تمهيد
إذا كانت ثمة سمة تُميز عالمنا المعاصر عما
عداه من مراحل في مسيرة التطور الحضاري للإنسان، فإن هذه السمة بلا شك هي ثورة
المعلومات المزدهرة والمنطلقة بلا هوادة. إن تطوير الحوسبة (عتادًا وبرمجيات)،
وإعادة التوجيه التكنولوجي لشرائح واسعة من القوى العاملة على المستوى الدولي،
وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وتنامي شبكة الإنترنت التي تقلصت معها وبها
أبعاد عالمنا الجغرافي، ... إلخ، كل ذلك أدى إلى تغيير جذري في طرائق عيشنا وعملنا
وتواصلنا، بل وفي الطبيعة النوعية لأفكارنا ومشاعرنا وقيمنا وثقافاتنا وهوياتنا،
وكذا في كيفية فهمنا لبعضنا البعض.
بهذه الثورة المعلوماتية أصبحنا أمام ما
ندعوه بالمجتمع الرقميDigital Society،
والفرد الرقميDigital Individual،
والمواطنة الرقمية، وهذه الأخيرة بمثابة مواطنة افتراضية Virtual Citizenshipفي فضاء إلكتروني تكنولوجي واسع المدى، تتعدد فيه
الهويات، وتتداخل القيم، وتتهاوى الخصوصية، وتُزيف المشاعر، وتنبثق حقوق وواجبات
جديدة تضع الهوية بمفهومها التقليدي في مأزق.
من هذا المنطلق تُناقش هذه المقالة أبعاد
المواطنة الرقمية وتأثيراتها المتعددة على الهوية، لاسيما في عالمنا العربي
المعاصر، من حيث كونه مستهلكًا للمعرفة وليس مُنتجًا لها.
أولاً-
المواطنة والمواطنة الرقمية (إطار مفاهيمي):
المواطنة Citizenship مفهوم حديث نسبيًا، لم يظهر إلا
بعد الثورة الفرنسية سنة 1789، لكن المعنى الذي تستهدفه المواطنة كان محل تناول
ومعالجة من قبل الفلاسفة منذ الفكر اليوناني (صابر، 2019). ومع ذلك فهو مفهوم
مُتنازع عليه وبالغ الحساسية، تختلف تفسيراته – المرتبطة بالجنسية Nationality– من مجتمع إلى آخر، ومن زمنٍ إلى
آخر، لاسيما في ظل وجود الأقليات Minorities،
والتعددية الثقافية Multiculturalism،
والهجرة Immigration،
والأوضاع السياسية داخل كل دولة، بل وفي معية حقيقة أن ميلاد المرء في مكانٍ ما لا
يعتمد على رغبته على الإطلاق (أمرٌ حتمي ومفروض)!
أبسط تعريف للمواطنة أنها «علاقة الفرد
بالدولة – ككيانٍ جغرافي وسياسي – كما يُحددها دستور وقوانين تلك الدولة، وبما
تُقره من حقوق وواجبات». ومن المنظور النفسي: «المواطنة هي الشعور بالانتماء
والولاء للوطن، وهي مصدر لإشباع الحاجات الأساسية وحماية الذات من الأخطار
المصيرية»(صابر، 2019).
هنا يجب أن نشير إلى أن مفهوم المواطنة
غالبًا ما يختلط لدى بعض الشعوب بمفهوم التبعية، وإن انتفت مقومات المواطنة؛ الأمر
الذي يعكس ما يمكن أن نسميه روح القبيلة، وسطوة الأعراف، وهيمنة العاطفة على جمهور
المنتمين، حيث تغيب فكرة الحقوق المتساوية والعدالة أمام وجوب الانتماء الأعمى
الذي لا يضع اعتبارا للفرد ورؤاه العقلية.
أما عن مقومات المواطنة فأهمها بصفة عامة(Iija, 2011):
1.
العُنصر المدني: ويتمحور حول الحرية الفردية، وحرية
التعبير والاعتقاد والإيمان، وحق التملك.
2.
العُنصر السياسي: أي حق الفرد في المشاركة السياسية، وحق
اختلاف الرؤى والتوجهات بما لا يضر الدولة.
3.
العُنصر الاجتماعي: أي حق المواطن في التمتع بالتعليم
والعلاج والخدمات الاجتماعية وغيرها داخل الوطن الذي ينتمي إله.
