صعود التيار الإسلامى: ثلاثية الحداثة والهوية والإرهاب
الإثنين 30/ديسمبر/2013 - 12:12 م
صدر لمدير المركز العربي للبحوث المفكر الأستاذ السيد يسين كراسة بعنوان (صعود التيار الإسلامى: ثلاثية الحداثة والهوية والإرهاب) وهي باقورة كراسات المركز المعنية بفكر وحركات الإسلام السياسي. وتتناول الدراسة أزمة تيار الإسلام السياسي بعد ثورات الربيع العربي، وعن مستقبل تلك الثورات فى ظل صعودها للسلطة، من خلال تحليل عميق لثلاثية الحداثة والهوية والإرهاب.
حيث يرى الكاتب أن الدافع وراء ثورات الربيع العربي وإن بدا سياسياً في صورة الانقلاب الجماهيرى ضد النظام الاستبدادى القديم، شمولياً كان أو سلطوياً للقضاء على الاحتكار السياسى واستئصال شأفة الفساد الذى نخر فى كل بنية المجتمع، وإنهاء عهد المظالم الاجتماعية التى عانت منها جماهير المواطنين فى البلاد الثلاث التى شهدت هذه الثورات في تونس ومصر وليبيا.
“,”غير أنه تبين أن الثورة السياسية التى تهدف إلى اقتلاع جذور النظام الاستبدادى القديم، لابد لها أن تتقدم إلى الأمام وتحاول تأسيس نظام ديموقراطى يقوم على أساس التعددية، وينهض فى ضوء مبادئ سيادة القانون من ناحية، واحترام المواطنة من ناحية أخرى. وفى هذا المجال وجدنا تباينات متعددة بين الدول الثورية الثلاث تونس ومصر وليبيا. ويرد التباين إلى التاريخ الاجتماعى الفريد لكل قطر من ناحية، وإلى طبيعة النظام السياسى الاستبدادى والذى كان مسيطراً قبل الثورة من ناحية أخرى“,”.
وفيما يتعلق بالتاريخ الاجتماعى فيلفت النظر أولاً أن هناك تشابهاً فى تطور الفكر السياسى بين تونس ومصر. إلا أنه وعلى أرض الواقع، نلاحظ أن جماعة “,”الإخوان المسلمين“,” فى مصر – على عكس حزب “,”النهضة“,”- آثرت أن تسعى إلى الهيمنة الكاملة على مجمل الفضاء السياسى المصرى، وهو ما أدى إلى تعثر شديد فى التحول الديمقراطى وإنجاز أهداف الثورة، مما يجعل المسار الديموقراطى غير محدد الملامح والاتجاهات حتى الآن.
وفي تعريف معنى الثورة، يرى الكاتب أنها عبارة عن انقلاب على النظام السياسى القائم باستخدام العنف، والقضاء على النخبة السياسية الحاكمة والمتحكمة، واستبدالها بنخب “,”ثورية“,” جديدة، فيمكن لنا – مع بعض التجاوز- أن نطلق على الهبات الجماهيرية التى تمت فى هذه البلاد الثلاثة (تونس ومصر وليبيا) أنها ثورات، مع العلم أن الانتفاضات الجماهيرية فى كل من تونس ومصر لم تلجأ إلى العنف، وإنما استطاعت إسقاط النظم السياسية من خلال الضغط الجماهيرى، ولعل شعار الانتفاضة المصرية “,”سلمية سلمية“,” يشير بوضوح إلى الطابع اللاعنفى لهذه الانتفاضات الجماهيرية.
غير أننا لو تأملنا الموضوع مليا لأدركنا أن التعريف السابق للثورة قاصر قصوراً شديداً، لأنه ركز فقط على البعد السياسى المتعلق بالقضاء على النظام القديم ولم يتطرق إلى جوهر أى ثورة حقيقية وهو أن يكون لها توجهات فكرية وثقافية جذرية تقطع قطعاً واضحاً مع الممارسات السابقة، وتشكل بداية جديدة للمجتمعات التى وقعت فيها هذه الانتفاضات الجماهيرية.
والسؤال هنا هل نجحت الانتفاضات الجماهيرية فى كل من تونس ومصر وليبيا فى الشروع فى التأسيس لتنظم ديموقراطية حقيقية، أم أن هناك عقبات تقف عثرة فى تحقيق هذا الهدف الاستراتيجى لأى ثورة حقيقية؟
وفى هذا الإطار تحاول الدراسة أن تجيب على هذا التساؤل وغيره من التساؤلات التى تدور فى خلد المواطن العربى. كما تتناول الدراسة العلاقة بين صعود تيارات الإسلام السياسى عقب ثورات الربيع العربى وعودة العنف والإرهاب مرة أخرى إلى مجتمعتنا العربية.
وفى هذه السياق تتناول الدراسة النقاط التالية: الرفض الإسلامي للحداثة، والديمقراطية في مواجهة الإرهاب، والإرهاب كظاهرة عالمية، ونظرة تكاملية لظاهرة الإرهاب ، وأزمة العقل الإرهابي، ومن سياسات الهوية إلى جنون الإرهاب، وتشريح التطرف الإيديولوجي، ونحو تحليل ثقافي للتطرف الإيديولوجي، ومن التطرف إلى الواقعية، وأخيرًا، مستقبل ثورات الربيع العربى بعد صعود التيار الإسلامى .
تتناول الكراسة في المبحث الأول الرفض الإسلامي للحداثة، حيث يرى الكاتب أنه قد يكون مقبولاً هجوم الإسلاميين على القوى الاستعمارية الغربية، غير أنه من غير المقبول في الواقع النظر إلى الثقافة الغربية وكأنها كتلة واحدة صماء، لا تمايز فيها ولا تنوع، وأن هذه الثقافة أوسع كثيراً من الدوائر الاستعمارية التي مارست الاستعمار الاستيطاني بوحشية منقطعة النظير، ومن ثم، لا ينبغي التعميم الجارف على الثقافة الغربية، وادعاء أنها بطبيعتها مضادة للقيم الإنسانية الرفيعة، التي تتعلق بالحرية والعدل والمساواة ، كما أنها ليست معادية أيضاً للإسلام وللمجتمعات الإسلامية.
ويرى الكاتب أن الأخطر من التحيز في رسم هذه الصورة النمطية السلبية للثقافة الأوروبية، هو ادعاء الإسلاميين المتشددين أن الخراب لم يلحق بالبلاد العربية والإسلامية إلا بسب تبنى مبادئ الحداثة الغربية، ومن بينها تطبيق القوانين الوضعية، ووقف تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، وهو ادعاء ليس له من أساس.
