محمود حمدي أبو القاسم .. الاحتجاجات الفئوية والتعبئة الاجتماعية في إيران
تصاعدت
حدة التظاهرات الشعبية في الداخل الإيراني بنهاية عام 2018 وبدايات عام 2019،
لتمتد في كافة المحافظات الإيرانية، حاملة معاناة العمال والفئات المختلفة تحت
وطأة المعاناة الاقتصادية والقبضة الأمنية الشديدة للنظام الإيراني، علاوة على
مساحات التهميش والقمع التي طالت عديد القوميات، ولم يسلم منها حتى المواطن
الإيراني العادي من القومية الفارسية، في مشهد مشابه لتظاهرات الحركة الخضراء في
2009.
إن تكرارية عملية الاحتجاجات الفئوية
والتعبئة الاجتماعية والزخم المحيط بها، يطرح عديد من التساؤلات حول ديناميكية تلك
التعبئة وسياقها، وأيضاً محركات تلك الاحتجاجات، وسماتها، وما تحمله من دلالات،
وصولاً إلى مستقبلها في ظل تطورات على الصعيد الداخلي وبنية النظام السياسي
الإيراني -الذي يحمل وجه ثيوقراطي يتمثل في ولاية الفقيه، ووجه آخر يتسم بالتشوه
المؤسسي الوظيفي-، وأيضاً علاقته بالمواطن الإيراني، وبين الإطار الاقليمي ومحددات
التفاعل الإيراني الخارجي مع الولايات المتحدة وأوماته في مساحات متفرقة.
في هذا السياق يأتي الكتاب
الجديد (الاحتجاجات الفئوية والتعبئة الاجتماعية في إيران)،
للباحث المصري الأستاذ محمود حمدي أبو القاسم الباحث بالمعهد الدولي للدراسات
الإيرانية "رصانة"، والصادر عن المعهد في أبريل 2019.
يعد الكتاب من أهم المراجع التي
اهتمت بموضوع الاحتجاجات الفئوية والتعبئة الاجتماعية في إيران؛ وهو اهتم بعملية
التحليل الكمي والكيفي لتلك الاحتجاجات وتطورها، بأسلوب تحليلي دقيق، متناولاً
كافة الجوانب المتعلقة بظاهرتيّ الاحتجاج Protest،
والتعبئة mobilization في الداخل الإيراني. ولعل أهم ما يميز الكاتب هو أسلوب السهل
الممتنع في عرض الأفكار والتسلسل والانتقال من عنصر لآخر في شكل منهجي بحثي
معتمداً على تحليل الأرقام والبيانات وتحليل التطور لعمليات التظاهر ومسحها أفقياً
وعرضياً وفقاً للفئات والقطاع والتوزيع الجغرافي.
ويأتي الكتاب المهم للباحث محمود
حمدي أبو القاسم في خمسة فصول؛ الأول تناول عوامل تطور التعبئة الاجتماعية في
إيران منذ الولاية الثانية للرئيس روحاني، والثاني تناول مقاربة لسمات الاحتجاجات
الفئوية في إيران، والفصل الثالث ركز على تحليل العوامل الأساسية لتصاعد وتيرة
الاحتجاجات الفئوية في إيران، بينما الفصل الرابع ركز فيه أبو القاسم على البحث في
دلالات عملية التعبئة الاجتماعية في إيران، ثم في الفصل الخامس أفرد المؤلف مساحة
لمقارنة مستويات إدراك النظام لتلك الاحتجاجات، ومستوى وصور التعاطي والاستجابة مع
تلك الاحتجاجات، ثم انتهى المؤلف في الخاتمة إلى البحث عن سيناريوهات ومستقبل
ظاهرة الاحتجاجات والتعبئة في إيران من خلال رسم عدد من السيناريوهات المدفوعة
ببعض الحجج والأسانيد.
والمهم في تقسيم أبو القاسم
للكتاب هو عدم الاعتماد على تقسيم شكلي تاريخي تقليدي، وإنما هو قام بالتركيز على
الظاهرة محور التحليل، في سياق مقارن تاريخياً بشكل موارب وغير صريح، وإنما اعتد
على التحليل والمقاربة النظرية التطبيقية بشكل دقيق، مما أثقل نتائج دراسته وانعكس
في تحليله الدقيق لواقع الظاهرة وترجمتها على الأرض والواقع الإيراني.
وقد
اعتمد المؤلف في مقدمة الكتاب على التمهيد اليسير للقارئ المتخصص والعادي في نفس
الوقت؛ حيث عرض لطبيعة النظام ووصف للدولة والمجتمع في إيران، وسياقات التعبئة
والتغيير في ذلك النظام المغلق والمختلف بطبيعته الثيوقراطية الثورية.
وقد
أسس أبو القاسم لذلك، عبر تركيزه للوضع الداخلي حيث رأى أن إيران تشهد عملية تعبئة اجتماعية متسعة ومتواصلة، تعكس بدورها حالة من الإحباط العامّ والتوتر المجتمعي العميق، وذلك على خلفية ضغوط متزايدة يتعرض لها المواطنون خلال السنوات الأخيرة، وتبدو مظاهرها في العديد من الاحتجاجات والإضرابات والاعتصامات والوقفات والمظاهرات. وقد يكون العامل الاقتصادي أحد التفسيرات المهمّة التي يقدّمها المختصّون لحالة التعبئة الراهنة، لكنه على الأرجح ليس العامل الوحيد، فالفعل الاحتجاجي بطبيعته تفسّره عوامل سياسية واجتماعية واقتصادية... تتّسم جميعها بالتداخل والتعقيد.
ولا شك أن عملية التعبئة الاجتماعية الراهنة في إيران ترتبط بعدد من التحولات المهمة التي شهدتها البلاد منذ نهايات القرن العشرين، تلك التحولات التي تغيرت معها بقوة الدفع الاضطراري الصورة النمطية للطبيعة الرعوية للعَلاقة بين الحاكم والمحكومين في إيران، فالمجال العامّ الإيرانيّ، حتى عقدين بعد الثورة، كان خاليًا من "الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين"، بخلاف النخبة الحاكمة من المحافظين والإصلاحيين، اللذين يتبادلان الأدوار داخل النِّظام السياسي، فتصنيف محافظين وإصلاحيين لا يعدّ انعكاسًا لتناقضات أو تمايزات آيديولوجية سياسية على شاكلة ذلك التصنيف السياسي للتيّارات والأحزاب العريقة في البلدان الديمقراطية ذات التوجهات الآيديولوجية اليمينية واليسارية أو النسخ المعدَّلة منهما، بقدر ما هو تنافس بين أطراف تؤمن بذات الآيديولوجيا وتتنافس على خدمتها وبقائها. لهذا لم يكُن تصريح الرئيس الإيرانيّ الأسبق محمد خاتمي المناهض للحركة الاحتجاجية الواسعة التي ضربت البلاد في ديسمبر 2017 بوصفها مؤامرة خارجية مثيرًا للاستغراب، ليس للباحثين والمتابعين وحسب، بوصفه الإصلاحي الذي حدّد النِّظام إقامته، ولكن للشارع المنتفض فعليًّا والذي قد تجاوزت شعاراته ووعيه هذا الجمود الذي طبع السياسة الإيرانية الرسمية بوجهيها المحافظ والإصلاحي على حدّ سواء، وليس أدلّ على ذلك من الشعارات والهتافات المصاحبة لعملية التعبئة الراهنة التي تندد بالتيّارين ورموزهما معًا وتطالبهما بالتنحِّي. ربما ارتبط هذا الخلوّ/الغياب للقوى الفاعلة خلال العقدين اللذين أعقبا الثورة بعديد من الظواهر التي تشارك فيها إيران العديد من الأنظمة السلطوية، من قَبِيل الطبيعة الاستبدادية ووجهها الديني الراهن في إيران، والطائفية، والصراع العرقي، والغرق في نوستالجيا التاريخ) الحنين إلى الماضي) الذي تتشبع به الثقافة السياسية الإيرانية، والصراعات المفتوحة في الداخل ومع دول الجوار والعالمَ.
والعامل الأهمّ من ذلك هو الآيديولوجيا الإسلامية/الشيعية التي صبغت السياسة الإيرانية وجعلت الدين بطاقة ائتمان حقيقية لأي فعل سياسي متسامح معه، في الوقت ذاته الذي أصبح أي نشاط أو طروحات سياسية/اجتماعية على يمينه ويساره محلّ اضطهاد وقمع، فضلً عن أن رباط الدين بين أتباعه مثل قوة عقَدِية وتنظيمية صُلبة في مواجهة أي تيّارات سياسية أخرى، لا سيّما اليسارية منها التي هُمِّشَت منذ الثورة، وهي التي كانت تُعتبر الركيزة المهمَّة في عملية الحراك الاجتماعي التي فقدها المجتمع منذ هيمن رجال الدين على السُّلْطة بعد الثورة.
هذا المشهد الذي تعطل فيه التفاعل السياسي بين القوى الرئيسية
في المجتمع، لا شكّ أنه لم يسمح بأي استيعاب للحركات الاجتماعية
إلا في حدود ضيّقة، فلا نقابات ولا أحزاب ولا مجتمع مدنيًّا قويًّا،
ولا حقّ في التعبير بالدرجة التي تناسب وصف النظام لنفسه بأنه
ديمقراطي، كما أن وجود بعض مظاهر التعبئة على استحياء لم يُتِحْ لها أن تكون ظاهرة محلّ جذب الاهتمام والتناول، فالعَلاقة بين القواعد الشعبية والسُّلْطة اتسمت بالجمود والثبات لفترة طويلة، وكانت اتجاهات التفاعل من أعلى إلى أسفل بصورة غالبة.