أما «المواطنة الرقمية» فهي – كما أسلفنا –
إحدى تجليات ثورة المعلومات والتطور التكنولوجي الحاسوبي، وقد تم صك المصطلح قبل
أكثر من عشرة أعوام في مجال التعليم، بحيث يُعبر المواطن الرقمــــي – وفقًا
لتعريف اليونسكو – عـــن الشخص الذي يستخدم الإنترنت بشكلٍ منتظم وفعَّال(Karsenti, 2019). ويمكن
تعريف المواطنة الرقمية ببساطة بأنها «تفاعل الفرد مع غيره باستخدام الأدوات
والمصادر الرقمية، مثل الحواسيب والهواتف النقالة، بكافة ما توفره من خدمات
كالبريد الإلكترونيوالمدوناتومواقع الإنترنتوشبكات التواصل الاجتماعي، ... إلخ، مع
ما يستلزمه ذلك من قواعد وضوابط ومعايير وأهداف وأفكــــــار ومبادئ تُشبع
الاستخدام الأمثل والقويم للتكنولوجيا الرقمــية»(Jwaifell,
2018).
بعبارة أخرى، المواطنة الرقمية هي
بمثابة ضيافة كونية متعالية (بالمعنى الكانطي) تستمد مشروعيتها من حق العقل
الإنساني في أفقٍ جديد لتحقيق ذاته، بشكلٍ يتواكب مع اللحظة الحضارية الراهنة،
ويُشبع حاجات التسامح والتبادل الثقافي والتنمية الاقتصادية والمساواة والسلام(Culver, 2014).
في هذا الصدد تعكس الإحصائيات الدولية عُمق
التحول، وهاك أحدثها (يناير 2019) وفقًا لوكالة «وي آر سوشيال»We Are Social، ومنصة إدارة وسائل التواصل الاجتماعي
«هوتسويت»Hootsuite،
المعنيتين بتقديم الإحصائيات الدورية للخدمات الرقمية(Kemp, 2019):
§
360 مليون شخص على امتداد العالم بدأوا استخدام الإنترنت
لأول مرة خلال سنة 2018، بمعدل مليون مستخدم جديد يوميًا. وقد بلغ عدد مستخدمي
الإنترنت خلال السنة ذاتها حوالي 4.388 مليار مستخدم، بنسبة بلغت 57% من سُكان
الأرض.
§
ثلثا عدد سُكان الأرض يمتلكون هواتف نقالة، وأكثر من نصف
عدد الأجهزة المستخدمة هي أجهزة ذكية.
§
بلغ عدد مستخدمي الهواتف النقالة خلال سنة 2018 حوالي
5.112 مليار مستخدم، بنسبة بلغت 67% من سُكان الأرض!
§
عدد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي خلال سنة 2018 يبلغ
حوالي 3.484 مليار مستخدم، بنسبة بلغت 45% من عدد سُكان الأرض!
§
كل ثانية يبدأ 7 أشخاص على امتداد العالم في استخدام
الهواتف النقالة، منهم 6 يمتلكون هواتف نقالة ذكية، وكل ثانية يبدأ 15 شخص جديد
على امتداد العالم في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي.
§
في العام الماضي (2018) استخدم الناس هواتفهم النقالة فيما
يلي: 62% لمتابعة الحالة الصحية &57% للخدمات المصرفية &43% للحصول على
المعلومات والخدمات الوظيفية &30% للمحتوى التعليمي (ما يُؤكد أن استخدامات
الهواتف النقالة تتجاوز مجرد إجراء المكالمات الهاتفية وإرسال الرسائل النصية).
§
عدد الرسائل النصية الهاتفية التي يتم تبادلها سنويًا
يبلغ 8 تريليون رسالة (ألف مليار = واحد وأمامه اثنا عشرة صفرًا طبقًا للنظام
الإنجليزي)، وذلك وفقًا لشركة بلومبرج Bloomberg
العالمية للخدمات الإخبارية والإعلامية (مقرها الولايات المتحدة الأمريكية). وقد
أُرسلت أول رسالة نصية SMS في
الثالث من ديسمبر سنة 1992.
