نذيــر خطـــر: التعليق السياسى على الأحكام القضائية
هذا الإرث
التاريخى من رأسمال الثقة ستهدده بعض من الفوضى والتوظيفات السياسية للأجهزة
الإعلامية المرئية والمكتوبة والمسموعة- لاسيما بعض الفضائيات لبعض الأحكام ذات
الطبيعة السياسية أو الدينية أو المذهبية أو الاجتماعية، أن الطبيعة السجالية
والأثارية فى بعض التعليقات من غير المتخصصين ومن بعض السياسيين وغيرهم من الأحاد،
تعكس انطباعات سريعة، بل وفى غالب الأحيان عدم معرفة دقيقة بالقانون، والجوانب
الموضوعية أو الإجرائية لكل قضية من هذه القضايا، وعما إذا كانت أحكام حضورية أم
غيابية. أن تكاثر أحكام الإعدام خلال الفترة الانتقالية وسرعة إصدارها على المتهمين،
تؤدى إلى كثافة توظيفها فى الدعاية السياسية المضادة ممن صدرت فى حقهم الأحكام
وغيرهم ومن الأطراف الإقليمية تركيا وقطر.. الخ- والدولية- الولايات المتحدة ودول
المجموعة الأوروبية وآخرين إزاء العمليات السياسية الانتقالية فى مصر بعد 30 يونيو
2013. لا شك أن ذلك يولد مزيداً من الضغوط على الحكومة والسلطة الانتقالية. من
ناحية أخرى الأحكام القضائية الصادرة فى بعض القضايا السياسية فى عديد من دول
العالم لم تعد شأناً داخلياً، وفق مفهوم السيادة التقليدى الذى ارتبط بالدولة
القومية، ومن ثم سلطان القضاء الوطنى الداخلى فى نظر المنازعات والفصل فيها، وإنما
باتت الأمم المتحدة والمنظمات الدولية العالمية والإقليمية، والمنظمات الحقوقية فى
المجال العولمى تبدى ملاحظاتها النقدية، وتمارس ضغوطها السياسية إزاء بعض الأحكام
القاسية، وعلى رأسها عقوبة الإعدام التى ألغتها دول كثيرة فى عالمنا، لاسيما فى
قضايا سياسية. أن ردود الأفعال الكونية ليست قصراً على الحالة المصرية، وإنما تمتد
إلى دول العالم. من هنا نحن أمام ظواهر جديدة ومختلفة تماماً عن بيئة العمل
القضائى التاريخية التى ألفناها وتعايشنا معها طيلة تاريخنا القضائى العريق. ساهمت
الثورة الرقمية للمعلومات والاتصالات والوسائط المتعددة- فى ازدياد ردود الأفعال
وفوريتها أيا كان مكان حدوثها، ولم تعد القرارات السياسية أو الثقافية، أو الأحكام
القضائية، أو الفتاوى الدينية الداخلية.. الخ بمنأى عن الانتقادات والسجال معها
وحولها، وردود أفعال الدول والمنظمات الدولية، ونشطاء المجال العام الافتراضى
الكونى، ولم تعد الانتقادات قصراً فقط على العلماء والخبراء والفقهاء وأهل التخصص
فى كل مجال، وإنما باتت أمراً يهم الإنسانية فى عمومها. هذا التحول النوعى كونياً
هو الذى يكمن فى حدة وعنف ورفض بعض الأحكام القضائية الصادرة بالإعدام فى قضايا
يتداخل فيها السياسى مع الجنائى، مع الإدارى، مع الدستورى، ومن ثم حالة الصخب التى
تثار دولياً الآن، ليس حول الحالة المصرية، وإنما فى عديد الحالات السابقة
واللاحقة. أن توقيع اتفاقية روما للمحكمة الجنائية الدولية، والتطور فى مجال