لكن الساحة الداخلية الإيرانية منذ منتصف التسعينيات شهدت تحولات مهمّة، وتحديدًا بعد وصول الرئيس محمد خاتمي، الذي امتلك طرحًا مغايرًا في ذلك الوقت، إلى السلطة عام 199 7 وبثه لخطاب إصلاحي في الداخل ومعتدل تجاه الخارج، وتبنّيه برنامجًا سياسيًّا لتوسيع نطاق الحريات العامة والخاصة، مما جذب تأييد قطاعات شعبية واسعة. ورغم أن مشروعه الإصلاحي قوبل بعقبات مؤسسية وسلطوية من مؤسسات الحكم الفعلية التي يهيمن عليها المرشد، لكنه حرّك مياه السياسة الراكدة وفتح المجال للتفاعل السياسي الواسع، وقد كان هذا التناقض سببًا رئيسيًّا في انطلاق احتجاجات الطلبة عام 1999، التي عُدّت أول عملية احتجاجية يقودها الجيل الذي وُلد في ظل نظام ولاية الفقيه، والتي ارتفع سقف شعاراتها إلى المطالبة بسقوط النظام. وقد تواكب مع تلك التحولات تأثر إيران كغيرها من الدول بالعولمة وأدواتها وإرهاصاتها، لا سيّما ظاهرة التهجين السياسي الناجمة عنها.
أولاً- أسباب وعوامل تطوُّر التعبئة الاجتماعية في إيران منذ الولاية الثانية لروحاني
وضع المؤلف جملة من العوامل التي
رأى أنها مسئولة وبشكل مباشر عن عملية التعبئة الاجتماعية في إيران، وأهمها وفقاً
لرؤيته:
1- تراجع معدل النمو واتساع نطاق الفقر: حيث بلغت نسبته 8.5 % بعدما كان قد بلغ مستوى قياسيًّا في 2016، مسجلً نسبة %12 .5، ليصبح 4.2 % مطلع عام 2018، لكنّ بعض خبراء الاقتصاد الإيرانيين، بمن فيهم حسين راغفر، يؤكد أن ثلث سكان البلاد البالغ عددهم نحو 80 مليون نسمة )وتحديدًا 33 %منهم، نحو 26 مليون شخص(، يعانون من الفقر المدقع في إيران، وذلك استنادًا إلى معيار البنك الدولي، الذي يحدّد سقف خط الفقر المدقع بأنه دولار واحد وثمانية سنتات في اليوم.
2- ارتفاع معدل البطالة: ارتفع معدل البطالة في إيران إلى 12 .1 % في الربع الأخير من عام201 8، بينما كان 11 .9 % في الربع الأول من العام نفسه. ورغم أن متوسط معدل البطالة في إيران من 2001 حتى عام 201 8 يبلغ 11 .7 %، لكن هناك جهات أخرى تتحدث عن معدلات أعلى من ذلك بكثير تصل في بعض المناطق إلى قرابة 50 %.
3- ارتفاع معدلات التضخم: وفقًا لأحدث التقديرات التي أجراها ستيف هانك، البروفيسور في جامعة جون هوبكنز بالولايات المتحدة، فإن معدل التضخم السنوي غير الرسمي بلغ في الخامس من سبتمبر 201 8 نسبة 276 %، بينما بلغ التقدير الرسمي لمعدل التضخم الثانوي في نفس الفترة نسبة 10,2 %.
4- الفساد والمحسوبية: تعاني إيران من فساد مالي أرهق ميزانية الدولة وبدّد معه مواردها؛ فالنِّظام في ظلّ سعيه للإمساك بزمام الأمور والحفاظ على بقائه بتركيبته وأيديولوجيته الراهنة، أنفق ثروات طائلة على مشروعات دعائية واستهلك موارد ضخمة على شراء الولاءات، كما ترك الموالين في مراكز صنع القرار يتصرفون في موارد الدولة التي تحت أيديهم بلا حساب وبلا مسؤولية، ونتيجة لعلاقات القربى أفلت عديد من القيادات من الملاحقة بتُهَم فساد وتجاوزات ضخمة، كما أن صعود دور العائلة سياسيًّا خلق تزاوُجًا بين السُّلْطة والثروة، وقد تَورَّط أبناء كبار القيادات الدينية والسياسية في قضايا فساد بالمليارات، وطال بعض الاتهامات أبناء المرشد نفسه، ولم يُحاسَب أحد، وهذا الوضع خلق بلا شكّ أجواء من التنافس على ثروة البلاد بين العائلات وذويهم في مواقع المسؤولية المختلفة ووسع معه من نطاق المحسوبية السياسية والفساد.
جدير بالذكر أن إيران من الدول التي ينتشر بها الفساد بصورة كبيرة، إذ تحتل وَفْقًا لتقرير الشفافية الدولية لعام 201 7 المرتبة 136 من أصل175 دولة، كما كشف استطلاع رأي أجرته جامعة ميرلاند على أكثر من ألف إيرانيّ أن 63.3 % رأوا أن الفساد المحلي هو العائق الأكبر أمام الاقتصاد، وكذلك صُنفت إيران الأولى عالَميًّا للعام الرابع على التوالي من ضمن 146 دولة في العالمَ في قائمة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
إجمالاً، يمكن القول إنّ هناك عوامل داخلية وخارجية شكلت معًا البيئة التي تمدّدت فيها الاحتجاجات الفئوية واتسع نطاقها، حتى وصل الأمر إلى خشية قيادات دينية وسياسية بارزة في النظام من أن تتطوّر وتسقط ولاية الفقيه على غرار نظام الشاه. وتشمل العوامل الداخلية: فشل الحكومة في تطبيق برنامجها الاقتصادي الإصلاحي، واستمرار هيمنة المرشد والحرس الثوري على الواقع السياسي الإيراني، وانعكاسات ذلك على الواقع الاقتصادي الإيراني، وتداعيات تراجع المؤشرات الاقتصادية على حياة المواطنين، سواء كانت عوامل داخلية مثل: غياب العدالة الاجتماعية، والهوة الواسعة بين الأغنياء والفقراء، واتساع نطاق الفساد، والفقر والبطالة، والشعور العام بالإحباط، وتآكل الأطروحات الأيديولوجية للنظام، أو عوامل خارجية مثل: الانخراط في مشروع خارجي توسعي يفوق طاقة القدرات المادية الإيرانية، والاستهداف الأمريكي بالتعاون مع حلفائها الإقليميين والدوليين لسلوك إيران من خلال العقوبات، والانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي، وسعي القوى الإقليمية للضغط على إيران من أجل تعديل سلوكها والكف عن التدخّل في شؤون دول الجوار.
ثانياً- مقاربة لسمات الاحتجاجات الفئوية في إيران
في ذلك الجزء، ركز أبو القاسم على
وضع مقاربة لسمات الاحتجاجات الفئوية؛ من حيث وضع موازين عامة دقيقة تتعلق بالفئات
المحتجة، وسائلها، التوزيع الجغرافي، الكثافة والاستمرارية، ثم تطوير الأساليب
والأدوات، وطبيعة وتطور المشاركة النسوية الإيرانية.
1- الفئات المحتجّة: لا تكاد تكون فئة من فئات المجتمع أو طبقة من طبقاته لم تشارك في موجة الاحتجاجات الفئوية التي اجتاحت الشارع الإيراني منذ مطلع عام 201 8 وما قبله، وبحسب الجدول رقم ؛ فمن بين 489 احتجاجًا في أسبوع واحد من مايو 201 8 كان هناك 33 احتجاجًا عماليًّا، وتسعة احتجاجات للمودعين المنهوبة أموالهم، وأربعة احتجاجات للمتقاعدين، وحالة واحدة من احتجاجات المعلمين، وأربعة احتجاجات طلابية، وثلاثة احتجاجات للسجناء السياسيين، و 406 احتجاجات من قِبل سائقي الشاحنات، و 29 احتجاجًا من قِبل قطاعات أخرى من المجتمع.
يعدّ العمّال أكثر الفئات مشاركة في الاحتجاجات، وقد سبقت الإشارة إلى تنظيمهم قرابة ألفَي احتجاج عام 201 7 ما بين إضرابات ومظاهرات، إضافة إلى 17 احتجاجًا فقط في اليوم الأول من مايو 201 8 بمناسبة عيد العمال.
2- وسائل الاحتجاج: تنوعت وسائل الاحتجاج، ويعدّ أبرزها المظاهرات سواء في أماكن العمل أو أمام المؤسسات والهيئات الرسمية، بجانب الوقفات الاحتجاجية، وقد تطوّرت بعض تلك الاحتجاجات لتأخذ طابعًا أكثر حدّة وعنفًا، فتمت في بعض المظاهرات والاحتجاجات مهاجمة المنشآت والتعدي عليها، فضلً عن قطع الطرق وقطع خطوط السكك الحديدية.
3- التوزيع والانتشار الجغرافي: ترتفع أصوات المحتجّين في كثير من المدن والمناطق، فالاحتجاجات تنتشر بشكل أفقي. وتعدّ طهران العاصمة من أكثر المناطق التي تشهد احتجاجات، وذلك لمركزيتها السياسية، ونشاط العديد من القوى المعارضة بها، كما أن أصفهان تعدّ مركزًا رئيسيًّا للحركات الاحتجاجية ذات الطابع الفئوي، لا سيّما من جانب المزارعين المتضررين من أزمة نقص المياه والتي تؤثر على مصدر دخلهم الرئيسي.
والحال كذلك في بعض المدن التي تعتمد على الأنشطة الصناعية والتجارية، حيث الوجود المؤثر للتجار من صناع السجاد، ومربي الدواجن المتضررين من سوء الأوضاع المعيشية وارتفاع تكاليف مستلزمات الإنتاج، نتيجة تراجع سعر صرف العملة. كما تنتشر الاحتجاجات في مناطق الأقليات، لا سيّما في مناطق الأطراف، حيث تقطن الأقليات التي تعاني من اضطهاد وتهميش من جانب السلطة. ويعبر هذا الانتشار المتسع لرقعة الاحتجاجات عن الطبيعة العامة للأزمة وتداعياتها على كل المناطق ومختلف القطاعات والمستويات في الدولة.