§
88% من الأشخاص الذين تتراوح
أعمارهم بين 18 و29 سنة يستخدمون على الأقل موقعًا للتواصل الاجتماعي (وفقًا
لإحصائيات يناير 2018)، مع العلم أنه يوجد حوالي 18 موقعًا للتواصل الاجتماعي،
منها: فيسبوك Facebook،
تويتر Twitter، إنستغرام Instagram، يوتيوب YouTube، تيندر Tinder، سكايب Skype، جروب مي GroupMe، هاوس بارتي Houseparty، ... إلخ.
§
متوسط استخدام الإنترنت للمستخدم حاليًا حوالي 6.5 ساعة
يوميًا، أي ما يقرب من ثلث فترة الاستيقاظ للإنسان العادي، ويتم ذلك من خلال الأجهزة
اللوحية والهاتفية. هذا يعني أن المجتمع الرقمي قد أنفق في مجمله ما يزيد على 1.2
مليار سنة!
§
في الولايات المتحدة، عانى حوالي 25.9 مليون شخص من سرقة
هوياتهم الرقمية سنة 2016 فقط، والعدد قد يتجاوز ذلك بمراحل في دول العالم الأخرى
بما فيها عالمنا العربي.
§
حين يستخدم المتسوقون بطاقات الائتمان ينفقون ضعف ما قد
ينفقونه في حالة السداد النقدي المباشر (وهو ما يُعرف بإغراء بطاقة الائتمان
الإلكترونية)، وذلك وفقًا لدراسة أجراها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT سنة 2001.
§
أصبحت وسائل وتطبيقات التواصل الاجتماعي مُستخدمة في
كافة مناحي الحياة تقريبًا، وباتت لها – إلى جانب مكاسبها وإيجابياتها – مشكلاتها
وسلبياتها التي لا يمكن إنكارها: توقف العمل، التنمر، الانتحار، فقدان أو اكتساب
الثقة بالذات، ... إلخ.
ثانيًا-
عناصر المواطنة الرقمية:
للمواطنة الرقمية تسعة عناصر أساسية، نوجزها
فيما يلي(Ribble, 2019)&(المغاوري، 2016):
1.
الوصول الرقميDigital Access: أي المشاركة الكاملة للفرد في
المجتمع الرقمي. وهنا يجب أن يُدرك مستخدمو التكنولوجيا أن فرص الاستخدام الأمثل
غير عادلة نظرًا لتفاوت الإمكانيات والكفاءات، الأمر الذي يؤثر قطعًا على التنمية
المستدامة للمجتمع ككل. لذا يُعد العمل على تحقيق المساواة في القدرة على استخدام
التكنولوجيا، والتأكد من عدم حرمان أي شخص من الوصول الرقمي، نقطة انطلاق أساسية
للمواطنة الرقمية.
2.
التجارة الرقميةDigital Commerce: أي بيع وشراء السلع إلكترونيًا
عن طريق الإنترنت؛ الملابس والألعاب والغذاء والسيارات وغيرها. لا شك أن ثمة
عمليات تبادل تجاري كثيرة ومتنوعة تجري عن طريق الإنترنت بشكل شرعي وقانوني، لكن
المستخدمين في حاجة إلى الإلمام بكافة القضايا والمشكلات التي تتعلق بالتجارة
الرقمية، لاسيما تلك الخدمات التي تتنافي مع الأخلاق والقانون، كالتحايل على
البرامج، والمواد الإباحية، والمقامرة، وسرقة الملكيات الفكرية، ... إلخ.
3.
الاتصال الرقميDigital Communication: أي التبادل الإلكتروني
للمعلومات. في القرن التاسع عشر، وحتى منتصف القرن العشرين تقريبًا، كانت خيارات
الاتصال محدودة، لكن العالم شهد بعد ذلك انفجارًا في خيارات الاتصال التي باتت
أكثر اتساعًا وتنوعًا وسرعة (البريد الإلكتروني، الهواتف الخلوية، الرسائل
الفورية، ... إلخ)، ومن ثم أصبح الناس قادرين على التواصل المستمر مع بعضهم البعض
من أي مكان وفي أي وقت، وتلك إحدى التجليات المُهمة للثورة الرقمية. لكن – لسوء
الحظ – لم يكتسب الجميع القدرة على اتخاذ القرارات المناسبة فيما يتعلق بخيارات
الاتصال وتقنياتها وأبعادها الإيجابية والسلبية، الأمر الذي ينتقص من مفهوم
المواطنة الرقمية الكاملة.