ومن هنا يشرع الكاتب في دراسة التأصيلية لمفهوم الحداثة، والذي يستخدم في الخطاب العربي المعاصر – بمختلف مستوياته – بكثير من الالتباس. ويبدو ذلك واضحاً وجلياً في الخلط الذي وقع فيه عدد من الكتاب العرب بين مفهومي الحداثة Modernity والتحديث Modernization .
“,”“,”الحداثة“,” كمفهوم يشير إلى المشروع الحضاري الأوروبي الذي صاغته الطبقة الرأسمـالية الأوروبية الصاعدة على أنقاض المجتمع الإقطاعي. والحداثة تقوم على عدة أسس؛ منها احترام الفردية، و“,”العقلانية“,”، والاعتماد على العلم والتكنولوجيا لإشباع الحاجات المادية لملايين السكان.
وهنا التساؤل: “,”إذا كان ما سقناه من حجج صحيحا – وهو صحيح تاريخيا – فكيف يتم رفض الحداثة ومشتقاتها في العالم العربي والإسلامي؟! يمكن القول إن سبب الالتباس هو الخلط بين الحداثة كمشروع حضاري وعملية التحديث، والتي تعنى تطوير مجتمع ما كالمجتمع الزراعي لكي يتحول إلى مجتمع صناعي“,” .
غير أن عملية التحديث كما تمت في العالم العربي، الذي يزخر بالنظم الشمولية والسلطوية وشبه الليبرالية، تمت في الواقع بطريقة عشوائية افتقرت إلى النظرة الشمولية المتكاملة لعملية التنمية المستدامة. كما أن نظرة إلى العديد من الدول العربية التي اتسعت فيها دوائر الفقر في العقود الأخيرة ، تشير إلى فشل التحديث من ناحية، وغياب الحداثة بمفهومها الأصيل من ناحية أخرى. ومعنى ذلك كله أن النقد الإسلامي الرافض للحداثة الغربية يحتاج إلى تحليل وإلى تأصيل لمفهوم الحداثة نفسه ، كما نشأ في ظل الثقافة الغربية.
وفي المبحث الثاني يتناول الكاتب فكرة الديمقراطية في مواجهة الإرهاب ، وهو في ذلك ينطلق من فكرة أن الإرهاب كظاهرة قد شهدته عديد من البلاد العربية منذ سنوات وفى مقدمتها مصر والجزائر والمغرب واليمن ولبنان، إلا أنه يمكن القول إن بعض هذه الدول قد نجحت في مواجهة هذا التحدي إلى حد كبير نتيجة اتباع سياسات أمنية فعالة، بالإضافة إلى صياغة عدد من التوجهات السياسية التي تقوم على تفكيك حالة الاحتقان الحادة بين الجماعات الإسلامية الإرهابية والدولة. وربما تصلح التجربة المصرية فى نهاية القرن الماضى نموذجاً لهذه الدول.
وبعد الثورة كانت المفاجأة الأكثر وقعاً هي صعود التيارات الإسلامية، إلى سدة الحكم فى كل من تونس ومصر، بعد أن حصل حزب “,”النهضة“,” الإسلامى بقيادة “,”راشد الغنوشى“,” على الأغلبية فى الانتخابات، وكذلك نجاح جماعة الإخوان المسلمين فى مصر متحالفة فى ذلك مع حزب النور السلفى فى الحصول على الأكثرية فى مجلسى الشعب والشورى. ولكن؛ ما الذى حدث بعد أن صعدت جماعة الإخوان المسلمين إلى ذروة السلطة السياسية فى مصر، وخصوصاً بعد أن تولى القطب الإخوانى الدكتور “,”محمد مرسى“,” رئاسة الجمهورية؟ الذى حدث هو أن قيادات جماعة الإخوان المسلمين وعلى رأسها المرشد العام للجماعة الدكتور “,”محمد بديع“,” أدلى بتصريح “,”تاريخى“,” حين قال – بعد أن حصل حزب الحرية والعدالة على الأكثرية فى مجلس الشعب والشورى- “,”يبدو أن حلم الشيخ “,”حسن البنا“,” مؤسس الجماعة فى إحياء الخلافة الإسلامية قد اقترب“,”. تلا هذا التصريح تصريحات أخرى أكثر وضوحاً أبرزها تصريح القطب الإخوانى الداعية الدينى المعروف دكتور “,”صفوت حجازى“,” بأنه سيتم إحياء الخلافة الإسلامية وستكون عاصمتها “,”القدس“,”، وستصبح مصر مجرد ولاية إسلامية من بين الولايات التى تضمها الخلافة.
وقد استطاعت الجماعة هى والتيارات السلفية بحكم تغلغلها فى الشارع واستخدامها الدعاية الدينية وسيلة رئيسية لتزييف وعى الجماهير العريضة التى تسودها الأمية (معدلها 40%) والفقر الشديد (أكثر من 20 مليون مصرى تحت خط الفقر). والدليل على ذلك الدعاية الدينية المزيفة التى صاحبت الاستفتاء الدستورى الذى نظمه المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى بداية المرحلة الانتقالية، وكان السؤال الرئيسى المطروح هو هل نبدأ بالدستور أولاً أم بالانتخابات؟
وهكذا، فإننا نصبح أمام عمليتين تبدوان متناقضتين، الأولى هي المراجعات التي تمت من جانب أهم وأكبر تنظيمين إسلاميين، كانا هما المسئولين تاريخيا عن سلسلة العمليات الإرهابية التي جرت في مصر خاصة خلال النصف الأول من عقد التسعينيات من القرن الماضي. الثانية هي وقوع بعض العمليات الإرهابية المتفرقة خلال السنوات الأخيرة والتى تجلت مظاهرها مؤخرًا فى أحداث الاعتداء على الأزهر الشريف والكاتدرائية المرقسية بالعباسية. هذان النمطان من التفاعلات يثيران سؤالا جوهريا: هل نحن أمام عودة جديدة لظاهرة الإرهاب في مصر، من الذي يقوم بمثل هذه العمليات، هل هي جماعات إسلامية متطرفة أيا كانت منطلقاتها، أم أن هذه الحوادث مجرد أحداث منعزلة لا تشكل بذاتها ظاهرة؟.