4- الكثافة والاستمرارية: من الواضح أن قمع قوّات الأمن لمظاهرات ديسمبر 201 7 / 18 لم يؤدِّ إلى إنهاء حالة الاحتجاج، إذ على ما يبدو غيّر المتظاهرون التكتيكات وانتقلوا من الاحتجاجات على مستوى البلاد إلى أعمال التحدي اليومية المتكررة المنتشرة في العديد من البلدان والمدن. وقد توقع الإصلاحي سعيد حجاريان ذلك في 24 يناير 201 8 بقوله: «إنّ الاحتجاجات مثل موجة البحر يمكن أن تتوقف لكنها ستعود أقوى »، وهو ما يحدث بشكل يومي وتراكمي اليوم في الشارع الإيراني.
وقد رصدت بعض التقارير خلال النصف الثاني من مايو 201 8، وتحديدًا بين 20 و 27 مايو 201 8، ما يقارب 489 احتجاجًا في مدن مختلفة من إيران، أي بمعدل 69 احتجاجًا في اليوم . والواقع أن هذا الحراك لم ينقطع منذ مطلع عام 201 8، ورغم أنه لم يكن على وتيرة واحدة لكن لم يمرّ أسبوع منذ ذلك التاريخ ولم تشهد أي من المناطق احتجاجات من جانب المواطنين. وهذه المتوالية الاحتجاجية هي مشهد تتصاعد حدّته مع الوقت، لا سيّما في ظل عدم الاستجابة لمطالب المحتجّين، فضلً عن تزايد الضغوط الداخلية والخارجية وتأثيرها على أوضاع المواطنين المعيشية وعلى قدرة النظام نفسه على التعاطي معها بإيجابية.
لكن منذ منتصف مايو 201 8 تحديدًا بدأت تتصاعد وتيرة الاحتجاجات، وتكاد تكون بصفة يومية، فضلً عن أن بعضها قد أخذ صورة إضرابات متقطعة أو متواصلة.
5- تطوير التكتيكات والأساليب: تبدو الاحتجاجات ذات الطابع الفئوي أكثر تنظيمًا باعتبارها تعكس تحديًا مشتركًا لمجموعة من الأشخاص الذين يعانون من مشكلة ما أو ظلم محدّد، كما تواجه تحدي المجتمع غير المؤطر والذي لا يملك مؤسسات وسيطة فاعلة ومستقلة للتعبير عن فئاته وشرائحه وتكتلاته . ومنذ أواخر يناير 201 8 طوّر المحتجّون تكتيكاتهم وأساليبهم، واستخدموا أداة التعهيد الجماعي الآمنة secure crowdsourcing tool على شبكات الإنترنت، لإعلام بعضهم بعضًا بالاحتجاجات المخططة، وتحقيق التعبئة والحشد، فضلاً عن التحذير من أماكن انتشار قوّات الأمن، إضافة إلى نشر التفاعلات على وسائل الإعلام في الداخل والخارج.
إلى جانب ذلك، قدمت بعض الحالات استثناءات مهمة في ما يتعلق بالعمل المنظم على المستوى الوطني، على غرار مجلس تنسيق نقابات المعلمين الذي دعا أعضاؤه في 10 مايو 201 8 إلى التظاهر والاحتجاج أمام منظمة التخطيط والميزانية في طهران، وأمام إدارات التعليم في المحافظات.
6- كثافة المشاركة النسوية: شهد العديد من الاحتجاجات حضورًا للعنصر النسائي بصورة لافتة للانتباه، وتاريخيًّا لعبت المرأة دورًا مهمًّا في الثورات التي شهدتها إيران خلال القرن الماضي سواء الثورة الدستورية عام 190 6 أو ثورة عام 1979، وخروج المرأة في الاحتجاجات الراهنة تقف خلفه مظالم خاصة بالعنصر النسائي، فنجد على سبيل المثال أن معدل البطالة بينهن يتضاعف، فبحسب ما نشرته صحيفة «روزنامه شرق » التي تديرها الدولة في 9 مايو 201 7 فإنّ «سياسة حكومة روحاني قد تسببت في خروج 860 ألف امرأة من العمل خلال ثماني سنوات ». كما نقلت صحيفة «سيروز » الحكومية عن وزير العمل في 3 سبتمبر 201 7 تصريحًا مفاده: «ارتفاع معدل البطالة بين النساء إلى خمسة أضعاف خلال السنوات العشرين الماضية. فعلى ما يبدو أن المرأة تعاني تهميشًا كبيرًا في ظل النظام الديني الذي يحجب عن النساء الكثير من حقوقهن باسم الدين، لكنها رغم ذلك تمكنت من حجز مساحتها في المجال العام من خلال نشاط مكثف للدفاع عن حقوقها، وتمكنت في بعض الحالات من تحقيق مكتسبات في ظل القيود والتهميش الذي تعانيه في ظل غياب المواطنة.
على هذا تواجه النساء في إيران مجموعة من العوائق القانونية والاجتماعية، لا تقيد حياتهن فحسب، بل تقيد سبل عيشهن أيضًا، تسهم بدورها في تحقيق نتائج اقتصادية غير متساوية بشكل صارخ. وعلى الرغم من أن النساء يشكلن أكثر من 50 % من خريجي الجامعات في إيران، فإن مشاركتهن في القوى العاملة لا تتجاوز 17 % بحسب بيانات 2015 . ويصنف تقرير الفجوة العالمية بين الجنسين لعام 201 5، الذي أعده المنتدى الاقتصادي العالمي، إيران بين الدول الخمس الأخيرة ) 141 من أصل 145 ( للمساواة بين الجنسين، بما في ذلك المساواة في المشاركة الاقتصادية، وتحديدًا تبلغ نسبة البطالة بين النساء ضعفَي معدلات البطالة بين الرجال.
ثالثاً- عوامل تصاعد وتيرة الاحتجاجات الفئوية
رصد أبو القاسم مجموعة من العوامل
التي حملت مسئولية تصعيد وتيرة الاحتجاجات وتناميها؛ وأهمها متعلق بالعدالة
الاجتماعية، أزمة المياه، مدى كفاءة الحكومة بالقيام بالدور الخدمي، ومعدلات
البطالة ودرجة الإحباط، سياسات الحكومة ومدى اختلالها، أزمة العملة والتضخم،
سياسات الخصخصة الممزوجة بالفساد، وإفلاس مؤسسات الدولة.
1- غياب العدالة الاجتماعية وعدم وفاء جهات العمل بالتزاماتها المادية والوظيفية: تمثل الطبقات الدنيا والمتوسطة ممن سقطوا في الغالب تحت خط الفقر خلال السنوات الأخيرة في إيران المحرك الرئيسي للاحتجاجات الفئوية الراهنة، فهؤلاء يعانون من تدهور أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، ولم
يعُد لديهم القدرة على مواكبة التضخم وارتفاع الأسعار، يمثل هؤلاء العمال والمتقاعدون وأصحاب المعاشات وصغار الموظفين والمعلمون والفلاحون، إلخ.
تمحورت مشكلة تلك الفئات في أغلب الاحتجاجات التي نظموها حول الأمن الاقتصادي والاجتماعي، مطالبةً بتحسين الأجور أو دفع الرواتب المتأخرة لمواكبة الظروف الاقتصادية المستجدة، إذ عجزت بعض المؤسسات العامة أو الخاصة عن دفع الأجور لستة أشهر متواصلة، كما هو الحال بمجمع هيبكو الصناعي في وسط مدينة أراك بمحافظة أراك، الذي احتجّ فيه العمال في 14 مايو 201 8 بسبب عدم تقاضي رواتبهم لثلاثة أشهر.
2- الإخلال الحكومي بمبدأ عدالة توزيع المياه: كان لملف المياه دور في كثير من الاحتجاجات التي شهدتها إيران خلال الفترة الأخيرة، إذ لم يمنع تسلط النظام وضيق مساحات التعبير عن الرأي في الفضاء العام المواطنين الإيرانيين من الخروج للاحتجاج والتظاهر على خلفية أزمات متعلقة بالحقوق المائية للسكان، إذ شهد العديد من الأقاليم والمحافظات خروج عشرات المظاهرات والاحتجاجات المتواصلة. وخلال الأشهر الخمسة بين مارس وأغسطس201 8 شهدت إيران قرابة عشرين مظاهرة احتجاجية مرتبطة بأزمة المياه وحدها، وذلك بحسب ما صرح به وزير الداخلية الإيراني عبد الرضا رحماني فضلي في 3 أغسطس 201 8، وكانت هذه الاحتجاجات في كل من مدينة أصفهان عاصمة محافظة أصفهان، ومدينة برازجان بمحافظة بوشهر، ومدينة كازرون في محافظة فارس، ومدينة ياسوج في محافظة كهكيلويه وبوير أحمد، ومدينة سمنان بمحافظة سمنان.
وتبدو الأزمة عميقة إذا أخذنا في الاعتبار تحذيرات المنظمات الدولية من خطورة الوضع المائي في إيران ودخول عدد من المدن مرحلة شح المياه، أهم هذه المدن هي: كرمان ورفسنجان وزرند، فضلاً
عن أن 12 مدينة أخرى كانت مرشحة أن تدخل تلك المرحلة خلال العام الجاري201 8، هي: راين وماهان وتشترود وكاظم آباد وزنغي آباد واختيار آباد وريغان وبلوك وراور وكهنوج ومردهك وحسين آباد، وجميعها إضافة إلى عشرات القرى بمحافظة كرمان.
وقد وصلت أزمة المياه إلى مرحلة خطرة باتت تهدد حياة السكان، وتتحمل الحكومة أمام المواطنين المسؤولية عن هذا الوضع، سواء من
خلال تبنيها لمشروعات أثرت على الوضع المائي بقصد، أو من خلال سياستها التمييزية لمناطق على حساب مناطق أخرى، أو نتيجة فشلها في تطوير البني التحتية، وتحقيق التنمية المستدامة والمتوازنة بما يحفظ للإيرانيين حقهم في المياه اللازمة لنشاطهم الاقتصادي وللشرب، لهذا تعدّ الاحتجاجات المتعلقة بالمياه من الاحتجاجات التي تشهد كثافة وزخمًا واستمرارية خلال المرحلة الأخيرة.