4.
محو الأمية الرقميةDigital Literacy: أي إدراج مهارات التعامل مع
التكنولوجيا الرقمية في البرامج التعليمية. الأمر هنا يختلف من دولة إلى أخرى،
ويتفاوت من مجتمع إلى آخر؛ فعلى الرغم من أن كثرةً من برامج التعليم الغربية قد
حققت تقدمًا ملحوظًا في هذا الصدد، إلا أن ثمة تفاوتًا – وإن كان محدودًا – فيما
بين هذه البرامج وبعضها البعض، كما أن ثمة تفاوتًا كبيرًا فيما بين هذه البرامج
وبرامج التعليم في دول العالم الثالث، وهو ما تجلى مثلاً خلال جائحة كورونا، حيث
عجز قطاع عريض من التلاميذ والطلاب عن التواصل التعليمي الإلكتروني بشكلٍ فعَّال.
من جهة أخرى، يجب التركيز على تعليم جموع العاملين في المهن المختلفة كيفية
استخدام التقنيات المتداولة والمُحدثة باستمرار في المجتمع الرقمي، ومحو الأمية
المعلوماتية لقطاعٍ عريض منهم لا تُتاح له غالبًا فرصة تعلمها بشكلٍ سريع ومناسب،
وإلا كانت المواطنة الرقمية قصرًا على فئة بعينها، وبالتالي تنتفي أهم سمات
المواطنة، وهي العدالة والمساواة.
5.
الآداب الرقميةDigital Etiquette: أي القواعد والقيم المشتركة التي
يجب أن تحكم كافة التعاملات الرقمية. غالبًا ما يرى مستخدمو التكنولوجيا هذا
العُنصر كأحد أكثر جوانب المواطنة الرقمية إلحاحًا وإشكالية، وسبب ذلك أن كثرة من
الناس يستخدمون التكنولوجيا دون تعلُم آدابها (مساحة الحرية وحدودها وطرائق
ممارستها)، ولذا تلجأ بعض الحكومات وولاة الأمر إلى حظر التكنولوجيا بشكلٍ جزئي أو
عام للحد من الاستخدام غير المناسب لها، لكن المسألة تتجاوز مجرد التدخل الحكومي
أو الأسري في عصر السماوات المفتوحة، ومن الضروري أن يتعلم الجميع كيف يمكن أن
يكونوا مواطنين رقميين في مجتمع رقمي جديد.
6.
القانون الرقميDigital Law: أي مسؤولية الأفراد والجماعات
والحكومات أخلاقيًا وقانونيًا عن كافة الممارسات الإلكترونية. يتجلى الاستخدام غير
الأخلاقي غالبًا في شكل سرقة و/ أو جريمة، ويتجلى الاستخدام الأخلاقي في الالتزام
بقوانين المجتمع الرقمي وتشريعاته التي ما زالت في طور التطوير والتحسين. ويجب أن
يعي الجميع أن إلحاق الضرر بالآخرين، أو سرقة هوياتهم أو ممتلكاتهم، أو الحد من
حرياتهم، أو كشف خصوصياتهم، أو التلاعب بعقولهم، ... إلخ، تُعد أمورًا غير
أخلاقية، أو بمعنى أدق، جريمة يُعاقب عليها القانون.
7.
الحقوق والمسؤوليات الرقميةDigital Rights and Responsibilities:
ثمة مجموعة أساسية من الحقوق تمتد إلى كل مواطن رقمي، منها الحق في الخصوصية، والحق
في حرية التعبير وإبداء الرأي، وما إلى ذلك. وفي موازاتها تأتي أيضًا المسؤوليات
التي تقع على عبء المستخدمين للتكنولوجيا الرقمية، وفي مقدمتها المساعدة في تحديد
كيفية استخدام التكنولوجيا بشكلٍ مناسب ومثمر. ومن الضروري معالجة الحقوق
والمسؤوليات ومناقشتها بشكلٍ دوري من قبل مُنظري المجتمع الرقمي.
8.