القانون الإنسانى الدولى، بات يشكل أحد الكوابح التى باتت تؤثر وقد تغل السلطات
والحكومات والإدارات الوطنية من إصدار القرارات السياسية وغيرها إزاء خصومها
السياسيين. من هنا يمكن فهم ازدياد ردود الأفعال الغاضبة والانتقادات اللاذعة حول
تسييس بعض الدول والسلطات فيها للقضاء وأحكامه سواء على المستوى العولمى الرسمى أو
المجتمع المدنى وتأثيراته على القرار السياسى فى الدول الكبرى، والمنظمات الدولية،
واستخدام قواعد المشروطية السياسية فى إطار صناديق التمويل الدولية، فى الربط بين
منظومات من المعايير السياسية والحقوقية، وبين منح أو منع هذه الدول والمؤسسات
الدولية المنح والمساعدات والقروض لعديد من الدول الأقل تطوراً والمعسورة. أن
تزايد العنف الخطابى واللفظى حول بعض الأحكام القضائية يعود لأسباب داخلية على
رأسها: اضطراب مراحل الانتقال السياسى، وعدم فهم أسباب البراءات فى أحكام صادرة ضد
بعض رموز نظام مبارك، وأنها ترجع إلى أنها قدمت وتفتقر إلى أدلة ثبوتية من جهات
الضبط وجمع الأدلة والتحقيق، ومن ثم قضى فى غالبها بالبراءة. لا شك أن ذلك ساهم فى
تزايد الانتقادات السياسية للسلطة القضائية من النشطاء ورجال السياسة، و استخدمت
فى الحشد الجماهيرى التظاهرى، أو فى نقد السلطة الانتقالية- بما فيها مرحلة حكم
الرئيس محمد مرسى- ، وهذا النقد جاء من البرلمان المنتخب آنذاك، ومن بعض رجال
السياسة والقانون. لا شك أن هذه البيئة السياسية المضطربة، والسائلة قد تؤثر على
صورة القضاء فى الوعى والإدراك الجمعى للغالبية الساحقة من المصريين، التى استقر
فى وجدانها ووعيها الثقة فى عدالة وحيدة ونزاهة القضاء المصرى العريق، وقضاته
المتميزين، إن القضاء المصرى يشكل أحد أهم المؤسسات القضائية مع الهند فى جنوب
العالم، ومن ثم يتعين المساهمة الفعالة فى دعم استقلاله وحيدته بكل قوة فى المرحلة
الانتقالية وما بعدها.
ظاهرة التعليق السياسى على الأحكام
القضائية تزايدت خلال المراحل الانتقالية فى مصر، وذلك بعد أن بدأت ملامحها الأولى
فى عهد نظام مبارك، وفى بعض الكتابات والخطابات السياسية على استحياء حيناً، وغير
مباشر، وصريح فى أحيان أخري، بكل ما يحمل ذلك من نذر خطر وتأثير على مسار الخصومات
القضائية، وعلى استقلالية القضاء والقضاة فى مباشرة أعمالهم والفصل فى المنازعات
القانونية، لاسيما فى المجال الجنائى والإدارى والدستوري، خاصة تلك التى يتداخل فى
بعض أبعادها وأطرافها قضايا سياسية، وأشخاص هم جزء من الخريطة السياسية
والايديولوجية والدينية فى البلاد، أحد أهم بداهات ومسلمات العدالة القانونية
والجنائية المعاصرة، مبدأ أن الحكم هو عنوان الحقيقة أياً كان هذا الحكم والعوار
القانونى الذى قد يكتنفه ويثلمه، ومن ثم لا يجوز التعليق عليه، أو تجريحه سياسياً
ودينياً وأيديولوجياً إلا من خلال الطرق القانونية المحددة للطعن على الأحكام.
