منذ الرابع من يناير 2023، تعيش
إسرائيل واحدة من أسوأ أزماتها السياسية والقضائية. ففيما تظاهر عشرات آلاف الإسرائيليين مجددا أمس السبت في تل أبيب، ضد
خطة إصلاح النظام القضائي المثيرة للجدل، دعا وزير الدفاع يواف غالانت إلى تجميد
هذا المشروع الحكومي، قائلا إن الخلاف المحتدم بشأنه يمثل خطرا على أمن البلاد. ويتعرض
رئيس الحكومة الائتلافية اليمينية المتشددة، بنيامين نتنياهو، الذي يحاكم بتهم
فساد ينفيها، لضغوط من آخرين في ائتلافه الحاكم ممن يريدون منه المضي قدما هذا
الأسبوع في مشروع قانون يمنحهم مزيدا من النفوذ في اختيار القضاة.
ويسعى نتنياهو لإدخال تغييرات جذرية
على النظام القضائي، لاسيما أن العديد من اليمينيين في إسرائيل يرون أن المحكمة
العليا تميل إلى اليسار ونخبوية وتتدخل بصورة كبيرة في الشؤون السياسية، وكذلك
تقدم حقوق الأقليات على المصالح الوطنية في كثير من الأحيان.
لذا تضغط الحكومة من أجل إدخال تغييرات
من شأنها الحد من سلطات هذه المحكمة في إصدار أحكام ضد السلطتين التشريعية
والتنفيذية، بينما تمنح النواب سلطة أكبر في تعيين القضاة، الذي يتطلب حاليا
موافقة السياسيين والقضاة أعضاء اللجنة المعنية.
وجاءت أبرز النقاط في التعديلات في سحب السلطات من بين قضاة
المحكمة العليا، بوصفها مراقبا على الكنيست (البرلمان) والحكومة. وترمي التعديلات إلى تقليص صلاحية المحكمة
العليا في إسقاط القوانين التي ترى أنها غير قانونية. ووفقا لهذه التعديلات، فإن بوسع أعضاء البرلمان وبأغلبية بسيطة
رفض قرارات المحكمة العليا. بالإضافة إلى ذلك تمنح التعديلات المقترحة
السياسيين صلاحية أكبر في تعيين القضاة، بخلاف ما هو معمول به حاليا، وهو لجنة تضم
9 قضاة من جهات متعددة مثل نقابة المحامين والحكومة والبرلمان والجهاز القضائي. وبجانب ذلك إلغاء حجة ما تعرف
بـ"المعقولية"، إذ تُعطي هذه الحجة الصلاحية للمحكمة لإلغاء أي قرارات
حكومية ترى أنها غير منطقية.
تجاذبات عديدة
بعد انتخابات نوفمبر 2022، ونجاح
نتنياهو بتشكيل تحالف من الأحزاب الأكثر تشددا في تاريخ إسرائيل، عبرت حكومته عن
رغبتها في إحداث تعديلات على سلطات القضاء، وخاصة المحكمة العليا. ويقول خصوم نتنياهو إن الإصلاحات ستقوض ديمقراطية إسرائيل عبر إضعاف
نظامها القضائي والذي طالما اضطلع بدور الرقيب على استخدام الحكومات لسلطاتها.
وكانت أزمة التعديلات القضائية متوقعة
إذا نظرنا إلى وجهات نظر التيارات السياسية واللاعبين في الساحة السياسية داخل
إسرائيل، فقوى اليمين ترى أن المحكمة العليا جزء من اليسار، ولا تمثل فيها شرائح
المجتمع كلها بشكل عادل، كما يقول هؤلاء، مشيرين إلى أنها تتعسف في استخدام السلطة
المتاحة لها. وخلال السنوات الأخيرة، طالب أعضاء أحزاب اليمين
في إسرائيل بإجراء تعديلات على القضاء وخاصة المحكمة العليا، لكونها تعارض توجهات
هذا الاتجاه ومشاريعه.
ومن ناحية أخرى، أثارت إقالة وزير
الدفاع الإسرائيلي ردود أفعال غاضبة في البلاد، فقد أصدرت المعارضة الإسرائيلية
بيانا حمل رئيس الوزراء مسؤولية تهديد أمن إسرائيل، وقالت "لا ينبغي أن يكون
أمن البلاد لعبة سياسية بيد نتنياهو".
ومنذ بداية العام الجاري، تخرج مظاهرات أسبوعية احتجاجا على خطط
إصلاحية وضعتها الحكومة. وبمرور الوقت اتسع نطاق المظاهرات كما زادت أعداد المشاركين
فيها. وخرج مئات الآلاف من المتظاهرين إلى شوارع العاصمة التجارية لإسرائيل-تل
أبيب- وغيرها من المدن والقرى في أنحاء البلاد.
وينادي المتظاهرون بإلغاء الإصلاحات، وباستقالة رئيس الوزراء
بنيامين نتنياهو الذي يقود خصومُه المظاهرات. وقد تجاوزت هذه المعارضة الشرسة
للإصلاحات حدود السياسة.
وأخطر ما وقع حتى الآن، هو انضمام عدد متنام من قوات الاحتياط
-العمود الفقري للجيش الإسرائيلي- إلى المتظاهرين، الذين رفضوا الحضور للخدمة،
مطلقين بذلك صافرات إنذار بأن الأزمة باتت تهدد أمن إسرائيل.