الصحة الرقميةDigital Health: أي السلامة البدنية والنفسية في
عالم التكنولوجيا الرقمية. على سبيل المثال، تُعد أمراض العين، ومتلازمة التعب
المُزمن Chronic Fatigue Syndrome
(CFS)، وخشونة المفاصل JointRoughness،
والتهاب الفقرات Spondyloarthropathies من
الأمراض التي يجب تجنبها وتقديم العلاج الناجع لها في عالم التكنولوجيا الرقمية.
هذا فضلاً عن الأمراض النفسية التي أصبحت أكثر انتشارًا، مثل إدمان الإنترنت، والاكتئاب،
والانتحار، والرهاب الاجتماعي. يجب أن يتم توعية المستخدمين بالمخاطر الجسدية
والنفسية الناجمة عن استخدام التكنولوجيا الرقمية، بل وتدريبهم على كيفية تجنبها
وعلاجها.
9.
الأمن الرقميDigital
Security: أي كيفية اتخاذ الاحتياطات التكنولوجية اللازمة إزاء الجرائم
الرقمية، مثل سرقة الهويات، وتشويه الآخرين أو تعطيل مصالحهم، أو العبث بأجهزتهم
من خلال زرع الفيروسات بها. لا شك أن أي مجتمع يمكن أن ينطوي على جرائم نوعية يتخذ
الناس الاحتياطات المناسبة لتجنبها؛ كوضع الأقفال على أبواب المنازل، وتوفير أجهزة
الإنذار ضد السرقات والحرائق، ويجب أن نفعل الشيء ذاته ابتغاءً للأمان في المجتمع
الرقمي، كتوفير وتحديث برامج مكافحة الفيروسات، وتعلم كيفية وضع واستخدام اسم
المستخدم وكلمة السر، إلى غير ذلك من وسائل باتت ضرورية في المجتمع الرقمي.
واكتسبت هذه العناصر أبعادًا جديدة مع اندلاع
أزمة فيروس كوفيد-19، حيث أدت الجائحة إلى تغيير نمط الحياة لملايين البشر ممن
فرضت عليهم قرارات الإغلاق ممارسة أعمالهم وقضاء مصالحهم عبر بوابات الواقع
الافتراضي، وارتفعت أعداد مستخدمي الإنترنت بشكل صارخ وغير مسبوق، سواء أكان ذلك
بهدف الترفيه أو التواصل أو الدراسة أو التسويق التجاري أو غير ذلك، وهو ما يُلقى
بثقل البحث وإعادة البحث في العناصر السابقة على عاتق المتخصصين في الجامعات
ومراكز الدراسات والبحوث نظرًا لأهميتها وخطورتها المتصاعدة.
ثالثًا-
الهوية والهوية الرقمية (الأزمة):
الهوية الثقافية والحضارية هي القدر الثابت
والجوهري من السمات التي تُميز أمة بعينها عن غيرها من الأمم. وتُمثل هذه السمات
مُركبًا متجانسًا من الذكريات والتصورات والقيم والرموز والتعبيرات والإبداعات
والتطلعات التي تحتفظ لجماعة بشرية نوعية بهويتها الحضارية(صباح & عبد المالك،
2018).
الهوية
الثقافية كيانٌ يسير ويتطور، وليست بمثابة مُعطى جاهز ونهائي؛ فهي تسير وتتطور إما
نحو الانكماش أو الانتشار، وهي تغتني بتجارب أهلها ومعاناتهم؛ انتصاراتهم
وتطلعاتهم؛ وأيضًا باحتكاكهم سلبًا أو إيجابًا بالهويات الثقافية الأخرى(صباح &
عبد المالك، 2018). ومع ذلك فإن أهم سماتها الاستمرارية، فمثلها في ذلك كمثل
الشجرة، تنمو وتزدهر، وتذبل أوراقها وتتساقط، لكنها تظل في النهاية الشجرة ذاتها.
