الأغنية الوطنية في التاريخ المصري
ترتبط الأغنية الوطنية
ارتباطًا وثيقًا بظهور مفهوم الوطن والقومية. وهو بهذا الشكل تطور حديث يرتبط
بتكوين الدولة الوطنية، وضرورة صنع مخيلات قومية يلعب التعليم والأغنية والموسيقى
والأدب أهم عوامل ترسيخها في الوجدان الشعبي.
من هنا نرى أن ظاهرة
الأغنية الوطنية بالمعنى المعروف الآن، لا يمكن تتبعها إلا من خلال نشأة القومية
والتوسع في وسائل الاتصال، التي تسمح بالضرورة بانتشار الأغنية في ربوع البلاد حتى
تكتسب صفة العمومية والوطنية. من هنا ترتبط الأغنية الوطنية إلى حدٍ كبير بظاهرة نمو
الوعي القومي.
ولكن هناك عدة تساؤلات
أساسية تواجه من يتطرق إلى هذا الموضوع، لعل أهمها: ماذا نقصد بالأغنية الوطنية؟
هل المقصود بها تمجيد الحكام أم التغنِّي بالوطن ونمو الوعي القومي لدى الشعوب،
بمعنى آخر: هل نغني لحكامنا أم نغني لبلادنا؟
هل نعتبر الأغنيات التي تغنّى
بها كبار الفنانين المصريين في مدح الملك فاروق أغاني وطنية؟ كيف ننظر إلى الأغنية
الشهيرة لموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب "أنشودة الفن" عندما بالغ في
مدح فاروق قائلاً:
الفن مين يعرفه إلا اللي عاش في حماه
والفن مين يوصفه إلا اللي هام في سماه
والفن مين أنصفه غير كلمة من مولاه
والفن مين شّرفه غير الفاروق ورعاه
إنت اللي أكرمت الفنان ورعيت فنه
رديت له عزه بعد ما كان محروم منه
ورويت فؤاده بالألحان برضاك عنه
وماذا نقول عن الأوبريت
الشهير للفنانة الراحلة أسمهان "موكب العز"، الذي كتبه الشاعر أحمد رامي، وقام بتلحينه
الموسيقار رياض السنباطي، وتغنّت به أسمهان في فيلمها الشهير "غرام
وانتقام" الذي عُرض في عام 1944. هذا الأوبريت تم حذفه من الفيلم
بعد قيام ثورة 1952، إذ اعتُبِر هذا الأوبريت مدحًا مبالغًا فيه في تاريخ الأسرة
العلوية منذ محمد عليّ وحتى الملك فاروق. هذا مع الأخذ في الاعتبار أن خروج
الأوبريت في هذا العام كان محاولة لاستعادة الشعبية المفقودة للملك فاروق بعد
تزايد المعارضة الشعبية ضد حكمه بل ضد الأسرة الملكية نفسها.
وهل ينطبق نفس المعيار على
الفترة الناصرية؟ ونقصد بذلك الأغاني التي تغنت بالزعيم عبد الناصر. ماذا نقول على
سبيل المثال عن أغنيات مثل:
قربوا من فكره وأحلامه يا اللي عليكم كل كلامه
ناصر ناصر ناصر
فى الصورة طالقكم قدامه قلتم إيه
ناصر ناصر
قيادات شعبية قلتم إيه؟
قلنا يا زعيمنا قلوبنا أهي.. أيامنا
أهي.. ليالينا أهي
وكانت هذه الأغنية "صورة"
التي تغنى بها عبد الحليم حافظ هي محاولة من عبد الناصر لجذب قيادات اليسار المصري
التي كانت في البداية على خلاف كبير معه. لكن عبد الناصر حاول أن يجذب قوى اليسار
إليه من خلال الدعوة إلى الاشتراكية، وانضمام الشيوعيين المصريين إلى الاتحاد
الاشتراكي والمساهمة فيه كقيادات شعبية، وهو ما وافقت عليه بالفعل الكثير من
التجمعات اليسارية.
