في الذكرى الأولى للثورة: إشكاليات عملية التحول الديمقراطي
شهد الاحتفال بالذكرى السنوية الأولى للموجة الثانية للثورة في 30
يونيو، العديد من المظاهر والتي يمكن رصدها في: أولا غياب الأجواء الاحتفالية من
القوى السياسية والحزبية التي شاركت فيها، وإن كان ذلك ربما لانشغال هذه القوى
بالاستعداد للانتخابات البرلمانية المقبلة والصراع الدائر الآن حول التحالفات
الانتخابية، أو حول القانون الناظم للعملية الانتخابية نفسها. ثانيا، احتفلت وسائل
الإعلام ومقدمو البرامج الحوارية كلٌّ على طريقته الخاصة بهذه المناسبة من خلال
إعداد ملفات أو أفلام قصيرة عن 30 يونيو، أو فترات مفتوحة تناقش الأوضاع السياسية
والاقتصادية والاجتماعية الحالية مقارنة بفترة محمد مرسي أو المرحلة الانتقالية
الأولى في عهد المجلس الأعلى للقوات المسلحة.
ثالثًا، عنف ملحوظ من قبل جماعة الإخوان المسلمين من خلال
مسيراتهم (محدودة العدد)، ومن خلال محاولاتهم المستمرة للاشتباك مع الأجهزة
الأمنية الموجودة في الشارع، والتي يصاحبها إما حرق سيارات للشرطة أو لمواطنين
أبرياء أو مقتل بعض المواطنين. رابعا، تفجيرات متتالية في أماكن متفرقة في القاهرة
الكبرى حتى وصلت إلى محيط قصر الاتحادية (مقر إقامة الرئيس السيسي). ولا شك في أن
المسئولية المؤسسية والأدبية تقع بالأساس على الأجهزة الأمنية التي لم تستطع
التصدي بشكل مطلق وكامل لمثل هذه التفجيرات، خاصة في ظل حديث مطوّل من الكثيرين في
الفترة الأخيرة عن أن الجهاز الشرطي مخترق من أنصار الجماعات الإسلامية بوجه عام
وجماعة الإخوان على وجه التحديد. كما يجب على الدولة رفع كفاءة الأجهزة الأمنية
وقدرتها البشرية والعلمية لمواجهة مثل هذه العمليات الإرهابية.
وفي إطار مظاهر الاحتفال الممزوجة بالفرح والأمل من ناحية والحزن
والأسى والبكاء على الأطلال من ناحية ثانية، إلا أن هناك العديد من الإشكاليات
التي ما زالت تواجه عملية التحول الديمقراطي وعلى الرئيس والنخبة السياسية الجديدة
العمل سويًا على حلها، وتبدد مخاوف الداخل والخارج، خاصة وأن هذه الإشكاليات زادت
في مرحلة ما بعد يونيو 2013.
الإشكالية الأولى: تتعلق بالتخوف مما يطلق عليه سيطرة المؤسسة العسكرية
على المجال العام أو ما يعرف باسم "عسكرة الدولة"، والمعني بذلك أن أغلب المناصب في الجهاز البيروقراطي للدولة قد
يكون من نصيب عاملين سابقين في المؤسسة العسكرية. وقد تجلت مظاهر ذلك في استعانة
الرئيس عبد الفتاح السيسي في الفريق الرئاسي بعدد – وإن كان محدودًا ـ من رجالات
القوات المسلحة الذين عملوا معه أثناء توليه المخابرات الحربية أو وزارة الدفاع،
هذا من ناحية.
من ناحية ثانية، تأسيس بعض قيادات المؤسسة العسكرية السابقين أحزاب
سياسية والتي تسعى الآن إلى تشكيل تحالفات انتخابية للحصول على أغلبية برلمانية
تمكنهم من تشكيل الحكومة الجديدة، وأيضًا تحت دعوى بأنهم يقومون بتشكيل ظهير سياسي
للرئيس أو لتحقيق المصلحة الوطنية، وذلك في ظل تأكيد الرئيس على أنه لن يؤسس حزبًا
سياسيًا.