فى مراحل التطور التاريخى للنظام
القضائى المختلط والوطنى قبل وبعد اتفاقية مونترية ذائعة الصيت اقتصرت التعليقات
النقدية والشروح على الأحكام، على الجماعة الفقهية والقضائية لاعتبارات علمية
وقانونية محضة، وذلك من أجل إنماء وتجديد المعرفة والعلم القانوني، ومن ثم تطوير
المبادئ القانونية العامة فى البلاد، وذلك فى ضوء النظم القانونية المقارنة على
المستوى العالمي، لاسيما فى إطار الثقافة القانونية اللاتينية وسواها بوصفها
المصدر التاريخى للنظام القانونى المصري. كان التعليق على الأحكام ذا طبيعة علمية
وفقهية وليست سياسية أو دينية، تأويلية. من هنا كان مجال التعليق هو المؤلفات
والمجلات القانونية المتخصصة.
مع
انتشار الصحف ووسائل الإعلام المرئية ثم الرقمية اتسع نطاق الاهتمام بالأحكام
القضائية لاسيما تلك التى تفصل فى منازعات إدارية أو جنائية يكون موضوعها،
وأطرافها ذوى طبيعة سياسية أو دينية، ومن ثم جزءاً من اهتمامات الرأى العام
وقضاياه المتفجرة.
منذ عهد الرئيس الأسبق حسنى مبارك
تزايدت ظاهرة توظيف النظام والنخبة الحاكمة للآليات القضائية وإجراءاتها فى حسم
قضايا سياسية- قوانين مباشرة الحقوق السياسية والمساس بالحقوق والحريات العامة
والشخصية الدستورية للمواطنين .. الخ-، وذلك بديلاً عن التعامل السياسى مع هذه
القضايا، وليس من خلال هذه الآلية القضائية، التى حملت أكثر مما تتحمل لأهداف
سياسية سلطوية ترتبط باستخدام بطء التقاضى وإجراءاته، وتمرير قوانين غير دستورية
لخدمة السلطة والنخبة ومصالحها السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية من مثيل
إصدار قوانين بضرائب غير دستورية.
من
هنا تزايدت التعليقات السياسية على الأحكام بما فيها التعليقات القانونية العلمية
فى الصحف، وبعض أجهزة الإعلام سواء من متخصصين أو من إعلاميين وسياسيين.
إن أخطر ما فى التعليقات هو دخول عديد
من الأطراف إلى ساحة التعليق السياسى على الأحكام من النشطاء، والحزبيين،
والمنتمين للجماعات الإسلامية السياسية وغيرهم، وذلك على الواقع الافتراضى مواقع
التفاعل الاجتماعي-، وهو الأمر الذى بات يشكل بيئة ضاغطة على عمل الجماعة
القضائية، والقضاء فى مصر.
الأحكام القضائية هى عنوان الحقيقة، فى
ضوء قناعة المحكمة، إلا أن القانون حدد طرق الطعن على الأحكام أمام الجهات
القضائية سعياً وراء حسن تطبيق القانون وتفسيره وتأويله، وسلامة الاستدلال،
ومراعاة الحق فى الدفاع.. الخ، أحكام المحاكم عنوان الحقيقة نعم، لكن متى اعتصمت
بالقانون وقواعده، ولم تتنكب صحيح قواعده، والمبادئ القضائية المستقرة فى قضاء
النقض، والإدارية العليا، والدستورية العليا.. الأحكام المستعجلة التى تصدر فى
قضايا يخشى فيها ضياع أصل الحق إذا ما تم الانتظار لصدور حكم من القضاء الموضوعى
وإجراءاته، ومن ثم تنظر على وجه السرعة، ويصدر فيها حكما وقتيا لا يمس أصل النزاع،
ويجوز الطعن عليها أمام محكمة الجنح المستأنفة.
الحكم الصادر بوقف أنشطة جماعة شباب 6
أبريل الصادر أول من أمس، يجوز الطعن عليه أمام المحكمة الاستئنافية المستعجلة، فى
القضاء العادي، وكذلك طلبات وقف التنفيذ أمام القضاء الإدارى للقرارات الإدارية
التى يؤدى تنفيذها إلى آثار يصعب تداركها فى هذا الشأن، ويمكن الطعن على الشق
المستعجل فيها أمام الإدارية العليا.
