المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

أزمة العقل القانونى المصرى الحديث

الخميس 14/أغسطس/2014 - 12:24 م

أدت ثقافة التعبئة السياسية والحشد إلى إحداث تغيرات فى بنية العقل التكنوقراطى والأداتى، ومعه العقل القانونى الشكلانى والعقل الدينى النقلى، وذلك من خلال إحداث تحويرات فى بنية هذه الأنماط العقلية وطرائق تفكيرها، وعملياتها الذهنية، بحيث لم يعد كل نمط يقوم بمهامه ووظائفه الأساسية، وذلك وفق الأطر والتكوين العلمى التى تشكل من خلالها. من ناحية أخرى تحولت التعبوية السياسية ابنة التسلطية - إلى تحويل العقل القانونى إلى أداة طيعة لدى النخبة السياسية الحاكمة، ويضع مشروعات القوانين، وفق الطلب السياسى السلطوى، وتحقيقاً لمصالحه وأهوائه عموما - والاستثناءات محدودة - بهدف تحقيق الضبط الاجتماعى الفعال، والسيطرة السياسية على المجال العام، وفرض القيود والحواجز أمام الفاعلين، ومن ثم حجب وقمع المبادرات الفردية، والجماعية، أيا كان مجالها. من أين تشكل العقل القانونى الشكلانى؟ وكيف تطور؟ وما علاقاته بالتطور القانوني والسياسى؟ وما هى تجلياته فى الإطارين التشريعى، والتنفيذى والاجتماعى؟ أتصور من خلال متابعة تاريخ تطور الفكر القانوني المصري الحديث والمعاصر أن ثمة عديدا من الملاحظات الأساسية، التى يمكن تحديد بعضها فيما يلى:

1- إن قانون المكانة هو الذى سيطر فى إطار منظومات الأعراف والتقاليد، والأوامر وأحكام القضاة، وبعض القواعد الدينية، وهم من شكلوا النظام القانونى الذى اتسم ببعض من الانتقائية، والتمييز فى تطبيقاته قبل وصول محمد على إلى سدة الحكم فى مصر.

2- فى إطار عمليات بناء الدولة الحديثة، وبناء مؤسساتها تطلب الأمر الخروج من نظام المكانة بكل مترتباته إلى تنظيم قانونى وضعى حول الدولة، فى تنظيمها الإدارى الجديد، وهو ما تطلب اللجوء إلى الخروج المتدرج من القانون التقليدى إلى القانون الحديث - باستثناء نظام الأحوال الشخصية -، ومن ثم تم استعارة بعض قواعد النظرية الجنائية الحديثة، كالاتفاق الجنائى، واستبدال بعض العقوبات الحدية السرقة - إلى النفى إلى فيزا أوغلى فى السودان، فى عصر محمد على، وذلك لارتباط ذلك بعملية بناء الجيش المصرى وحركته فى المنطقة والاقتصاد الزراعى الداعم له.

3- مع الخديو إسماعيل باشا، وفى إطار تطلعه إلى تحويل مصر إلى قطعة من أوروبا، وفق تعبيره الذائع، تم تطوير النظام القانونى على نحو كبير من خلال استمداد التقنينات القانونية الإيطالية والفرنسية، من خلال المحامى ما نورى السكندرى الإيطالى، وتنظيم القضاء الأجنبى المختلط، ثم وضع التقنينات الوطنية، حتى توحيد القضاء بعد اتفاقية مونتريه 8 مايو 1937 وإلغاء الامتيازات الأجنبية.

فى المرحلة الممتدة من تأسيس وتطور الدولة الحديثة حتى المرحلة شبه الليبرالية، تم أقلمة وتوطين وتطوير القوانين الغربية فى إطار البنية الاجتماعية والسياسية والقيم والعادات والتقاليد المصرية. لعب الفقه والقضاء والمحامون دورا متميزا فى عملية التوطين التاريخى، بحيث أصبحت التجربة المصرية اللاتينية، والهندية الأنجلوساكسونية من أهم التجارب القانونية والقضائية فى جنوب العالم. فى ظل هذه التجربة الثرية، تم تكوين جماعة قانونية من الفقه والقضاة والمحامين - رفيعة المستوى والمقام، ومن ثم استطاعت أن تقوم بتطويع وتطبيع المنظومات القانونية الوضعية لكى تتلاءم مع عملية بناء الدولة ومؤسساتها وأجهزتها على اختلافها وتطويرها بما يلائم الظروف الموضوعية الوطنية، بل ودعم عملية تكوين الأمة الحديثة فى إطار الحركة الوطنية الدستورية. إن تجربة وضع التقنينات الاساسية - المدنى والعقوبات والاجراءات الجنائية والتجارى والبحرى.. الخ - كانت تتسم بقدر كبير من الكفاءة الفنية والفن القانونى، والصياغات اللغوية والاصطلاحية الأقرب إلى حد ما من بعض التعريب الدقيق لها عن اللغة الفرنسية، مع بعض الابتسارات. أن الهندسة القانونية الحديثة أسهمت فى إحداث بعض التحديث للهندسة الاجتماعية التى ارتبطت بعمليات التحديث فى ظل مجتمع شبه مفتوح كانت طلائع نخبته تتطلع إلى المركز الأوروبى، وتستلهم بعضاً من مظاهر التحديث المادى، وبعضا من ملامح الحداثة الفكرية والمعرفية المبتسرة لتطبيقها على الدولة والمجتمع المصرى.