المبحث الثالث يتناول الإرهاب كظاهرة عالمية، حيث وجود إجماع بين المفكرين والباحثين في العلوم الاجتماعية على أن الإرهاب يمثل تهديداً مباشراً للديمقراطية كنظام سياسي ولممارسة الديمقراطية كسلوك اجتماعي. ويلفت بعض الباحثين النظر إلى أن الدولة في حالة اعتمادها على الإجراءات والوسائل الأمنية فقط في مواجهة الإرهاب، تكون في الواقع قد حققت أحد أهداف الجماعات الإرهابية، وهو تقويض أسس الدولة الديمقراطية تمهيداً لتطبيق الإيديولوجية الأصولية التي تدعو إليها.
وإذا كنا قد أكدنا أن مواجهة الإرهاب كظاهرة عالمية يقتضى في الواقع تعاوناً بين الدول، فإن ذلك يقتضي ابتداء وصول هذه الدول إلى حد أدنى من التفاهم والتوافق حول مفاهيم العدالة، وحقوق الإنسان، وسيادة القانون، والحريات المدنية. وفي ضوء ذلك يطرح الأستاذ السيد يسن تساؤلاً هاماً حول: هل هناك علاقة ما بين العولمة والإرهاب؟.
هناك ابتداءً معركة نظرية كبرى دارت بين الباحثين والمفكرين في مختلف أنحاء العالم حول تعريف العولمة، ويمكن القول إن تعريفات العولمة المتعددة تنقسم إلى فئتين عريضتين: تعريفات إيديولوجية تركز على المضمون السياسي والفكري للظاهرة، وتعريفات أخرى إجرائية تركز – على العكس – على العمليات التي تتضمنها العولمة.
وبغض النظر عن التعريفات المتعددة للعولمة التي ساقها الكاتب، إلا أن العولمة بحكم الجدل التاريخي، ومن واقع الممارسات الفعلية، أدت إلى نوع من أنواع التفتت المجتمعي والتشتت الثقافي. ومن ناحية أخرى فقد أدى ما يطلق عليه “,”توحش العولمة“,”، ونعنى ما نتج عن سياساتها الاقتصادية من ظهور موجات من التهميش الاقتصادي للعديد من الدول، وإلى الإقصاء الاجتماعي لطبقات عريضة، إلى استنفار دوائر ثقافية متعددة في البلاد النامية، بالإضافة لأنه في مواجهة الأصولية الأمريكية “,”العولمية“,”، برزت الأصولية الإسلامية المتشددة والتي اتخذت الإرهاب وسيلة للتعبير عن رفضها للنظام العالمي الراهن.
في ضوء هذا التحليل يمكن التأكيد على أن الإرهاب كظاهرة عالمية أصبحت تعانى منها كافة الدول، متقدمة كانت أو نامية، لا يمكن فهمها إلا في سياق التطورات العالمية الكبرى التي حدثت في العالم، وأبرزها ظاهرة العولمة، بكل آثارها السلبية على اقتصادات ومجتمعات العالم الثالث. غير أن العولمة، وإن كانت من بين العوامل التي أدت إلى تفجير العنف وبروز الإرهاب، إلا أن النظم السياسية السلطوية مسئولة إلى حد كبير عن بروز هذه الظاهرة، لأنها بحكم قمعها السياسي للجماهير، أوقفت عملية الحوار الديمقراطي الضرورية لمناقشة أمور جوهرية تمس صميم أمن المجتمعات، وأبرزها مصير الخصوصيات الثقافية في عصر العولمة، وتوسيع أفق الممارسة الديمقراطية على نحو يسمح لمختلف الطبقات والشرائح الاجتماعية بالتعبير عن نفسها، وقبل ذلك كله لمناقشة الفوائد المرتجاة من العولمة، وهل هي مصممة لإثراء القلة من أهل السلطة ورجال الأعمال على حساب الملايين من الفقراء الذين لا يجدون في عصر “,”العولمة المتوحشة“,” من يدافع عن مصالحهم الحياتية، أم أنها كما يقال هي الأداة الأساسية للتقدم الاقتصادي والنهوض الاجتماعي.
يدور المبحث الرابع حول نظرة تكاملية لظاهرة الإرهاب؛ ويرى الكاتب أن مشكلة الإرهاب وإن كانت محل جدل واختلاف بين خبراء الأمن القومي والمسئولين عن الأمن الوطني في عديد من البلاد، إلا أنها ثارت في العالم العربي والإسلامي على خلفية أعمال المقاومة الفلسطينية، خاصة عند العمليات التي يقدم فيها شخص على تفجير نفسه، أي يتحول إلى قنبلة متحركة، يؤدى انفجارها عادة إلى إيقاع خسائر بشرية من المحيطين به، أيا كانوا أعداء أو مواطنين. هذه الأفعال وصفت بأنها عمليات انتحارية لدى البعض، وعمليات استشهادية لدى أنصار الجماعات الإسلامية على وجه الخصوص، الذين لا يرون فيها انتحاراً وإنما هو استشهاد في سبيل الله، وهى في نظرهم عمل من أعمال المقاومة.
وابتداء يجدر التأكيد على المبدأ المستقر في القانون الدولي، من كون الشعب المحتل من حقه مقاومة الاحتلال. وعلى هذا الأساس من حق أبناء الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، ولكن يبقى السؤال: هل أفعال المقاومة الموجهة ضد المدنيين الإسرائيليين مشروعة أم لا وفقاً للتعريف السابق، أم أنها ينبغي أن تقتصر على توجيهها ضد العسكريين الإسرائيليين.
المشكلة الحقيقية هي كيف يتشكل العقل الإرهابي؟ هذا العقل، بالرغم من الاختلافات الجوهرية بين الثقافة الغربية والثقافة العربية الإسلامية، له بنية متماثلة.