3- تزايد الأعباء الحكومية وتدني مستوى الخدمات العامة: لم يعُد باستطاعة المواطن الإيراني أن يواجه الأعباء المادية التي تفرضها الحكومة على عاتقه، لهذا خرجت مظاهرات معبرة عن الغضب من زيادة رسوم العبور على الطرق، وارتفاع أموال التأمينات، وتعد إضرابات سائقي الشحن واحدة من المظاهرات الاحتجاجية المستمرة بسبب تزايد تلك الأعباء وعدم القدرة على الوفاء بها .
في الوقت ذاته، لا يجد المواطنون مردود هذه الأعباء على الخدمات العامة التي تقدمها الحكومة لهم، بل يعانون من تدني مستوى تلك الخدمات العامة، كانقطاع الكهرباء والمياه لفترات طويلة، وتلوث مياه الشرب، ونقص الوقود.
4- البطالة والإحباط: "الموت للبطالة » كان شعارًا رفعه المتظاهرون في مدينة شابور بمحافظة أصفهان في وسط إيران في الأول من أغسطس 201 8، مع أن تلك المنطقة يفترض أنها تصنف كمركز تجاري وصناعي مهمّ تتوافر فيه مقومات التشغيل واستيعاب الطاقات الإنتاجية، بخلاف مناطق أخرى تعاني تهميشًا وافتقادًا لبرامج التنمية؛ فإنه من المتوقع خروج مزيد من الاحتجاجات على خلفية انعدام فرص العمل، خصوصًا بين فئات الجامعيين الذين يوجد بينهم عاطل من بين كل ثلاثة. ويوضح الرسم البياني ارتفاع معدل البطالة بين الفئات العمرية من 15 إلى 29 سنة بنسبة 50%.
5- السياسات الحكومية الجائرة: مثلت بعض القرارات الحكومية عاملً مؤججًا لغضب بعض شرائح المجتمع، فعلى سبيل المثال تظاهر الأطباء وأطباء الأسنان وطلاب كلية الطب وط اب البكالوريوس والدراسات العليا في حقول أخرى في العاصمة طهران في 13 يونيو 201 8 احتجاجًا على تمييز الطلاب المنتمين آيديولوجيًّا إلى النظام بإعطائهم درجات إضافية
6- أزمة العملة وتَضرُّر مصالح التجار والمستثمرين: تعرضت العملة الوطنية )الريال) لهزات عنيفة، وتراجعت قيمتها بمقدار ثلاثة أضعاف في مواجهة الدولار خلال النصف الأول من عام 201 8، كما شهدت تراجعًا آخر بين 1 يوليو حتى 2 سبتمبر 201 8، وقد تسببت تلك الهزات في حالة ركود وشح العملة الصعبة اللازمة للمعاملات التجارية، وعلى إثر تلك التطوّرات انضمت إلى الحركة الاحتجاجية قطاعات جديدة من الطبقات الوسطى والوسطى العليا، التي كانت تظن أنها كانت بمنأى عن التأثيرات الاقتصادية وأنها المستفيد الأهمّ من سياسات الرئيس روحاني الإصلاحية ذات التوجه الليبرالي، وقد قاد تجار البازار هذه الاحتجاجات التي استمرت من 31 يوليو حتى5 أغسطس 201 8، وأغلق خلالها البازار الكبير وسار المتظاهرون إلى مبنى البرلمان للتعبير عن استيائهم، وامتدت المظاهرات إلى العديد من المدن الإيرانية الأخرى
في تجمعات احتجاجًا على نقص وارتفاع مستلزمات الإنتاج من الحبوب
وغيرها وزيادة رسوم التأمين وانخفاض أسعار الدواجن وسوء إدارة هذه الصناعة الكبيرة، التي أدت إلى العديد من حالات الإفلاس وأسهمت في تدمير الصناعة، كما توجه بعضهم إلى طهران لإيصال صوتهم إلى الحكومة.
7- ضياع أموال المودعين بعد إعلان إفلاس المؤسسات المالية: لا يزال العديد من الوقفات الاحتجاجية مستمرًّا منذ إعلان عدد من المؤسسات المالية إفلاسها في منتصف عام 201 7، وضياع أموال المودعين بها، فبين حين وآخر ينظم المودعون وقفات احتجاجية. ففي 1 مايو 201 8 تظاهر في طهران المودعون لدى مؤسسة كاسبين المالية، التابعة للحرس الثوري الإيراني التي أعلنت إفلاسها في وقت سابق، مطالبين باستعادة الأموال ومتهمين الحكومة بالتقصير في ملاحقة المسؤولين عن هذه الشركة ومساءلتهم.
8- التداعيات السلبية لتطبيق برامج الخصخصة: تمثل الاحتجاجات في بعض صورها وسيلة لمقاومة الخصخصة التي تنتهجها الحكومة تجاه بعض الشركات الكبرى، فلدى الموظفين خوف على مكانتهم الوظيفية ومصالحهم المادية، وما زالت إدارة روحاني تصرّ على تقليص قوة العمل الحكومية من خلال الترويج لخصخصة شركات القطاع العام، لهذا وقف العمال في العديد من المجمعات الصناعية في إيران، بما في ذلك الشركات التي تم تخصيصها مثل هيبكو، وبولي أكريل، ومصنع كروي، وهفت تابي شوكار كان، وأزراب، ضد هذه السياسة وطالبوا بإعادة الشركات إلى القطاع العام، لأن الشركات التي تمت خصخصتها لا تدفع الأجور بانتظام، كما أن المشكلات تتفاقم عندما يتجه المالكون الجدد إلى تقليص حجم العمالة في المؤسسة، ودون دفع تعويضات مناسبة، وغالبًا ما يحصل ذلك لأن غرض المستثمرين من وراء شراء شركة مملوكة للحكومة هو الاستفادة من الأصول، واستغلال الأرض لمشروعات استثمارية أخرى. ومِن ثَمّ يمكن القول إنّ بعض الاحتجاجات تندلع، لأن برامج الخصخصة أدت إلى تآكل شبكة الأمان الاجتماعي والاقتصادي للعاملين بها.
رابعاً- دلالات عملية التعبئة الاجتماعية في إيران
كان ذلك التأسيس السابق مهماً للغاية
لكي ينتقل أبو القاسم إلى محاولة معمقة لفهم دلالات تلك التعبئة وانعكاساتها
بالنسبة للنظام وفي تطور العلاقة بين الفرد والدولة والمجتمع. حيث وصل الفرد فيها
إلى انعدام الثقة والأمل في النظام وسياساته .. "استياء المواطن الإيراني وصل إلى السماء "، كانت تلك مقتطفة من رسالة الرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد إلى المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي في نوفمبر 8 201. فقد حملت مخرجات تلك التعبئة وهذا الاحتجاج المستمر، عدداً من
الدلالات الخطيرة شملت تآكل أيديولوجيا النظام وتهديد احتكار السياسة بالدين،
وتصدع الرابط بين البازار والحوزة، وسقوط القدسية والهيبة، وكسر حاجز الخوف، ولفظ
الجماهير للنخبة السياسية على تنوعاتها، وصراع الإعلام الموازي مع قضية الوعي
العام، فضلاً عن طرح إشكالية غياب البديل السياسي.
1- تآكل البنية التحتية لآيديولوجيا الحكم ونهاية احتكار السياسة باسم الدين: "يسقط مبدأ ولاية الفقيه"،» هذه هي الرسالة الأخيرة.. نحن نستهدف النظام بأكمله « ،» الجمهورية )الإسلامية(.. لا نريد.. لا نريد « ،» الملالي يعرفون ذلك.. سيتم إسقاطهم قريبًا »، هذه نماذج من الشعارات المتداولة في الاحتجاجات الإيرانية، تعكس بدورها مدى تآكل آيديولوجيا ولاية الفقيه، ومدى تراجع إيمان المواطنين بالفكرة التي طرحها الخميني وحوّلها إلى نظام للحكم التقليدي بعد الثورة عام 1979.
2- البازار يحتجّ.. والحوزة قلقة: للمرة الأولى يواجه النظام الإيراني التحدي الخارجي الذي لطالما تمكّن من القدرة على التعامل معه منذ اندلاع الثورة عام 1979 دون تماسك داخلي قوي بين الكتل الصلبة المكونة والداعمة للنظام، فمن جانبٍ أعطى خروج البازار في مظاهرات استمرت لعدة أيام في العاصمة طهران مؤشرًا على بوادر تفكك التحالف التاريخي بين رجال الدين والبازار، لا سيّما بعد أن خرجت المظاهرات في مطلع أغسطس 201 8، لتنتقل العملية الاحتجاجية إلى مرحلة مختلفة عن سابقتها من جهة ثانية هناك بوادر قلق داخل الحوزة، بعدما أصبح للسلطة السياسية/الدينية ممثلة في المرشد هيمنة واسعة عليها، الأمر الذي أثر على استقلاليتها ومكانتها حتى وصل الأمر إلى وجود معارضة داخل الحوزة لفكرة ولاية الفقيه ذاتها، بجانب نداءات بدأت تتعالى بفصل الدين عن السياسة، وفصل الحوزة عن خط الثورة، والعودة إلى الدرس الفقهي والدور الاجتماعي، بل أبعد من ذلك بدأت القومية تجد من يروّج لها بين المراجع كبديل لولاية الفقيه.
إنّ الحوزة في ظل تلك الظروف تخشى أن تتحمل خطايا النظام وأخطاءه السياسية، لهذا تعالت أصوات من داخل الحوزة تحذر من عواقب الوضع الراهن ومن خطورته.
