صناعة القرار السياسي في إيران ومنهج إدارة الأزمات (1-3)
الأحد 29/ديسمبر/2013 - 01:17 م
لواء أ.ح. متقاعد/ حسام سويلم
يعاني النظام السياسي الحاكم في إيران أزمات داخلية وخارجية أمنية وسياسية واقتصادية واجتماعية عديدة، وليس أخطرها كما يظن كثيرون الأزمة النووية، والتي بطبيعة الحال تتشابك مع باقي الأزمات وتتفاعل معها؛ حيث تلقي بظلالها على علاقات إيران الخارجية مع دول عظمى وكبرى مثل الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، ودول أخرى في الدائرة الإقليمية، أبرزها العراق ودول مجلس التعاون الخليجي وبلدان آسيا الوسطى، ناهيك بالطبع عن إسرائيل، هذا إلى جانب التأثيرات السلبية للأزمة النووية على علاقات إيران مع هيئات دولية أبرزها مجلس الأمن والوكالة الدولية للطاقة النووية. وكان من نتيجة ذلك أن أصدر مجلس الأمن أربعة قرارات دولية فرضت مجموعة من العقوبات السياسية والاقتصادية على إيران، كان لها مردود سلبي كبير على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي داخل إيران؛ مما يهدد بنشوب ثورة شعبية داخل إيران ضد نظام حكم الملالي هناك حذَّر منها كثيرون داخل وخارج هذا النظام.
إلا أن ما هو أخطر من الأزمة النووية، مع افتراض قدرة النظام الحاكم على مواجهتها -وهو أمر مشكوك فيه- هو الأزمة الأمنية الداخلية التي يواجهها النظام الإيراني، والتي تتمثل في اشتعال انتفاضات شعبية داخل الأقاليم الإيرانية - خاصة الحدودية ذات الأقليات العرقية والطائفية الكبيرة، وبها حركات انفصالية قوية.. مثل إقليم “,”خوزستان“,” (عربستان) في الجنوب وأغلبيته عرب سنة، وإقليم “,”بالوشستان“,” في الشرق، وله حدود مشتركة مع قبائل البلوش في أفغانستان وباكستان ومعظمهم من السُنّة، وإقليم أذربيجان في الشمال؛ حيث يطالب سكانه الآذريين -السُنّة أيضًا- بالانفصال والاتحاد مع دولة أذربيجان في الشمال، وفي الغرب يوجد إقليم كردستان السني، المشتعل حاليًّا بالثورة المسلحة، التي يقودها حزب (بيجاك) ضد قوات الحرس الثوري الإيراني، ويسعى بدوره للانفصال عن إيران والالتحام مع الأقاليم الكردية الأخرى في العراق وتركيا؛ لإقامة دولة كردستان الكبرى.
وإذا نظرنا لخريطة الكثافة السكانية في إيران، لتبين لنا وجود منظور إيراني يخالف منظور السنة المتخوفين من أن تشكل إيران مثلثًا شيعيًّا يحيط بمنطقة الخليج. حيث نجد أن الكثافة السكانية الإيرانية (الشيعية) هي باتجاه الشمال، والتي يحيط بها سنّة في الغالب، ثم الغرب حيث يتواجد عرب سنّة في إيران، وعرب شيعة في العراق. أي إن العرب أو السنّة على السواء -في المنظور الإيراني- يقِّيدون حركة إيران الطبيعية باتجاه الغرب، وهي إحدى العوامل الرئيسية المؤثرة في صنع القرار السياسي في إيران.
ولا تقتصر المشاكل الداخلية التي يواجهها النظام الإيراني على الأقاليم الحدودية فقط، بل تبرز أيضًا في أقاليم وسط إيران الشيعية، حيث المعارضة قوية ضد نظام حكم الملالي من قِبل قوى الإصلاحيين والمثقفين وتجار البازار والطلبة.. وقطاعات أخرى حيوية داخل الدولة، بل من داخل المؤسسة الدينية نفسها ومجلس الشورى. فقد تعرض رئيس الجمهورية أحمدي نجاد لهجوم شديد من قبل عدد من كبار الملالي في المؤسسة الدينية، مثل آية الله منتظري، وأيضًا من أعضاء مجلس الشورى ورئيسه علي لاريجاني؛ بسبب الأداء السيء لحكومته، والذي تسبب في تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، وذلك رغم تأييد مرشد الثورة علي خامنئي لنجاد، بل ودعوته لترشيح نفسه لفترة رئاسة ثانية؛ مما ضاعف من حجم الغضب في الداخل، والذي وصل إلى صفوف القوات المسلحة النظامية؛ بسبب تفضيل النظام الحاكم لقوات الحرس الثوري على القوات النظامية، من حيث التطوير والتسليح والمزايا المادية الممنوحة لعناصر الحرس الثوري، والمحروم منها ضباط وأفراد القوات النظامية، ناهيك عن النفوذ السياسي الضخم الذي يتمتع به كوادر الحرس الثوري في داخل إيران.
ولأن جميع الأزمات التي يواجهها النظام الإيراني، على تعددها وتنوعها، يكون لها دائمًا مردودات خارجية، خاصة على الساحة الإقليمية، والتي يسعى هذا النظام إلى بسط هيمنته عليها من منطلقات عرقية ومذهبية، لعدم قدرته على مواجهة القوى الدولية الكبرى، وحتى إسرائيل في الدائرة الإقليمية، حيث يسعى لتوظيف قدراته وإمكاناته المادية والسياسية والأمنية لتوسيع رقعة نفوذه في دول منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وجنوب آسيا، بدءًا بدول الخليج؛ فإن الأمر يتطلب منا دراسة نظام حكم الملالي في إيران في صناعة قرار السياسة الخارجية، والعوامل والقوى التي تحكم عملية صنع واتخاذ القرار، خاصة في ضوء التطورات السياسية والأمنية والاقتصادية الأخيرة التي تمر بها المنطقة والعالم، وأسلوب هذا النظام في إدارته للأزمات التي يواجهها، وتأثيرات ذلك على المصالح العربية في المنطقة، خاصة وأن فهمنا لذلك سيساعدنا على إدارة علاقاتنا وأزماتنا مع إيران في الدائرتين الإقليمية والدولية بشكل أفضل، وبما يدفع عنا مخاطر التهديدات الإيرانية، ويؤمّن لنا مصالحنا القومية على المستويين الإقليمي والقطري، ويحقق لنا غياتنا وأهدافنا القومية في أجواء آمنة لا تهددها الأوضاع الإيرانية.
· الغايات والأهداف القومية العليا لإيران:
تتمثل الغاية والهدف القومي الأعلى لإيران في بسط هيمنتها على منطقة الشرق الأوسط وبعض بلدان آسيا الوسطى وجنوب آسيا، خاصة المتاخمة لها، سياسيًّا وأمنيًّا واقتصاديًّا وأيديولوجيًّا، انطلاقًا من مفهوم عقائدي بأنها قوة إقليمية عظمى مؤهلة حضاريًّا لقيادة دول المنطقة، وذلك بحكم ما تملكه من قدرات جيوبوليتيكية ضخمة (سكان: 75 مليون نسمة، مساحة: 1.6 مليون كم 2 ، ثروة نفطية تدر عائدات 20 مليار دولار سنويًّا، حضارة فارسية قديمة).
وكان هذا الهدف واضحًا إبان حكم الشاة، وإن كان البعد العرقي الفارسي آنذاك متحكمًا في السلوك الإيراني أكثر من البعد الديني الشيعي، ولكن بعد الثورة الإيرانية عام 1979 تحكم البعد الديني المذهبي (الشيعي) في بلورة هذا الهدف، إلى جانب البعد العرقي الفارسي. وهو ما تمثل في هدف تصدير الثورة الإيرانية إلى الدول العربية والإسلامية الأخرى غداة انتصار الثورة، وما ترتب على ذلك من نشوب حرب الثماني سنوات بين إيران والعراق، والتي خلالها تعطل هدف تصدير الثورة، حيث انشغل نظام الحكم في طهران بمواجهة الصراع المسلح الذي فرضه عليه نظام حكم صدام حسين في العراق. ولكن بعد أن أعادت إيران بناء قواها العسكرية التقليدية وفوق التقليدية، وبسيطرة المتشددين على نظام الحكم في طهران، وعلى رأسهم أحمدي نجاد، بعد سيطرتهم على آليات صنع القرار في إيران وأبرزها مجلس الشورى؛ أعادت إيران صياغة غاياتها وأهدافها القومية، ورسمت إستراتيجيتها لتحقيق هذه الأهداف، مستفيدة من التغيرات السياسية التي وقعت في البيئتين الإقليمية والدولية، خاصة التورط الأمريكي العسكري في أفغانستان والعراق، وبروز حزب الله كقوة سياسية وعسكرية طاغية في لبنان، وسيطرة حركة حماس في قطاع غزة، فقدمت إيران نفسها على الساحة الإسلامية -بشقيها السني والشيعي- باعتبارها الدولة الإسلامية الوحيدة المدافعة عن القضية الفلسطينية والمقدسات الإسلامية في وجه الاعتداءات الإسرائيلية والأمريكية، بينما تقاعست الدول الإسلامية الأخرى عن هذا الواجب، وحافظت على علاقات طبيعية مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل.