وعلى نفس النحو هل نعتبر
الأغاني التي تغنت باسم السادات في عصره أغاني وطنية؟ وربما يصبح من الصعب الإجابة
عن مثل هذا السؤال خاصةً إذا وضعنا موضع الدراسة أغنية شهيرة تغنى بها أيضًا عبد
الحليم حافظ باسم السادات بعد حرب 73 وهي أغنية "عاش اللي قال" التي
كتبها محمد حمزة ولحّنها بليغ حمدي:
عاش اللي قال الكلمة ......... بحكمة وفي الوقت المناسب
عاش اللي قال لازم ............ نرجع أرضنا من كل غاصب
إنه من الجدير بالملاحظة أن
العقل الجمعي المصري لم يتذكر الأغاني التي تغنت بأسماء حكامه وزعمائه، بينما
يستمر في وجدانه الأغاني التي تغنت بمصر حتى في عهد هؤلاء الزعماء. إننا ما زلنا
نتذكر من عصر عبد الناصر أغاني مثل اللـه أكبر، وواللـه زمان يا سلاحي، وهي التي
ارتبطت بمناسبة وطنية هامة مثل حرب 56، أو أغاني مثل عدى النهار، وأحلف بسماها
وبترابها، هذه الأغنية التي استمر عبد الحليم حافظ يبدأ بها حفلاته منذ أيام
النكسة وحتى حرب 73. وحتى في عصر السادات من منا لا يتذكر أغاني العبور مثل:
بسم الله... الله أكبر بسم الله بسم الله
بسم الله... أذن وكبر بسم الله بسم الله
نصرة لبلدنا بسم الله بسم الله
بإدين ولدنا بسم الله بسم الله
وأدان على المدنه بسم الله بسم الله
بيحيي جهادنا بسم الله بسم الله
الله أكبر أذّن وكّبر
وقول يا رب النصرة تكبر
بسم الله... الله أكبر بسم الله بسم الله
بسم الله... أذّن وكّبر بسم الله بسم الله
بكفاحنا يا مصر بسم الله بسم الله
تاريخ النصر بسم الله بسم الله
جنود الشعب بسم الله بسم الله
بتخطّى الصعب بسم الله بسم الله
الله أكبر أذّن وكّبر
وقول يا رب النصرة تكبر
بسم الله... الله أكبر بسم الله بسم الله
بسم الله... أذّن وكّبر بسم الله بسم الله
سينا يا سينا بسم الله بسم الله
آدينا عدّينا بسم الله بسم الله
ما قدروا علينا بسم الله بسم الله
جنود أعدينا بسم الله بسم الله
الله أكبر أذّن وكّبر
الله أكبر أذّن وكّبر
وقول يا رب النصرة تكبر
أو أغنية
"حلوة بلادي" التي كتبها عبد الرحيم منصور ولحنها بليغ حمدي:
حلوة بلادى السمرة بـــــلادي الــــحـــــــــرة بلادي
وأنا على الربابة بــغـــنـي
م املــــكـــــــش غــــير إنـي اغــنـي وأقــــــول
تعــيــشـــي يا مـــــصـر
وأنا عــلـــى الربـابـة بغني
م املــــــكــــش غـــيـر غــــــــــنــــوة أمـــــــــل
لـــلــــجــــــنـــــــــــــــود أمـــــــل لـلــنــصــــــــــر
ليــــــــــكي يا مـــصـــر
وأنا على الربابــة بـغـني
اغنــــــــّي وأبــارك كل خــــــــــطـــــــوة
تــــــعــدّي ع الـطــــريـق الصعب
تــــــحيــا مــــــــــصــــر
وأنا على الربــابة بغنّي
وبــــــــغــــــنّــــــــــي غــــــنـــــوة الحـرّية
قول معايا يـا شـعب
تـــحـــيــا مــــــــــصــــر
حلوة بلادي السـمرة بــــــــلادي الـــــــحـرة بلادي
وأنا على الربابة بـغـنّي
يا عــاشــــق ومـغــنـي
وإيه هـــكـون جــــنـــب عــــشـــاقك
يـا مــــــــصــــر
وأنت اللي ما بتنسيش ضـــناكي
دمّه ع التراب الحُر
فـــــداكي يا مـــــصــــــــر
وهكذا يثبت العقل الجمعي
المصري أن ما يبقى في وجدانه من أغانٍ وطنية، هو ما ارتبط بالفعل بمفهوم الوطن
وليس تمجيد الحكام. وربما يستثنى من هذه القاعدة لحظة الشجن الحقيقية التي عاشها
الشعب المصري مع الوفاة المفاجئة لجمال عبد الناصر، وهنا غنى الشعب المصري كله:
الوداع يا جمال يا حبيب الملايين
ثورتك ثورة كفاح عشتها طول السنين
وهنا نلاحظ أن الشعب المصري
عندما كان يودع عبد الناصر لم يكن يمجد حاكمه، وإنما يغنى لحلم قومي ولفترة ثورية
كان يشعر بحسه أنها قد تُختطف منه بعد ذلك.
