تجدد الصراع بين المخاوف والتحديات .. تونس وإعادة رسم الخريطة السياسية بعد السبسي
كان
لوفاة الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي، في 25 يوليو 2019، الأثر الكبير على المعادلة
السياسية الداخلية والخارجية التونسية في مرحلة الشغور الرئاسي. وبحسب الدستور سيتولى
رئيس البرلمان محمد الناصر، منصب رئيس البلاد بشكل مؤقت، والذي سيتولى إدارة مرحلة
انتقالية صعبة، ووفقًا للدستور التونسي الصادر عام 2014 في الفصل 84 يتولى رئيس البرلمان
منصب الرئاسة مؤقتًا لفترة أدناها 45 يومًا وأقصاه 90 يومًا. وهو ما أعلن عنه رئيس
البرلمان محمد الناصر، الذي سيئول له منصب رئيس البلاد مؤقتًا.
وكان
للرئيس التونسي الراحل السبسي دور سياسي في تحقيق الاستقرار التونسي الداخلي
والنأي بتونس عن التحالفات الإقليمية والدولية التي توقع بها في مرمى التبعية، وما
حققه من توازنات كبيرة انعكست بصورة إيجابية على الحياة التونسية، ولكن برزت في
هذا الإطار بعد وفاته العديد من التحديات من احتمالية تزايد الصراعات التي قد تشهدها
البلاد بعد وفاته، خاصة فيما يتعلق بالانتخابات الرئاسية المقبلة في 15 سبتمبر
2019، وبالاتفاقات المبرمة بين الإسلاميين والعلمانيين.
المشهد الداخلي
يعد
الرئيس الراحل السبسي بمثابة ضمانة رئيسية للانتقال السياسي في مرحلة ما بعد 2011،
كما مثّل عنصر توازن بين مختلف الفرقاء السياسيين وواجهة جلبت التقدير والدعم لتجربة
الانتقال الديمقراطي، وكان أيضًا جسر العبور الذي أمن انتقال تونس من موسم الفوضى والخراب
الأمني والسياسي إلى ضفة الاستقرار -النسبي - وتماسك مؤسسات الدولة، كما انقذ تونس
من الوقوع في سيطرة جماعة الإخوان.
الجدير
بالذكر أن وفاة الرئيس التونسي السبسي تزامنت مع مرحلة صعبة تمر بها تونس فيما
يتعلق بالاستحقاقات الانتخابية الرئاسية والتشريعية، وقد أعلنت الهيئة العليا المستقلة
للانتخابات في تونس عن تقديم موعد الانتخابات الرئاسية إلى سبتمبر المقبل بدلًا من
يوم 17 نوفمبر من عام 2019، وفتح باب الترشح للانتخابات الرئاسية يوم 2 أغسطس، بينما
تبدأ الحملة الانتخابية يوم 2 سبتمبر المقبل، وحتى إتمام ذلك سيتولى محمد الناصر منصب
الرئاسة في تونس.
وتشهد
تونس وتجربتها الديموقراطية مرحلة اختبار جديدة تتعلق أولًا: بكيفية اجتياز المرحلة
الانتقالية من الآن حتى انتخاب رئيس جديد للبلاد بأقل ضرر ممكن، والثاني: يتعلق
بالقدرة على الحفاظ على التفاهمات الواقعية التي أبرمها الإسلاميون والعلمانيون، وإن
كانت هناك العديد من المؤشرات التي تفتح الباب لصراع أشد على السلطة في ظل وضع سياسي
متأزم، من المنتظر أن يشهد المزيد من الغموض خلال المرحلة القادمة بسبب ضعف أداء النخبة
السياسية، واتساع دائرة الصراع على السلطة التي أضحى البعض ينظر إليها كغنيمة في ظل
وضع اقتصادي واجتماعي صعب، وبين فكّيْ واقع إقليمي متقلّب ومضطرب.(1)
لكن المستقبل
القريب يبدو حافلًا بالصراعات؛ حيث تتصاعد صراعات حادّة تنتظر الساحة السياسية في تونس،
فبعد رحيل السبسي وجدت تونس نفسها في مواجهة العديد من الملفات المفتوحة التي أراد
حسمها خلال حياته، لكنها ستؤول الآن إلى الرئيس المؤقت والبرلمان، وتخضع لحسابات فاعلين
سياسيين متنافسين، وخاصة التعديلات المتعلقة بقوانين الانتخابات، وتظل مسألة تطبيق
التعديلات في قانون الانتخابات معلقة، ورهن رغبة الرئيس المؤقت والبرلمان، لكن حتى
في حال دخول التعديلات حيز التنفيذ وإقصاء عدد من الوجوه، ستشهد الانتخابات
الرئاسية تنافسًا حادًا بين مرشحين لهم حظوظ متقاربة، يسعى كل منهم للوصول إلى قصر
قرطاج، رغم الصلاحيات المحدودة لرئاسة الجمهورية، والتي قد تكون منطلقًا لتحالف وطني
جامع بين القوى التقدمية لقطع الطريق أمام أي طرف يحاول أن ينفرد بحكم البلاد أو دخول
التجربة التونسية حالة من التأزم والاستقطاب الداخلي وعلى مستوى علاقاتها
الخارجية.
