هل لا نزال نشكل أمة
واحدة وفق المعانى الحديثة والمعاصرة لمصطلح الأمة؟ هل التنظيرات حول الحركة القومية
المصرية كانت دقيقة من الناحية التاريخية والمنهجية؟
أم أن اللغة والاصطلاحات
السياسية الغربية التى تمت استعارتها، لم تترجم على نحو دقيق إلى اللغة العربية وبعض
الغموض والمترادفات التى تحفل بها لم تكن كافية ودقيقة لتعريب هذه اللغة الحديثة إلى
لغتنا وخطاباتنا وتاريخنا وفكرنا السياسى منذ نهاية القرن التاسع عشر وإلى الآن؟ ما
الذى يدعو إلى طرح هذه الأسئلة؟ تفكك معنى الأمة وتجسيداتها فى تفاصيل حياتنا ودولتنا
وثقافتنا.
عديد الظواهر الاجتماعية
والسياسية الانقسامية الخطيرة حول تآكل مفهوم الأمة تواجهنا منذ عقود مختلفة، من موجات
متسارعة من «الفتن» الطائفية والنزاعات القبلية والعائلية وفكر وممارسات الحرف والطوائف
فى أجهزة الدولة وخارجها وأشكال من العنف المادى واللغوى وفى الملامح والإشارات بين
المصريين مختلفى الديانة والمذهب، ومع ذلك لم يسأل أحدهم هل هذا يشكل نمط حياة مشتركاً،
وتفاعلات اجتماعية ونفسية وقيمية وثقافية أدت إلى ميلاد أمة واحدة متكاملة وناجزة؟
أم أننا نعيش مجازاً الأمة أو أسطورتها؟ وهل تتطور حياتنا المشتركة من خلال تطوير الهياكل
والمؤسسات التى تنتج أنماطاً من المشاركة السياسية، والمجتمعية التى تتوالد من خلالها
الأنسجة الوطنية المشتركة فى القيم والرموز والعلاقات والأفكار -، ومن الموحدات القومية
التى تتجاوز وتعلو على الانتماء الدينى والمذهبى والعرقى وتتجاوز الرموز التى تدور
حول الانتماءات الأولية إلى الدين والمذهب والمنطقة والعرق؟.
خذ الظهور القوى واللافت
للأنظمة العرفية التى تجاور وتجاوز المنظومة القانونية للدولة المصرية، ويتم اللجوء
إليها لحكم المنازعات الطائفية والدينية والقبلية، فى تهدئة التوترات الناجمة عن عنف
يمارس ضد الأقباط أو بعض القبائل.. الخ ومساكنهم وحقولهم ودور عبادتهم عندما تتعرض
للحرق والاتلاف والتفجير، والجروح والقتل أو غيرها من أشكال السلوك الاجتماعى والإجرامى
العدوانى على حقوق المواطنين، تحت تعلات دينية شتى أو نعرات قبلية أو عرقية أو عائلية،
تستمد من موروث الصور السلبية النمطية الشائعة فى الثقافة الدينية الشعبية والأعراف
التى تراكمت خلال العقود الممتدة من نهاية عقد الأربعينيات مروراً بالناصرية، وتفاقمت
مع التلاعب المكثف بالدين فى السياسة، وتوظيف القوى الإسلامية السياسية، والأزهر فى
العمليات السياسية ضد خصوم الرئيس السادات، وازدادت مخاطرها وآثارها الانقسامية فى
ظل حكم مبارك، وفى المراحل الانتقالية.
أن الاشتباكات الدامية بين «الدابودية»، و«الهلالية» فى أسوان كانت كاشفة عن وهن الدولة وأجهزتها وتآكل بنية أفكارها، وضعف وتراجع مستوى أساليب وآليات عملها وخبرات قياداتها، وكيف انكسر قانون الدولة وروادعه وهيبته بين «المواطنين» سواء على نحو فردى أو جماعي؟ انظر كيف تعاملت الأجهزة الأمنية بترهل وتراجع إزاء جرائم قتل ترتكب بين الأطراف القبلية المتنازعة!، وذلك بترك الأمور لتصل إلى حد التساوى فى «رءوس القتلي»!، لكى تبدأ فى التدخل! هل تترك مدينة هادئة ومسالمة وسياحية مثل أسوان وقراها إلى مرتع وسوق لتجارة السلاح والمخدرات مفتوح على مصراعيه دون تصد لجذور وشبكات هذه العصب الإجرامية بكل قوة وحسم وردع، وتنظيف المدينة وهوامشها من هذه الأوكار أياً كانت انتماءات هؤلاء القبلية! لماذا لم تؤثر زيارة رئيس الوزراء ووزير الداخلية فى إنهاء النزاع؟ لماذا تم تشكيل لجنة عرفية لفض المنازعات؟ ولماذا اللجوء إلى القضاء العرفى من الأجاويد، والقضاة العرفيين وبعض الأشراف لمعرفة أسباب النزاع وأعداد القتلي، والخسائر التى شملت الممتلكات الخاصة دون العامة - لتقرير المسئولية، وفرض الديات فى جرائم الدم، وغيرها من التعويضات المالية وغيرها لجبر الأضرار! على خلاف قانون الدولة؟! لماذا يتم اللجوء إلى زعماء القبائل والأجاويد والأشراف ورجال الدين وعلى رأسهم الأستاذ الإمام الشيخ أحمد الطيب، ولا تطبق الدولة أو السلطة الانتقالية القانون بكل قوة على الجميع والإتيان برءوس الفتنة أياً كانت أعمارهم وأدوارهم للتحقيق معهم، ومعرفة المسئولين عن الجرائم وإحالتهم إلى قضاء الدولة؟ من آيات وهن الدولة والسلطة الظهور العنيف لقوة الانتماءات الأولية، والاعتصام بالقبائل والعائلات الكبيرة، والعرق، والانتماء إلى قرية أو منطقة، وهو ما شاع منذ عهد السادات وتنامى إلى الآن لم يعد محض فخار ذاتى بهذا الانتماء، وإنما ترتبت عليه شبكات علاقات مصلحية فى المدن والوزارات وأجهزة الدولة، والصحف وأجهزة الإعلام. تفكك لا تخطئه العين البصيرة فى مفهوم وبنية وثقافة الدولة المصرية الحديثة، وفى معانى المواطنة الفعلية القائمة على الولاء والانتماء لمفهوم جامع هو الأمة المصرية، والدولة الحديثة لصالح الانتماء الدينى والمذهبي، والعرقى والقبلى والمناطقي.. الخ. انكسرت الجوامع المشتركة لصالح المجموعات الأولية وقيمها ومكوناتها.ما يحدث داخلنا من تصدعات وشروخ وتفكك! حياتنا، وأفكارنا، وقيمنا، وتعليمنا، وثقافاتنا ونمط معاشنا ولغتنا تحتاج إلى مراجعات حاسمة ومؤلمة قبل الطوفان والوصول إلى الدولة والسلطة والثقافة الفاشلة!