أما الهوية الرقمية Digital Identityفتنقسم إلى نوعين: الهوية الرقمية دون اتصال بالإنترنت Offline؛ والهوية الرقمية في عالم
الإنترنت Online(Media, 2020). الأولى هي التمثيل الرقمي الذي
تقوم به الحكومات والمؤسسات للمعلومات المتعلقة بشخصٍ ما يخضع لإدارتها، وتتجلى
مثلاً في الرقم القومي National ID،
ورقم رخصة القيادة Driving License
Number، ورقم جواز السفر، ورقم الحساب البنكي، والرقم الضريبي، ورقم
بطاقة الرعاية الصحية، ... إلخ. وهذا النوع من الهوية الرقمية يندرج في إطار
المواطنة بمفهومها التقليدي، حتى وإن تم تبادل هذه المعلومات عبر الإنترنت. ورغم
كونها نظامًا غير مُكتمل، لاسيما في الدول المتخلفة إلكترونيًا، وفي ظل اتساع
المعاملات الدولية للأفراد في عصر العولمة، فإن ثمة مقترحات لتطويرها بحيث تُصبح
هوية مقبولة عالميًا أو كوكبيًا – ذات لغة مُشتركة – من خلال ما يُسمى بالمحفظة
الإلكترونيةDigital Wallet،
وهي بمثابة سجل إلكتروني يحوي كافة الهويات الرقمية للمستخدم
في المجتمع الرقمي، وهي بمثابة نظام بُني أصلاً على أساس رقمي للقيام بالمعاملات
التجارية والبنكية بشكلٍ آمن، ومن خلالها يمكن المصادقة على هوية الشخص في أي مكان
وزمان(Sadiku & Shadare
& Musa, 2015).
أما الهوية الرقمية في عالم الإنترنت فهي تلك
التي نتحدث عنها في إطار المواطنة الرقمية، أي في إطار نشاط المرء على الإنترنت
وتفاعلاته مع الآخرين من ذوي الهويات الرقمية أيضًا. هنا ينطلق المرء في فضاء
إلكتروني متسع، يقفز فيه فوق حدود الهوية الوطنية، والثقافة المحلية، واللغة،
والدين، والتاريخ، وغير ذلك من محددات هويته الأصلية، لتغدو هويته مجرد هوية
افتراضية Virtual Identity
تتغير معها مشكلة الهوية شكلاً وموضوعًا(Carrasco-Sáez
& Careaga Butter & Badilla-Quintana, 2017).
تتجلى
الأزمة هنا في عدة نقاط:
1.
إذا كان مفهوم الهوية يعني الاستمرارية كما أسلفنا، فإن
التغيرات السريعة التي تميز عصر ثورة المعلومات والتكنولوجيا قد أحدثت تآكلاً في
الأسس التي اعتاد الناس على ترسيخ هوياتهم بها. على سبيل المثال، إذا كانت اللغة
العربية مُحددًا ثابتًا لهوية العربي، فقد أدى الاستخدام المتنامي للحواسيب
والإنترنت إلى تآكلها جزئيًا لدى الأجيال الحالية، وظهور ما تُعرف بلغة «الفرانكوآراب»Franco Arab، وهي لغة مستحدثة إلكترونيًا، غير
مُحددة القواعد، وتُكتب بالحروف الأجنبية والأرقام، وإن كانت تُنطق مثل العربية
تمامًا.
2.
في حين أن الأجيال السابقة كانت تتعامل مع تشكيل الهوية
بطريقة واقعية، فقد أصبحت الأجيال الحالية تتعامل معها بطريقة افتراضية. ومن أمثلة
ذلك أن التلاحم الاجتماعي بالمشاعر الحقيقية أصبح إلكترونيًا بلا مذاق (إعجاب، حب،
ضحك، حزن، ... إلخ).وفي ظل افتراضية الواقع تلك يشعر المرء
بالحاجة إلى استنشاق هواء طبيعي نقي، وتملؤه الرغبة في الخروج من عالمه الحاسوبي
المفترض؛ ذلك العالم الأكثر رحابة واتساعًا من عالم الواقع بتجاوزه لحدود الزمان
والمكان؛ غير المقيد باشتراطات وفعاليات اللقاء الحي المباشر، لكنه في الحقيقة
عالمٌ بلا أرض أو سماء، وبلا ماء أو هواء، وبلا شمس تبثدفء الحياة نهارًا، أو قمر يؤنس
ليلاً، أو نجوم يمكن الاسترشاد بضيائها في التيه الحياتي المُظلم! إنه حقًا عالم
الكلمات الجافة الصامتة! قد ينقل الكلمات الأفكار والمعاني، لكنه يُجردها من
أبعادها وسياقها وعفويتها، ويُؤجل تغذيتها المرتجعة؛ وقد ينقل مشاعر الحب والألم
أو السعادة، لكنه ينزع عنها صيرورتها وتدفقها! وقتئذ قد يشعر المرء بالحنينإلى
عالم الحياة، لكنهسرعان ما يعود مصدومًا بعقول تحجرت، ونفوس هرمت وجفت، وإنسانية
تحتضر، وأرض تئن من وطأة أثقالها، وسماء تشفق عليه. وما بين عالم الحاسوب وعالم
الواقع تتنازع الحجج، وتتبارى الحاجات والرغبات، وتتقارب البدايات والنهايات!