محاولات الإخوان
للسيطرة
في ظل
حالة الارتباك الذي تشهده تونس عقب وفاة الرئيس الباجي قايد السبسي، بدأ مراقبون للشأن
التونسي يبدون قلقهم من وصول شخصيات إخوانية إلى كرسي الرئاسة، لا سيما أن الرئيس المؤقت
محمد الناصر، يبلغ من العمر 85 عامًا، ويعاني من مشكلات صحية، وعلى الرغم من
الخلافات بين الجانبين العلماني وحركة النهضة التونيسية إلا أن الحركة قدمت نعي
للرئيس التونسي الباجي قايد السبسي، الذي وافته المنية.
وفي
مواجهة محاولات حركة النهضة التونسية للسيطرة على البلاد، أسس الرئيس الراحل حركة
نداء تونس في يونيو 2012، ومنذ ذلك
التاريخ أصبح السبسي الشخصية الأبرز في الساحة السياسية حين كانت البلاد على حافة الدخول
في حرب أهلية بين المعسكرين الإسلامي والعلماني؛ إلا أن السبسي توصل لاتفاق مع زعيم
النهضة راشد الغنوشي لتكوين حكومة كفاءات تصل بالبلاد للانتخابات وصياغة دستور توافقي.(2)
إلا أن عام 2013، شهد العديد من الأزمات السياسية وأعمال
عنف للعديد من التيارات الإسلامية المتشددة، واتفقت النخبة السياسية التونسية
على إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية قبل نهاية 2014، وفي انتخابات 2014 قاد السبسي
حزبه للفوز في الانتخابات البرلمانية، كما فاز السبسي يوم 21 ديسمبر 2014 برئاسة تونس
بنسبة أصوات بلغت 55.68%، ليصبح أكبر رئيس دولة يتولى مهامه وأول
رئيس منتخب بشكل مباشر بعد الثورة، وعلى الرغم من فوز نداء تونس بالانتخابات فإن
السبسي عمل على تشكيل حكومة ائتلافية بمشاركة حزب النهضة التونسي بقيادة الغنوشي،
وتراجع عن مقولته الشهيرة بأن «النهضة والنداء خطان متوازيان لا يلتقيان»، وهذا
الاتفاق جنب تونس حربًا أهلية، وقاد أيضًا البلاد لنيل جائزة نوبل للسلام في 2015،
كنتاج لحوارًا وطنيًّا بين الفرقاء.
وعلى
الرغم من هذه الانتصارات إلا أن حزب نداء تونس ذو التوجه العلماني يشهد العديد من
الانقسامات والانشقاقات الداخلية، فبعد أن كان يستحوذ على 89 مقعدًا وصل عدد المقاعد البرلمانية إلى 37
مقعدًا على خلفية سلسلة ممتدة من الانشقاقات، بالإضافة إلى تزايد الانتقادات إلى
السبسي حول السعي لتوريث ابنه حافظ قائد السبسي، لكنه كان ينفي ذلك ويقول إن من حق
ابنه ممارسة السياسة ولا يمكن إقصاؤه، بالتزامن مع إعلانه عدم الترشح للانتخابات
الرئاسية المقبلة لاعتبارات صحية.