· السياسة الإيرانية لتنفيذ غاياتها وأهدافها القومية:
1. تشديد قبضة النظام الديني الحاكمة في الداخل، والقضاء على قوى المعارضة الداخلية المتمثلة في الإصلاحيين والمعارضين داخل طبقات المثقفين والطلبة، والقوى الانفصالية العرقية والطائفية في محافظات إيران الحدودية.
2. دعم وتقوية نفوذ جماهير الشيعة في البلدان العربية والإسلامية، ومساعدتهم في الوصول إلى الحكم، بدءًا ببلدان الخليج العربية ولبنان (وهو ما نراه في دعم حزب الله في لبنان، وأحزاب الله الخليجية) ثم في باكستان.
3. تبني القضية الفلسطينية، ودعم حركة حماس في غزة؛ باعتبارها نواة دولة إسلامية في فلسطين.
4. دعم الأحزاب والحركات السياسية المعارضة السنية في الدول العربية والإسلامية، خصوصًا ذات التوجه الإسلامي الأصولي (مثل الإخوان المسلمين، وحركة طالبان، والمنظمات الفلسطينية المتشددة وعلى رأسها حماس).
5. التعاون مع التنظيمات الإرهابية العالمية -وأبرزها القاعدة، وإن اختلفت توجهاتها الطائفية لكون تنظم القاعدة سني المذهب- بهدف ضرب المصالح الأمريكية والدول المتعاونة مع الولايات المتحدة على الساحتين الإقليمية والدولية، إلى جانب القوى اليسارية في العالم (كوبا وفنزويلا).
6. بناء شراكة إستراتيجية قوية مع سوريا في المشرق العربي؛ باعتبار تقارب المذهب الشيعي مع المذهب العلوي الحاكم في سوريا، وما تعانيه الدولتان من عزلة إقليمية ودولية، وتهديد إسرائيل لكلتيهما.
7. بناء مصالح اقتصادية مشتركة مع روسيا والصين ودول الاتحاد الأوروبي؛ لمساندة إيران سياسيًّا وعسكريًّا في صراعها ضد الولايات المتحدة.
· الإستراتيجية العسكرية الإيرانية لتحقيق الأهداف القومية والإستراتيجية:
رسمت إيران لنفسها إستراتيجية عشرية الأبعاد لتحقيق أهدافها وغاياتها القومية، وحددت لنفسها هدفًا إستراتيجيًّا يتمثل في الآتي: “,”حماية وجود إيران ونظام حكمها الديني وجهودها؛ من أجل توسيع نفوذها في منطقة الخليج ودائرة مجالها الحيوي في منطقة وسط وغرب وجنوب آسيا، وتأمين بناء قدراتها الذاتية في جميع المجالات، وحماية تحالفاتها السياسية والإستراتيجية الخارجية، ومنع أعدائها من خلق مواقف تهدد الأمن الإيراني في الداخل والخارج، والعمل على إجهاضها مبكرًا، مع امتلاك قوة ردع عسكرية تقليدية وفوق تقليدية، خاصة في البر والبحر، ذات مصداقية عالية تكفل ردع أعداء إيران عن التعدي عليها، مع الاستعداد لشن ضربات وقائية واستباقية داخل وخارج إيران تقضي على مصادر التهديد قبل وقوعه“,”.
وقد حددت إيران لنفسها دائرة مجال حيوي تمتد من الهند وباكستان شرقًا إلى المغرب غربًا، ومن بلدان آسيا الوسطى وتركيا وحدود روسيا شمالاً، إلى المحيط الهندي وباب المندب جنوب البحر الأحمر ووسط أفريقيا جنوبًا.
وتحددت معالم الإستراتيجية العسكرية الإيرانية في الآتي:
1. التوسع الكمي في بناء التشكيلات المسلحة النظامية، وتسليحها بأحدث أسلحة ومعدات روسية الصنع (25 فرقة مشاة ومدرعة وميكانيكية وقوات خاصة).
2. بناء قوة الحرس الثوري لحماية النظام الحاكم، موازٍ للقوة النظامية، وله أفرع برية وبحرية ونفوذ أمني وسياسي قوي داخل وخارج إيران، ومسئول عن المشروعات الإستراتيجية والأمنية لإيران (البرنامج النووي، الدفاع الجوي، التصنيع العسكري، أنشطة إيران المسلحة الخارجية في لبنان وغزة والخليج... الخ)، تبلغ قوته 200 ألف فرد، موزعين بين وحدات برية (20 فرقة)، ووحدات بحرية لديها أكثر من 150 لنشًا مسلحًا، ولنشات سريعة انتحارية، بالإضافة إلى 10.000 من عملاء فيلق القدس متواجدين في الدول العربية والإسلامية يشكلون خلايا نائمة. وجميع أفراد الحرس الثوري من المؤهلين أيديولوجيًّا للدفاع عن الثورة الإيرانية وتحقيق أهدافها حتى الموت في سبيل ذلك.
3. بناء احتياطي قوي من شباب متطوعي (الباسيج) صغار السن، المؤهلين عقائديًّا لتنفيذ مهام قتالية داخل وخارج إيران؛ دفاعًا عن الثورة الإيرانية وتحقيق أهدافها، وعلى استعداد لتنفيذ مهام انتحارية عند اللزوم، ويبلغ تعدادهم عند استكمال التعبئة حوالي 4 ملايين فرد.
4. التوسع الأفقي في القوات المسلحة النظامية وشبه العسكرية؛ لتعويض التخلف النوعي والكيفي الذي تعانيه إيران في مواجهة كل من القوات الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة، مع استغلال المنظمات والميليشيات التابعة لإيران في الدول العربية لتهديد المصالح الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة، مع استغلال المنظمات والميليشيات التابعة لإيران في الدول العربية لتهديد المصالح الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة (حزب الله، حماس، طالبان... الخ).
5. الارتقاء بالبعد النوعي في مستوى الكفاءة القتالية، بالحصول على أنظمة تسلح دفاعية ذات تقنية عالية من دول كبرى مثل روسيا والصين وكوريا الشمالية، مثل الصواريخ المضادة للصواريخ والطائرات والسفن والدبابات لتحييد عناصر القوة لدى أعداء إيران. خاصة في المجال الجوي، مع تطوير أنظمة القيادة والسيطرة والاتصالات والاستخبارات، وتحسين قدرات ما لديها من طائرات أمريكية ( F-4 ، F-5 ، F-14 ) من أيام الشاه بتحديثها.
6. تعزيز إستراتيجية الردع بإدخال السلاح النووي فيها إلى جانب السلاحين الكيماوي والبيولوجي، ووسائل إيصالهم الصاروخية والجوية لمسافات تغطي دائرة المجال الحيوي لإيران، والاعتماد على الصواريخ البالستية (عائلة شهاب) كسلاح ردع إستراتيجي يعوض تخلف قواتها الجوية في مواجهة تفوق القوات الجوية الأمريكية والإسرائيلية.
7. تحقيق اكتفاء ذاتي من الأسلحة والذخائر والمعدات العسكرية، من خلال بناء قاعدة صناعية عسكرية وطنية تغنيها عن الاعتماد على الخارج، خصوصًا في حالات الحظر والحصار.
8. نشر الأهداف الإستراتيجية والعسكرية على كل مساحة إيران، وتحصينها تحت الأرض، وتعزيز الدفاع الجوي والبري عنها، وبما يصعب قصفها وتدميرها بأعمال قتال جوية وبرية ومعادية.
9. الاستعداد لإدارة حرب دفاعية طويلة -داخل إيران وفي دائرة مجالها الحيوي- تستهدف استنزاف قدرات وقوى الولايات المتحدة في المنطقة، وبما يجبرها على التفاوض مع إيران طبقًا لشروط الأخيرة.