3.
أصبح تشكيل الهوية يتم خارج نطاق محيط الأسرة والمجتمع،
بعد أن كان يخضع للمراقبة والتوجيه، ومن ثم تزايدت معدلات الاكتئاب والانتحار
والإلحاد والتطرف، لاسيما بين فئتي المراهقين والشباب!
4.
أصبح لدينا جيلٌ مزدوج الهوية؛ فهو من جهة الواقع جيلٌ
هش وغير راشد نتيجة الفساد المجتمعي وانعدام العدالة وتخلف برامج التعليم خصوصًا
في البلدان النامية، وهو من جهة أخرى جيلٌ فضولي يمتلك القدرة على التكيف مع
العالم الافتراضي بأبعاده العالمية، وسرعة التأقلم مع التعددية الثقافية، حيث
تتهاوي حواجز الحدود واللغة والدين والتاريخ!
5.
في ظل المواطنة الرقمية يتكاثر يوميًا من ندعوهم بمعدومي
الجنسية – أو الهوية الوطنية – ويتشكل أمامنا عالمٌ ليس لأحد فيه أن يدعي أنه
مواطنٌ حقيقي، ينتمي إلى حيزٍ جغرافي وتاريخي بعينه؛ ففي كل مواطن من مواطني
المجتمع الرقمي يكمن غريب أو مجهول!
6.
نحن جميعًا نتحول إلى أرقام – مجرد أرقام تزداد أو تنقص،
تُضاف إلى قواعد البيانات أو تُحذف، وفي عالم المواطنة والهوية الرقمية لا دية
للأرقام، ولا حتى وقفة عابرة للرثاء!
7.
مع كل تصفح للإنترنت يقطع المرء تذكرة سفر مرحلية ينطلق بها
بعيدًا عن هويته، ويفتقد فيها الإحساس الواعي بالذات، وتتلاشى
قدرته على تثبيت هوية الأنا في عالم بلا هويات حقيقية، الأمر الذي يجعل كل ضربة من
إصبعه على لوحة المفاتيح الحاسوبية بمثابة ورقة يانصيب يشتريها ولا يدري إلى أين
تقوده!
8.
في دراسةٍ أجريت سنة 2012 بجامعة جورجيا، تحت عنوان «النرجسية
ومواقع التواصل الاجتماعي»Narcissism and Social Networking
Web Sites، اتضح أن ثمة علاقة وثيقة إيجابية بين النرجسية واستخدام
الفيسبوك. كما أظهرت الدراسة أن أولئك الذين لديهم مستوى عالٍ من النرجسية، والذين
يعانون من انخفاض مستوى الثقة بالنفس، يقضون أكثر من ساعة يوميًا على الفيسبوك.
وذهبت الدراسة إلى أن الاستخدام المتكرر لوسائل التواصل الاجتماعي يرتبط بانخفاض
مستوى الأداء الأكاديمي، لكنه يؤدي في المقابل إلى ارتفاع مستوى احترام الذات
والشعور بالانتماء لمجتمعٍ ما، هو في هذه الحالة المجتمع الرقمي الافتراضي(عثمان،
2019).
9.
في دراسة قدمها «شيري جراسموك» و«جيسون مارتن»و«شانيانغ
تشاو»Grasmuck,
S. &Martin, J &Zhao, S.سنة 2008
تحت عنوان «بناء الهوية في الفيسبوك»Identity Construction on
Facebook، وُجد أن «أنفسنا» التي نقدمها على الفيسبوك كهويات مرغوبة اجتماعيًا
هي تلك التي نطمح في أن نكونها، لكنها ليست حقيقية، بل هوية زائفة(عثمان، 2019)!