المبحث الخامس يتناول أزمة العقل الإرهابي؛ ترى الدراسة أنه لا يمكن الفصل بين انتشار ظاهرة الإرهاب في العالم العربي والإسلامي وأزمة العقل العربي، إذ يمكن التمييز هنا بين نمطين رئيسيين، الأول هو العقل التقليدي، والثاني العقل العصري. إذ مازال هناك خطاب تقليدي يتبناه مثقفون من اتجاهات فكرية شتى، وهو خطاب يبسط رواقة على مختلف جنبات المجتمع العربي. هذا الخطاب يخوض معركة شرسة مع الخطاب العصري الذي يتبناه مثقفون من مشارب فكرية مغايرة. السمات الأساسية لهذا الخطاب التقليدي أنه يتشبث بالماضي، وهذا الماضي المختار المتخيل يختلف بحسب هوية صاحب الخطاب. وهو خطاب يهرب من مواجهة الواقع، ولا يعترف بالتغيرات العالمية، أو على الأقل يحاول التهوين من شأنها، أو يدعو بصورة خطابية للنضال ضدها، بدون معرفة القوانين التي تحكمها. ومن سماته أيضا إلقاء مسئولية القصور والانحراف على القدر أو الضعف البشرى أو على الأعداء. وهو في ذلك عادة ما يتبنى نظرية تآمرية عن التاريخ، وهو أخيراً ينزع – في بعض صوره البارزة – إلى اختلاق عوالم مثالية يحلم دعاته بتطبيقها، بغض النظر عن إمكانية التطبيق أو بعدها عن الواقع.
أما الخطاب العصري فهو خطاب عقلاني، يؤمن بالتطبيق الدقيق للمنهج العلمي، وعادة ما يتبنى رؤية نقدية للفكر والمجتمع والعالم. وهو خطاب مفتوح أمام التجارب الإنسانية المتنوعة، يأخذ منها بلا تعقيد، ويرفض بعضها من موقع الفهم والاقتدار، والثقة بالنفس، ولا يخضع لإغراء نظرية المؤامرة التاريخية الكبرى، كما أنه يعرف أنه في عالم السياسة ليست هناك عداوات دائمة أو صداقات خالدة، بالإضافة إلى أنه ينطلق من أن الحقيقة نسبية وليست مطلقة، وأن السبيل لمعرفتها هو الحوار الفكري والتفاعل الحضاري، ولا يدعو لمقاطعة العالم أو الانفصال عنه، ولا يدعو إلى استخدام القوة والعنف، ولا يمارس دعاته الإرهاب المادي أو الفكري.
ويؤكد الكاتب أن العقل التقليدي هو الممهد بالضرورة للعقل الإرهابي الذي يدفع الشخص لارتكاب الأفعال الإرهابية على أساس أنها نوع من “,”الجهاد“,” في سبيل الله، فإن هذا العقل التقليدي لا يمكن فهم مكوناته الأساسية بغير ردها إلى أصل واحد هو “,”الأصولية“,”. ولا نستخدم مفهوم الأصولية هنا بالمعنى الإيجابي للكلمة، ونعنى العودة إلى المبادئ الأساسية للدين التي تتسم بالنقاء بعيداً عن ثرثرة الهوامش في عصور الانحطاط، والتهافت الفكري والجمود المذهبي للحواشي التي كتبت شرحا للأصول، وإنما المعنى المقصود هنا هو الجمود العقائدي والتزمت الفكري.
المبحث السادس يتناول المراوحة بين سياسات الهوية إلى جنون الإرهاب ، حيث برزت العولمة في بدايات القرن الواحد والعشرين باعتبارها العملية التاريخية المتعددة الجوانب، والظاهرة التي تملأ الدنيا وتشغل الناس. وقد التفت عدد من العلماء الاجتماعيين إلى عمليات متناقضة صاحبت نشوء العولمة وانتشار آثارها في كل أرجاء الأرض. ولعل أبرز هذه العمليات أن العولمة، بحكم فلسفتها الرامية إلى تأسيس سوق عالمية تختفي فيها الحدود وتزول فيه الحواجز، حيث يتم الاتصال في لمح البصر بين الفاعلين الاقتصاديين في مختلف القارات، تنزع إلى توحيد العالم. غير أن ردود أفعال بعض الدول والمجتمعات المختلفة والثقافات المتعددة اتسمت بالحدة والعنف، دفاعاً عن تكاملها الداخلي واتساق قيمها الحضارية، ومن هنا برزت ظاهرة التفتت، نتيجة ثورة الأعراق وتمرد الخصوصيات الثقافية على عملية التوحيد القسري الذي تريد العولمة فرضه على العالم. معنى ذلك أن العالم يشهد عمليات توحيد وتشتت في اللحظة التاريخية نفسها، مما يضفى نوعاً من أنواع الالتباس والغموض وعدم اليقين في المشهد العالمي المعاصر.
ويمكن القول إن من مظاهر هذه العملية التاريخية بروز ما يطلق عليه سياسات الهوية Identity Politics والتي تتخذ في الوقت الراهن صوراً جديدة. وسياسات الهوية هي تلك السياسات التي تتمحور حول العقائد الدينية أو الانتماءات العرقية. فما يدور بين المسلمين والهندوس في الهند من صراعات دامية، وفي البوسنة والهرسك من صراع بين المسلمين وغير المسلمين، لم يكن سوى تعبير صارخ عن سياسات الهوية وآثارها السلبية على الاستقرار العالمي والأمن الإقليمي.
ويتناول الكاتب في هذا الجزء الهويات الدينية حيث أشار إلى توقع الوثيقة الأمريكية التي صدرت في ديسمبر 2004 عن مجلس المخابرات القومي الأمريكي، بعنوان “,”تخطيط المستقبل الكوني“,” أن الهوية الدينية ستكتسب أهمية قصوى خلال العقدين القادمين، خاصة في مجال تعريف الناس لأنفسهم، ونظرتهم لذواتهم. ويرجع اتساع دائرة سياسات الهوية إلى عدة عوامل، لعل أهمها تزايد معدلات الحراك التي يمارسها الناس من مختلف الدول خاصة في مجال الهجرة والإقامة في دول أجنبية، وتنامي التباين بين جماعات متعادية داخل المجتمعات. كذلك تعود الظاهرة إلى انتشار وسائل الاتصال الحديثة وتوافرها على نطاق واسع.
يتناول المبحث السابع تشريح التطرف الإيديولوجي؛ حيث أنه في جوهره – مثله في ذلك مثل العولمة – ظاهرة تملأ الدنيا وتشغل الناس. ومشكلته أنه لا يتعلق فقط باتجاهات فكرية منحرفة، أو رؤى للعالم متخلفة وبدائية فقط، ولكنه يتحول في مجال الممارسة على مستوى الأفراد والجماعات وبعض الدول إلى إرهاب صريح. هذا الإرهاب لا يستهدف فقط الخصوم الفكريين أو السياسيين، ولكنه يستهدف أيضا المدنيين بصورة عشوائية، مما يؤدى إلى سقوط مئات القتلى والجرحى. ومن ثم، يمكن القول إنه لنفهم الإرهاب وطبيعته وأسبابه، لابد لنا في البداية أن نحلل وندرس بعمق ظاهرة التطرف الإيديولوجي، من حيث تعريفه ومصادره ونتائجه وطرق مواجهته.