· السياسة الإيرانية في إدارة الأزمة النووية:
لا يختلف أسلوب النظام الإيراني الحاكم في إدارة الأزمة النووية عن الأسلوب الذي اشتهر به تاجر البازار في إدارة صفقاته حتى يحصل على أفضل شروط له، وأيضًا صانع السجاد الإيراني الذي يصبر سنوات في صناعته لسجادة واحدة حتى يخرجها على النحو الذي يريده. وفي هذا الإطار يمكن رصد الملامح الآتية للسياسة الإيرانية في إدارة الأزمة النووية:
1. الإصرار سياسيًّا وإعلاميًّا على أن البرنامج النووي الإيراني ذو أهداف سلمية بحتة، وليس له أهداف عسكرية أو جوانب عسكرية سرية مخفاة عن الوكالة الدولية للطاقة، وتكذيب ونفي كل ما ينشر عن الأهداف والجوانب العسكرية لهذا البرنامج، والقول بأن أي أهداف أو أنشطة نووية عسكرية إنما يتعارض مع العقيدة الإسلامية التي يلتزم بها النظام الإيراني الحاكم.
2. إطالة زمن التفاوض مع المجتمع الدولي وإجهاده، وبما يمكن إيران من الحصول على الوقت اللازم لإنجاز برنامجها النووي في جانبه العسكري، ثم فرضه على العالم عند اللزوم.
3. الضغط على الولايات المتحدة وإسرائيل من خلال إثارة المشاكل الأمنية لهما من وراء الستار، خاصة في العراق وأفغانستان ولبنان وغزة، وبما يجبرهما على التفاوض مع إيران وإدخال الملف النووي في زمرة الملفات الأخرى العالقة بين إيران والولايات المتحدة، وذلك في إطار صفقة شاملة، أبرزها أن يكون لإيران دور رئيسي في ترتيبات الأمن الإقليمية، خاصة في منطقة الخليج، إلى جانب ضرورة التشاور معها إزاء الأوضاع السياسية والأمنية والعسكرية النهائية في العراق، وبما لا يلغي النفوذ الإيراني هناك، وأن ترفع الولايات المتحدة والدول الأوروبية كافة العقوبات المفروضة على إيران، ويُسحب ملفها من مجلس الأمن، إلى جانب الإفراج عن أرصدتها المجمدة في هذه الدول، وإقامة علاقات سياسية طبيعية وعلاقات اقتصادية متميزة مع إيران، وتسليم عناصر المعارضة الإيرانية المتواجدة في العراق (مجاهدي خلق) إلى السلطات الإيرانية، والتوقف عن دعم عناصر المعارضة للنظام الإيراني داخل وخارج إيران، والأهم من ذلك إعطاء ضمانات بعدم تهديد نظام الحكم الديني في إيران، والامتناع عن إثارة الأقليات العرقية والمذهبية الكبيرة في المحافظات الحدودية ضد نظام الحكم (العرب في خوزستان في الجنوب، البلوش في بالوشستان في الشرق، الآذريين في أذربيجان بالشمال، والأكراد في كردستان في الغرب). مع الاعتراف بحق إيران في امتلاك برنامج نووي ذي أغراض سلمية، وحقها أيضًا في رعاية واحتضان الشيعة على المستوى العالمي؛ وذلك في مقابل توقف إيران عن إثارة المتاعب للولايات المتحدة في بؤر التوتر في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، والامتناع عن دعم ومساندة التنظيمات الإرهابية على الساحة العالمية (خاصة تنظيم القاعدة) أو إيواء عناصرها.
4. وفي إدارة الأزمات مع الولايات المتحدة وإسرائيل؛ تحرص إيران على الوصول إلى حافة الهاوية دون السقوط فيها، والاقتراب من الخطوط الحمراء دون اجتيازها، والتصدي للأمريكيين وحلفائهم دون إعطائهم المبرر العملي والشرعي لشن الحرب على إيران.
5. إعطاء أولوية مطلقة للمحافظة على نظام الحكم الديني في إيران، مع الاستعداد في أسوأ الأحوال لتقديم تنازلات في باقي قضايا الصراع معها، بما فيها الملف النووي، ولكن ليس على حساب سلامة وبقاء النظام الحاكم.
· لماذا تصر إيران على استكمال برنامجها النووي العسكري سرًّا؟
رغم إنكار إيران وجود جانب عسكري سري لبرنامجها النووي، فإن هذا الأمر ليس بخافٍ على الجميع داخل وخارج إيران، خاصة وأنه من الناحية التقنية؛ فإن من يملك تقنية تخصيب 5%، الكافية للأغراض السلمية ووسائلها -أجهزة الطرد المركزي، والليزر وتصنيعها محليًّا- يمكنه أن يصل بنسبة التخصيب إلى 90% فأكثر، المطلوبة لتصنيع سلاح نووي؛ وهو ما دفع بوش للقول إنه لا يخشى ما تملكه إيران حاليًّا من إمكانيات، ولكن ما تحويه الأدمغة الإيرانية، ناهيك عن امتلاك إيران تقنية فصل البلوتونيوم 239 وإنتاج الماء الثقيل في منشأة آراك؛ وهو ما يعني أن إيران تسير في طريقي إنتاج السلاح النووي بواسطة تخصيب اليورانيوم 235، وفصل البلوتونيوم 239.
وينبع إصرار إيران على السير قدمًا في هذا الجانب العسكري -رغم ما تواجهه من عقوبات دولية وصعوبات وعراقيل- من قناعة تعتبرها مشروعه لامتلاكها السلاح النووي، أسوة بدول أخرى في الدائرة الإقليمية ليست أكبر من إيران حضاريًّا، مثل الهند وباكستان وإسرائيل، بالإضافة إلى روسيا القريبة من حدودها الشمالية، هذا إلى جانب طموح إيران في أن تكون قوة إقليمية عظمى قادرة على لعب دور مشابه للدور التركي أو الهندي في المنطقة. بالإضافة إلى أن السلاح النووي الإيراني سيشكل قوة ردع مضادة في وجه القوة النووية الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة، إلى جانب ردع باقي الدول الأخرى في الدائرة الإقليمية، لا سيما وأن إيران لن تنسى حرب الثماني سنوات بينها وبين جارتها العراق، وكانت الأخيرة تقصف إيران بمعدل حوالي 40 صاروخ سكود يوميًّا، إلى جانب القنابل الكيماوية التي كانت تتعرض لها أهداف الجبهة الداخلية في إيران؛ مما اضطر إيران إلى قبول قرار وقف إطلاق النار الذي شبهه الخميني بـ“,”تجرع كأس السم“,”: وهي اليوم في رؤية حكامها واقعة تحت تهديدات أشد من التي كانت تتعرض لها من قبل العراق أثناء حرب الثماني سنوات، مصدرها الولايات المتحدة وإسرائيل.
لذلك فإن إيران غير مستعدة لتفاجئ العالم بامتلاكها سلاحًا نوويًّا، كما فعلت باكستان والهند لفرض الأمر الواقع؛ فهي لا تحتاج لكثير من الموارد لتحقق هذا الهدف، سواء على الصعيد المادي أو التقني، خاصة وأن لديها خبرات وطنيه متراكمة، إضافة لما يمكن أن يقدمه علماء نوويون من جانب روسيا والهند والصين وباكستان وكوريا الشمالية من مساعدات تقنية في هذا المجال، بدءًا بصناعة قنبلة نووية بدائية يجري تفجيرها علنيًّا، وبما يثبت للعالم حق إيران في دخول النادي النووي، وصولاً لتطوير رؤوس نووية لصواريخ بالستية في إطار منظومة عسكرية نووية متطورة. وإن كانت إيران -اتساقًا مع ما أعلنته قياداتها السياسية والعسكرية من عدم رغبة في امتلاك سلاح نووي- تفضل ألا تلجأ إلى هذا الأسلوب، مكتفية باتباع الإستراتيجية الإسرائيلية، وهي “,”الردع النووي بالشك“,” أو “,”القنبلة في القبو“,”؛ منعًا لاستثارة دول أخرى عظمى مثل الولايات المتحدة، أو دول في الدائرة الإقليمية مثل إسرائيل، في الوقت الذي فيه يعلم الجميع جيدًا أن إيران قادرة على تصنيع سلاح نووي وستعلن عنه عندما تشاء، وسيكون استخدامه مقرونًا بخطوط حمراء تهدد أمنها، وذلك في إطار منظومة ردع إستراتيجي متكاملة.