الإشكالية الثانية، هي عملية المصالحة الوطنية، حيث لم تحسم الدولة هي الأخرى أو جماعة الإخوان أمرها من عملية المصالحة. وفي الواقع فإن جماعة الإخوان المسلمين ما زالت تطبق نظرية "المباريات الصفرية"، فهي تريد أن تكسب كل شيء أو تخسر كل شيء، وبالتأكيد فهي ستخسر كل رصيدها الممتد منذ عام 1928. والتوصيف الأدق لتصرفات الجماعة منذ فض اعتصامي رابعة والنهضة بأنها ما زالت فاقدة الرشادة السياسية، لأنه التاريخ لم يحكى لنا في أي فترة زمنية كانت أو مكانية بأن جماعة أو حزب، حتى لو كان إيديولوجيا، أن يفرض إرادته على الأغلبية أو الدولة الوطنية بأي شكل من الأشكال. وعلى الرغم من أن الجماعة تحاول استمالة بعض القوى والتيارات السياسية المدنية لمواجهة الدولة، فإنها فشلت في الحاضر كما ستفشل في المستقبل. وأعتقد لأن القوى الشبابية والمدنية تعلمت الدرس جيدًا، وتطبق الآن المثال الشهير " لا يلدغ المؤمن من الجحر مرتين"، وأن عاصري الليمون لن يفعلوها مرة ثانية، مهما كلفهم الأمر، وأن المؤسسة العسكرية أضمن لهم بكثير من جماعة دينية ممتدة في أكثر من 60 دولة، ومازالت تؤمن بالخلافة ولا تعترف بالدولة الوطنية.
الإشكالية الثالثة: تجديد النخبة وضخ دماء جديدة في الحياة السياسية، خاصة في
ظل تخوّف البعض من عودة ظهور النظام القديم، والمتمثل في إعادة إنتاج بعض الشخصيات
المحسوبة على نظام مبارك إلى الساحة السياسية والإعلامية وعملية صنع القرار من
جديد، أو اتخاذ نفس السياسات التي كان يتبعها نظام مبارك أو الإخوان المسلمين خاصة
في الجانب الاقتصادي، وذلك في ظل عدم وضوح الرؤية الاقتصادية للرئيس واعتماده على
التبرعات أو المعونات الداخلية والخارجية حتى هذه اللحظات.
وقد تجلت مظاهر هذه الإشكالية في تشكيل حكومة محلب الثانية، والتي
تشكلت من عدد كبير من الوزارات في ظل الحديث عن ضرورة اتباع سياسات تقشفية أو
استدعاء بعض الوزراء الذين خدموا في وزارات سابقة، أو متوسط عمر الوزارة. والأهم
من كل ما سبق، هو طريق الاختيار أو التعيين والتي انصرفت بالضرورة على اختيار
الوزراء إلى المساعدين لهم داخل وزاراتهم والتي لا يعلم أحد ما الأسس أو المعايير
التي تم على أساسها اختيار هؤلاء. كما تجلى المظهر الثاني في طريقة اختيار رؤساء
تحرير الصحف المصرية ومجالس إداراتها، أو إعادة الجمع مرة ثانية بين الإدارة
والتحرير.
الإشكالية الثالثة: إدماج الشباب في العملية السياسية، أو على الأقل السماح له بمراقبة عملية صنع القرار أو الدخول في
حوار حقيقي وجدِّي مع السلطة. ففي الوقت الذي كانت يتوقع فيه إدماج الشباب في
العملية السياسية وبعض المواقع التنفيذية، أصبح الشباب متهمًا بالخيانة والتخابر
لصالح بعض الدول الأجنبية. ولم تتخذ الحكومة الإجراءات اللازمة لتبديد مخاوف بعض
القوى الشبابية بل على العكس تمامًا قامت الحكومة بإصدار قانون التظاهر، وهو ما
جعل هناك غصة بين الشباب الرافض للقانون والعملية السياسية الدائرة الآن.
الإشكالية الرابعة: التنمية والعدالة الاجتماعية، حيث قامت الثورة من أجل المطالبة بالعيش والحرية والعدالة
الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وربما تُجَسِّد تلك المطالب مجموعة من الحقوق
الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يجب تحقيقها من قبل النظام السياسي في
مرحلة ما بعد مبارك.إن إغفال البعد التنموي – من خلال تجاهل مظاهر انتهاكات حقوق الإنسان
الاجتماعية والاقتصادية والثقافية – داخل آليات العدالة الانتقالية طرح مشكلات
وتحديات أسهمت في إعادة النظر في العلاقة بين العدالة الانتقالية والتنمية
وتحديدًا العلاقة بين العدالة الانتقالية والجودة الاجتماعيةSocial Quality –
باعتبارها غاية تنموية – من خلال مكوناتها المختلفة التي تمثلت في الأمن الاجتماعي
والاقتصادي، والاندماج الاجتماعي، والتماسك الاجتماعي، والتمكين الاجتماعي. فإذا
كانت العدالة الانتقالية تسعى إلى النظر في الماضي للتعرف على إساءة حقوق الإنسان،
فإن التنمية تسعى إلى ذلك من خلال رؤية للمستقبل تهدف إلى بناء مجتمع الجودة.
