هل يمكن أن تستمر حياتنا على هذا النمط من الازدواجية عبر أشكال وطقوس وكرنفالات من التدين الشكلانى،
الذى يركز على المظاهر السلوكية واللغوية أكثر من جوهر الإيمان، بينما نتفيأ الكذب والمراوغة والمخاتلة والمداراة وموجات البغض والعنف وفوائضه التى تتمدد فى حياتنا؟
نتحدث عن الشرف والنزاهة والاستقامة، ونعطى لبعضنا بعضاً دروساً فى الأخلاق، بينما تظلل حياتنا فضاءات وشبكات من الفساد بكل أنماطه من الأخلاقى إلى السياسى والقانونى والإدارى، بينما تتحلل المنظومات الأخلاقية التى كانت تشكل أحد محاور الضبط الاجتماعى، وتتعرى وتتآكل مقومات دولة القانون، وتغدو دولة الفساد وحّشيةُ وذات أنياب لا تقهر! هل يمكن لنا تحقيق الأمن السياسى والجنائى وإعمال قواعد العدالة الاجتماعية، والحس الجماعى بقيمة العدل بينما نعيش على بحيرة واسعة من الفسادات، ونتنفس هواءه العطن المسموم، ومياهه الملوثة، ونحيا بضمائره المثقوبة وروحه المستلبة؟! وصلت مصر الرجل المريض للشرق الأوسط منذ أكثر من أربعة عقود- إلى المركز رقم 114 من بين 176 دولة فى مؤشرات الفساد فى معدلات الرشوة واستغلال السلطة، والتعاملات السرية فى تقديرات منظمة الشفافية الدولية عام 2013، بعض التقديرات تذهب إلى المركز 118. ولا أحد ينزعج، ولا تحقيقا سياسيا حول حالة الفساد فى الوظيفة العامة، أو قطاع الأعمال العام، أو فى القطاع الخاص ودوائر السلطة ورجال الأعمال.. إلخ. لا الانتفاضة «الثورية» أدت إلى مواجهات حاسمة، بل أسهمت الاضطرابات الأمنية، والعنف وأشكال الخروج على القانون وعدم الاستقرار السياسى فى ظل المراحل الانتقالية، إلى ازدياد معدلات الفساد الهيكلى والإدارى والسياسى.
هل يمكن تحقيق الأمن السياسى، وبيئة ملائمة للاستثمارات، دون مواجهة مملكة الفساد الوحشية فى الدولة والمجتمع؟ بالقطع لا، بل أستطيع القول إن تحقيق الأمن لن يتم إلا بالتوازى مع مواجهة جادة مع الأسباب التى أدت إلى فسادات متراكمة منذ عديد العقود، وضرب لشبكاته أياً كانت مستوياتها، ومن الآن وفوراً فى ظل سلطة انتقالية! والسؤال ما هى هذه الأسباب؟ يمكن سرد بعضها فيما يلى:
1 - انتشار الفساد السياسى فى قلب السلطة السياسية والنخبة الحاكمة وفى إطار أجهزة الدولة، مع ضعف أجهزة الرقابة وخضوعها فى أعمالها للقرار السياسى عند قمة النظام، ومنها مثلاً استيلاء بعضهم من هذه الأجهزة الرقابية على أرض بالحزام الأخضر بمدينة 6 أكتوبر، أو صرف مبلغ 100 مليون جنيه على بنود مكافأة وحوافز وبدل حضور جلسات، أو توريد الأغذية للجهات الحكومية، كالمدن الجامعية والمستشفيات والتوريدات الخاصة بجهاز الشرطة ومعسكراتها، ومنظومة النقل البحرى، واحتكار بعض الشركات لخطوط ملاحية، والصناديق الخاصة، والآلاف من المستشارين الذين يتقاضون الملايين من الجنيهات... نعم إهدار للمال العام.. إلخ وفق ما أورده اخيراً رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات. أجهزة منوط بها مكافحة الفساد، لا تمارس دورها بل تعتقد أنها فوق القانون والرقابة والمساءلة. ناهيك عن الفساد السياسى، وكذلك بعض المؤسسات التى لا تخضع للرقابة السياسية - البرلمانية - أو القانونية. تحت دعاوى الأمن القومى، ويحل محلها نظام للرقابة الداخلية لا تتحقق معه الشفافية والمساءلة.
2 - خلل فى سياسات توزيع الدخل القومى وفى هياكل الأجور يدفع بعض الموظفين العموميين المنحرفين لانتهاك حرمة المال العام.
3 - ارتفاع معدلات البطالة التى وصلت رسمياً إلى أكثر من 14%. والخلل التاريخى فى توزيع القوة وعدم التوازن بين سلطات الدولة، أدى إلى إضعاف الرقابة البرلمانية.
4- أزمة دولة القانون وضعف روادعه، وبروز ازدواجيته بين القانون الرسمى وقانون الأعراف والقوة والفساد والمكانة، لأن قانون الدولة تحول إلى محض أداة فى أيدى السلطة الحاكمة، وبعض ذوى القوة والنفوذ وأجهزة الدولة ورجال الأعمال، ولم يعد تعبيراً عن الصالح العام وأن تتدثر شكلاً به، ولا يعكس توازن المصالح بين القوى الاجتماعية المتصارعة. من ناحية أخرى أدى غموض بعض القوانين وتعقيداتها وغياب الإعلام بها إلى اتساع ظواهر فساد الموظفين العموميين. وكذلك انتشار الفساد فى بعض هياكل وأداءات الحكم المحلى الشعبى وفى إطار الأجهزة المحلية بالمحافظات. 5- بروز التواطوءات الاجتماعية حول الفساد، وإيجاد تبريرات وتسويغات له بدعاوى شتى كالفقر، والرغبة فى الحصول على الحقوق، أو ضعف مستويات الدخول للموظفين العموميين. إن ثقافة الفساد تشكل أخطر العوائق قاطبة إزاء أي سياسات واستراتيجيات عمل لمواجهة الفساد فى جذوره وشبكاته ومخرجاته، وتزداد المشكلة تعقيداً فى ظل هياكل وسلطات ومراكز قوى فى الدولة وأجهزتها تعتقد أنها فوق القانون والمساءلة والشفافية، بل وبعضهم يشكل جزءاً من الظاهرة. إن ازدياد الظاهرة فى المراحل الانتقالية يعود إلى الاختلالات الأمنية، واتساع سوق جريمة الموظفين العموميين، وتداخل ظواهر الفساد بين الدولة والمجتمع، إن التركيز على الأمن السياسى ومواجهة الإرهاب شجع على ارتفاع معدلات الفساد، فى ظل غياب البرلمان، وضعف روادع القانون، وعدم الشفافية فى الموازنة العامة وتوزيعات الإنفاق العام وأولوياته، والعقود التى تبرمها بعض الأجهزة الإدارية، وتعثر صدور القانون الخاص بالمعلومات، والأخطر غياب سلطات منتخبة البرلمان ورئيس الجمهورية .. وللحديث بقية