· الضغوط الجديدة التي تتعرض لها إيران:
إلى جانب العقوبات الاقتصادية والسياسية التي فرضها مجلس الأمن الدولي على إيران (أربعة قرارات)؛ بسبب عدم توقفها عن تخصيب اليورانيوم، تتعرض إيران لمجموعة جديدة من الضغوط السياسية والعسكرية من جانب كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، تتمثل في الآتي:
1. تكثيف الوجود العسكري البحري الأمريكي في الخليج وخليج عمان، والمتمثل في أربعين قطعة بحرية، بينها 2 مجموعة حاملة طائرات (عليها 160 مقاتلة) و3 غواصات و4 مدمرات مسلحة بصواريخ كروز (توماهوك)، وإجراء مناورات بحرية وجوية مكثفة في مياه الخليج، إلى جانب نوايا أمريكية بزيادة حجم القوات الأمريكية في أفغانستان بـ40.000 جندي، إضافة إلى تكثيف الوجود العسكري الجوي الأمريكي في القواعد الجوية في بلدان آسيا الوسطى (أذربيجان، قرجيزيا، تركيا)، وتزويد القاعدة الجوية في آنجرليك بحوالي 90 قنبلة نووية تكتيكية B61-11 .
2. كما كشفت جيروزاليم بوست الإسرائيلية النقاب عن أن سلاح الطيران الإسرائيلي يبحث شراء قنبلة ذكية جديدة ومتقدمة، تسمح للطائرات المقاتلة بإصابة أهداف في دمشق وبيروت بدون أن تغادر المجال الجوي الإسرائيلي، وبالتالي ضرب الأهداف الإيرانية من مسافات بعيدة عن مدى صواريخ الدفاع الجوي الإيرانية. وهذه القنبلة الذكية قيد التطوير في شركة بوينج الأمريكية وسلاح الطيران الأسترالي طراز (جي.دي.أي.إم.أي.آر)، وهي الأكثر دقة في التوجيه عالميًّا، إضافة لحصول إسرائيل على 1000 قنبلة ذكية GBU-39 موجهة ذاتيًّا وفضائيًّا، وقادرة على اختراق تحصينات على عمق 30 مترًا وبزنة 113 كجم، ولكن بفاعلية 900 كجم مواد متفجرة.
3. تدعيم إسرائيل لسلاحها الجوي بامتلاك 75 مقاتلة أمريكية جديدة F-35 بصفقة قيمتها 15.2 مليار دولار، بالإضافة إلى 102 مقاتلة F-16 ؛ ليكون لدى إسرائيل في عام 2009 حوالي 600 مقاتلة حديثة ( F15 ، F-16 ، F-35 ) إلى جانب 250 مقاتلة احتياط (كافير، سكاي هوك).
4. قيام الولايات المتحدة بتزويد إسرائيل بنظام رادار أمريكي متطور FBX-T يعمل بنظام X-Band ، يبلغ ارتفاع هوائياته (2 هوائي) 400 متر، تم نصبه في منطقة النقب بواسطة أطقم أمريكية تتولى تشغيله؛ وذلك بهدف زيادة قدرة إسرائيل على رصد الصواريخ الباليستية المعادية أربعة أضعاف. حيث يمكنه رصد أي هدف معادٍ حتى وإن كان بحجم كرة البيسبول على مسافة 4700 كم؛ لينقل بياناته إلى وحدات الدفاع الصاروخي الإسرائيلية (باتريوت باك 2، 3 وحيتس/ السهم)، خاصة بعد تطوير الأخير، وبما يمكن من اعتراض الصواريخ الإيرانية (شهاب) بعد خمسة دقائق من انطلاقها، أي في منتصف المسافة، وقبل أن يصل إلى أراضي إسرائيل. حيث يستغرق الصاروخ شهاب 15 دقيقة حتى يصل إلى إسرائيل. هذا بالإضافة لقيام إسرائيل بتطوير أنظمة أخرى مضادة للصواريخ قصيرة المدى، قادرة على اعتراض الصواريخ كاتيوشا ومثيلتها التي تحلق على ارتفاعات منخفضة (مثل النظام الأمريكي سكاي جارد، ونظام القبة الحديدية)، إلى جانب النظام الأمريكي (ثاد)، وذلك بعد أن أعلنت إسرائيل امتلاك حزب الله لحوالي 30.000 صاروخ أرض/أرض قصير ومتوسط المدى.
5. قيام حوالي 100 مقاتلة إسرائيلية طرازات ( F-15 ، F-16 ) بإجراء مناورات بعيدة المدى، حلقت فيها على مسافات طويلة وصلت إلى حدود اليونان وجبل طارق في الغرب، بعد أن زودت إسرائيل مقاتلاتها بخزانات وقود إضافية. كما أجرت إسرائيل مناورات داخلية بالاشتراك مع الولايات المتحدة لتأمين الجبهة الداخلية، برز فيه سرعة الإنذار بهجوم صاروخي إيراني، وذلك بعد ربط مركز الإنذار الإسرائيلي بمركز الإنذار الأمريكي في كولورادو، بحيث يتلقى المركزان الإنذار من أقمار الإنذار الأمريكية في وقت واحد. وكذلك تم التدريب على عمليات اعتراض الصواريخ الباليستية المعادية بواسطة وحدات الصواريخ المضادة للصواريخ، ودعم أجهزة الدفاع المدني في مواجهة آثار الهجمات الصاروخية المعادية، وأعمال الإنقاذ وتطهير الأفراد والمنشآت والأرض في حالة تلوثها بغازات الحرب الكيماوية أو مواد بيولوجية (حيث تقدر إسرائيل أن إيران ستهاجمها بحوالي 100 صاروخ شهاب، كلٍّ مسلح برأس كيماوية قادرة على تلويث 50 هكتارًا، بإجمالي 5000 هكتار في المنطقتين الساحلية والوسطى المكتظتين بالسكان والأهداف الإستراتيجية).
6. إعلان إسرائيل عقد صفقة جديدة مع ألمانيا لبناء غواصتين إضافيتين طراز (دولفين) مسلحتين بصواريخ كروز نووية؛ ليصبح لديها خمس غواصات من هذا الطراز، هددت إسرائيل بنشرها في مياه خليج عمان؛ لقصف إيران نوويًّا في حال تعرض إسرائيل لقصف صاروخي من قبل إيران، سواء برؤوس تقليدية أو نووية تقليدية.
7. الضغط الأمريكي والإسرائيلي على روسيا لكي تمتنع عن تزويد إيران بصواريخ أرض/جو S-300 ، قادرة على اعتراض طائرات مقاتلة على ارتفاع 30 كم، ويصل مداها إلى 150كم، والرادار الخاص بهذا النظام قادر على رصد أهداف عدة والاشتباك معها في وقت واحد، وبما يحُد من الهجمات الجوية الأمريكية والإسرائيلية. وقد توجه رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت إلى موسكو للضغط عليها لكي تمتنع عن بيع هذا النظام لأي من إيران أو سوريا؛ وذلك مقابل أن تمتنع إسرائيل عن تسليح وتدريب جيش جورجيا، وتغلق قاعدتها الجوية هناك. وقد حدثت بلبلة حول صفقة هذه الصواريخ، فبينما أعلن نائب رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى الإيراني، إسماعيل كوثري، أن “,”روسيا بدأت بتسليم إيران منظومات S-300 الصاروخية“,”؛ نفت مصادر في قطاع تصدير الأسلحة في روسيا ما أعلنه المسئول الإيراني، وأن ما يجري حاليًّا هو توريد أنظمة دفاعية إلى إيران ومنها منظومات أرض/جو طراز Tor-M1 سبق تصديرها لإيران وسوريا. ولكنَّ مسئولاً عسكريًّا روسيًّا أفاد أن صواريخ S-300 ستسلم إلى إيران قريبًا من مخازن وزارة الدفاع الروسي.
· إيران ترد بتجربة الصاروخ (سِجّيل)
وفي مواجهة تطوير إسرائيل لصاروخها الباليستي (أريحا-3) ليصل مداه إلى 3000 كم، وبما يمكنه من المشاركة مع المقاتلات الإسرائيلية في قصف إيران، أعلنت إيران في 12 نوفمبر الماضي عن قيام الحرس الثوري بإطلاق تجربة صاروخية بواسطة صاروخ باليستي متوسط المدى أطلقت عليه إيران (سِجّيل) يعمل بالوقود الصلب، وذلك أثناء المناورات التي أجريت في مدينة (مروان) الحدودية الغربية والقريبة من العراق، ومناورات عسكرية أخرى في منطقة (جيرفت) بجنوب إيران، أعلن خلالها تطوير الطائرة (إيران 140) المخصصة لمهام الدوريات البحرية ونقل الركاب.
