«القتل والذبح وقطع الرقاب، وبث الرعب والخوف والتخلص من الآخرين وإبادتهم فى وحشية لم يعرف التاريخ لها مثيلاً من قبل، ومن المؤلم أن ترتكب هذه الجرائم اللا إنسانية تحت دعاوى الخلافة وإعادة الدولة الإسلامية وباسم الإسلام، الذى هو دين الرحمة والسلام بين العالمين أجمعين» هكذا وصف بوضوح وبلاغة ناصعة الأستاذ الأمام.
إن الوحشية ذات الطابع الاستعراضى ترمى إلى إشاعة الرعب بلا حدود، والخوف الذى يأكل الروح - وفق فاسبندر- تحت شعارات الخلافة والدولة الإسلامية، والتكفير، والموت المعلن للمغايرين دينياً، واستباحة حرماتهم، وسبَّىُ النساء وبيعهن علناً، وإعطاء بعضهن كمتاع لأعضاء التنظيم، أو أغواء بعض النساء المسلمات المتمردات أن يجاهدن فى إطار نكاح الجهاد، إلى آخر الأشكال والطقوس الاستعراضية لإيديولوجيا عقدية تتسم بالتشدد. إن نظرة فى العمق فيما وراء النظام العقدى المؤدلج الذى يشكل أحد أبرز محركات العقل السلفى الجهادى، تكشف عن بعض وجوه أزمة العقل النقلى المسيطر على الإنتاج الخطابى والفقهى والدعوى والإفتائى والتفسيرى والتأويلى، والذى يمثل أحد محركات بعض المنظمات الإسلامية الراديكالية. من النوافل القول إن النقل ليس أمراً سلبياً فى عمومه، ولكنه جزء لا يتجزأ من الاستمرارية التاريخية للعقل الفقهى ذروة الإنجاز التاريخى للثقافة الإسلامية-، ومن ثم الحديث عن غلبة العقل النقلى فى المرحلة التاريخية التى تمتد من عقد الستينيات من القرن الماضى وحتى اللحظة الراهنة، لا يقدح فى النقل، ولكن يركز على بعض مساراته لدى بعض غلاة المجموعات الأصولية السياسية العنيفة، وإجابة عن سؤال ملح ما هى أسباب شيوع هذا الفكر المتطرف؟ الذى يطرح بين الحين والآخر لعديد الاعتبارات، ومنها تمثيلا لا حصرا ما يلى:1- تدفق وتسارع إنتاج الخطاب الأصولى الراديكالى والجهادى فى غير مواضعه وسياقاته وأسبابه-، والذى يمثل أحد محركات العنف الطليق من أية روادع أو ضوابط، والذى يتبدى فى عنف الخطاب عقديا ولفظيا وهوية، والمنتج للكراهية والبغضاء للمغايرين له فى الرأى والتوجه والسلوك والمذهب والدين.
2- بروز الازدواجية بين هذا النمط من الخطابات التأويلية الموروثة، وبين متغيرات الحياة والعصر ما بعد الحديث والمعولم الذى نحيا بعض من ملامحه فى منطقتنا.
3- تراجع العقل الاجتهادى فى المؤسسات الإسلامية الرسمية، وخارجها والاستثناء محدود، فضلا عن محاصرة وإقصاء أى آراء اجتهادية، والسعى إلى استبعادها حتى لا تحدث تأثيرا أو تغييرا فى الاتجاهات القيمية والسلوكية السائدة فى أنماط التدين الشائع والمحافظ والمتشدد.
4- تراجع بعض التأثير للمؤسسات الدينية الرسمية المصرية والعربية لصالح بعض الجماعات الإسلامية السياسية، أو بعض من كبار الدعاة السلفيين، أو دعاة الطرق، وفق رأى الأستاذ العميد. إن صور العنف الطليق وغير المألوف والموت الوحشى فى سوريا والعراق، وليبيا، تشير إلى بعض مخاطر العقل السلفى الجهادى والمنظمات التى تنشر الرعب والكراهية والموت فى منطقتنا، ومن ثم يستدعى ذلك السعى لمعرفة جذور إنتاج هذا النمط العقلى ومقارباته التى يمكن لنا رصد بعضها فيما يلى:
أ- طبيعة عملية التكوين التعليمى، أو الانتقائى لطلاب العلوم والمعارف الإسلامية، التى ترتكز على ذهنية الحفظ والتكرار والاستظهار للمواد المدروسة، دون ربط للموروث الفقهى والإفتائى الوضعى فى سياقاته التاريخية والاجتماعية، وطبيعية الأسئلة التى كانت مطروحة وقت إنتاج هذا الرأى أو التفسير أو التأويل أو ذاك. الحفظ والاستظهار خارج السياق يؤدى إلى ذهنية اتباعية، تنطوى على تقليد وتنزيه فى غير مواضعه ومَّسُ من بعض التقديس لآراء أكابر الفقهاء أو التابعين وتابعى التابعين.. الخ، هذه النزعة تؤدى إلى آلية ذهنية وإدراكية تميلُ إلى تحويل الفقهى أو التأويلى والأفتائى القديم والموروث إلى معيار محورى لمقاربة الظواهر والمشكلات والأسئلة المعاصرة، وهو ما يؤدى إلى إنتاج فقهى وتأويلى وضعى يؤدى إلى فجوة بين المسلم المعاصر وبين حياته، وبين ما يعرضه عليه بعضهم من بعض الآراء والفتاوى المستمدة من المتون والحواشى، وحواشى الحواشى على المتون القديمة الموروثة، لاسيما من بعض غلاة النقليين. وللحديث بقية.