إجما لاً، يمكن القول إنّ النظام في مرحلة متقدمة قد يصبح في المستقبل بلا غطاء ديني من الحوزة ولا غطاء طبقي من الطبقة الوسطى العليا ممثلة في البازار وكبار المستثمرين إذا ما تدهورت الأوضاع نحو الأسوأ، لا سيّما أن خياراته الراهنة للتعامل مع أزمته الداخلية والخارجية مكلفة على أي حال، وتستلزم تنازلات قد لا يتحملها هو كما قد لا يتحملها حلفاؤه، خصوصًا أن أغلب التيارات الدينية الإيرانية لا يزال يؤمن بنظرية "فقه الانتظار”، وترفض -في مُجمَلها- فكرة المشاركة السياسية في غياب المعصوم، لا سيما في ظلّ “تَغوُّل السلطة السياسية على استقلالية الحوزة.
3- نهاية الهيبة وسقوط القدسية: في أحد ملاعب كرة القدم هتفت الجماهير ب «الموت للديكتاتور » في صرخة مدوية في الفضاء العام، مما دفع الأمن لمهاجمة الجماهير،
وبالقرب من طهران العاصمة انطلق عدد من المحتجّين وهم يهتفون بشعارات مناهضة للحكومة في الرابع من أغسطس 201 8، مستهدفين إحدى الحوزات في بلدة اشتهارد الشمالية بمحافظة البرز بالحجارة، مع محاولة كسر أبوابها وإحراقها. ويحمل هذا الحدث رمزية خاصة، إذ تعدّ الحوزة مكانًا لتلقي التعاليم الدينية الشيعية، وكأن المتظاهرين قد تزعزع إيمانهم بدور الحوزة الديني نتيجة التحولات التي شهدتها منذ أن أصبحت لاعبًا سياسيًّا في ظل آيديولوجيا ولاية الفقيه التي يتبناها النظام.
وإذا ما ربطنا ذلك بمهاجمة مكاتب رجال الدين وخطباء الجمعة في مظاهرات 201 7 / 201 8 فإنّ دلالة المكان تعطي صورة كافية عن المدى الذي وصل إليه الغضب من القيادات الدينية المتحكمة في حياة المواطنين الإيرانيين. يؤكد ذلك ما اعترف به الملا درى نجف آبادى إمام صلاة الجمعة في أراك وعضو مجلس الخبراء ووزير المخابرات السابق من أن المتظاهرين قد هاجموا منزله في 17 يناير 201 8، كما أن غياض الدين طه محمدي، إمام الجمعة في همدان، اعترف بأن 60 مكتبًا من مكاتب أئمة الجمعة قد تعرضت للهجوم في 12 يناير 201 8، وأن كثيرًا من المكاتب الخاصة برجال الدين تعرضت للهجوم في معظم المدن في إيران، وذلك وسط اتهامات من المتظاهرين لرجال الدين والأئمة بالفساد والتبعية للمرشد.
إلى جانب ذلك، أصبحت شعارات سقوط النظام وسقوط المرشد ورئيس الجمهورية سمة رئيسية لكل مظاهر الاحتجاج التي تشهدها إيران، إلى جانب انتقاد سياساته الخارجية وأهمها التدخّل الخارجي وانعكاساته السياسية والاجتماعية على الداخل الإيراني، كما أن شعارات "الموت لأمريكا" التي يقتات عليها النظام لتبرير سياساته وتبرير إخفاقاته وتواضع أدائه الاقتصادي أصبحت في مهبّ الريح بعدما أطلق المتظاهرون شعارات «عدوّنا هنا.. إنهم يدّعون زورًا أنها الولايات المتحدة »، معتبرين الولايات المتحدة ليست عدوًّا على غرار ما يردد النظام.
4- كثافة التعبئة وكسر حاجز الخوف: رغم أن كثيرًا من الإيرانيين قد أيدوا مظاهرات ديسمبر 201 7 لكنهم لم يشاركوا فيها خوفًا من التعرض لبطش النظام، غير أن الزخم الذي تشهده الاحتجاجات في المرحلة الراهنة يعكس كثيرًا من التحرر من حالة الخوف المهيمنة على المجتمع منذ عام 1979، فالاحتجاجات تتسع، ويتنوع المشاركون فيها وتتحول تدريجيًّا من طابعها الفئوي نحو العمل الجماعي، لا سيّما بعد مشاركة البازار والانضمام إلى المظاهرات، بل الدعوة إليها وتنظيمها، وذلك على الرغم من القمع والقبضة الأمنية التي يتسند إليها النظام في مواجهة المحتجّين.
كما أن الخروج اليومي للتظاهر والاحتجاج يعدّ تحديًا للنظام، وفضلً عن أن المواجهات المتكررة وسقوط الضحايا تمثل كرة ثلج تعزز من الفعل الاحتجاجي وتخلق مبررات جديدة لاستمراره، فإنها من جهة أخرى تمرين للمحتجّين، وقد شهدت بالفعل بعض المظاهرات انضمام مواطنين إليها وتضامن آخرين، وذلك على خلفية حالة سخط وإحباط عام لدى الجميع من الوضع المتدهور سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا.
5- التشكيك في النخبة بجناحيها وتزايد الطلب على التغيير الجذري: "يسقط خامنئي مع روحاني «،» نحن لا نريد دولة يحكمها رجال الدين.. كلهم خونة « ،» إصلاحيون متشددون.. انتهت اللعبة « ،»الجمهورية الإيرانية.. كفى.. كفى « ،» الاستقلال.. الحرية.. الجمهورية الإيرانية « ،» لا نريد موسوي ولا خامنئي.. لا نريد سيئًا ولا أسوأ « ،» نهبنا باسم الدين ».. هذه هي عينة من الشعارات السياسية التي يرفعها المتظاهرون والمحتجّون في إيران منذ مطلع عام 201 8، تعكس جميعها نهاية الإيمان لدى الجموع المحتجّة بصلاحية شكل الدولة الإيرانية على وضعها الراهن، بل تطرح البديل الوطني، وهي الجمهورية الإيرانية. كما تعكس إدراكًا بحقيقة تبادل الأدوار داخل النخبة الحاكمة ومخادعة المواطنين من خلال انتخابات يقدم فيها المواطنون على الاختيار بين رَجُلَي دين كلاهما يخدم ذات الفكرة ويخدم ذات الآيديولوجيا، لهذا اعتبروا مير موسوي المعارض الذي يفرض النظام عليه إقامة جبرية كخامنئي المرشد والحاكم الفعلي، فكلاهما، لدى المحتجين، سيِّئ، ولعل تزامن هذه الأوضاع المعيشية الصعبة مع وجود ممثل للإصلاحيين على رأس السلطة وهو روحاني والتوظيف السياسي من جانب المحافظين للإخفاقات على أنها بسبب سياسة الإصلاحيين، جعلت الخسارة الكبيرة من نصيب الإصلاحيين.
إجمالاً، تبرهن الاحتجاجات والشعارات المرفوعة فيها على تزايد الرفض العام للنظام القائم، وتؤكد جغرافيا الاحتجاج الواسعة من جهة، والجهات المخاطبة بالشعارات والمكاشفة من سياسيين ورجال دين وقوّات
حرس وبسيج وغيرها من جهة ثانية، والنقد العام للسياستين الداخلية والخارجية للنظام من جهة ثالثة، والغضب العام المتنامي من جهة أخيرة، وجود رفض عام للنظام بكامله.
6- غياب البديل السياسي مع توافر فواعل ومحفزات الثورة: تحاول بعض أطراف المعارضة اليسارية وأطراف محسوبة على أسرة الشاه القفز على المظاهرات، لكن يبدو من طبيعة المظاهرات وما ترفعه من شعارات أنها تخلو تمامًا من أي مظهر أو إشارة للتعبير عن دور لهذه الأطراف، فالواضح أن الإيرانيين تواقون إلى مستقبل بعيد كل البعد عن الماضي بكل صوره وأشكاله، فالفجوة بين عموم المواطنين الفقراء وتلك الأطراف كالفجوة بينهم وبين النظام القائم، لهذا لا وجود لهؤلاء على
الأرض، وعندما هتف بعض المتظاهرين في مشهد: «رضا شاه قد تكون روحك في س ام »، رد متظاهرون آخرون هتاف: «ليس لدينا آلية للرجوع للخلف »، في إشارة إلى رفض أي بدائل رجعية، فالإيرانيون بصدد البحث عن بديل لكنه لم يتبلور بعد.
المؤكد أن الاحتجاجات بطبيعتها تتزايد على خلفيات اجتماعية واقتصادية وسياسية، ولها طابع عفوي في أغلبيتها، كما أنها غير مؤدلجة وبلا قيادة فعلية، وربما أنشأ هذا الحراك عمليات تختمر خلالها الأفكار، أو تدريب قد تخرج من تحت عباءته القيادة الحقيقية المعبرة عن طموح كل هذه الأطراف المحتجّة، كما أن المحتجّين لا يرغبون في أن يحسبوا أنفسهم على أي طرف قد يستغلّه النظام للترويج لنظرية المؤامرة التي اعتاد عليها في مواجهة أي حراك شعبي، بل على العكس فإن بعض أطراف المعارضة اعتادت منذ احتجاجات الطلبة عام 1999 على استثمار الحراك في الداخل من أجل ممارسة مزيد من الضغوط على النظام وأملً في تحول الحراك إلى عملية ثورية تطيح بالنظام.
7- بروز دور الإعلام الموازي وتزايد الوعي العام: رغم أن السلطات تفرض هيمنتها على المجال العام وتصادر مساحات الحرية والحركة في المجتمع من خلال القمع، لكن لعبت وسائل ووسائط التواصل الآمن من خلال آليات وتقنيات مختلفة دورًا في خلق صراع وتحدٍّ بين السلطة وشريحة واسعة من المجتمع، من ضمنهم الشباب والنساء المتعلمات، وهؤلاء الأكثر تداولً للإنترنت في إيران عبر شبكات التواصل، ووفقًا للجدول أدناه فإنّ آخر البيانات الدولية تشير إلى أن 56.7 مليون مواطن يستخدمون الإنترنت في إيران بمعدل 69.1 % من السكان، كما يملك قرابة 50 مليون مواطن أجهزة محمولة ساعدتهم في أن يكونوا أطرافًا في النقاش العام، وساعدتهم في الحشد والتعبئة ومواجهة قوّات الأمن في أثناء المظاهرات، فضلً عن بث حراكهم ومخاطبة الرأي العام الداخلي والخارجي، كما أتاحت التواصل بين كل أطياف المعارضة.