10. أخيرًا يُشكل عدم احتواء
برامجنا التعليمية (المدرسية والجامعية) على خُطط وآليات لتدريس عناصر المواطنة
الرقمية جزءًا كبيرًا من الأزمة(Suson,
2019)، وعائقًا يحول دون الدمج الصحيح والملائم للمجتمع المحلي في
المجتمع الدولي، ودون المزج الآمن والمُثمر بين الهوية الثقافية الحضارية من جهة،
والهوية الرقمية من جهة أخرى، الأمر الذي يستوجب ضرورة اضطلاع الحكومات
بمسؤولياتها تجاه شعوبها: تعليميًا في المحل الأول، ثم إعلاميًا ومجتمعيًا
وثقافيًا وسياسيًا.
المراجع
1.
المغاوري محمد الملاح،
تامر (2016). المواطنة الرقمية: تحديات وآمال. ص ص 18 وما بعدها مُتاح على
الإنترنت:
http://emag.mans.edu.eg/media/upload/43/logo_1316266008.pdf
2.
صابر، بحري (محرر) (2019).
شباب اليوم في ظل المواطنة وأزمة الهوية (مجموعة مؤلفين). برلين:
المركزالديمقراطيالعربيللدراساتالاستراتيجيةوالسياسيةوالاقتصادية، ص 141.
3.
صباح، عيش & عبد
المالك، حبي (2018). المواطنة الرقمية وأثرها على الهوية الثقافية (دراسة
نظرية). مداخلة مقدمة إلى مؤتمر ثقافة المواطنة في الجزائر – الواقع والتأسيس،
جامعة الشهيد حمه لخضر – الوادي يومي 27 – 28 فبراير 2018، ص 9.
4.
عثمان، صلاح (2019). البحث
عن معنى. الإسكندرية: منشأة المعارف.
5.
Carrasco-Sáez, J.,
Careaga Butter, M. and Badilla-Quintana, M. (2017). The New Pyramid of Needs
for the Digital Citizen: A Transition towards Smart Human Cities.
Sustainability, 9(12), p.2258.
6.
Culver, S. (2014). Global
Citizenship in a Digital World. Göteborg: NORDICOM, p.19.
7.
Havell,
E. (2019). Digital Citizenship 101. First Ed.
https://www.mdek12.org/sites/default/files/Offices/MDE/OTSS/METIS/2019/Presentations/harvell_digital-citizenship-101.pdf:
Techie Teacher Thoughts.
8.
Iija, V. (2011). An
Analysis of the Concept of Citizenship: Legal, Political and Social Dimensions.
Master’s Thesis. University of Helsinki, pp. 11ff.
9.
Jwaifell, M. (2018). The
Proper Use of Technologies as a Digital Citizenship Indicator: Undergraduate
English Language Students at Al-Hussein Bin Talal University. World Journal
of Education, 8(3), p.86.
10.
Karsenti, T. (2019).
Acting as Ethical and Responsible Digital Citizens: The Teacher’s Key role. Formation
ET Profession, 27(1), p.112.
11.
Kemp,
S. (2019). Global Digital Report 2019 - We Are Social. [Online] We Are
Social. Available at:
https://wearesocial.com/global-digital-report-2019 [Accessed 13 Jan. 2020]. See
12.
Media,
M. (2020). Intercultural Digital Citizenship in the Community. [Online]
Miramedia.nl. Available at:
http://www.miramedia.nl/media/file/DGGMLF/Intercultural-digital-citizenship-in-the-community.pdf [Accessed 18 Oct. 2009].
13.
Reynolds, L. and Scott,
R. (2020). Digital Citizens: Countering Extremism Online - Demos.
[Online] Demos. Available at: https://demos.co.uk/project/digital-citizens/ [Accessed 13 Aug. 2009].
14.
Ribble, M. (2019). Nine
Elements. [Online] Digital Citizenship. Available at: https://www.digitalcitizenship.net/nine-elements.html [Accessed 4 Nov. 2019].
15.
Sadiku, M., Shadare, A.
and Musa, S. (2015). Digital Identity. IJISET - International Journal of
Innovative Science, Engineering & Technology, 3(12), pp. 192 – 193.
16.
Suson, R. (2019). Appropriating Digital
Citizenship in the Context of Basic Education.
International Journal of Education, Learning and Development, 7(4), pp.44-66.