من جانب آخر؛ أكدت حركة النهضة تمسكها باستكمال مسار بناء
الجمهورية وتركيز المؤسسات الدستورية فإنها تدعو كل الشعب التونسي بنخبه ومواطنيه إلى
الوحدة الصماء واللحمة الوطنية، وتعول الحركة كثيرًا على حالة الاضطرابات الداخلية
التي تتعرض لها حركة نداء تونس وتوظيف المشاكل الافتصادية والسياسية للوصول إلى
السلطة، عن طريق توجيه بعض الرسائل المتعلقة بهوية الدولة ومدنيتها؛ في محاولة لطمأنة
الشعب أن النهضة في حال وصولها للرئاسة ستسير على درب السبسي وتجمع الفرقاء، مثلما
فعل الرئيس الراحل في ملتقى باريس عام 2013.(3)
سيناريوهات
محتملة
لا شك أن تونس مقبلة على مرحلة صعبة بعد وفاة الرئيس
السبسي الأمر الذي سينعكس بصورة كبيرة على مستقبل العلاقة بين الأحزاب الدينية
والعلمانية هناك، خاصة وأن هذه المصالحة التي تمت بين الجانبين كانت مبنية بصورة
كبيرة على تواجد الرئيس، ومن ثم فإن هناك العديد من السيناريوهات المحتملة في هذه
المعادلة المتشابكة بعضها يتعلق بالداخل التونسي والبعض الآخر يتعلق بالأوضاع
الإقليمية والدولية، وفيما يلي أبرز تلك السيناريوهات:
السيناريو
الأول: تراجع حزب نداء تونس في ظل الانشقاقات الداخلية للحزب، بالإضافة إلى
الانعكاسات السلبية للأوضاع الاقتصادية على حياة المواطن التونسي العادي، التي قد
تنعكس بصورة كبيرة على إعادة توجيه الأصوات الانتخابية إلى حركة النهضة، خاصة وأن
بداية حزب نداء تونس كانت قوية وجمعت في طياتها العديد من القوى السياسية، التي
كان أهم أهدافها مواجهة الإسلاميين، ولكن عودة ندء تونس بنفس التأثير لا يمكن أن
تكون بصورة مؤثرة خاصة في ظل هذه الشواهد.
السيناريو
الثاني: يتمثل في تمكن حركة النهضة التونسية من توظيف الانشقاقات التي يتعرض لها
حزب نداء تونس وتحالفاته الداخلية، لمحاولة الفوز في الانتخابات المزمع انعقادها
في سبتمبر 2019، خاصة في ظل نخبة سياسية علمانية لا يمكن أن تلبي
احتياجات تونس في هذه المرحلة الانتقالية المضطربة في ظل الانقسامات الداخلية التي
تتعرض لها، كما أن الحالة الداخلية التي سيكون
عليها المشهد السياسي في تونس بعد إنهاء التوافق بين "النهضة" و"النداء"
قبل عام من الانتخابات النيابية والرئاسية المقبلة نهاية 2019، يسير بدوره نحو تفكك
التوافق؛ لأن وثيقتي قرطاج الأولى والثانية باتتا في حكم المنتهيتين.
السيناريو الثالث: يفترض هذا السيناريو وجود شخصية توافقية تونسية يمكن من خلالها استكمال ملامح التجربة الديموقراطية التي بدأتها تونس، ويتجاوز حدة الخلافات الداخلية إلى بلورة مشهد جديد، وعلى الرغم من صعوبة هذا السيناريو إلا أنه يظل أكثر واقعية في ظل حالة الخلاف التي تشهدها تونس بين التيار العلماني والتيار الإسلامي.
المراجع
1) هل تشهد تونس صراعاً على السلطة بين الإسلاميين والعلمانيين
بعد وفاة الباجي قايد السبسي؟، على الرابط: http://www.bbc.com/arabic/inthepress-49125728
2) محمد الناصر.. رفيق درب السبسي يقود تونس في مرحلة
انتقالية صعبة، على الرابط: https://cutt.us/XnAwY
3) الغنوشي: السبسي منع الصدام بين نداء تونس والنهضة..
والمرزوقي يدعو إلى تناسي الخصومات، على الرابط: https://cutt.us/5R9py