وقد أنتج الفكر العلمي العالمي دراسات متعددة عن التطرف الإيديولوجي والإرهاب، وقد عرض الكاتب منها دراسة شاملة لعالم النفس “,”كيفين دور هايم“,” من جامعة “,”ناتال“,” بجنوب أفريقيا، خصصها لسياسات العلم في مجال التنظير للمعرفة السلطوية.
والتطرف ظاهرة معقدة، وهو- بتعريف بسيط مباشر- أنشطة (معتقدات، واتجاهات، ومشاعر، وأفعال، وإستراتيجيات) يتبناها شخص أو جماعة بطريقة تبعده عن الأوضاع العادية السائدة بين الناس. هذه الأنشطة تعلن عن نفسها في مواقف الصراع باعتبارها شكلاً عنيفاً من أشكال الانغماس في الصراع. ومع ذلك يمكن القول إن إطلاق صفة التطرف على الأنشطة والناس والجماعات، وكذلك تعريف ما هي الأوضاع العادية في أى موقف، هي مسألة ذاتية من ناحية، وسياسية من ناحية أخرى.
وعلى هذا الأساس يرى “,”بارتولى وكولمان“,” في دراستهما المشار إليها أنه لابد من وضع العديد من الاعتبارات في أي مناقشة للتطرف، فهناك ستة مصادر للتطرف، لعل أهمها هو الحرمان النسبي؛ وإنكار الحاجات الإنسانية الأساسية، والفجوة التي تزيد اتساعاً مع الوقت بين ما يعتقد الناس أنهم يستحقونه وما يمكنهم الحصول عليه كل هذه العوامل أو بعضها يمكن أن تمثل خميرة للتطرف.
هناك مصدر ثان للعنف يتمثل فيما تقدمه الجماعات المتطرفة، أو حتى القادة السياسيون ، من خدمات للإرهابيين والمتطرفين، والتطرف في منظور ثالث يمثل مخرجاً انفعالياً لمشاعر قاسية، تتعلق بالقهر، وعدم الأمان، وامتهان الكرامة، والضياع؛ فالأفراد الذين يشعرون بهذه المشاعر غالباً ما يجنحون للتطرف والإرهاب. ووفق نظرية خامسة، فإن التطرف قد ينبع من تبني إيديولوجيات أخروية (تتعلق بنهاية العالم كما تحدده مجموعة متكاملة من الأساطير والأفكار الخرافية)، وأخيراً هناك نظريات ترى في التطرف ظاهرة مرضية تدفع الفرد إلى طريقة في الحياة تحبذ العنف لكي تعطى الشخص أو الجماعة إحساساً بالحياة، ويتم ذلك أحياناً من خلال تدمير الحياة نفسها، كما يحدث في حالة التفجيرات الانتحارية.
المبحث الثامن يتعرض لتحليل ثقافي للتطرف الإيديولوجي؛ الدراسة ترى ضرورة أن نركز على التطرف الإيديولوجي الذي ينتسب للإسلام زوراً وبهتاناً، هذا التركيز المطلوب على الظواهر المتعددة للتطرف الإيديولوجي الإسلامي “,”يجد مبرره في تحول هذا التطرف في العقود الأخيرة إلى إرهاب عابر للقارات. بمعنى أنه لم يقنع بتوجيه ضرباته إلى النظم السياسية الحاكمة في بلاد عربية أو إسلامية محددة، على أساس أنها تمثل الطغيان الذي ينبغي مواجهته بالانقلاب عليه وباستخدام كل الوسائل، بما في ذلك قتل المدنيين الأبرياء، ولكنه وسع من نطاق رؤيته الإرهابية ليضع في دائرة أهدافه الغرب عموماً باعتباره يمثل الكفر والانحلال. وربما تعبر نظرية الفسطاطين التي صاغها أسامة بن لادن، زعيم تنظيم القاعدة، عن هذه الرؤية خير تمثيل.
ولعل الاهتمام العالمي المتزايد بالتطرف الإيديولوجي والإرهاب الإسلامي يجد مبرره في أحداث 11 سبتمبر، حينما وجه تنظيم القاعدة ضربات إرهابية مؤثرة لمراكز القوة الأمريكية، بالإضافة إلى أحداث إرهابية أخرى وقعت في أسبانيا وإنجلترا، بالإضافة إلى الأحداث الإرهابية التي وجهت ضد المملكة العربية السعودية والمغرب والجزائر، وغيرها من الدول.
ومعنى ذلك أن الإرهاب والتطرف الإسلامي قد احتل النسبة الأكبر من الإرهاب العالمي، بعد أن خلت الساحة تقريبا من الإرهاب الألماني والإيطالي والياباني، الذي ساد من خلال منظمات إرهابية معروفة خلال عقدي الستينيات والسبعينيات.
ولعل السؤال الرئيسي الذي ينبغي إثارته الآن هو كيف نواجه التطرف؟. هناك إجابة تقليدية تتمثل في استخدام الوسائل الأمنية والأدوات السياسية. وهو منهج في تقديرنا عقيم، لأنه ليس بالأمن وحده يجابه الإرهاب. وهناك إجابة أخرى نتبناها وتتمثل في منهج السياسة الثقافية الذي تقوم على أساس تحليل ثقافي عميق لظواهر التطرف والإرهاب.وإذا كانت هذه الوسائل يمكن أن تكون فعالة في المدى القصير، إلا أنها لا تصلح لمواجهة التطرف والإرهاب على المدى الطويل.
ومن خلال إجراء تحليل ثقافي متعمق لظاهرة التطرف والإرهاب نجد أن اختراق الجماعات المتطرفة لنظام التعليم بكل مؤسساته يأتي في مقدمة أسباب الإرهاب. ولعل هذا الاتجاه السلبي العقيم تشجعه بصورة مباشرة وغير مباشرة النظم السياسية العربية والإسلامية المستبدة، لأن العقل الاتباعي تسهل السيطرة عليه، في حين أن العقل النقدي هو عقل متمرد بطبيعته. ومع ذلك، فإن المفارقة التاريخية تؤكد أنه حتى في البلاد التي ساعدت السلطة فيها على تخليق العقل الاتباعي، فقد نشطت فيها الجماعات الإرهابية التي استهدفت السلطة نفسها باعتبارها طاغية وكافرة.