ومن المعروف أن إيران في تطويرها لترسانتها من الصواريخ الباليستية تنقل التقنية الروسية والكورية الشمالية (الصاروخ سكود- بي يماثل شهاب- 1، والصاروخ سكود- سي يماثل شهاب- 2، والصاروخ نودنج- A يماثل شهاب- 3، والصاروخ نودنج- B يماثل شهاب- 4)، (والصاروخ تايبودنج – 1 يماثل شهاب- 5، والصاروخ تايبودنج- 2 يماثل شهاب -6)، وإن كانت إيران توقفت عمليًّا عند تطوير شهاب -4. وجميع هذه الصواريخ تعمل محركاتها بالوقود السائل (يتكون من خليط يضم نوعًا من الكيروسين وحامض النيتريك لتوليد الأكسجين، وكل منهما منفصل عن الآخر، وعند الإطلاق يتم خلطهما معًا في الموقع من خلال رشاشات داخل المحرك؛ ولذلك يحتاج إطلاق الصاروخ إلى وقت إضافي للتجهيز قبل الإطلاق، ومن ثم وقت إضافي عند الانتقال من موقع إلى آخر. وجميع الصواريخ من عائلة شهاب المتواجدة حاليًّا في إيران من أصل كوري شمالي تعمل بالوقود السائل. أما الصاروخ الباليستي الجديد (سجّيل)، والذي قيل إنه نوع جديد من شهاب- 3، فإنه يعمل بالوقود الجاف (من مواد قاذفة مركبة محيطة بالمحرك تتكون من أمونيوم بيركلورايد + بودرة ألومنيوم + نترات بوتاسيوم)، وهذه تقنية جديدة لم يسبق أن دخلت في تصنيع الصواريخ شهاب؛ مما يدل على أنها مستوردة من روسيا وليس من كوريا الشمالية؛ وتستهدف زيادة دقة الإصابة مع تقليل الزمن اللازم لتشغيل وحدة الصواريخ وانتقالها، ودخول صناعة الصواريخ الإيرانية مرحلة العمل بالوقود الجاف متعدد مراحل المحركات. وتشير تقديرات الاستخبارات الإسرائيلية إلى أن إيران قد ضاعفت حجم ترساناتها الصاروخية من طراز (شهاب) ليصل حجمها إلى حوالي 400 صاروخ من نوعيات مختلفة.
· هل تملك إيران سلاحًا نوويًّا خلال ثلاثة أشهر؟
منذ صدور تقرير الوكالة الدولية للطاقة النووية الأخير، والذي أشار إلى الفشل الدولي في وقف تخصيب اليورانيوم، وكشف عن نجاح إيران في إنتاج 280 كجم من اليورانيوم بنسبة تخصيب 20%، و5.8 طن بنسبة تخصيب 3-5%، وتشغيل 696 جهاز طرد مركزي متطور RI2 في مصنعي ناتانز، وفاردو؛ فقد اهتمت أجهزة الاستخبارات الغربية والإسرائيلية بدراسة وبحث الإجابة على سؤال مهم حول مدى اقتراب طهران من صنع القنبلة النووية؛ حيث تقاطعت تقديرات هذه الأجهزة عند تقدير شهر يونيو 2013، بعدها سيكون لدى إيران حجمًا من اليورانيوم 235 ذا نسبة تخصيب فوق 50%، وبما يمكن إيران من امتلاك سلاح نووي في منتصف عام 2013.
وتؤكد جميع تقارير المخابرات الغربية والإسرائيلية، فضلاً عن الوكالة الدولية للطاقة النووية أن طهران نجحت في تخصيب كميات كبيرة من اليورانيوم بنسب مختلفة. أما أخطر ما جاء في هذا التقرير فهو أن الإيرانيين يملكون تصميمات صنع رأس نووية صاروخية، حصلوا عليها من شبكة عبد القدير خان الباكستانية، مضيفًا أنهم نجحوا في تطوير برنامج قنابل مصغرة أو مدمجة؛ وهو ما أثار تساؤلات حول حقيقة انتقال الإيرانيين من تخصيب اليورانيوم بنسب منخفضة إلى نسب عالية ضرورية للاستخدام العسكري، وكذلك تساؤلات حول قدرتهم على إجراء تجربة نووية ناجحة وصنع سلاح نووي مصغر؟ وبعض هذه الشكوك ما زالت تظهر في تساؤلات خبراء نوويين نافذين، مثل ديفيد أولبرايت الخبير في معهد العلوم والأمن الدولي، حيث يؤكد على أن إيران لم تصل بعد إلى نقطة اللاعودة في امتلاك التكنولوجيا النووية، وأنها أيضًا لم تخصب بعد الكميات اللازمة من اليورانيوم لصنع أول قنبلة.
وفي حسابات هؤلاء أنه بالعودة إلى رقم الكمية المنتجة الواردة في تقرير الوكالة الدولية للطاقة النووية، وإلى حقيقة أن أجهزة الطرد المركزي الإيرانية تنتج يوميًّا ما بين 2 - 2.5 كجم يورانيوم، فإنه يمكن القول بأن ثلاثة أشهر ستكون كافية لحصول إيران على ما يكفي لصنع أول قنبلة نووية، ويمكن لهذه الفترة أن تطول إلى 3 - 4 أشهر أخرى، وأن هذه الحسابات مبنية على اعترافات إيرانية رسمية بكمية اليورانيوم وعدد أجهزة الطرد المركزي العاملة في مصنعي ناتانز، وفاردو، ولكن لا تأخذ بعين الاعتبار الاحتمال الجدي بوجود مصانع أخرى لتصنيع أجهزة الطرد المركزي وإجراء عمليات تحويل اليورانيوم إلى غاز UF-6 (مثل المعلن عنه في أصفهان)، وعمليات تخصيب اليورانيوم (مثل المعلن عنه في ناتانز)، بالإضافة لمخزونات بكميات أخرى من اليورانيوم المخصب بدرجات مختلفة غير مصرح بها. إذ تشير المعلومات الاستخباراتية أن إيران تملك أكثر من عشرة آلاف جهاز طرد مركزي، خلاف الكميات المعلن عنها (6000 جهاز) منها 696 جهاز RI2 المتطور، كما تشير التقارير أيضًا إلى استمرار رفض الإيرانيين فتح منشأة (آراك) أمام التفتيش الدولي، والتي يتم فيها فصل البلوتونيوم 239 وتصنيع الماء الثقيل، فضلاً عن منشأة فاردو للتخصيب، ومصنع (بارشين) للتجارب النووية.
ويزيد من الشكوك حول النوايا الإيرانية ما أعلنه محمد قاناد، نائب مدير منظمة الطاقة النووية الإيرانية، بأن إيران تعتزم بناء خمسة مفاعلات نووية جديدة في غضون الأعوام الخمسة المقبلة؛ وذلك لتوفير 10% من احتياطيات إيران من الطاقة، أي ما يوازي 20 ألف ميجاوات تقريبًا، مشيرًا إلى أن بلاده تحتل الآن المرتبة السابعة بين الدول القادرة على إنتاج غاز هيكسوفلورايد اليورانيوم UF-6 ، الذي يستخدم في إنتاج الوقود النووي المستخدم في المفاعلات النووية وتصنيع الأسلحة النووية.
· هل تطبق إيران السيناريو النووي الباكستاني؟
مع قرب دخول الرئيس الأمريكي المنتخب باراك أوباما البيت الأبيض في يناير 2009، وإعلانه المسبق أنه وإن كان سيفتح باب التفاوض في جميع الملفات مع إيران، وتقديم حوافز جديدة لها مقابل إصراره وتصميمه على أن توقف إيران عمليات تخصيب اليورانيوم؛ فقد أربك ذلك كثيرًا حسابات الإيرانيين ورهاناتهم على فتح صفحة جديدة مع الولايات المتحدة وإبرام صفقة كبرى معها. وبدأت تسود في طهران مشاعر خيبة أمل وإحباط مع التقارير الجديدة مما يمكن أن تكون عليه إستراتيجية أوباما الشرق أوسطية، وتحديدًا الإيرانية، مع تخوف حقيقي من ألا يكون الرئيس الأمريكي الجديد رئيس حوار وسلام وصفقة، بل قد يكرر مع إيران ما فعله بوش في العراق.