خامساً- النظام الإيراني والتعبئة الاجتماعية
.. مستويات الإدراك وصور الاستجابة
يعد
هذا الجزء من أهم المناطق التحليلية في الكتاب، حيث يتجاوز المؤلف فيها دور الوصف
والرصد إلى محاولة فهم هذا التعاطي وذلك السلوك الذي حكم النظام في أولاً مستوى
إدراكه لتلك الاحتجاجات والتعبئة، وكيف وجدها ونظر إليها، ثم ثانياً، وبناء عليه،
كيف تشكلت طريقة وصور استجابته مع تلك التحولات الهامة، وهو ما يساعد على فهم
مخرجات تلك التفاعلات وييسر فهم قرارات النظام، والتنبؤ بطريقة تعامله مع الأحداث
المشابهة.
1- مستويات الإدراك
بدايةً، يدرك النظام أنه ليس بمنأى عن خطر قيام ثورة على غرار ثورة عام 1979، وهذا ما عبَّر عنه روحاني بقوله: «إنّ النظام قد يلقى مصير الشاه إذا لم يستمع لصوت الشعب .»
ثانيًا، يدرك النظام أن الاحتجاجات لا يقف خلفها أطراف خارجية، وهذا ما عبَّر عنه وزير الداخلية الإيراني عبد الرضا رحماني فضلي في مطلع مارس 201 8 في حوار له مع صحيفة «إيران » الحكومية، بقوله إنّ «التحقيقات الحكومية حول الاحتجاجات كشفت عن عدم وجود أطراف خارجية وراءها. ولفت الوزير الإيراني إلى أن حالة عدم الرضا الشعبي تؤكد بقاء أسباب الاحتجاجات على كل المستويات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية .»
ثالثًا، يدرك بعض أطراف النظام مدى تآكل شرعية النظام وضعف قاعدته الشعبية، وهنا يشير النائب الأول لرئيس النظام الإيراني إسحاق جهانغيري إلى أن الاحتجاجات تثير القلق لأنها تعكس «كراهية الشعب، وغضبه، وحقده تجاه المسؤولين والنظام .»
رابعًا، هناك إدراك بأن الاحتجاجات ليست ذات طابع سياسي بالأساس، ولكنْ لها طابع اقتصادي واجتماعي، ومِن ثَمّ فإنّ عدم التعامل معها بالجدية المطلوبة قد يعرض النظام للخطر، وذلك بحسب حسن الخميني حفيد الخميني.
خامسًا، يدرك بعض قيادات النظام مدى جمود خطاب السلطة، ووجود
فجوة واسعة بين طموحات الجماهير، لا سيّما الشباب وبين رموز النظام
من جيل ثورة 1979، وهؤلاء يرون أن خطاب السبعينيات الذي تتمسك به القيادات السياسية غير مؤثر في المرحلة الراهنة، كما أن التوجهات التي ينتهجها النظام للحفاظ على المبادئ التي أرستها ثورة 1979 أصبحت بلا تأثير، وهنا يقول عزت الله ضرغامي رئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الأسبق، وهو واحد من الأصوليين أصحاب النفوذ: «يجب علينا أن نتغير، وإلا فجيل الشباب سيُغيِّرنا .
سادسًا، يدرك بعض قيادات النظام ورموزه أهمية تقديم معالجة حقيقية لمطالب المحتجّين، وعدم التعويل على الحلول الأمنية لكبت المطالب، وهذا ما عبر عنه جواد آملي بقوله: «إسكات الشعب عبر القمع سيكون له نتائج مريرة، لذلك يجب تهدئة الشعب وليس إسكاته »، وجدير بالذكر أن جواد آملي صرّح، خلال لقاء سابق جمعه بوزير العمل علي ربيعي، في أبريل 201 8، تعليقًا على الوضع الاقتصادي في البلاد، قائ لً: "إذا ما نهض هذا الشعب فسيرمي بنا جميعًا في البحر .
2- صور الاستجابة
لكن هل كان إدراك بعض قيادات وأجنحة النظام سببًا في استجابة واقعية للعمليات الاحتجاجية؟ في هذا ستبحث الدراسة عن كيفية تعامل النظام مع العملية الاحتجاجية بالإشارة إلى أهم السياسات والآليات التي لجأ إليها النظام لمواجهة الاحتجاجات، وذلك على النحو الآتي:
§
اتهام المحتجّين بالتآمر والعمالة للخارج: رغم أن النظام يدرك أن الاحتجاجات لا تقف خلفها أيادٍ خارجية، لكن تستخدم الحكومة المؤامرة كمبرر من أجل ضرب أي حراك، فتهمة المؤامرة جاهزة من جهة الأمن لمواجهة أي قوة أو جماعة معارضة، واتهامات المؤامرة بالأساس من نصيب الولايات المتحدة وإسرائيل وبعض القوى الإقليمية وجماعة مجاهدي خلق، في الوقت نفسه تواصل الحكومة تأكيدها أن كل شيء تحت السيطرة، لكنها لم تقدم حتى الآن سوى وعود غامضة بأنها ستخصص المزيد من الأموال لاستحداث الوظائف وتسليم مزيد من مشاريع البنية التحتية للقطاع الخاص، فلا أحد يتحدث عن إصلاح البنوك والاستثمار والجهود الفعلية التي يمكن القول بأن مردودها له أثر.
§
القمع وعنف الدولة كأولوية: يمثل الحل الأمني أولوية لمواجهة أي فعل احتجاجي في إيران، وتستخدم القوّات الأمنية العديد من الوسائل لمواجهة الاحتجاجات، أهمها القمع والاستخدام المفرط للقوة، والاعتقال والإخفاء القسري والإعدام والقتل خارج القانون والجلد، والتدخّل بكل قوة وعنف لإرهاب المتظاهرين وبالتالي إنهاء التظاهر. ويلعب القضاء المسيس دورًا في معاقبة المحتجّين بشتى العقوبات التي تصل إلى حد الإعدام دون أدلة كافية، ويقوم على تنفيذها الحرس الثوري، وتعدّ قوّات الباسيج التابعة له إحدى أبرز قوّات النظام الإيراني لمواجهة الاحتجاجات وربما أكثرها بطشًا، وكذلك حزب الله الإيراني وأنصار حزب الله، وهي قوّات غير نظامية وعقائدية تملك صلاحيات مطلقة في قمع المتظاهرين إلى حد القتل العمد، وأعضاؤها لا يتمتعون بصفة رسمية حتى لا تتم محاكمتهم، وغالبًا ما تنسب أعمالهم إلى مجهولين. كما تستعين قوّات الأمن بالبلطجية لمهاجمة المتظاهرين، كما حدث مع المتظاهرين في عيد العمال في الأول من مايو 201 8، وهذه السياسة بطبيعة الحال تثير الرهبة المشاركة.
واستخدمت القوّات الأمنية الإخفاء القسري كآلية لمعاقبة المحتجّين وإثارة أجواء من الرعب والخوف، كما حدث مع رضا ريحاني ) 17 عامًا(، وخالد خاسرجي ) 18 عامًا(، بعد أن شاركا في احتجاج حاشد في 11 يونيو 201 8 ضمن عمال مجموعة الأحواز الوطنية للصلب للمطالبة بأجور متأخرة، كما استخدم الأمن القوة المفرطة والرصاص الحي لمواجهة المظاهرات في بعض الأحيان، مما أدى إلى سقوط قتلى وجرحى، كما حدث في منطقة
المحمرة العربية التابعة لمحافظة الأحواز جنوب إيران،
كما لجأت السلطات إلى فرض حظر التجوال ليلاً في عدد من المدن، منها طهران، في 7 أغسطس 201 8 على خلفية المظاهرات اليومية.
§
تقنين المظاهرات وتحديد أماكن لها: بعد أشهر من الاحتجاجات والإضرابات الشعبية، وفي محاولة للحدّ من تداعيات العمل الاحتجاجي وخطر تمدّده وتأثيره على سير العمل، حدّدت وزارة الداخلية عددًا من الشروط للتظاهر، أهمّها حصول المنظمين على تصريح من وزارة الداخلية لتنظيم احتجاج في أحد المواقع التي يقرها النظام، وعادةً ما يكون في ملعب رياضي أو حديقة عامة. وثانيها طلب المنظمين وجود وحدات الشرطة والأمن ومكافحة الشغب مسبقًا من أجل «منع الاضطرابات ». وثالثها عدم السماح للمتظاهرين بحمل أي أسلحة. ورابعها عدم انتهاك التجمع «المبادئ الأساسية للإسلام ». وأخيرًا إبعاد الاحتجاج عن المناطق ذات الكثافة السكانية العالية، بحيث لا تعيق حياة الناس اليومية.
§
خطة إنقاذ ماليّ لتفادي خسائر الريال: بعد المظاهرات الكبيرة التي نظمها تجار البازار لخمسة أيام متواصلة في عديد من المدن الإيرانية بعد تأثير الأزمة المالية على تجارتهم وأعمالهم، تبنّت الحكومة بعض الإجراءات لوقف خسائر الريال من خلال تشديد الإجراءات على تداول الدولار، إضافة إلى محاولة السيطرة على تداول العملة في السوق السوداء.