فإذا أضفنا إلى ذلك ازدواجية نظم التعليم، حيث نجد تعليماً مدنياً في جانب، وتعليماً دينياً خالصاً في جانب آخر (مثاله البارز التعليم الأزهري في مصر، والمدارس الإسلامية في باكستان) لأدركنا أن هذه الازدواجية أحد أسباب التطرف الإيديولوجي. وقد لاحظنا في السنوات الأخيرة في العالم العربي خطورة الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام في نشر الفكر المتطرف بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
المبحث التاسع يتناول الفكر من التطرف إلى الواقعية، فيرى الكاتب أنه ثبت يقيناً أن الدولة المعاصرة باعتبارها الهيئة الوحيدة في المجتمع المخول لها دستورياً استخدام العنف في مواجهة من يخالفون القانون، أقوى من أي جماعة تتبنى التطرف الإيديولوجي، أو تنزع إلى الإرهاب. فقد استطاعت الدولة المعاصرة بأنماطها المختلفة في إيطاليا وألمانيا واليابان، أن تواجه بالوسائل الأمنية المباشرة التي تقوم على ملاحقة أعضاء الجماعات الإرهابية والقبض عليهم ومحاكمتهم جنائياً واستصدار أحكام قضائية ضدهم، الحد من حركتهم، بل واستئصال شأفتهم تماماً.وقد مارست مصر هذا الدور بنجاح ملحوظ ضد الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد وغيرها من الجماعات الإسلامية المتطرفة.
وتأتي أهمية نجاح الدولة والمجتمع في هذه المواجهة مع الجماعات الإرهابية أنها لعبت دورا مهما في تكريس تحول الجماعات الإرهابية أو جنوحها إلى الواقعية. ولعل أبرز حالة يمكن في تصورنا القياس عليها هي الجماعة الإسلامية في مصر، والتي مثلت- بجانب تنظيم الجهاد- أشرس الجماعات المتطرفة إيديولوجيا، والتي مارست الإرهاب ضد الدولة والمجتمع على السواء.
ويمكن القول إن ممارسة النقد الذاتي فضيلة غربية ولم تصبح بعد فضيلة عربية شائعة. وتبدو أهمية النقد الذاتي في كونه أحد أسباب التقدم الإنساني بشكل عام. فتشخيص الأخطاء في الفكر أو في الممارسة أو فيهما معا، وإعطاؤها التكييف الصحيح، مقدمة ضرورية لإصلاح الوضع الإنساني على هدى مقولات صحيحة ومعايير سليمة.
ويمضي الكاتب في تعقب جذور النقد الذاتي العربي الحديث بالعودة إلى عام 1948، تاريخ إنشاء الدولة الإسرائيلية وتاريخ الهزيمة العربية في حرب فلسطين في الوقت نفسه،ثم جاءت الموجة الثانية للنقد الذاتي العربي عقب هزيمة يونيو 1967، ثم جاءت الموجة الثالثة من موجات النقد الذاتي العربي وتتمثل في الندوة التي نظمتها في الكويت جمعية الخريجين، ونصل إلى الموجة الرابعة من موجات النقد الذاتي التي بادرت بها صفحة الحوار القومي في جريدة الأهرام التي كان يشرف عليها لطفي الخولي، والتي أصدرت كتاباً مهما بالاشتراك مع مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية في عام 1986 بعنوان “,”المأزق العربي“,”.
وتتوقف الكراسة عند “,”دراسة حالة“,” مهمة وثيقة الصلة بمراجعات جماعة “,”الجهاد“,”، وتتمثل هذه الحالة في الكتاب المهم الذي حرره وقدم له عالم السياسة الكويتي المعروف الدكتور عبد الله النفيسي، وهو من أنصار الاتجاه الإسلامي.
صدر الكتاب في عام 1989 من الكويت (بدون دار نشر) وعنوانه “,”الحركة الإسلامية: رؤية مستقبلية“,”، وله عنوان فرعى له دلالة مهمة وهو “,”أوراق في النقد الذاتي“,”
المبحث العاشر ويتناول مستقبل ثورات الربيع العربي فى ظل صعود تيار الإسلام السياسى؛ فمن الواضح أن هناك اختلافات جوهرية بين دول الربيع العربي، تونس-مصر-ليبيا، بعد الثورة ليس فقط فى طريقة إدارة المرحلة الانتقالية، ولكن فى الإيقاع السياسى الذى يحدد المراحل وطريقة وتوقيت الانتقال من كل مرحلة إلى المراحل الأخرى، وصولاً إلى تمام تشييد المعمار الديمقراطى الشعبى الجديد. كان المسار فى تونس أكثر وضوحاً وسلاسة من المسار فى مصر، لأن التحول الديموقراطى بدأ بانتخاب مجلس تأسيسى لوضع الدستور واختيار رئيس للجمهورية، وتم ذلك بناء على توافق سياسى أداره حزب “,”النهضة“,” الذى حصل على غالبية مقاعد المجلس التأسيسى وكان ذلك تعبيراً عن نضج سياسى مؤكد.
غير أن مسار التحول فى مصر كان معقداً، لأنه لم يبدأ كما كان ينبغى بانتخاب مجلس تأسيسى ولكن بعد إعلان دستورى أصدره المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى يدير العملية الانتقالية نظم استفتاء موضوعه الدستور أولاً أو الانتخابات أولاً، وكانت النتيجة لصالح الانتخابات أولاً. وهكذا تمت انتخابات مجلس الشعب الذى فاز فيها الإسلاميون ونعنى الإخوان المسلمون من ناحية والسلفيون من ناحية أخرى بنصيب الأسد.