ومع تحليل التقارير القادمة من واشنطن حول سياسة أوباما المتوقعة حيال إيران، ورصد التحركات الأمريكية والدولية المستجدة، خرج مسئولون إيرانيون باستنتاجات متناقضة مع رهاناتهم الأولية، وبدأ الكثيرون منهم يدعون إلى الاستعداد لمواجهة مرحلة صعبة وحاسمة ستنطلق مع قدوم الإدارة الأمريكية الجديدة. حيث يعتقد أصحاب التيار الراديكالي المتشدد أن كل المؤشرات توحي بأن طهران تجد نفسها أمام عصا دولية غليظة تشمل كل وسائل الضغط السياسي والاقتصادي والمالي والنفطي، وتجعل في الخيار العسكري أكثر من مجرد “,”فرصة أخيرة“,”. ولذلك يضغط أصحاب هذا التيار المتشدد لإعداد سيناريو مواجهة مختلف عن سيناريو المعتدلين، الذين يراهنون على الحوار ومقايضة النووي في الحد الأدنى بحد أقصى من ضمان الهيمنة والطموحات، حيث يدعو المتشددون إلى عدم الثقة بالعروض الغربية، ومنح الأولوية للحصول على القنبلة النووية والرهان عليها؛ لفرض الهيمنة وشروط إيران، وذلك بإجراء تجربة نووية يعلن عنها، وربط استخدام إيران للسلاح النووي بخطوط حمراء تتعلق بأمن كيان إيران ومصالحها الإقليمية. ولهذا يدعو هذا الفريق صانعي القرار في طهران أن يصبُّوا اهتمامهم ليس على تقديم عرض الصفقة الكبرى والتنازل في النووي، بل على مواجهة السيناريو الأسوأ واستخدام النووي كأمر واقع. وفي رأي بعض الخبراء الأوروبيين فإن إيران لم تعد تناقش في كيفية خوض مفاوضات الحوار مع الإدارة الأمريكية الجديدة، بل انتقلت في الفترة الأخيرة إلى استئناف البحث في السيناريوهات العسكرية، وفي إعداد خطة ردعية لمواجهة ما باتت تعتبره مؤامرة ضد النظام الإيراني الحاكم.
وتشير تقارير صادرة عن أجهزة الاستخبارات الغربية إلى أن طهران قد اتخذت قرار فتح مواجهة استباقية؛ بتقليد ما حصل مع الهند وباكستان، عبر فرض قدراتها النووية كأمر واقع، وفرض نفسها كقوة نووية جديدة، بحيث تسقط كل السيناريوهات المعدة لإرغامها على وقف التخصيب، والتخلي عن البرنامج النووي؛ وبالتالي تسقط كل احتمالات توجيه ضربة عسكرية لبلد بات يمتلك فعلاً سلاحًا نوويًّا. ولذلك أصدر مرشد الثورة على خامنئي أمره لوكالة الطاقة النووية الإيرانية والمسئولين عن البرنامج النووي السري بتسريع خطوات إنجاز امتلاك التكنولوجيا النووية العسكرية، وكشف ذلك أمام العالم بإجراء أول تجربة نووية تضع حدًّا لكل التساؤلات، وتحسم أمر حيازة إيران للسلاح النووي.
ولقد أصبح هذا السيناريو يشكل كابوسًا للدول الغربية وروسيا أيضًا، لا سيما وأن المعلومات الواردة من داخل إيران لعبت دورًا في التحول المستجد في مواقف أوباما تجاه طهران، وفي التشدد المفاجئ الذي أظهرته عدة دول في التعامل مع إيران، ومنها دول معروفة بمواقف معتدلة مثل ألمانيا وإيطاليا أصبحت تؤيد فرض عقوبات دولية أكثر تشددًا على إيران، بل ومطالبة أوباما بموقف أكثر حزمًا. وقد انعكس هذا التحول في المناقشات الأخيرة التي شهدها مجلس الأمن ومشاركة الدول الخمس الكبرى -بما فيها روسيا والصين- في العمل معًا لإعداد خطة عمل لمنع دخول إيران النادي النووي عنوة. وتحاول أجهزة الاستخبارات الغربية والروسية والصينية الإجابة على سؤال مهم وهو: ماذا لو أعلنت إيران فجأة حصولها على سلاح نووي، أو أجرت تجربة نووية؟! وللإجابة على هذا السؤال تبذل الأجهزة الاستخباراتية جهودًا كبيرة لمعرفة المستوى الحقيقي الذي وصلت إليه إيران في تخصيب اليورانيوم، وفي امتلاك تقنية تطوير رأس صاروخي باليستي نووي.
وستكون التجربة النووية الإيرانية -فيما لو أجريت أو أعلنت طهران امتلاكها سلاحًا نوويًّا دون تجربة حية اكتفاء بالتجارب المعملية- بمثابة الامتحان الأخطر الذي سيواجهه أوباما في الأشهر الستة الأولى من عهده، كما توقع له نائبه جوزيف بايدن، أو في الأيام الأولى، كما يتوقع له بعض الخبراء الذين يتحدثون منذ الآن عن أزمة ستواجه أوباما من جانب إيران، ستكون أخطر من أزمة الصواريخ الروسية في كوبا، التي واجهت الرئيس الأمريكي جون كيندي عام 1962.
· المعتدلون في إيران يحبذون سيناريو الردع بالشك الإسرائيلي:
وفي مواجهة مخاطر السيناريو الباكستاني والهندي السابق، والذي قد يدفع إدارة أوباما وإسرائيل إلى توجيه ضربة عسكرية ضد إيران لوضع نهاية حاسمة لبرنامجها النووي، وإذا ما حدث ذلك فإن مثل هذه الضربة ستكون قوية، وقد تستمر أيامًا وستؤدي بالضرورة إلى خلخلة أركان نظام الحكم الديني القائم في إيران؛ لأنها ستؤدي بالضرورة إلى ضرب أهداف إستراتيجية وعسكرية أخرى خلاف المنشآت النووية.. مثل مناطق تمركز الحرس الثوري
-خاصة قواته البحرية- ووحدات الصواريخ شهاب، ومنشآت تصنيعه، ومراكز القيادة والسيطرة السياسية والإستراتيجية، ووسائل الدفاع الجوي والقواعد الجوية والمطارات، والمصانع الحربية، وقد تطول العملية العسكرية المنشآت النفطية أيضًا. وفي ضوء رد الفعل الإيراني ضد القوات الأمريكية في الخليج وإسرائيل، قد تلجأ الولايات المتحدة وإسرائيل إلى استخدام ما لديهما من أسلحة نووية تكتيكية ضد إيران لحسم الحرب نهائيًا، وحتى لا يقعا في مستنقع حرب الاستنزاف التي تستهدف إيران توريط الولايات المتحدة فيها، على النحو الجاري في العراق وأفغانستان، وهو ما يعني في المحصلة النهائية ليس فقط نهاية نظام الحكم الديني في إيران، ولكن -وهو الأخطر- إحداث تدمير شبه كلي لإيران يعيدها خمسين سنة إلى الوراء.
وفي مواجهة هذه المخاطر ينصح المعتدلون في نظام الحكم الإيراني، ودوائر صنع القرار المؤثر -وهم قلة- ألا تلجأ إيران إلى السيناريو السابق، ومن المفضل أن تتبع السيناريو الإسرائيلي المنفذ حتى الآن، وهو إستراتيجية (الردع النووي بالشك) أو (القنبلة في القبو). بمعني أن إيران تمتلك حاليًّا المعرفة التقنية اللازمة لتصنيع سلاح نووي، وتصميمات تصنيع رأس نووي صاروخي، وجميع وسائل الإنتاج التي تمكنها من ذلك، وقادرة على تنفيذ ذلك خلال فترة زمنية محدودة، لا سيما وأنه من المعروف أن من يملك تقنية ووسائل تخصيب بنسبة 5% يورانيوم، قادر بالتالي -إذا ما أراد- أن يصل بالتخصيب إلى نسبة 90% وأعلى، ولكن على إيران أن تعلن أنها تجمد برنامجها النووي حاليًّا استجابة لرغبة المجتمع الدولي؛ وذلك حتى تنزع فتيل إشعال حرب ضدها تريد إسرائيل من خلالها تدمير والقضاء على كل ما أنجزته إيران في برنامجها النووي ووسائل الدفاع عنه عبر سنوات طويلة.