§
تقديم تنازلات جزئية في بعض الحالات: تحت ضغط بعض الاعتصامات التي تستشعر الحكومة معها خطرًا، فإنها أقدمت على تقديم تنازلات جزئية من أجل تفادي التصعيد، وعلى سبيل المثال قام المجلس الأعلى للعمل بتحديد الحد الأدنى لأجور العمال في العام الإيراني الجديد بمليون و 114 ألف تومان )بما يعادل ٢٦٥ دولار(، أي بزيادة 19 .5 %، كما يحضر نموذج التعامل مع إضراب سائقي الشاحنات، إذ اضطرّ النظام في النهاية إلى تقديم بعض التنازلات بعد أن فشلت جميع أنواع الإجراءات القمعية، وشملت الامتيازات زيادة في رسوم النقل بنسبة 20%، وخفض معدلات عمولة شركات النقل إلى 12- 14 %، ووقف استخدام نظام التتبع »SEPAHTAN« المثير للجدل في الشاحنات. إلى جانب ذلك تفتح السلطات حوارًا مع المحتجّين في بعض الحالات من أجل التهدئة وإظهار الاستجابة، لكن في حقيقة الأمر لا يعدّ ذلك سوى تهديد وضغط على المحتجّين.
§ تغيير مسؤولين وإجراء تعديل حكومي: بعد أزمة العملة الإيرانية قرر الرئيس روحاني تعيين عبد الناصر همتي رئيسًا جديدًا للبنك المركزي الإيراني خلفًا لولي الله سيف، كما تقدم المتحدث باسم الحكومة ورئيس مؤسسة التخطيط والموازنة، محمد باقر نوبخت، باستقالته من كل مناصبه. وقد جاءت هذه الإجراءات في ضوء حزمة تعديلات يجريها روحاني، بسبب الأوضاع الاقتصادية المتدهورة، وبهدف إجراء إصلاحات للخروج من الأزمة. وفي ذات السياق استجوب مجلس الشورى وزير العمل، علي ربيعي، وتم التصويت على عزله من منصبه في الثامن من أغسطس 201 8، وفي الجلسة اعترف وزير العمل والخدمات الاجتماعية بأن وزارته لا تتحمل وحدها عبء مواجهة العمليات الاحتجاجية المتواصلة، إذ أكد أنّ الوضع الاقتصادي تسبّب في البطالة والركود، وأن مشكلات العمال يجب أن تُحَلّ من قِبل جميع الأطراف في البلاد.
§
توظيف الخطاب الديني لتهدئة المحتجّين: إلى جانب الأدوات الأمنية في وقف الاحتجاجات الشعبية، بدأت السلطات في الاستعانة برجال الدين في محاولة لتهدئة الأوضاع المشتعلة. فهذا كاظم صديقي خطيب ص اة الجمعة في العاصمة الإيرانية طهران يدعو في 3 أغسطس 201 8 إلى الهدوء والثبات أمام المصاعب الاقتصادية، بعد أيام من الاحتجاجات التي خرج فيها تجار البازار في العاصمة بسبب تراجع قيمة الريال الإيراني وارتفاع الأسعار، معتبرًا أن «الأعداء في الخارج يريدون إيذاء إيران، ويجب مواجهتهم بالاتحاد. كما استغلّ بعض القيادات الدينية الضغوط الأمريكية والعقوبات، ودعت إلى توحيد الجبهة الداخلية والالتفاف حول القيادة من أجل مواجهة التحديات والصعوبات.
§
السيطرة على الفضاء الإلكتروني: شجعت حكومة روحاني توسيع نطاق استخدام الإنترنت بين الإيرانيين منذ عام 201 4، وحتى ذلك الوقت كان هناك فقط مليونا إيراني يملكون هواتف ذكية، بينما تشير التقديرات إلى أن الإيرانيين مطلع 201 8 يملكون48 مليون هاتف ذكي . وذلك في ظل نموّ لشبكات خدمة الهواتف المحمولة وتوفر الإنترنت بمعيار الجيل الثالث والرابع ) 3G و 4G (، وزيادة سرعة الإنترنت منزليًّا، مما وسع من انتشار منصة تبادل الرسائل المشفرة «تلغرام » بصورة هائلة، إذ يقدر أن أكثر من 40 مليون إيراني يستخدمونه في المحادثات الاعتيادية والتجارة والحملات السياسية. مطلع عام 201 8 ساعدت الهواتف الذكية في الانتشار السريع للاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد، واستخدم المتظاهرون قنوات «تلغرام » للرسائل الجماعية لتبادل المعلومات وأشرطة الفيديو عبر 75 مدينة وبلدة اندلعت فيها المظاهرات. وأظهرت بعض الفيديوهات المتبادلة الناس في الشوارع وهم يصرخون بلفظ صريح «الموت لخامنئي »، ما صدم الكثيرين، خصوصًا أن مثل هذه الهتافات يمكن أن تجلب تعقب السلطات أو التعرض لعقوبة مشددة، مما اضطر الحكومة إلى إغ اق أبرز وسائل التواصل الاجتماعية وتطبيقات الرسائل، وساعد ذلك في إخماد الاحتجاجات، لكن أدى حظر «تلغرام » إلى انتشار شكاوى من رجال الأعمال الذين يستخدمونه كمنصة للدعاية لبضائعهم وبيعها.
وفي واحد من الإجراءات التي تبنتها الحكومة الإيرانية لعدم تكرار مظاهرات 201 7 / 18 التي لعبت فيها وسائل وتطبيقات التواصل عبر شبكة الإنترنت دورًا في الحشد والتعبئة والدعاية، اتجهت الحكومة نحو فرض مزيد من القيود على شبكة الإنترنت، لمنع الاحتجاجات في المستقبل، ونظرًا لصعوبة الحجب التام لجأت السلطات الإيرانية إلى إنشاء نسخة محلية للإنترنت لتقييد ما يستطيع الجمهور مشاهدته.
ثم أعقبت ذلك في أبريل 201 8 بإلغاء ترخيص تطبيق «تلغرام » للتواصل الاجتماعي خشية أن تتطوّر العمليات الاحتجاجية إلى انتفاضة كبرى أو ثورة، بينما روّجت السلطات الإيرانية لاستخدام التطبيقات المحلية الإيرانية مثل
"سروش » و «كب » (. وعندما تصاعدت الاحتجاجات في الفترة بين 31 يوليو و 5 أغسطس 201 8.
§
محاولة تفادي تداعيات الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي: رغم الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي وفرض الولايات المتحدة عقوبات على إيران وتهديد الدول التي تستمر في عَلاقتها الاقتصادية مع إيران، لكن تظل إيران متمسكة بالاتفاق النووي مع الأطراف الأخرى الشريكة فيه، وتحاول أن توظف الخلافات الأمريكية مع بعض الأطراف الإقليمية والدولية من أجل استمرار الشراكة الاقتصادية معها، ومنذ الانسحاب الأمريكي تبذل إيران جهودًا دولية واسعة من أجل تفادي تأثير العقوبات الأمريكية، وتراهن إيران على عدم قدرة ترامب تحقيق توافق دولي حول استعادة برامج العقوبات على إيران، كما أن النظام الإيراني يبحث في شراكات تجارية يتم فيها تبادل التعاملات بغير الدولار أو بتبادل البضائع، فضلً عن التعويل على الشركاء الروس والصينيين الذين لديهم استقلالية كبيرة عن الموقف الأمريكي.
سادساً- سيناريوهات ومستقبل الاحتجاجات الفئوية والتعبئة الاجتماعية في
إيران
في خاتمة الكتاب، رسم الباحث
-بناء على تلك المقدمات- عدة سيناريوهات لمستقبل تلك الاحتجاجات وهذه التعبئة، وهي
تعد بمثابة استخلاصات هامة يضع فيها الباحث عصارة ما توصل إليه من تحليل في بنية
النظام، والتفاعلات القائمة بين الفرد والدولة والمجتمع، وكافة المتغيرات
والمؤثرات المحيطة بها.
السيناريو الأول- تراجع نطاق الاحتجاجات
يستند حدوث هذا السيناريو إلى غياب مؤشرات قوية على اجتماع الرغبة الشعبية على عملية تغيير جذري وشامل، لهذا قد تظل الاحتجاجات فئوية محصورة بين فئات محدّدة، إذ رغم الشعور الموحد من جانب المحتجين بوجود مظالم حقيقية لكنهم لا يمتلكون أدوات الاحتجاج الفعال، لا سيّما أن المحتجّين ليسوا منظمين بدرجة كافية ويفتقرون إلى القيادة والموارد اللازمة للحفاظ على الاحتجاجات إلى أجل طويل لأنهم فقراء، كما أنهم لا يملكون تحالفات فعالة وقوية، خصوصًا أن استمرار احتجاج البازار كممثل مهمّ للطبقة الوسطى العليا في ظل عدم اتضاح موقفه من استمرار حكم رجال الدين ما زال محل شك، مما قد يضعف الحراك ويقلل من تأثيره مع الوقت، وكذلك لم تتشكل بعد الهياكل التنظيمية والتعاونيات بالصورة التي يمكن أن تطوّر معها حالة التعبئة لتصبح أشد قوة وأكثر تأثيرًا. في المقابل لا تزال كتلة شعبية آيديولوجية صلبة على موقفها المؤيد للنظام، فضلًا عن القطاعات الشعبية الخائفة من المجهول، والذين يرون تداعيات الثورات والسعي لتغيير نظم الحكم في دول الجوار وما أعقبها من فوضى وربما حرب أهلية. وقد تتراجع الاحتجاجات مع تمكن النظام من المزج بين القمع، في ظل القبضة القوية لمؤسساته الأمنية والعقائدية، وترشيد استخدام القوة مع بعض التنازلات المحدودة لتهدئة الاحتجاجات والسيطرة عليها.