ونافلة القول؛ يقع على الرئيس الجديد عبء حل هذه الإشكاليات من خلال اتباع سياسات جديدة تستجيب لمطالب الثورة والثوار، وذلك لأن أي اعتقاد بأن الأمور قد باتت تتجه إلى الاستقرار السياسي أو الأمني فهو اعتقاد خاطئ، فما زال البركان ثائرًا وبحاجة إلى وسائل معالجة لإخماد ثورته المتوقعة.
الإشكالية الخامسة: أداء وسائل الإعلام، والذي لم يرتقي إلى المهنية
سواء أكان المؤيد لـ 30 يونيو أم الرافض لها. واللافت للنظر أن
وسائل الإعلام عملت على تأجيج الصراع والانقسام المجتمعي من خلال تبنيها سياسات
إعلامية حدية بدون عرض وجهات النظر المختلفة، أو على الأقل تحري الموضوعية أو
الدقة في تناولها للموضوعات موضع النقاش. والدليل على ذلك بأن محاولات وسائل
الإعلام لتعبئة الجماهير للمشاركة في الاستحقاقات العامة بعد 30 يونيو ـ الاستفتاء
على الدستور والانتخابات الرئاسية ـ جاءت بنتيجة عكسية، ولم يستجب المواطن إلى
الحشد الإعلامي، لأنه أما فقد فيها الثقة أو أعطت وسائل الإعلام الثقة للمواطن بأن
نتيجة الاستفتاء أو الانتخابات قد حسمت لصالح الموافق أو اختيار مرشح معين.
الإشكالية السادسة: الموقف الدولي الذي مازال يشكل عبئًا
كبيرًا على الرئيس الجديد. حيث يعتقد البعض خطًأ بأن الموقف الدولي بات يتحول لصالح الدولة
المصرية بمجرد الانتهاء من الانتخابات الرئاسية، ويدلل أصحاب هذا الرأي على صحة
موقفه بعودة مصر إلى مقعدها في الاتحاد الأفريقي أو خلخلت ملف أزمة سد النهضة مع
إثيوبيا.
وعلى الرغم من وجاهة هذا الرأي فإنه يمكننا القول؛ إنه ما زال هناك
الكثير من العقبات أمام الدولة المصرية في ظل الغموض الذي يسود موقف الاتحاد
الأوربي (الشريك الاقتصادي الأول لمصر) والولايات المتحدة الأمريكية ( القائد
العام الأوحد للنظام العالمي)، وهو ما اتضح بشكل جليٍّ من خلال زيارة وزير
الخارجية الأمريكية جون كيري لمصر ومطالبته القيادة السياسية بضرورة إنجاز عملية
تحول ديمقراطي، وضرورة إجراء مصالحة الوطنية مع الفرقاء السياسيين، في إشارة واضحة
لجماعة الإخوان المسلمين. وبغض الطرف عما إذا كان يعد هذا تدخلًا في الشأن الداخلي
إلا أنها محددات وضعتها الإدارة الأمريكية قبل عودة العلاقات إلى مسارها الطبيعي.
والجدير بالذكر، بأن محاولات مصر استبدال العلاقات مع الولايات
المتحدة بالعلاقات مع روسيا لم يترتب عليه تقدم ملحوظ في القضايا الاقتصادية أو الاستثمارية
بين مصر وروسيا، خاصة وأن الجميع يعلم الآن أن المشكلة في مصر هي اقتصادية
بامتياز، وهو ما تحاول الولايات المتحدة أن تستخدمه للضغط على القيادة السياسية
الجديدة.
وملخص القول، فإن الإشكاليات الست السابقة بحاجة إلى جهد كبير من الرئيس عبد الفتاح السيسي ومن الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني وكل القوى المجتمعية، لأنه يجب أن يؤمن الجميع بأنه لا بديل عن عملية تحول ديمقراطي سلمي يركز بالأساس على الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، مع ضرورة وضع الدستور الجديد موضوع التطبيق، وأن يحدث تحول حقيقي في أداء الأجهزة الشرطية، خاصة وأنها البوابة الرئيسية في استمرار حالة الثقة بين الرئيس وبين المواطنين أو العكس.