنة الثلاثية حول سد النهضة.

·        تنفيذ توصيات لجنة الخبراء الدولية، واحترام نتائج الدراسات المزمع إجراؤها خلال مختلف مراحل مشروع السد.

ورغم أن البيان حمل العديد من الجوانب الإيجابية فإن المحاذير والمخاوف المحيطة بالمحادثات حول السد ظلت قائمة ولم تنهها جولة المباحثات، التي أثارت العديد من التساؤلات حول الخيارات المصرية والبدائل وحجم تكلفتها.

 

ب- التحركات المصرية الأفريقية

شكل حضور الرئيس المصري القمة الأفريقية (25-26 يونيو 2014) في غينيا الاستوائية، بعد إلغاء قرار تعليق عضوية مصر في الاتحاد الأفريقي ( في 17 يونيو 2014) بعد نحو عام ( قرار التعليق 5 يوليو 2013) رسالة قوية حول رؤية مصر لدورها وتحركاتها في أفريقيا، وهو ما أكدته أجندة اللقاءات والمباحثات الخاصة بالرئيس عبد الفتاح السيسي سواء قبل القمة بزيارته للجزائر ( 25 يونيو 2014) أو على هامش القمة مع القادة الأفارقة، ومنهم "سلفا كير" رئيس جنوب السودان أو بعد انتهاء القمة وفى طريق عودته للقاهرة بلقائه الرئيس السوداني "عمر البشير".

وقد أظهرت هذه اللقاءات التوجهات والمحددات الحاكمة لسياسة مصر تجاه القارة الأفريقية وأولوية القضايا المعبرة عن المصالح الإستراتيجية لمصر من ناحية، وتلك المتعلقة برؤية مصر لأطر التعاون ومستوياته بين دول القارة من ناحية ثانية.

ج- المبادرة التنزانية

تستند على الدعوة لمراجعة البنود الخلافية بالاتفاقية الإطارية لدول حوض النيل المعروفة (باتفاق عنتيبي) عبر لقاء يجمع وزراء الخارجية، بدت كمتغير في بعض مواقف دول المنابع، وفرصة ملائمة ومدخل للعودة للتفاوض الجاد الجماعي، فضلًا عن فتح قنوات للحوار الثنائي المصري مع باقي دول الحوض للبحث عن آلية جماعية لتنظيم التعاون المائي. ومن المعروف أن نقاط الخلاف تدور بالأساس حول ثلاث نقاط رئيسية، هي: مفهوم ومتطلبات الأمن المائي وتلك ترتبط بحصة مصر، ورفض الإخطار المسبق الذي يعطي لمصر حق رفض أي مشروع يؤثر على حصتها، ونمط التصويت حيث تطلب مصر باعتماد الإجماع كسبيل لاتخاذ القرارات أو في حالة الأغلبية تكون مصر من ضمن الأغلبية المصوتة.

د‌-       العلاقات الإثيوبية السودانية

شهدت العلاقات، بعد موافقة الأخيرة على بناء سد النهضة وتوقيع نحو 13 اتفاقية لتعزيز التعاون بين البلدين، تقاربًا شديدًا وتطورًا بدا في كثير من الأحيان ضاغطًا على مصر. المستجدات السابقة يمكن اعتبارها عوامل دفع إيجابية أسهمت في بلورة تحركات غير مباشرة وضغوطات هيّأت الكثير من الأجواء وحسّنت أجواء المحادثات خلال الجولة الرابعة، ولكنها لا تعبر عن تحول حقيقي نحو الخروج من الأزمة.

وزير الموارد المائية والكهرباء السوداني: "أن السودان شريك في المفاوضات وليس وسيطًا، وأن ملف مياه النيل بين مصر والسودان فوق كل الحسابات السياسية، وأن هناك تنسيقا وتعاونا"

ثانيًا- الجولة الرابعة.. مقدمات جديدة ونتائج حذرة

تشير نتائج الجولة الرابعة من المحادثات الثلاثية بين وزراء الموارد المائية بدول حوض النيل الشرقي (مصر، إثيوبيا، السودان) إلى مجموعة من الدلالات والنتائج على صعيد المحادثات حول سد النهضة وعملية إدارة استخدامات مياه نهر النيل نذكر منها:

-   تشكيل اللجنة الوطنية(1) كآلية لتنفيذ توصيات لجنة الخبراء الدولية(2) بشأن الدراسات الإضافية الخاصة بموارد المياه ونموذج محاكاة لنظام هيدروكهربائية للسد، ودراسات تقييم التأثير البيئي والاجتماعي والاقتصادي على مصر والسودان.