فى القضايا الجنائية عموماً، وتلك التى
يتداخل فيها بعض الأبعاد السياسية والسياسيين، كالأحكام الصادرة من محكمة جنايات
المنيا بالإعدام على بعض المتهمين، بعضها غيابى والآخر حضوري، هنا ثمة آلية هامة،
هى طعن النيابة العامة الوجوبى عليها بالإضافة إلى المتهمين أمام محكمة النقض، إن
الضجة التى أثيرت حول هذه الأحكام التى لا تعليق عليها تعود
إلى عدد من الأسباب:
1-
العدد الكبير الصادر فى شأنه أحكام بالإعدام من جماعة الإخوان المسلمين ولأعداد
كبيرة لم تحدث من قبل مصرياً وعالمياً، واستخدام أجهزة الإعلام الفضائية الداعمة
لإخوان الجزيرة وسواها للتنديد السياسى بالأحكام والقضاة والدولة المصرية..
2-
استخدام بعض القنوات الفضائية بعض القضاة من الذين أحيلوا للصلاحية أو السابقين
للتعليق على هذه الأحكام ونقدها بعنف، وإعطاء الانطباع المؤثر للرأى العام بأنها
مسيسة.
3-
ردود الفعل الدولية المنددة بالعدد الكبير من المحكوم عليهم بالإعدام من المنظمات
الحقوقية، وكذلك من بعض الإدارات السياسية الغربية وعلى رأسها الأمريكية، فى
ممارسة الضغوط على السلطة الانتقالية، ومسار خارطة الطريق الحالية.
4-
الانتقادات السياسية التركية من نائب رئيس الوزراء التركى أمس، بالإضافة إلى ردود
أفعال الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي.. الخ السابقة والتالية.
5-
دخول بعض «القوى الثورية» الرافضة لبعض ممارسات السلطة الانتقالية فى التوظيف
السياسى للأحكام فى تعبئة بعض شباب الجامعة وحشدهم للتظاهر.
6-
صدمة المنظمات والدول التى ترفض عقوبة الإعدام التى تم إلغائها فى قوانينها
الجنائية، ومن ثم كان رد فعلها ولا يزال عنيفاً إزاء الإعدام فى الجرائم ذات
الطبيعة السياسية وغيرها.
7-
إن إحالة أوراق 683 متهماً بينهم المرشد العام للإخوان د.محمد بديع ستثير ضجة
سياسية وقانونية دولية وداخلية كبري، ولكن سيطعن عليها، والمرجح إلغاؤها أمام
محكمة النقض، ولكنها ستؤدى إلى المزيد من الانقسام السياسى الحاد، والاحتقانات
المتزايدة.
8-
حكم وقف أنشطة جماعة 6 أبريل من الأحكام الوقتية الممكن استئنافها فى الشق
المستعجل، من ناحية أخري، نحن أمام جماعة سياسية تكتسب مشروعيتها من الواقع
السياسي، وهناك عدد من الآليات السياسية والقانونية الأخرى لكى تظل حاضرة فى
المشهد السياسى لأن الأحكام القضائيةـ مع كل الاحترام لهاـ لا تؤدى إلى إلغاء قوى
سياسية، ولا على الأفكار السياسية التى تطرحها. أحكام الإعدام التى طالت قيادات
الإخوان فى ظل ثورة يوليو 1952 لم تؤد إلى إنهاء الجماعة أو تصفية وجودها، ومحو
أفكارها السياسية والدينية.
إن البيئة السياسية وصخب الخطابات
السياسية وعنفها اللفظى وتوتراتها ستؤدى إلى ازدياد ظاهرة التعليق السياسى الصاخب
على الأحكام، وستسهم فى اضطراب بعض مظاهر المشاهد السياسية، وتزايد موجات العنف
المتلاحقة فى واقع انتقالى يتسم بالسيولة، وبعض الاضطراب، وسيجعل من ظاهرة التعليق
السياسى على الأحكام مستمرة، وهو ما يحتاج إلى معالجة سياسية أكثر شمولاً وعمقاً
فى المستقبل.