ومن وراء ذلك، ثمة معارضة قوية متنامية لنوع الحكومة الراهنة -
والتي تعدّ الحكومة اليمينية الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل- فضلاً عن معارضة
لنتنياهو نفسه. ويقول منتقدون إن
الإصلاحات القضائية ستحصّن جانب نتنياهو، الذي يخضع الآن للمحاكمة على اتهامات
بالفساد ينكرها جميعا، كما ستساعد هذه الإصلاحات الحكومة في تمرير قوانين من دون
أي كوابح.
وبسبب تصاعد الاحتجاجات عاد الهدوء إلى إسرائيل بعد أن أعلن رئيس الوزراء،
بنيامين نتنياهو، تأجيل جزء أساسي من خطة الإصلاحات القضائية، التي أثارت احتجاجات
واسعة، وإنه سيعلق الإصلاحات من أجل تجنب "الانقسام بين شعبنا". وجاء
الإعلان بعد تصاعد الاحتجاجات عقب إقالة وزير الدفاع الذي اعترض على مشروع
التعديلات القضائية.
اتجاهات التغيير
تسعى الحكومة الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل، إلى السيطرة على
اللجنة التي تعين القضاة. وتمنح الإصلاحات للبرلمان صلاحية إلغاء قرارات المحكمة
العليا بأغلبية بسيطة، وتجعل من الصعب إمكانية عزل رئيس الوزراء من منصبه. ومن شأن هذه المقترحات
الحالية المتعددة تغيير ذلك بما يمنح الحكومة نفوذا أكبر كثيرا.
وقال نتنياهو إن "الإصلاحات ستمنع المحاكم من تجاوز
صلاحياتها"، ولكن منتقديه يرون أنها تساعده لأنه يواجه المحاكمة بتهم الفساد،
وتلقي الرشوة والاحتيال، ولكن ينفي مخالفة القانون، ويصف التهم بأنها استهداف
لشخصه. كما أعلن نتانياهو وحلفاؤه في الائتلاف الحكومي إن التعديلات القضائية
ستعزز ديمقراطية وتحدث توازنا بين السلطات.
أما المعارضون فيرون أن الأمر يقضي على الأسس الديمقراطية
للدولة مع تراجع سلطات الجهاز القضائي للدولة، وانفراد الغالبية البسيطة في
الكنيست بالقرارات المصيرية.
كما أن التغييرات التي سيدخلها على القضاء ستضعف في حال إقرارها
المحاكم وتسلم السلطة المطلقة للحكومة، ما يعرض الحريات المدنية للخطر مع آثار
كارثية على الاقتصاد والعلاقات مع الحلفاء الغربيين، لكن رغم كل تلك الاعتراضات
والتظاهرات، يتمسك الائتلاف الحاكم بزعامة نتنياهو بالتصديق النهائي على التغييرات
بحلول الثاني من أبريل المقبل عندما يبدأ الكنيست عطلة الربيع.
في حين أنه من أجل البحث عن بعض التغييرات والموافقة على بعضها الآخر
في الجلسة الكاملة للكنيست في القراءات الأولى من أصل ثلاث قراءات مطلوبة للتصديق،
حتى يجتمع البرلمان مجددا في 30 أبريل 2023. لكن المخاوف تتصاعد من انقسام فعلي خطير في البلاد، لاسيما بعد الدعوات
من داخل حزب الليكود للتمرد، ومن صفوف الجيش أيضاً.
في الختام: أظهر استطلاعا رأي أجريا بعد موجة الاحتجاجات غير
المسبوقة التي شهدتها إسرائيل، تراجع شعبية حزب الليكود الذي يتزعمه رئيس الوزراء،
بنيامين نتنياهو. وعلى الرغم من ذلك، يُبدي نتنياهو حتى الآن تحدياً متهماً قادة
المظاهرات بمحاولة الإطاحة بحكومته. وعلى الرغم من إعلان تأجيل مناقشة المشروع،
إلا أن المعارضة رفضت مقترحات تقدمت بها الحكومة بتغيير أجزاء من حزمة الإصلاحات،
قائلة إنها ترغب في وقفٍ كامل لتلك الإصلاحات قبل الدخول في أي محادثات، فيما رفضت
الحكومة تسوية طرحها رئيس البلاد. وتدافع الحكومة بالقول إن
الناخبين صوّتوا لها من أجل وعود بعمل إصلاحات قضائية، ومن ثم فإن أية محاولات
لوقف تلك الإصلاحات تأتي بالمخالفة للديمقراطية. كما تقول الحكومة إنها تسعى إلى جعْل النظام القضائي أكثر ليبرالية،
وإلى أن يكون تعيين القضاة الجدد بعيدا عن التمثيل. لكن الضغط على الحكومة يتصاعد يوما بعد يوم، كما أعلن وزير دفاع
نتنياهو صراحةً معارضته لعمل تغييرات في النظام القضائي بالبلاد. وهو ما ظهر خلال
كلمة متلفزة موجهة إلى الشعب الإسرائيلي؛ حيث أعلن نتنياهو مساء تأجيل إقرار
التعديلات القضائية وليس إلغائها،