ولتأصيل هذه الفكرة، أن
الشعب يغني لمصر فقط، وأنه عندما تبقى في ذاكرته أغنية لزعيم أو حاكم فإن هذا
الموقف الاستثنائي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بلحظات مهمة ونادرة في تاريخه عندما يصبح
الزعيم رمزًا للوطن، وهنا يصبح الأصل في الأشياء الوطن، وهذا يذكرنا بما حدث مع
سعد زغلول في أثناء ثورة 19، عندما قامت السلطات البريطانية باعتقال سعد ورفاقه
ونفيهم إلى الخارج، هنا سيرفع الشعب المصري سعد إلى مصاف الزعماء ويصبح سعد رمزًا
للوطن، وعودة سعد من المنفى هي بمثابة عودة الروح إلى الوطن.
حيث منعت السلطات
البريطانية الهتاف باسم سعد في المظاهرات والغناء له، وهنا ابتكر الشعب المصري
وسيلة المقاومة بالحلة، حيث خرجت الأغنية الشهيرة "يا بلح زغلول" التي
كتبها بديع خيري ولحنها سيد درويش:
يا بلح زغلول يا حليوة يا بلح
يا بلح زغلول يا زرع بلدي
عليك يا وعدي يا بخت سعدي
زغلول يا بلح يا بلح زغلول
يا حليوة يا بلح يا بلح زغلول
عليك أنادى في كل وادى
قصدي ومرادي
زغلول يا بلح يا بلح زغلول
يا حليوة يا بلح يا بلح زغلول
الله أكبر عليك يا سكر
يا جابر اجبر
زغلول يا بلح يا بلح زغلول
يا حليوة يا بلح يا بلح زغلول
ماعيتشي أبكي وفيه مدبر مين بس ينكر زغلول يابلح
يا روح بلادك ليه طال بعادك
تعا صون بلادك
زغلول يا بلح يا بلح زغلول
يا حليوة يا بلح يا بلح زغلول
سعد وقال لي ربي نصرني
وراجع لوطني
زغلول يا بلح يا بلح زغلول
يا حليوة يا بلح يا بلح زغلول
وسيرًا على نفس الدرب،
اعتبر الشعب المصري إجبار بريطانيا على عودة سعد زغلول من المنفى انتصارًا للثورة
المصرية وعودة الروح إلى مصر، حيث خرجت الأغنية الشهيرة لبديع خيري وسيد درويش:
مصرنا وطننا سعدها أملنا .. كلنا جميعا للوطن ضحية
أجمعت قلوبنا هلالنا وصليبنا.. أن تعيش مصر عيشة هنية
عزك حياتنا .. ذلك مماتنا
يا مصر بعدك .. ما لناش سعادة
لولا اعتقادنا ... بوجود إلهنا .. كنا عبادنا .. النيل عبادة
مصرنا سعدنا.. أملنا .. كلنا جميعا للوطن ضحية
أجمعت قلوبنا.. هلالنا وصليبنا ... أن تعيش مصر عيشة هنية
حبك كفاية .. ما لوش نهاية .. كله مزايا من فضل ربي
مهما قاسينا .. مفروض علينا .. موت المجاهد .. من غير ذنب
مصرنا وطننا سعدها أملنا .. كلنا جميعا للوطن ضحية
أجمعت قلوبنا هلالنا وصليبنا..... أن تعيش مصر عيشة هنية
روحنا فداكي .. مالناش سواكي .. ربك معاكي في كل ساعة
وباتحادنا .. نبلغ مرادنا .. ويد اللـه مع الجماعة
مصرنا وطننا سعدها أملنا كلنا جميعا للوطن ضحية
أجمعت قلوبنا هلالنا وصليبنا.... أن تعيش مصر عيشة هنية
إحنا غايتنا نرفع رايتنا .... أحرار خلقنا نأبي المذلة
يا عيشنا سعدا ......... يا متنا شهدا
لتحيا مصر أمة مستقلة
استدعاء الأغنية
الوطنية في ثورة 25 يناير
في اللحظات الاستثنائية في
تاريخ الأمم تستدعي الشعوب بشكل تلقائي الأغاني الوطنية التي رسخت في ذاكرتها عبر
لحظاتها النادرة، ومع تصاعد الأحداث بعد 25 يناير وسخونة المواقف استدعت الجماهير
في ميدان التحرير وميادين مصر كلها العديد من الأغاني الوطنية التي صنعت الذاكرة
الجماعية للشعب المصري، غنت الجماهير في الشارع ورددت أيضًا بعض وسائل الإعلام
أغاني طالما هزت وجدان الشعب مثل أغنية بلادي بلادي التي هي في نفس الوقت النشيد
الوطني، لكنها أيضًا محفورة في الوجدان المصري على أنها الشعار الذي رفعه
"مصطفى كامل" للحركة الوطنية، وأيضًا هي أغنية ثورة 19، وجديرة أن تردد
من جديد في ثورة 25 يناير.