كما ينصح المعتدلون في دوائر صنع القرار المؤثرة في إيران، بألا يُعِّول متخذ القرار في طهران كثيرًا على الدعم الروسي لإيران في مواجهة المخططات الأمريكية والإسرائيلية. ذلك أن حصول إيران على السلاح النووي هو الخط الأحمر المتفق عليه بين أمريكا وروسيا وإسرائيل والدول الغربية الأخرى؛ حيث لا ترغب روسيا حقيقة في امتلاك إيران التي يحكمها نظام ديني متطرف، والقريبة من حدود روسيا الجنوبية، صواريخ ذات رؤوس نووية، خاصة وأن المناطق الفاصلة بين روسيا وإيران تحوي دول آسيا الوسطى الإسلامية، والتي كانت إلى عهد قريب جزءًا من الاتحاد السوفيتي السابق قبل انهياره وتفككه في عام 1992، ولإيران في هذه الدول نفوذ بين جماهير الشيعة، وقد يشكلون مستقبلاً -إذا ما تغلغل النفوذ الإيراني بينهم بعد امتلاك إيران سلاح نووي- تهديدًا جديًّا لروسيا. ولعل زيارة هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكية الأسبق لموسكو مؤخرًا -وهو المعروف بأنه مهندس السياسة والإستراتيجية الأمريكية في الإدارات الأمريكية المختلفة عبر العقود الزمنية الماضية منذ الستينيات- دليل على التنسيق الأمريكي الروسي حول الملف النووي الإيراني. حيث سعى كيسنجر إلى إغراء موسكو بالانضمام إلى ما بدأ يتبلور في شكل تحالف دولي؛ لشن حملة استباقية ضد السلاح النووي الإيراني قبل وصول طهران إلى نقطة اللاعودة؛ وذلك مقابل صفقة مع إدارة أوباما الجديدة تستعيد بموجبها روسيا نفوذها في جورجيا وأوكرانيا ومناطق أخرى في القوقاز وآسيا الوسطى، وهو ما يعني اتفاق موسكو وواشنطن حول رفض ما تحاول إيران فرضه على المجتمع الدولي باعتبارها دولة نووية أخرى في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يعني أيضًا –ضمنيًّا- أن زمن الحروب الاستباقية لن ينتهي مع نهاية عهد بوش، بل ستظل مستمرة أيضًا في عهد أوباما، خاصة وأن إسرائيل قد تفرضها على أمريكا ضد إيران، عندما تشكل ضربة إسرائيلية ضد إيران رأس حربة لعملية عسكرية أوسع تشارك فيها أمريكا؛ باعتبار مسئولية الأخيرة عن أمن إسرائيل في حالة رد فعل إيراني ضد إسرائيل.
· كيف يفكر صانع القرار الإيراني؟ ( [1] )
إن مواجهة القائد الفارسي “,”داريوس الثالث“,” مع “,”الإسكندر المقدوني“,” في معركتي “,”إفسوس“,” و“,”جاوجاميلا“,” (331 - 332 ق.م)، أصبحت مثالاً تكرر دائمًا في تاريخ إيران. إذ نراه في معركتي “,”القادسية“,” و“,”نهاوند“,” (634م)، ثم نجده بعد فترة طويلة يبرز في المواجهة مع الولايات المتحدة في أزمة “,”ناقلات النفط“,” عام 1986 إبان الحرب العراقية - الإيرانية. وكل هذه المواجهات تشير إلى نسق فكري لصانع القرار الإيراني متوارث وممتد في القدم، وينهض على المفاهيم الآتية:
1. فهو لديه شعور كبير بالزهو والفخار الوطني.
2. وهو يعني ما يقول عند التهديد بالمواجهة.
3. وهو يقبل بأن يراهن على كل شيء دفعة واحدة.
4. وهو دائمًا في النهاية يخسر الرهان بنتائج كارثية.
وفيما يتعلق بالأزمات التي تواجهها إيران في منطقة الخليج حاليًّا، فإننا نرى أن قضيتي “,”الجزر الإماراتية الثلاث المحتلة“,” و“,”برنامج إيران النووي“,”، أصبحتا قضيتين يتمسك بهما الرأي العام الإيراني بصورة تقلل من هامش المناورة لصانع القرار الإيراني، بعد أن شحن وجدان الإيرانيين بأهميتهما لإيران؛ باعتبارهما من الغايات والأهداف القومية الإيرانية العليا التي لا ينبغي التنازل عنها.
ويدل قبول آية الله خميني، زعيم الثورة الإيرانية، لقرار وقف إطلاق النار في الحرب العراقية الإيرانية 1988على ذلك، كما يدل أيضًا على تجسيد نظرية مصلحة الأمة في الفقه الشيعي. ويوجد شبه كبير لهذا القرار مع قرار قبول القيادة الإيرانية وقف إطلاق النار في مواجهة حزب الله اللبناني مع إسرائيل في حرب يوليو 2006، بعد أن تهدمت معظم المدن اللبنانية بفعل الضربات الجوية الإسرائيلية، وأن كلا القرارين صدرا بعد ضغط كبير تعرضت له إيران عسكريًّا في المثال الأول، وخسائر ضخمة للشعب اللبناني في المثال الثاني. وهذان المثالان من التاريخ القريب يرجحان احتمال أن تقبل إيران بحل يحول دون امتلاكها للسلاح النووي مؤقتًا؛ مقابل ضمانات كاملة بأمن وسلامة إيران، وعدم تعرضها لأي عمل عسكري، سواء من قبل الولايات المتحدة أو إسرائيل، وبقاء واستمرار نظام الحكم الديني الثوري الحالي، ولكن لن تقْدم القيادة الإيرانية على هذه الخطوة إلا عندما ترى أن التهديد العسكري لإيران ولها جديٌّ وليس “,”تهويشًا“,”.
وبناء على التجارب التاريخية المعاصرة (غزو العراق واحتلاله بواسطة الولايات المتحدة عام 2003، وتحرش حزب الله في لبنان بإسرائيل عام 2006)؛ فإن القيادة الإيرانية أظهرت دائمًا أنها مستعدة للتضحية بمصالح الآخرين من أجل خدمة مصالحها ومصالح إيران. وبناء على ذلك يمكننا أن نستنتج أنه في أحسن الأحوال، فإن القيادة الإيرانية لن تقبل بالرضوخ لإرادة المجتمع الدولي إلا بعد أن تدخل المنطقة في أتون مواجهة ساخنة، سوف تتجاوز مرحلة فرض مجموعات إضافية من العقوبات من قبل مجلس الأمن ضد إيران، والتحول نحو استعراض كبير للقوة من جانب دول التحالف الغربي وإسرائيل، هذا إن لم يحدث استخدام فعلي لحجم ونوعية ومستوى معين من القوة العسكرية ضد إيران، بعد أن تثبت الولايات المتحدة للمجتمع الدولي أنها استنفدت كل الجهود والوسائل السياسية والعقوبات الاقتصادية لإجبار إيران على التراجع عن برنامجها النووي، ولكنها لم تستجب، وتروج إسرائيل بدورها للعالم أن البرنامج النووي الإيراني يشكل تهديدًا خطيرًا لكيان إسرائيل فضلاً عن أمنها. وقد عبَّرت القيادة الإيرانية بصراحة، وفي أكثر من مناسبة، أنها لن تكون المتضرر الوحيد من تصعيد الأزمة النووية لغير صالحها، وإنما ستجمع جيرانها الإقليميين معها، بمعنى أن الرد الإيراني على أية عملية عسكرية ضدها لن يقتصر فقط على مصدر التهديد (مواقع القوات الأمريكية في المنطقة وإسرائيل)، بل سيشمل أيضًا دول الخليج العربية، وقد يمتد لدول آسيا الوسطى وتركيا وجنوب آسيا التي بها قواعد عسكرية أمريكية.
ومن ثم فإن الاحتمال الأسوأ هو أن تستخدم أي من الولايات المتحدة أو إسرائيل
-وغالبًا الأخيرة كرأس رمح لعملية عسكرية- القوة القصوى ضد إيران في خلال الفترة المتبقية من حكم إدارة بوش، وبعد انتهاء حملة انتخابات الرئاسة؛ منعًا لإحراج المرشح الجمهوري، وقبل استلام الإدارة الجديدة مقاليد الحكم في البيت الأبيض، وهو ما توقعه كثيرون من الأمريكيين المحافظين، وعلى رأسهم جون بولتون سفير أمريكا السابق في الأمم المتحدة. وفي كلا الاحتمالين -استعراض القوة أو استخدامها- فإن دول منطقة الشرق الأوسط، وفي مقدمتها دول الخليج، سوف تتضرر أكثر من إيران، إلا أن دول الخليج العربية ولبنان وغزة ستكون مسرحًا لصراع الإرادات بين الولايات المتحدة وحلفائها، وعلى رأسهم إسرائيل من جهة، وبين إيران وحلفائها في المنطقة من جهة أخرى، وذلك قبل أن يصل الطرفان إلى نتيجة. ولأن إيران أكثر قدرة من الناحية الجيوبوليتيكية -جغرافيًّا وسكانيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا- على التصدي لعمليات عسكرية ضدها وامتصاصها، إلا أن دول الخليج العربية ستكون (البطن الرخوة) التي يمكن اختراقها؛ وهو ما يفرض في المقابل تعبئة وتلاحم كافة قوى هذه الدول بكل طوائفها وفئاتها؛ حتى لا تستقطَب فئات منها لصالح توجهات خارجية -سواء إيرانية أو قاعدية- هذا إلى جانب إعادة تنظيم قواها العسكرية والأمنية لتكون قادرة على صيانة أمنها الوطني بكل أبعاده الداخلية والخارجية، وبشكل يحقق أعلى مردود لها؛ حتى لا تقع في خطر الاستنزاف الداخلي على أكثر من جبهة بفعل أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية والحرس الثوري الإيراني وتنظيم القاعدة الإرهابي.