-   تحديد الإطار الزمني للانتهاء من الدراسات المطلوبة وتقييم الآثار وعمل اللجنة الوطنية بستة أشهر، وهو إطار حاكم لعامل الوقت الذي طالبت مصر بمراعاته.

-   تتشكل لجنة الخبراء الوطنيين من الدول الثلاث، وهي تضم أربعة خبراء من كل دولة، وسوف تحدد اللجنة آليات عملها وقواعدها الحاكمة.

-   الاتفاق على الاحتكام إلى مكتب استشاري عالمي كحل وسط  للخلاف حول طبيعة اللجنة الواجب تشكيلها لتنفيذ توصيات لجنة الخبراء الدولية، حيث طالبت مصر بلجنة دولية بينما أصرت إثيوبيا على لجنة وطنية.

-   التأكيد على ثوابت المواقف الإثيوبية المصرية، فبينما أكدت إثيوبيا على الاستخدامات المتساوية، أكدت مصر على عدم التفريط في حصتها، وإن كانت الاثنتان قد أكدتا على أهمية الحوار وضمان التنمية للجميع وعدم الإضرار، وهي مفارقة واضحة بين الخطاب الرسمي وواقع مسار التفاعل على الأرض. وتتضح هذه المفارقة بجلاء عند مقارنة النهج التفاوضي لكل من إثيوبيا ومصر.

توضح قراءة النتائج المباشرة السابقة في ضوء مباحثات ونتائج الجولات السابقة إلى القبول بالحلول الوسط، فتنازل مصر عن مطلب اللجنة الدولية لتنفيذ توصيات اللجنة الدولية السابقة مقابل قبول إثيوبيا بالمكتب الاستشاري الدولي والالتزام بتوصياته، وأن ترسم اللجنة الوطنية خريطة الطريق للخروج من أزمة سد النهضة، مقابل أن توفر إثيوبيا لها البيانات والمعلومات المطلوبة لتقييم السد.

هذه القراءة التي ذهبت إليها الكثير من التحليلات الأكاديمية والسياسية المصرية، أوضحت أيضًا الكثير من المخاوف المرتبطة بدرجة الالتزام الإثيوبي واللعب على عامل الوقت، فضلًا عن مدى إلزامية وقانونية اللجنة الوطنية والمكتب الاستشاري، وخاصة أن اللجنة بهذا المعنى هي لجنة بلا صلاحيات تفاوضية وأنها سوف تنتظر انتهاء الدراسات حتى يمكن أن تبدأ مناقشتها أو التفاوض على أبعاد أخرى للسد.

 في المقابل يمكن الإشارة إلى مجموعة من النتائج المباشرة التي أفرزتها وأكدتها نتائج الجولة الرابعة، نذكر منها:

-   تنازل مصر عن حقها في الإخطار المسبق، مع الإقرار بمناقشة تفاصيل سد النهضة بدون توقف أعمال البناء، وبالتالي لا تزال إثيوبيا تسعى لتطبيق وتنفيذ اتفاقية عنتيبي.

-   اتفاق الحكومات الثلاث على الالتزام بتقرير المكتب الاستشاري الدولي، يمكن أن يمثل أحد المخارج الآمنة للأزمة الراهنة حول التأثيرات السلبية للسد، لكنه لن يوفر في النهاية مخرجا آمن لتجاوز تهديدات الأمن المائي المصري.

-   اقتصار المحادثات حول سد النهضة يعنى نجاح إثيوبيا في اختزال الكثير من الجهد الدبلوماسي والسياسي المصري  في أزمة سد النهضة، وجعل نتائج هذه الأزمة ومخرجاتها بمثابة مرآة لمستقبل التعاون المائي المصري مع دول الحوض وليس إثيوبيا فقط.

-   أن استعادة مصر للقدرة على المبادرة وإعادة المحادثات مع إثيوبيا، والتأثير في البيئة التفاوضية بقدر لا يلغى الحاجة لمبادرة شاملة تتعلق بإمكانية صياغة تعاون مائي جماعي في حوض النيل تتبنها مصر لتنهي حالة الترقب التي تبدو عليها باقي دول الحوض التي تنتظر ما سوف تنتهي إليه أزمة سد النهضة.