وسيرًا على درب أغاني حب
الوطن رددت الجماهير أيضًا الأغنية الشهيرة لشادية "يا حبيبتي يا مصر"، كلمات
محمد حمزة وألحان بليغ حمدي:
يا بلادي يا أحلى البلاد يا بلادي
فداكي أنا والولاد يا بلادي
يا حبيبتي يا مصر
ما شافش الأمل في عيون الولاد وصبايا البلد
ولا شاف العمل سهران في البلاد والعزم اتولد
ولا شاف النيل في أحضان الشجر
ولا سمع مواويل في ليالي القمر
أصله ما عداش على مصر
يا حبيبتي يا مصر
ما شافش الرجال السمر الشداد
فوق كل المحن
ولا شاف العناد في عيون الولاد
وتحدي الزمن
ولا شاف إصرار في عيون البشر
بيقول أحرار ولازم ننتصر
أصله ما عداش على مصر
واستعادت ذاكرة جيل السبعينيات
أغاني الشيخ إمام والحلم المفقود لهذا الجيل الذي فرح بتحققه أخيرًا مع ثورة 25
يناير، وردد الجميع الأغنية الشهيرة للشاعر نجيب شهاب الدين ولحن وغناء الشيخ
إمام:
يا مصر قومى وشدى الحيل
كل اللى تتمنيه عندى
لا القهر يطوينى ولا الليل
آمان آمان بيرم أفندي
رافعين جباه حرة شريفة
باسطين أيادى تأدي الفرض
ناقصين مؤذن وخليفة
ونور ما بين السما والأرض
يا مصر عودى زى زمان
ندهة من الجامعة وحلوان
يا مصر عودى زى زمان تعصى العدوين وتعاندي
آمان آمان بيرم أفندي
الدم يجري في ماء النيل
والنيل بيفتح على سجني
والسجن يطرح غلة وتيل
نجوع ونتعرّى ونبني
يا مصر لسه عددنا كتير لا تجزعي من بأس الغير
يا مصر ملو قلوبنا الخير وحلمنا ورد مندِّي
يسعد صباحك يا جنينة
يسعد صباح اللي رواكي
يا خضرا من زرع إدينا
شربت من بحر هواكي
شربت من كاس محبوبي وعشقت نيل أسمر نوبي
وغسلت فيه بدني وتوبي وكتبت اسمه على زندي
آمان آمان بيرم أفندي
وفي اللحظات الحاسمة
الأخيرة قبيل إعلان مبارك تخليه عن السلطة، وخاصةً في الفترة الواقعة ما بين موقعة
الجمل وتخلي مبارك عن السلطة، دأبت بعض الفضائيات على إذاعة الأغنية الشهيرة لأم
كلثوم، والتي كان الجميع يذرف الدمع عندما يسمعها في أثناء اللحظات العصيبة التي
تمر بها مصر آنذاك، هي أغنية "وقف الخلق" التي كتبها حافظ إبراهيم:
وَقَفَ الخَلقُ يَنظُرونَ جَميعًا كَيفَ أَبني قَواعِدَ المَجدِ
وَحدي
وَبُناةُ الأَهرامِ في سالِفِ الدَهـ رِ كَفَوني الكَلامَ عِندَ
التَحَدّي
أَنا تاجُ العَلاءِ في مَفرِقِ الشَر قِ وَدُرّاتُهُ فَرائِدُ
عِقدي
أَنا إِن قَدَّرَ الإِلَهُ مَماتي لا تَرى الشَرقَ يَرفَعُ
الرَأسَ بَعدي
ما رَماني رامٍ وَراحَ سَليماً مِن قَديمٍ عِنايَةُ اللَهُ
جُندي
كَم بَغَت دَولَةٌ عَلَيَّ وَجارَت ثُمَّ زالَت وَتِلكَ عُقبى
التَعَدّي
السلام
الوطني والشخصية المصرية
ارتبط مفهوم الدولة الوطنية
في العصر الحديث ببعض الرموز المهمة التي تلعب الدور الأساسي في بروز الوعي القومي
لدى الشعوب. ويعتبر العلم والسلام الوطني من أهم هذه الرموز التي تشكل الوجدان
الوطني. لذلك تحاول الدول من خلال تحية العلم في المدارس المدنية وحتى الوحدات
العسكرية مع عزف السلام الوطني تأكيد الهوية الوطنية في وجدان الشعب.