تعود هذه التجربة الناجحة نسبيا إلى عديد العوامل، ومن بينها ما يلى:

1- التكوين القانونى المتميز فى كلية الحقوق جامعة القاهرة، من حيث المواد والمؤلفات المقررة، والعملية التعليمية، من ارتفاع مستوى التدريس والشرح من قبل الأساتذة المصريين وبعض الفرنسيين.

2- انفتاح الفقه والتعليم القانونى على الفكر القانونى اللاتينى، والنظم المقارنة، واستيعابها والمتابعة الدءوب لتطوراتها، وذلك فى ضوء إنتاج المدرسة القانونية والقضائية المصرية للملكة القانونية النقدية.

3- إنتاج القضاء مجموعة من المبادئ العامة التى شكلت توحيدا وتجانسا للتطبيقات القضائية، وهو ما أثر على عملية صناعة التشريع، وأدت إلى بلورة حسّ قانون رفيع، أسهم فى الارتقاء بعملية إنتاج التشريعات داخل البرلمان - مجلسى النواب والشيوخ -، أو على مستوى مشروعات القوانين التى كانت تقدمها السلطة التنفيذية آنذاك.

4- تداخل النخبة القانونية - أساتذة القانون والمحامين- فى الحياة الفكرية، والسياسية، وشكلوا طلائع النخبة المصرية الحاكمة، والأحزاب السياسية البارزة. لا شك أن هذه الخبرة الثمينة أدت إلى التلاقح بين خبرات السياسى والقانونى، وإلى إشاعة الثقافة والقيم والمعايير الدستورية، والقانونية الحديثة، ومن ثم إلى مرونة وقدرة على المواءمات والملائمات مع متطلبات الواقع الاجتماعى والدينى للبلاد. من هنا لوحظ نجاح بعض مسعاهم لبناء توافقات وتوظيفات لبعض الموروث التاريخى الفقهى والأصولى من نظام الشريعة مع بعض القوانين الوضعية، كما حدث فى استمداد السنهورى باشا - عميد فقه القانون المدنى المصرى والعربى - بعض المبادئ من فقه الشريعة الإسلامية فى القانون المدنى الجديد آنذاك. أدت التفاعلات بين بعض فقهاء الشريعة وأقرانهم من فقهاء القانون الوضعى إلى تجديد فى طريقة عرض تاريخ الفقه الإسلامى وبعض قواعده وأصوله، على نحو يقترب من طرائق العرض والسرد والتأصيل السائدة فى دراسات القانون الوضعى. لا شك أن هذا التفاعل الإيجابى بين كلتا الجماعتين أدى إلى سعى كلتيهما للوصول إلى حلول وآليات وصياغات تقلل وتخفض بعضا من التوتر البنيوى المحدود بين الوضعى، والشريعى، فى التعليم القانونى وفى الإنتاج الفقهى، وأيضا فى الممارسة التشريعية والقضائية. إن النخبة القانونية السياسية استطاعت أن تبلور فلسفة وسياسة تشريعية ملائمة، مؤسسة على الليبرالية القانونية، التى عبرت بكفاءة تشريعية ناجحة إلى حد ما، بلورت مصالح طبقتى كبار الملاك، وشبه الرأسمالية، وحمت مصالحهما. كيف أثرت الخبرة الوطنية فى تشكيل العقل القانونى وخصائصه فى هذه المرحلة وما بعدها؟ هذا ما سنحاول عرضه فى المقال القادم سعياً وراء معرفة ما وراء العقل القانونى الشكلانى، وسماته وانعكساته الضارة حتى الآن. وللحديث بقية.

 

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