أوضاعنا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية تبدو بالغة الخطورة والحرج، ومن ثم نحتاج إلى عقل سياسى قادر على بلورة أولويات واقعية لتحديد طبيعة المشاكل والحلول الملائمة فى ضوء الإمكانيات الاقتصادية الشحيحة لدى السلطة الانتقالية، والتى تواجه عديدا من الضغوط الخطيرة التى يمكن لنا تحديدها فيما يلى:
أولاً: العمليات الإرهابية المتلاحقة، والتى تمارسها بعض المنظمات الإرهابية التى تمتلك قدرات تسليحية وتدريبية متطورة بخلاف الجماعات التى مارست هذا النمط من العنف الإرهابى فى الثمانينيات والتسعينيات وما بعد، وهو ما برز فى نوعية اختياراتها للعمليات، والأهداف المستهدفة التى تركز على رمزيات الدولة، سواء بعض رجال القوات المسلحة، أو الشرطة. من ناحية أخرى دلالة الأمكنة من مثيل الكمائن، مقار مديريات الأمن، ومخابرات، وقتل لضباط وأمناء وجنود، والأخطر اتساع نطاق التحركات الإرهابية من سيناء إلى محور الإسماعيلية الصالحية، ثم الدقهلية، وبنى سويف والقاهرة، والشرقية.. الخ. هذا التمدد فى عمليات العنف يرمى إلى تحقيق بعض الأهداف منها:
ا - انهاك قوات الشرطة، وتشتيت جهودها فى إعادة الأوضاع الأمنية إلى الاستقرار النسبى.
2 - بث الترويع ونشر الخوف بين أفراد الشرطة وبعض رجال القوات المسلحة، من خلال عمليات الاغتيال المستمرة.
3 - التأثير على هيبة الدولة والسلطة الانتقالية داخلياً وفى الإطارين الإقليمى والدولى، وإثبات أنها لا تستطيع الإمساك بزمام الأمور إزاء الموجات الإرهابية، وأن السبب الرئيسى يعود إلى ما حدث فى 30 يونيو 2013 وما بعد. من ناحية أخرى أنها فى الطريق إلى نقل مصر إلى دائرة الدول الفاشلة.
4 - ضرب الحركة السياحية والحيلولة دون تعافيها، ومن ثم التأثير السلبى على الأوضاع الاقتصادية المتردية، وبالغة الحرج والتى تبدو على حافة الإفلاس، فى ظل شح الموارد المالية والاقتصادية المحدودة.
5 - التأكيد على أن إقصاء جماعة الإخوان من سدة السلطة الرئاسية هو أحد أسباب موجات العنف الإرهابى، وتحويل المنطقة إلى ساحة إرهابية، ودعم السياسة الأمريكية الضاغطة على السلطة الانتقالية، والداعمة لجماعة الإخوان، ورفض الإجراءات التى اتخذت إزاءها، ومنها المحاكمات، واعتبارها جماعة إرهابية.. الخ.
ثانياً: تزايد الضغوط والاجتماعية لشرائح اجتماعية - من عمال وموظفين ومهنيين - من خلال اللجوء إلى الاعتصامات، والإضرابات، والوقفات الاحتجاجية، وذلك لتحقيق عديد المطالب ومنها تطبيق الحد الأدنى للأجور وتثبيت وتعيين ذوى العقود المؤقتة والحصول على علاوات استثنائية، تعتمد هذه الإضرابات على سياسة انتهاز الفرص بالضغط علي الحكومة فى لحظة حرجة وحساسة قبل الانتخابات الرئاسية. من ناحية أخرى اتساع النطاقات الجغرافية / المكانية للإضرابات وتلاحقها الزمنى وشمولها جهات حيوية - الشهر العقارى، النقل العام، أمناء الشرطة، الأطباء والصيادلة... الخ - أو نطاقها الاجتماعى. من ناحية أخرى ثمة غياب لبعد سياسى مباشر لها، وسلميتها حتى هذه اللحظة، وعدم التعامل الأمنى الفظ معها على نحو ما كان يحدث فى عهد مبارك. ثمة إيجابية أخرى تتمثل فى أن الاضرابات، والاعتصامات، والاحتجاجات تمثل معامل لتدريب وتفريخ قيادات عمالية ومهنية جديدة تتخلق من بين أصلاب هذه العمليات الاحتجاجية يمكن أن تشكل رادفاً هاماً للحياة الحزبية. ثالثاً: أحد أبرز الضغوط المطلبية الفئوية والعمالية، تتمثل فى اختلال سياسات التوزيع الموروثة، وازدياد السخط الاجتماعى والإحباط وغياب الآمال، وانتشار الفساد على نحو مكثف بعد 25 يناير 2011 دون ردع ومواجهة حاسمة.
بروز احتمالات تداخل بعض الجماعات الدينية السياسية والراديكالية «الثورية» المضادة للدولة التسلطية، وترى فى الإضرابات والاحتجاجات مدخلاً لتقويضها، من ناحية أخرى غياب رؤية سياسية واجتماعية لدى الحكومات المتعاقبة والسلطة الانتقالية، والافتقار إلى الجسارة والعزم فى التصدى لشبكات الفساد السياسى والوظيفى، وتنامى فجوة الثقة بين المواطنين وبين الحكومة فى ظل غياب دور المعارضة والشفافية حول خطورة الأوضاع الاقتصادية والسياسية والأمنية، وذلك للإيحاء بأن الأمور تسير فى مساراتها الصحيحة. من ناحية أخرى عدم قدرة الحكومة على صياغة مبادرات تنطوى على التدرج لاحتواء هذه الضغوط العمالية والمهنية والفئوية والتعامل السياسى الكفء معها، ثم عودة الاعتماد على الأدوات الأمنية.
رابعاً: تزايد الاستقطاب السياسى فى ظل احتجاجات جماعة الإخوان المصحوبة ببعض العنف السياسى، واستمرارية بعض الفجوات الأمنية واتساع نطاق الفساد.
خامساً: غياب التجانس فى التشكيلات الحكومية ذات التركيبة البيروقراطية والتكنقراطية والأمنية، على نحو يؤدى إلى استمرارية هيمنة نمط من التفكير الفنى المحدود الذى يفتقر إلى الرؤية والخبرات السياسية.
من هنا لن تستطيع السلطة الانتقالية - الحكومة الجديدة ورئيس الجمهورية - أن يواجهوا الضغوط السابقة وغيرها إلا من خلال بلورة رؤية سياسية جديدة وسياسة للمكاشفة والمصارحة لا تغازل المشاعر الجماهيرية وتوقعاتها، وتؤسس لدولة القانون الحديث، والتأسيس لشرعية جديدة تبنى على التوافق الوطنى لقطاعات اجتماعية أساسية، ومعها بناء المؤسسات التمثيلية واستكمال خارطة الطريق بكل عزم وحزب وإرادة سياسية لا تلين.