 

ثالثًا: الخيارات المصرية ومسارات التحرك

يبدو تحدي سد النهضة الإثيوبي وتهديده للأمن المائي المصري لا يزالان قائمين، وسوف يظل، فالتهديد لا يرتبط فقط بسعته التخزينية وسلامة وأمان السد، ولكن يرتبط بالرسالة التي حملها السد من تجاوز حقوق مصر التاريخية، وسيطرته على توقيتات وصول المياه لمصر، وعدم تضمين مخرجات الأزمة في أي اتفاق رسمي ملزم، فضلًا عن غياب أي ضمانات لعدم تكرار نفس سيناريو السد في إثيوبيا نفسها أو دول من دول حوض النيل. وبالتالي فالإخطار قائم بغض النظر عن مخرجات الأزمة الراهنة مع إثيوبيا، ومن ثم يجب أن تبنَى الإستراتيجية المصرية القادمة على ضمان عدم تكرار هذه الأزمة، والخروج من الأزمة الراهنة بأقل خسائر ممكنه، وأن تدفع للتواصل لاتفاق مؤسسي وقانوني لتنظيم إدارة التعاون بين دول حوض النيل من خلال إعادة التفاوض على اتفاق عنتيبي.

هذه الأهداف المصرية تتطلب امتلاك رؤية جديدة لما تشهده منطقة حوض النيل من مستجدات وتطورات تتعلق بموازين القوى والمصالح الإقليمية والدولية، وما يتوافر لمصر من قدرات وإمكانات في هذه اللحظة.

صحيح أن التحركات المصرية الراهنة لا تنطلق من فراغ، فقد نجحت دبلوماسية ما بعد 30 يونيه في إبطاء عجلة بناء سد النهضة عبر التضييق ومخاطبة الأطراف الدولية الداعمة لتمويل بناء السد، وصحيح أيضًا أن الدبلوماسية المصرية نجحت في مخاطبة الدولة الكبرى والمؤسسات الدولية المعنية بقضايا المياه والتنمية، ونجحت في حشد بعض الموقف الدولية استنادًا إلى مخاطر السد وتقرير الخبراء الدوليين، وصحيح كذلك أن حالة الترقب لرد الفعل المصري ومسار هذا الفعل بعد اختيار رئيس الجمهورية قد أثبت تنامي وحرص القيادة السياسية المصرية على استعادة مقومات الدولة المصرية وقدراتها على التحرك الفاعل في محيطها العربي والأفريقي، ولكن في المقابل يجب الأخذ في الاعتبار أن اللحظة الراهنة تتطلب استعادة القدرة على المبادرة والتأثير في بيئة التفاوض بشكل أشمل من مجرد مواجهة أزمة سد النهضة أو التعامل مع إثيوبيا فقط، بل يجب التحرك لتكثيف تفاعل عدد من العوامل المرجحة للموقف المصري، وإدخال أطراف وقوى ومؤسسات دولية من شأنها أن تحجم الطموح الإثيوبي وتعلي من معادلة الاستقرار والتنمية في منطقة حوض النيل.

- شكل اللقاء الذي جمع الرئيس عبد الفتاح السيسي ورئيس الوزراء الإثيوبي محددًا أساسيًا لشكل وطبيعة التفاعلات التي حكمت الإعداد لجولة المباحثات الرابعة وللخطاب الرسمي بين البلدين.

ونقطة البداية المصرية يمكن أن ترتبط بصياغة رسالة خاصة لقضية الأمن المائي ضمن رسالة أوسع للتوجهات الرئاسية والحاكمة للسياسة الخارجية المصرية تجاه أفريقيا، وفى القلب منها العلاقات مع دول حوض النيل، وأن تتضمن في نفس الوقت بلورة رؤية لمعالجة درجات التشابك بين كثير من القضايا المطروحة على أجندة القارة الأفريقية لا سيما تلك المتعلقة بقضايا التنمية والفقر والسلم والأمن، وتجسيد المنظور الأخلاقي والقيمي الحاكم للتحرك المصري ولسياساتها الخارجية المبنية على دعم قضايا التنمية كسبيل لتحقيق الأمن الإنساني والغذائي.