وهكذا برزت الظاهرة السياسية الجديدة وهى حكم الإسلاميين، سواء فى تونس أو فى مصر، بالإضافة إلى تأثير الصوت الإسلامى فى مرحلة الانتقال الليبية. وصول الإسلاميين للحكم فى تونس ومصر يثير مشكلات سياسية وفكرية لا حدود لها. ولعل أول هذه المشكلات هى هل سيقبل الإسلاميون بمبدأ تداول السلطة والذى يجعلهم مستعدين للتنازل عنها لو خسروا الانتخابات التشريعية القادمة؟ وثانى هذه المشكلات هل سيحاولون أن يفرضوا توجهاتهم الإيديولوجية والدينية على المجتمع، من خلال استخدام الآلة التشريعية استناداً إلى أغلبيتهم النيابية؟
بالنسبة للمشكلة الأولى هناك إجابات قاطعة من قبل الإسلاميين تشير إلى قبولهم ليس فقط لآليات الديموقراطية ولكن لقيمها، والتى أبرزها قبول مبدأ تداول السلطة. أما المشكلة الثانية فهى أعقد المشكلات فى الواقع. وفى هذا المجال هناك فرق واضح فى النضج السياسى بين زعماء حزب النهضة فى تونس وزعماء الإخوان المسلمين وحزب النور السلفى فى مصر من ناحية أخرى. الإسلاميون فى تونس أكدوا أنهم لن يفرضوا على المجتمع التونسى قيمهم الدينية، وسيقدمون نموذجاً للإسلام الليبرالى. أما الإسلاميون فى مصر فقد صدرت عن بعض قادتهم تصريحات شتى بإصرارهم على أسلمة المجتمع المصرى من خلال نشر الدعوة فى كل مكان، وكأن هذا المجتمع لم يعرف الإسلام ديناً من قبل، وآن أوان أسلمته!
وفى تقدير الكاتب فإن الثورات العربية لن تنجح إلا إذا طبقت معايير الحداثة بكل جوانبها كما عرفتها المجتمعات المتقدمة والتى انتقلت من نموذج المجتمعات الزراعية إلى نموذج المجتمعات الصناعية.
وإذا كانت الحداثة السياسية تعنى فى المقام الأول تطبيق الديموقراطية، إلا أنه يمكن القول أنه لا ديموقراطية بغير تحكيم العقل، ولا تحول ديموقراطى حقيقى بغير الانتقال من دوائر القيم التقليدية المغلقة إلى دوائر القيم العصرية المنفتحة. غير أن أهم صور الحداثة على الإطلاق هى الحداثة الفكرية، والتى تقوم على مبدأ أساسى مبناه “,”أن العقل وليس النص الدينى هو محك الحكم على الأشياء“,”.
وإذا كان يمكن الاحتجاج بأن هذا المبدأ الحداثى الهام لصيق أساساً بالتجربة الغربية، بحكم استبداد الكنيسة فى العصور السابقة على عصر الدولة الحديثة ولذلك نشأ مبدأ العلمانية بمعنى الفصل بين الدين والدولة، إلا أنه يمكن القول بوجه عام إن لم يتم هذا الفصل فإن مسار التحول الديموقراطى فى دول الثورات العربية سيتعثر تعثراً شديداً. وذلك لأن محاولة إقحام الدين كإطار مرجعى للممارسات السياسية والفكرية والثقافية، والتركيز عن القيم التقليدية فى سياق دينى متشدد يركز على الشكل دون الجوهر، من شأنه أن يهدد حرية الأفراد ويجمد حركة المجتمع، وقد يؤدى إلى خرق حقوق الإنسان.
من هنا يمكن القول بأنه إذا كنا قد اتفقنا على أنه لا ديموقراطية بغير عدالة اجتماعية، فإنه فى نفس الوقت ينبغى التأكيد على أنه لا ديموقراطية بغير حداثة فكرية، تقوم على حرية التفكير وحرية التعبير وحق أفراد المجتمع جميعاً فى إرساء القيم التى تحدد السلوك الاجتماعى وفق نظرية عصرية منفتحة تتفق مع عصر العولمة والسماوات المفتوحة، وليس تطبيقاً لقيم تقليدية رجعية يراد إعادة إنتاجها من خلال اجتهادات دينية متشددة تقوم فى الواقع على أساس استخدام القياس الخاطئ وممارسة التأويل المنحرف للآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة!
ومما لا شك فيه أنه منذ اندلاع هذه الثورات بذلت محاولات من قبل بعض الباحثين الأفراد، وأقيمت ندوات قيمة أدارتها مراكز بحوث عريقة من أبرزها مركز دراسات الوحدة العربية، غير أننا فى حاجة إلى بحث جماعى تكاملى يجيب على عدد من الأسئلة الجوهرية.
ولعل أول هذه الأسئلة هل ما اندلع فى تونس ومصر وليبيا ثورات بالمعنى الحقيقى للكلمة كما يعرفها علم الثورة، أم هى انتفاضات جماهيرية اتخذت شكل الثورات؟ والسؤال الثانى ما هى الأسباب الحقيقية وراء القيام بهذه الانتفاضات والثورات، هل هو تفاقم الاستبداد السياسى والخرق الفاضح لحقوق الإنسان، أم الفساد السياسى والمالى، أم هى البطالة وخصوصاً بين الشباب، أم هى كل هذه الأسباب مجتمعة؟ والسؤال الثالث هل هذه “,”الانتفاضات – الثورات“,” تجد جذورها فى ظاهرة الاختمار الثورى الداخلى فى كل بلد، والذى أدى فى النهاية إلى الانفجار، أم أن هناك مخططات خارجية عملت منذ سنوات على تفكيك هذه النظم من الداخل بدعوى مساعدة المجتمع المدنى فى كل منها على عملية الانتقال الديموقراطى، بمعنى الانتقال من السلطوية إلى الليبرالية عن طريق الدعم المادى وإنشاء شبكات من الناشطين السياسيين، وخصوصاً فى مجال المجتمع المدنى؟
والسؤال الرابع من الذى قام بهذه “,”الانتفاضات – الثورات“,” هل هم فصيل محدد من طليعة الشباب الثائرين ثم التحقت بهم باقى طوائف الشعب، أم أنها كانت شعبية منذ البداية؟ والسؤال الخامس هل صحيح أن من قام بهذه “,”الانتفاضات- الثورات“,” الشباب من جيل الفيس بوك ممن يطلق عليهم “,”الناشطين السياسيين“,” ثم قطفت ثمارها القوى التقليدية وفى مقدمتها حزب النهضة الإسلامى فى تونس وجماعة الإخوان المسلمين والسلفيين فى مصر؟ وهل يعنى ذلك بالضرورة فشلاً ذريعاً لهذه “,”الانتفاضات- الثورات“,”؟
ونقطة أخرى هل التحولات السياسية الراهنة فى كل من تونس ومصر وليبيا ستؤدى – بحكم تطور الأحداث فى مجال ممارسات الديمقراطية التمثيلية التى لا تجيدها ائتلافات الثوار إلى القضاء على تقاليد الدولة المدنية، وزحف أعضاء حزب النهضة والسلفيين إلى مفاصل الدولة فى تونس، والارتداد عن الحداثة وتحولها ببطء إلى دولة دينية؟
وهل سينجح الإخوان المسلمون فى مصر فى مشروعهم “,”لأخونة الدولة وأسلمة المجتمع“,”؟
وسؤال أخير مادام حزب النهضة وصل إلى الحكم فى تونس والإخوان المسلمون سيطروا على المجالس النيابية فى مصر ورئاسة الجمهورية، هل سيقبلون بمبدأ تداول السلطة أم أنهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة سيبقون فى الحكم – كما تقدر بعض التقديرات طوال الخمسين عاماً القادمة؟ كل ما سبق أسئلة تحتاج إلى إجابات مقنعة فى إطار صياغة خريطة معرفية عربية لثورات الربيع العربى.