لذلك ارتبطت قصة أول سلام
وطني في التاريخ المصري بعصر إسماعيل، هذا العصر الذي شهد أول محاولة للتأكيد على
رموز الدولة الوطنية، حيث خرج في عصره أول علم خاص بمصر، كما عهد إسماعيل إلى الموسيقار
الإيطالي فيردي بوضع أول سلام وطني لمصر وهو الذي عرف بـ"سلام مخصوص
خديوي".
لكن هذه المحاولة لن يُكتب
لها الاستمرار طويلاً نظرًا لعزل الخديو إسماعيل في عام 1879، بالإضافة إلى وقوع
مصر في يد الاحتلال البريطاني منذ عام 1882.
ومع إعلان بريطانيا الحماية
على مصر في عام 1914 تم إعلان السلطنة في مصر، وانفصلت مصر رسميًا عن الدولة
العثمانية. وظهر آنذاك ما يعرف بالسلام السلطاني، ووضعت له كلمات في عهد السلطان
فؤاد مطلعها:
يا بني مصر وأهل الفطن
جددوا المجد القديم الزمن
بشّروا الأمة بالشهم فؤاد
خير سلطان به يرجى السداد
ومع ثورة 19 وصدور تصريح 28 فبراير 1922، تم إعلان
استقلال مصر باسم "المملكة المصرية" ودار جدل كبير حول السلام الوطني
الجديد لهذه المملكة الوليدة إلى أن تم الاستقرار على النشيد الوطني الشهير "اسلمي
يا مصر" الذي وضع كلماته الأديب مصطفى صادق الرافعي ووضع موسيقاه صفر عليّ
وقام بتوزيعه يحيى الليثي ومطلعه:
اسْلَمِي يا مِصْرُ إنِّنَى
الفدا ذِى يَدِى إنْ مَدَّتِ الدّنيا يدا
أبدًا لنْ تَسْتَكِينى
أبدا إنَّنى أَرْجُو مع اليومِ غَدَا
وَمَعى قلبى وعَزْمى
للجِهَاد ولِقَلْبِى أنتِ بعدَ الدِّينِ دِيْن
لكِ يا مِصْرُ السلامة
وسَلامًا يا بلادي
إنْ رَمَى الدهرُ
سِهَامَه أتَّقِيها بفؤادى
واسْلَمِى في كُلِّ حين
وقد عرف هذا النشيد بمارش
سعد وكأنه وضع على لسان سعد باشا في التعبير عن إرادة الأمة ووطنيتها.