هذه الرسالة بدورها، يجب أن تتضمن مبادرة جديدة لتفعيل أطر مبادرة دول حوض النيل، وأن تشمل تقديم تصور مصري متكامل لمعادلة التعاون المائي لا يقف عند سد النهضة، ولكن لمنظومة السدود على طول النهر وربطها بمتطلبات التنمية الزراعية والطاقة، وأن تتحدد وفقًا لجداول زمنية تراعي عدم الإضرار، وخاصة أن مشكلة التعاون لا ترتبط بندرة المياه ولكن بعدم القدرة على إدارة عملية الاستفادة من مياه النهر، فكثير من المياه المهدرة في المستنقعات يمكن الاستفادة منها، ولكن المشكلة ترتبط بالمنظور الأحادي الذي سعت إثيوبيا وعدد من دول المنابع لفرضه على مصر كواقع من خلال اتفاق عنتيبي.

فالمطلوب حاليًا هو تجاوز منطق إدارة الأزمة مع إثيوبيا إلى مرحلة إعادة التوزان للعلاقات المصرية مع دول الحوض بالقدر الذي يعظم من فوائد التعاون ويرفع من تكلفة الصراع أو التنافس. فمن المعروف أن مشروع الدراسات الهيدرومترولوجية، وتجمع الأندوجو، كانت مصر هي اللاعب الرئيسي والمحرك لمستوى التعاون وفلسفته، في حين تغير هذا الواقع مع دخول الدول المانحة بدور فاعل في التيكونيل، ومبادرة دول حوض نهر النيل. ولذا تفاعلت الأبعاد السياسية مع الحساسيات القديمة بالقدر الذي انعكس على طموح دول المنابع وتشددها في مواقفها التفاوضية.

وهنا ننطلق إلى الآليات التي تحتاج لأفكار جديدة وتصور متكامل يجمع كل الآليات وأشكال التعاون مع أفريقيا ضمن صياغة الإستراتيجية الجديدة، مثل البدء الفعلي للوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية في حوض النيل، التي لا تزال غير مفعلة رغم صدور قرار بإنشائها عام 2013، فهي آلية تنموية تتكامل فيها الدبلوماسية بالتنمية(3). كما يجب إعادة النظر في آليات التعامل مع ملف المياه سواء فيما يتعلق بآلية صنع واتخاذ القرار، أو فيما يتعلق بدرجات التنسيق بين الجهات المختلفة المعنية بهذا الملف الشائك والمتعدد الجوانب.

وهنا يبدو من الضروري أن تكون هناك آلية للربط بين اللجنة العليا للمياه ورئاسة الجمهورية، حيث تكون الأخيرة حاضرة بقوى سواء عبر رئاسة رئيس الجمهورية لهذه اللجنة، أو بوجود مكتب فني متخصص للشئون الأفريقية وملف المياه في الرئاسةن حتى يضمن درجة عالية من التنسيق بين الهيئات والجهات المعنية وسرعة التحرك وضمان حشد الجهود والإمكانات وتنفيذ القرارات.

بعبارة أخرى، إن تأجيل حسم أزمة سد النهضة وميل المباحثات للتوافق الجماعي على ما يمكن تسميته "بالتحكيم الفني" من خلال المكتب الاستشاري الدولي لتقييم آثار السد وسعته وعملية ملئه وتشغيله، لن تكون نهاية المرام أو الهدف فتهديدات الأمن المائي المصري سوف تظل طالما لم يتم التوصل إلى اتفاق جماعي يشمل كل دول الحول لتنظيم التعاون والاستفادة من النهر، وهو ما يتطلب مبادرة مصرية تسير بشكل متوازٍ مع منهاج إدارة الأزمة مع إثيوبيا.

المراجع

 

 (1) والجدير بالذكر أن هذا اللجنة تتشكل من أربعة أعضاء من كل دول من الدول الثلاث.

(2) كما أنه من المعروف أن لجنة الخبراء الدولية كانت تتشكل من عضوين محليين من كل دول من الدول الثلاث بالإضافة إلى أربعة خبراء دوليين، وكانت قد انتهت بمجموعة من التوصيات التي صيغت في تقريرها النهائي في يونيو 2013، خاصة بأهمية استكمال بعض الدراسات الخاصة بسلامة وأمان السد وسعة البحيرة وتوفير بعض المعلومات التي حجبها الجانب الإثيوبي.

 

(3)ـ انظر تصور للباحث في تقرير السياسية الدولية حول آلية الاستفادة من هذه الوكالة، في موضوع " شراكات لا حروب: نحو اقتراب جديد لإدارة الأمن المائي المصري، العدد 179 ، يوليو 2014 ، ص ص 93ـ 97.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