وفي هذا الإطار يعرض المفكر لإشكالية العقل الإسلامى بين الانفتاح والانغلاق، حيث يرى أن المشروع الإسلامى المعاصر –إن صح التعبير- يمر بأزمة لا شك فيها، أبرز مؤشراتها التشدد الدينى وفق تأويلات دينية غير صحيحة، والتركيز على التحريم بلا أساس فى مجال السلوك الاجتماعى وضد القيم الليبرالية المنفتحة.
وهذه الأزمة فرع من الأزمة العامة التى يمر بها العقل الدينى التقليدى، سواء تمثل فى أفكار الإخوان المسلمين التى تعد بشكل عام معتدلة ووسطية، أو فى أفكار الجماعات الإسلامية الجهادية التى سبق لها أن اعتبرت العنف والإرهاب وسيلة لها لقلب النظم السياسية العربية العلمانية الراهنة قبل أن تمارس نقدها الذاتى.
ثم يتساءل الكاتب أى ديموقراطية عربية نريد“,”؟، فهو يرى أنه ليس هناك اتفاق واضح بين المثقفين العرب حول شكل ومضمون الديمقراطية العربية التى نريدها. وإذا كانت مسالة الاتفاق فى مجال الفكر السياسى والممارسة ليست واردة.
فمشروع الدولة السلطوية ذاته، الذى يحاول تجديد منطلقاته وممارساته تحت وطأة المعارضة الشديدة له، وبتأثير ضغوط النظام العالمى عليه، ليس لديه صورة واضحة للمستقبل، فهو فى المجال الاقتصادى مازال حائراً بين التخطيط المركزى وحرية السوق. أما فى المجال السياسى فقد قنعت الدولة السلطوية بإدخال تغييرات جزئية لترميم النظام، وبطريقة التدرج الشديد فى جرعات التعددية، فى ضوء هيمنة شبه كاملة على مجمل حركة التطور السياسى.
ومن ناحية أخرى نجد المشروع الإسلامى مذبذباً بين اتجاهين: قبول التعددية السياسية ودخول الانتخابات أملاً فى إسماع الجماهير صوتهم فى المجالس النيابية، وسعياً إلى السلطة فى الوقت المناسب، ورفض هذه التعددية المزيفة، وإتباع سبيل العنف والإرهاب باستخدام القوة المسلحة لقلب نظام الدولة السلطوية.
أما المشروع القومى –فى صيغته الناصرية على الأقل- فقد تردد طويلاً فى قبول فكرة التعددية السياسية، بحكم ارتباطه بالصيغة الميثاقية (إشارة إلى الميثاق الناصرى الشهير) والتى كانت ترفض فكرة الحزبية والتعددية، وتتمسك بصيغة تحالف قوى الشعب العاملة.
وإذا نظرنا إلى المشروع الماركسى المأزوم، نجده مشغولاً بإعادة صياغة موقفه من المسألة القومية من ناحية، وبالبحث عن أسباب أزمة اليسار العربى، وانعزاله الواضح عن الجماهير.
وفى نفس المرحلة تردد المشروع الليبرالى كثيراً فى صياغة مشروع سياسى واضح المعالم، يوفق بين الحرية السياسية ومطلب العدالة الاجتماعية. وسيبقى السؤال الأساسى ما هى صيغة الديموقراطية العربية المرتجاه التى أجمع عليها المثقفون العرب فى هذه الندوة التاريخية؟
ويختتم المفكر الكبير الأستاذ السيد يس الدراسة بطرح نموذجاً ديموقراطياً شاملاً صاغه المثقفين العرب، وسعوا من خلال النضال السياسى ضد السلطوية لإنجازه. وهذا النموذج يتكون من ثلاثة عناصر أساسية. وهى تحقيق الحريات الأساسية للإنسان (مستقاة من النموذج الليبرالى)، وتحقيق العدالة الاجتماعية (مستقاة من النموذج الاشتراكى)، وأخيراً تحقيق الأصالة الحضارية (مستقاة من النموذج الإسلامى). ومن الواضح أن هذا النموذج الديموقراطى يواجه تحدياً كبيراً لأن مفرداته مشتقة من نماذج سياسية مختلفة فى منطلقاتها النظرية.
ويستطيع أن نؤكد أن شعارات ثورة 25 يناير وهى الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، هى إعادة إنتاج لهذا النموذج الديموقراطى الذى توافق عليه الغالبية العظمى من المثقفين العرب منذ الثمانينيات. ويبقى السؤال كيف نستطيع أن نؤلف تأليفاً خلاقاً بين مفرداته المتعددة على مستوى النظرية وعلى صعيد الممارسة على السواء؟
وللإجابة على هذا السؤال، يرى الكاتب أنه لابد للمثقفين والناشطين السياسيين العرب أن يطلعوا إطلاعاً كافياً على المحاولات النظرية العالمية فى مجال التأليف بين الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية. ولعل الكتاب الشهير لفيلسوف جامعة هارفارد “,”جون رولز“,” وعنوانه “,”نظرية عن العدل“,” يعد نموذجاً فريداً فى هذا المجال. ومن ناحية أخرى لابد لشباب الثورة فى كل من تونس ومصر أن يراجعوا خبرات الديموقراطية التشاركية فى البلاد التى طبقتها لتلافى سلبيات الديموقراطية التمثيلية. مازال ينتظرنا عمل دءوب فى مجال التنظير من ناحية، وأهم من ذلك فى مجال الممارسة الثورية.