ومع ثورة 23 يوليو 1952،
كان من الطبيعي أن تم تعديل السلام الوطني ليظهر سلام وطني جديد يتسم بحماسة ذلك
العصر والإيقاعات السريعة، فضلاً عن إبراز دور الجيش في هذه المرحلة، فتم اختيار
"نشيد الحرية" من كلمات كامل الشناوي وألحان محمد عبد الوهاب:
كــنــت في صــمــتــك مــرغم كـنـت
في صبرك مــكــره
فـتــكــلم وتألـم و
تــعلــم كـيـف تـكــره
عــرضــك الغـالي علـى الظالم هان ومشى
العــار إلـيه وإلـيك
أرضــك الحرة غطــاهـا الهــوان وطغى
الظلم علـيها وعـليك
قـدم الآجـال قـربـانـاً لـعـرضـك اجعل
العمر سياجاً حول أرضك
غـضـبـة ً لـلـعـرض لــلأرض لـنـا غضبـةً
تبـعـث فيـنـا مجـدنا
وإذا مـا هــتــف الهــول بــنــا فـليـقـل
كـل فتى.. إني هنا
أنا يا مصر فتاك..بدمي أحمـي حمـاك ودمي
مـلء ثــراك
أنا ومــض وبـريـق أنا
صــخــر.. أنـا جمــر
لــفح أنــفـاسي حــريــق ودمي
نار وثأر
بـلـدى لا عــشــت إن لم أفــتــد يومك
الحـر بـيـومــي وغـدي
نازفــاً مــن دم أعدائــك ما
نـزفـوه مـن أبي أو ولـدي
آخــذاً حـريـتي مـن غـاصــبـيـها سالبـيها
وبـروحي أفتديها
هـات أذنـيـك معـي واسمع معـي صيـحة
اليقـظة تجتـاح الجموع
صـيــحــة ً شـدت ظـهـور الـركـع ومحت
أصداؤها عـار الخـضوع
أنا يا مصر فتاك..بدمي أحمـي حمـاك و
دمي مــلء ثـراك
أنت إن لم تتحرر بيدى يا بلدي ! فسـأمضي
أتحرر من قيود الجسد
لا أبـالي الهــول بــل أعــشــقـه لا
أبالـيـه وإن مـت صريعاً
إنه لـو لم يــكــن.. أخـلـقـه لأرى
فيـه ضحـايانا جمـيعاً
في دمـاهــم أمـل النـيـل تـوحـد في
دمـاهـم دم عـيسى ومحـمد
فاحـترم بالثـأر ذكـرى شـهـدائـك بذلوا
أرواحهم بذل السخي
وانـتـقم ! إن هنـا أزكـى دمائك وهنا
أمي، وأختي، وأخي !
أنا يا مصر فتاك..بدمي أحمـي حمـاك ودمي
ملء ثـراك
وفي عام 1960، وفي أثناء
الوحدة المصرية السورية، تم من جديد تعديل السلام الوطني ليتناسب مع روح المعركة
التي كانت تحسها الجمهورية العربية المتحدة في مواجهة الاستعمار وإفشال مشروع
الوحدة العربية، فتم اختيار لحن" واللـه زمان يا سلاحي" الذي ذاع صيته
في حرب 56.
وفي عهد السادات ومع معاهدة
السلام المصرية الإسرائيلية، ورغبة السادات في إرسال رسالة للجميع أن حرب 73، هي آخر
الحروب رأى السادات أن السلام الوطني الذي يُعزف على أنغام واللـه زمان يا سلاحي
لم يعد صالحًا للمرحلة الجديدة، مرحلة السلام من وجهة نظره. من هنا سيعهد أنور
السادات إلى موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب بإعادة توزيع أغنية "بلادي
بلادي" أغنية ثورة 19، التي كتبها الشيخ يونس القاضي ولحّنها سيد درويش:
بلادي بــلادي بلادي لــك
حبـي وفــؤادي
بلادي بــلادي بلادي لــك
حبـي وفــؤادي
مصـر يا أم البلاد انـت
غايتي والمراد
وعلى كل العبــاد كم
لنيلك من أيـادي
بلادي بــلادي بلادي لــك
حبـي وفــؤادي
بلادي بــلادي بلادي لــك
حبـي وفــؤادي
وهو في نفس الوقت شعار الزعيم مصطفى كامل الذي
كان السادات قد اختار اسم "الحزب الوطني" اسمًا لحزبه الجديد آنذاك. من
هنا أصبح السلام الوطني الجديد والمستمر حتى الآن، والذي رددته الجماهير في ميدان
التحرير في 25 يناير، هو بلادي بلادي.
هكذا نرى كيف تغير السلام
الوطني مع تغير الأنظمة السياسية الحاكمة، مما يجعلنا نطرح ملاحظة حول مدى ارتباط
السلام الوطني بالنظام السياسي، وليس بالقاعدة الشعبية وبالتالي الجرأة على تغيره
مع تغير النظام، لكن ربما نشيد بلادي بلادي يستمر لمدة طويلة نظرًا لارتباطه بفنان
الشعب سيد درويش وثورة 19، فضلاً عن أن هذا الشعار قد رفعه من قبل مصطفى كامل،
وربما سيستمر هذا النشيد لفترة طويلة في المستقبل مع غناء الجماهير لهذا النشيد في
ميدان التحرير في أثناء الثورة.