ارتبطت
دولة القانون الحديث التى تعتمد على دستور يكرس النظام النيابى والديمقراطى
والحريات الفردية والعامة بالحركة القومية الدستورية، والربط بين الاستقلال عن
الاستعمار البريطانى، وبين المسألة الدستورية سواء فى إطار دستور 1923، أو مقاومة
الانقلاب الدستورى لعام 1930. من هنا نستطيع أن نلاحظ عمق المعالجات الفقهية على
مستوى الفن واللغة القانونية، والاطلاع الجدى على الأنظمة القانونية المقارنة،
وأشكال التنظيم القانونى للمجالات المختلفة. شكل اللجوء إلى ما انتهى إليه الفكر
والتجارب الدولية آنذاك سمتا لطرائق التفكير النخبوى السائدة، من هنا كانت الجسور
بيننا، وبين العالم تتسم بالحيوية والفاعلية، والمناورة من خلال عمليات توطين
الأفكار، وهو ما سبق أن أطلق عليه العقل والفكر التوفيقى أو التلفيقى فى نظر بعض
مؤرخى الفكر المصرى الحديث والمعاصر.
إن
الأعمال التحضيرية، والمذكرة الإيضاحية للقانون المدنى، شكلت أحد أهم معالم خريطة
الفقه المصرى، ومستوياته التكوينية واطلاعه على الأصول المرجعية، بالإضافة إلى
تطورات الفكر القانونى اللاتينى، تنظيراً وتشريعاً وقضاء ً. من هنا يمكن ملاحظة
الحوار بين السنهورى باشا، ود. حامد زكى بك أستاذ القانون المدنى حول مصادر
القانون والذى اعتبره علمانيا، بينما كان السنهورى يرمى إلى تطوير وعقلنة اللجوء
إلى الفقه الإسلامى ونظرياته، ومزج بعض النظريات الحديثة ببعض المبادئ التقدمية،
على نحو ما قام به. من ناحية أخرى كان طرح المستشار حسن الهضيبى المرشد العام
الثانى لجماعة الإخوان المسلمين يتسم بالعمومية المفرطة وهو المطالبة فقط بأن يكون
مصدر القانون هو الشريعة الإسلامية، وهذه الوجهة من النظر حاول المستشار صادق فهمى
أن يقدم مشروعا مضادا يعتمد على نظام وقواعد المعاملات الشرعية ولم يوفق فى مسعاه
من الناحية النظرية والفنية.
إن
نظرة تحليلية على مستويات الحوار والنقاش حول فلسفة المشروع ومصادره، ونظرياته
تكشف عن عمق المعالجة، ورصانة الجدل. من ناحية أخرى وصل الأمر إلى حد الاهتمام
الاستثنائى بالجوانب الخاصة بالصياغة اللغوية و الفنية، من هنا قيل إنه تم تشكيل
لجنة الرنَّ، وذلك من خلال الاستماع إلى إلقاء النصوص فى فضاء هادئ-، وموسيقاها
وإيقاعاتها. إن الدقة والإحكام كان سمت عمل الفكر القانونى المصرى، فى مجال
القانون الخاص والقانون العام- الدستورى والإدارى- بمختلف فروعهم. يذهب بعض الفقه
إلى أن النظام القانونى البورجوازى، وصل إلى ذروته فى هذه المرحلة شبه الليبرالية،
واستمرت بعض من حيويته إلى أوائل الستينيات من القرن الماضى.
إن
العقل القانونى الشكلانى، كان ينظر إلى القانون كمنظومة من القواعد المجردة
الموضوعية والإجرائية -، ومن ثم كان التجريد يرمى إلى ضمان استمرارية حركية حياة
النص، ويعطى مرونة للقضاة فى تكييف الوقائع المادية- والجوانب المعنوية -، ومن ثم
تطبيق النصوص عليها على نحو خلاق.
هذا
النمط من المقاربات هو جزء من بناء النصوص والصياغات، إلا أن الأهم هو العمليات
السابقة على وضع وصياغة مشروعات القوانين، وهى فلسفة النظام القانونى كله، والقيم
السياسية والاجتماعية الحاكمة له.
من
ثم المشرع ليس محايداً، وإنما يعكس طبيعة مصالح الدولة والنخبة السياسية الحاكمة.
فى
عملية التحول السياسى من النظام شبه الليبرالى الملكى، إلى النظام الجمهورى بعد
ثورة يوليو 1952، استمرت بعض فوائض التقاليد القانونية، إلا أن التغير البارز تمثل
فى الانتقال إلى الإدراك الأداتى للقانون بوصفه من أدوات الدولة والسلطة الحاكمة -
السياسة الجنائية والعقابية والضبط الإدارى - فى تنفيذ سياساتها الاجتماعية، وفى
تصفية الطبقة شبه الرأسمالية، وكبار الملاك التى حكمت البلاد قبل ثورة يوليو 1952.
أدت سياسة الإقصاء لهذه القوى الاجتماعية، وحظر أحزابها السياسية فى إطار تنظيم
سياسى وحيد للبلاد إلى تراجع دورهم السياسى والبرلمانى ومن ثم فى علمية إنتاج
القوانين. هذا التوجه ساعد على سرعة عمليات التغيير الاجتماعى مع قوانين الإصلاح
الزراعى والتأميمات، واتساع قاعدة التعليم المجانى، وقوانين الإسكان، والصحة..
الخ، ومن ثم إلى توسع كبير فى إصدار التشريعات، وسرعة إصدارها، لمواكبة التغيير
وضبطه لاسيما فى سنوات التحول «الاشتراكى». ما أسباب وتداعيات سطوة العقل الآداتى
فى ظل التسلطية السياسية والقانونية...
1-
غياب الدراسات الاجتماعية وسواها العميقة حول موضوع التشريع، لصالح سرعة الإصدار.
2-
تراجع مستويات الإعداد الفنى للتشريعات من حيث الفن القانونى والصياغة، ومن ثم ظهر
الغموض، والركاكة وعدم الانضباط لاسيما فى الجوانب الجزائية - على نحو أثر سلباً
على عمليات التطبيق.
3
- تزايد الدور المركزى والمفرط للسلطة التنفيذية فى وضع مشروعات القوانين، وتراجع
أعضاء البرلمان فى المبادرة بتقديم مشروعات القوانين، ومستويات مناقشتها إذا ما
قورنت بأوضاع برلمانات، ما قبل 23 يوليو 1952.
4
- هيمنة نظام القرار الجمهورى بقانون فى إصدار عديد التشريعات فى غير الضوابط
والنطاقات المحجوزة لسلطة التشريع.
5 - انفصال قانون الدولة عن الواقع الموضوعى، مع تزايد دور قانون القوة والمكانة والنفوذ والفساد، لاسيما مع رخاوة الدولة وأجهزتها خارج نطاق الأمن السياسى.
6
- غياب رؤية حول المصالح المتنازعة، وما هى الأجدر بالرعاية فيما بينها، لاسيما
مصالح الغالبية الشعبية. وللحديث بقية.