السيناريو الثاني- استمرار الاحتجاجات بذات الوتيرة
في ظل استمرار الأوضاع المعيشية المتردية وعدم الاستجابة الفعلية لمطالب المحتجّين من جانب النظام تحت وطأة الأزمة الداخلية والخارجية الراهنة، فإنّ الاحتجاجات مرشحة للاستمرار، لكنها قد تظل في حدودها الفئوية ما دام النظام قادرًا على وقف تمدّدها لتطال شرائح أخرى، وما دامت البلاد لم تدخل في مرحلة انهيار اقتصادي وكساد، وما دام النظام قادرًا على التغلب على العقوبات الاقتصادية التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال التعاون مع القوى الدولية المصرّة على الالتزام بخطة العمل المشتركة، إذ في ظل تلك الظروف سيكون تأثير العقوبات الأمريكية جزئيًّا، فهو سيضعف الاقتصاد لكنه لن يحاصره، وسيخفف من صادرات البترول لكنه لن يصل بها إلى المعدل صفر، ومِن ثَمّ سيكون لدى النظام قدرة على تلبية الاحتياجات الأساسية لقطاعات شعبية عريضة، بل قد يستخدم النظام من العقوبات الأمريكية والترويج لنظرية المؤامرة ذريعة للقمع أو لإعادة إنتاج شرعيته. كما قد يقلل النظام من إنفاقه العسكري من خلال اعتماد قوّاته والميليشيات التابعة له على موارد البلدان التي توجد بها، وقد تسربت أخبار على سبيل المثال عن تخفيض الدعم المادي لحزب الله اللبناني على خلفية الأزمة الاقتصادية الراهنة التي يمر بها النظام.
السيناريو الثالث- سحق الحركة الاحتجاجية
رغم أن مواجهة مظاهرات ديسمبر 201 7 / 18 لم تكن بذات القوة التي تم التعامل بها مع الثورة الخضراء في عام 2009، لكن هذا لا يعدّ مؤشرًا على تراجع في العقيدة الأمنية لدى قوّات النظام، بل ربما هو تكتيك متاح كلما كان امتصاص الموجة الثورية ممكنًا بجهود قمعية وأدوات سلطوية أقل، لكن إذا ما استشعر النظام خطرًا حقيقيًّا وتحولت الحركة الاحتجاجية إلى فعل ثوري جماعي، فإنّ النظام سيستحضر الأسانيد الشرعية التي تمكنه من سحق أي عمل جماعي يشكل تهديدًا، لا سيّما أن نظريات الحكم عند الشيعة لا تعترف فعليًّا وعمليًّا بحق للشعب في المشاركة السياسية وحرية الاختيار في ظل المشروعية الإلهية للولي الفقيه، ولا تُعَدّ الانتخابات أو حق التمثيل السياسي داخل النظام إلا على سبيل المشاركة الشكلية، التي يحسّن بها النظام السياسي صورته ويمتصّ من خلالها غضب المواطنين، فوفقًا لتفسير فقه «حماية القيم الإسلامية » لن يتوانى النظام في استخدام القوة لسحق الاحتجاجات، ولن يخفي النظام تأييده العلني لتلك الإجراءات، مهما كلف ذلك من ضحايا، فالنظام الإيراني جعل الفرد يتماهى مع آيديولوجيا ولاية الفقيه على غرار العمال في الأنظمة الشيوعية، فلا مجال للفرد للتعبير عن حقوقه الاجتماعية والسياسية، بل هناك مسؤولية وتكليف داخل النظام، وأي خروج عن مسار الدولة يستحق عليه الفرد السحق، ورجل الدين مصباح يزدي يعبر عن ذلك بقوله: «إذا أردت العيش في هذا البلد فعليك القبول بالدولة الإيرانية، حتى لو استخدمت معك أساليب القوة، فكل من يعارض إيران هو مُدان وينبغي محاربته، حتى لو بقي شخص واحد في هذا البلد.
السيناريو الرابع- الانتقال من التعبئة إلى الثورة
وفق هذا السيناريو قد تتحول عملية التعبئة الراهنة إلى عملية ثورية حقيقية على غرار الثورات التي شهدتها إيران خلال القرن العشرين، يدعم ذلك تراجع مستوى النمو الاقتصادي، والعجز الضخم في الموازنة العامة، وارتفاع معدلات التضخم، وزيادة الأسعار، والفساد والمحسوبية والتفاوت الطبقي، إضافة إلى التكاليف الضخمة التي يتكبدها النظام للإنفاق على مشروعه الخارجي، ناهيك بالعقوبات الأمريكية على إيران ومردودها
السلبي على قيمة العملة وسعر صرف الدولار، وهروب الاستثمارات من السوق الإيراني، إذ في ظل تلك التحديات قد تتفاقم الأزمة، وقد لا يكون بمقدور النظام أن يعالج المشكلات الاقتصادية من خلال ما يسميه «اقتصاد المقاومة »، مما يزيد من الإحباط والغضب الشعبي، ومِن ثَمّ قد تتحول عملية التعبئة إلى حراك جماعي شعبي يجعل
التغيير السياسي ضمن أولوياته.
في ظل هذه الظروف قد يفقد النظام السيطرة على هذه الاحتجاجات، وقد تنضم إليها شرائح اجتماعية أكبر تأثيرًا، بحيث تدخل إيران في حالة ثورية على غرار تلك التي مهدت لثورة عام 1979، لا سيّما بعد أن بدأ التململ يتسرب إلى البازار، ودخوله مؤخرًا على خط الاحتجاجات، وأصبح تحالفه مع رجال الدين على المحك، فضلً عن تراجع شرعية النظام وتآكل أطروحته الآيديولوجية، ووجود خلافات عميقة بين حلفائه الدينيين والسياسيين.
إذن، الاحتجاجات الدورية التي مرت بها إيران في العصر الحديث تشهد بنهايتها دون أن تتحول إلى عمل ثوري إلا في مرات محدودة، ولم يُحدِث أيٌّ منها تغييرًا جذريًّا حقيقيًّا إلا ثورة عام 1979 ) 1(، وهذا قد يجعل هذا السيناريو محل شك، إضافة إلى أن إيران دولة ريعية غنية بالموارد، ورغم
أزمتها الاقتصادية الهيكلية لكن يمكن من خلال موارد الطاقة أن توفر عوائد يمكن من خلالها امتصاص الغضب والتوتر الراهن، فضلً عن أن احتمال الدخول في صفقة نووية جديدة قد يخفف من حدة الضغوط الخارجية، أو الدخول في مفاوضات ماراثونية لكسب الوقت لحين حدوث تغيير في الإدارة الأمريكية بعد الانتخابات القادمة؛ بما يسمح بسياسات أقل تشددًا تجاه إيران. علاوة على أن وتيرة الاحتجاجات تتصاعد ثم ما تلبث أن تعود لتهدأ بما لا يؤشر لوجود أجواء ثورية فعلية. لكن على أي حال يبقى التساؤل عن المسار السياسي الأفضل لهؤلاء المهمشين والمنهكين بسياسات النظام الإيراني الحالي، لا شك أن عملية إصلاحية شاملة تستهدف وضع حدّ لطغيان الديني على السياسي، ووضع حد لطغيان الآيديولوجي على الواقع، مع إعادة هيكلة للسلطات وفق قواعد معتبرة للمسؤولية والمحاسبة، وضمان الحقوق والحريات والعدالة الاجتماعية في إطار ديمقراطي حقيقي بعيدًا عن وصاية رجال الدين، ناهيك بسياسة خارجية تعتمد على تبادل المصالح بعيدًا عن التدخّل، وبعيدًا عن طموح الغزو ومدّ النفوذ خارج سياق التنافس المشروع.. هي مطلب شعبي يحظى بتأييد واسع، وهي في الوقت نفسه المسار الآمن لاستقرار إيران، وهذا نموذج مثالي للخروج من الأزمة، وعلى قادة إيران أن يعيدوا تقييم تجربتهم بعد أربعين عامًا ويجيبوا عن تساؤل المحتجّين: «كان لدينا ثورة.. ما الخطأ الذي كان؟ .
لكن أيمكن أن يحدث هذا التحوّل في ظل النظام القائم وفي ظل المصالح المتشابكة بين مكوناته؟ يبدو ذلك صعبًا، ومع هذا فإنّ بقاء
عملية التعبئة واستمرارها لفترة طويلة حتمًا سيقودنا
إلى السيناريو الأشد خطورة، وهو ثورة من أجل إحداث تغيير جذري واسع. لكن ما الذي يمكن أن تقوده الثورة لهؤلاء المهمشين والفقراء؟ لا شك أن الشعوب والطبقات الفقيرة تتحمل أعباء ضخمة في مراحل الاضطراب والانتقال، ولا يعني قيام ثورة أن الأوضاع ستستقر، أو أن ثمارها الاقتصادية ستكون في متناول الشعب، بل ستكون مراحل انتقالية مجهولة، قد يكون البديل ديمقراطيًّا حقيقيًّا، وهذا سيحدّ من آثار المشكلات في مراحل الانتقال، وقد يكون البديل أكثر راديكالية من سلفه، لكن معاناة مع ديمقراطية تعطي بصيصًا من الأمل لا شك أفضل من سلطوية أو حكم عسكري بلا أمل، وهي ممكنة فعليًّا عبر إصلاح يتبناه النظام من داخله، أو ثورة حقيقية تنجح في تحقيق مشروعها بالانتقال إلى الديمقراطية، لكن بأي تكلفة يمكن أن يحدث ذلك؟
حتى يتغير الوضع بالإصلاح أو الثورة، فالمرجح أن الوضع في إيران على المدى القصير
والمتوسط سيبقى على ما هو عليه:
أوضاع داخلية صعبة، ومدّ وجزر لعملية تعبئة متواصلة تظهر في صورة احتجاجات اعتاد عليها الإيرانيون في ظل النظام القائم، مع استجابات مؤقتة تجمع بين القمع والتهدئة، وربما لو خرجت الاحتجاجات عن السيطرة يكون العنف هو الأولوية التي سيلجأ إليها النظام، لأنه لا يبدي مؤشرات على إمكانية الإقدام على عملية دمج حقيقي للحركة الاجتماعية الراهنة. أما على المدى الطويل فإنّ التعبئة قد تفرض شكلً ما من أشكال التغيير، لأن التغيير أصبح مطلبًا يحظى بتأييد شعبيّ يتسع مع الوقت.