· الأسلوب الإيراني في إدارة الأزمات:
للتعرف على الأسلوب الذي تدير به القيادة الإيرانية أزماتها الخارجية والداخلية -وعلى رأسها الأزمة النووية- ينبغي في هذا الصدد أن نرصد وبشكل عام المنهج الإيراني لإدارة الأزمات بشكل عام طبقًا للخبرات السابقة، وتكوين دائرة صنع القرار السياسي والإستراتيجي في إيران عند نشوب الأزمات ( [2] ) ، والتجارب التاريخية السابقة (مثل حرب الثماني سنوات بين العراق وإيران، وأزمة ناقلات النفط عامي 1986، 1987)، وكيف تشكل القيادة الإيرانية تصوراتها للأخطار الماثلة أمامها نتيجة لتجاربها الداخلية وانتمائها الأيديولوجي، ونظرتها الواقعية للظروف القائمة في البيئات المحلية والإقليمية والدولية، وأساليب القيادة الإيرانية في التصعيد والتراجع عند وقوع الأزمات، وهو منطق تاجر البازار في المساومات عند عقد الصفقات التجارية؛ حتى يحصل على أفضل الشروط التي تناسبه، والصبر الذي يتسم به صانع السجاد اليدوي عدة سنوات حتى ينجز السجادة التي بيده. هذا بالإضافة إلى ميل القيادة الإيرانية تاريخيًّا وحاليًّا لاستعراض القوة كأسلوب للتصعيد في الأزمات، وذلك على النحو الذي نرى تطبيقه في الأزمة الحالية، حيث تجري قوات الحرس الثوري والقوات المسلحة الإيرانية مناورات ضخمة من حين لآخر في جميع أنحاء إيران وفي مياه الخليج، تستعرض خلالها أمام وسائل الإعلام العالمية ما تمتلكه وما تنتجه محليًّا من أنظمة تسليح ومعدات حربية متنوعة، جوية وبحرية وبرية، مع التدريب على إغلاق مضيق هرمز في وجه الملاحة الدولية، وكيفية قيام الزوارق الانتحارية بإغراق ناقلات النفط والسفن الحربية الأمريكية. هذا إلى جانب تعدد مراحل ومراكز صنع واتخاذ القرار، كأسلوب لتوزيع الأدوار وتشكيك الخصوم في حقيقة النوايا الإيرانية، واعتماد دبلوماسية التفاوض المستمرة كأسلوب لكسب الوقت وإرهاق الخصم المفاوض.
وبسبب تصور القيادة الإيرانية المبني على نجاحها النسبي في تأخير المشروع الأمريكي في العراق، وهو أن الوقت الحالي مناسب لتحدي الوضع القائم Status Quo في الخليج؛ فإن هناك احتمالاً متزايدًا بالاتجاه المتعمد من هذه القيادة نحو التصعيد في الأزمة الحالية، مستغلة الوضع السيء الذي تعانيه الإدارة الأمريكية داخليًّا بسبب الأزمة المالية، وانقسامات المجتمع الأمريكي حول المرشحيْن الديموقراطي والجمهوري في انتخابات الرئاسة، وانكشاف البقع السوداء التي تلطخ الثوب الأمريكي، إلى جانب معاناة القوات الأمريكية وخسائرها في العراق وأفغانستان، وتصدع علاقاتها مع روسيا بسبب أزمة جورجيا، بالإضافة لتوتر علاقات أمريكا مع حلفائها في أوروبا وآسيا.
وقد انعكس هذا التصعيد، ليس فقط في رفض حزمة الحوافز التي عرضتها مجموعة دول العضوية الدائمة في مجلس الأمن وألمانيا (5+1) لكي توقف إيران تخصيب اليورانيوم، وهي حوافز سياسية وتكنولوجية واقتصادية أكثر مما كانت تحلم إيران، ولكن شمل التصعيد الإيراني أيضًا الإعلان عن زيادة عدد أجهزة الطرد المركزي التي يتم بها تخصيب اليورانيوم من 3000 جهاز إلى 6000 جهاز P-1 ؛ توطئة إلى وصولها خلال خمس سنوات إلى 54.000 جهاز، مع استخدام الطراز المطور P-2 ، والذي تبلغ قدرته أربعة أضعاف الجهاز P-1 من حيث القدرة على التخصيب؛ لقلة أعطاله وسرعة التخصيب ونقاوة اليورانيوم 235 المخصب، هذا مع استخدام تقنية التخصيب بالليزر في منشأة (لاشكاراد آباد)، وتقنية فصل البلوتونيوم 239، وإنتاج الماء الثقيل في منشأة (آراك) ( [3] ) .
وقد وصف المسئولون في الأمم المتحدة الأزمة النووية الإيرانية الحالية بين الوكالة الدولية للطاقة والنظام الإيراني الحاكم بأنها في مرحلة “,”اختناق تام“,”، أو وصلت إلى “,”نهاية مغلقة“,”، ولا تمثل هذه التصريحات مفاجأة كبيرة، فقد سبق للرئيس أحمدي نجاد أن صرح في أكثر من مناسبة أن التوقف عن تخصيب اليورانيوم يمثل “,”خطًّا أحمر“,” بالنسبة لنظامه. وفي تقرير مدير الوكالة الدولية للطاقة الأخير، في 15 سبتمبر الماضي، الذي رفعه إلى مجلس الأمن، أكد على عدم التزام إيران بقرارات مجلس الأمن الأربعة؛ وهو ما يشكل تحديًا واستخفافًا بالإرادة الدولية. وكشف هذا التقرير عن تحقيق طهران تحسنًا جوهريًّا كبيرًا في تنمية وأداء أجهزة الطرد المركزي في منشأة ناتانز لتخصيب اليورانيوم، والذي وصل الآن إلى ما يقرب من 85% من القدرة المستهدفة للبرنامج النووي الإيراني، والذي يتحكم فيه الحرس الثوري الإيراني، ويشرف عليه عن قرب مرشد الثورة الأعلى آية الله علي خامنئي، وأن هذا البرنامج استطاع التغلب على الكثير من المشاكل التقنية؛ ويرجع ذلك إلى تركيب أجهزة طرد مركزي جديدة وأكثر تقدمًا، وهو ما سبق الإشارة إليه آنفًا.
وترتكز خطة النظام الإيراني على إنتاج ما يكفي من اليورانيوم المنخفض التخصيب (3-5%) تحت أعين الوكالة الدولية للطاقة النووية، وفي إطار برنامج سلمي لطيف، ثم يتم حقنه مجددًا في أجهزة الطرد المركزي لإنتاج اليورانيوم عالي التخصيب (حتى أعلى من 90% واللازم لصناعة سلاح نووي)، مع العلم بأن إنتاج يورانيوم منخفض التخصيب يستغرق وقتًا أطول وموارد أكثر مما يستغرقه الأمر فيما بعد لزيادة تخصيبه إلى مستوى تصنيع السلاح النووي. وطبقًا لمحللي مجلس المعلومات الأمنية البريطانية الأمريكية، فإن الأمر سيتطلب 20% من الجهد والتكلفة الإضافية من أجل إنتاج يورانيوم عالي التخصيب من ذلك منخفض التخصيب، مقارنة بنفس الجهد والتكلفة التي يتطلبها الأمر لإنتاج اليورانيوم منخفض التخصيب من اليورانيوم الطبيعي.
وطبقًا لما جاء في تقرير الوكالة الدولية للطاقة النووية، فإن إيران تملك الآن ما يقرب من 480 كيلو جرام من اليورانيوم منخفض التخصيب، وتتفاوت التقديرات حول ما تحتاجه إيران من هذا النوع من اليورانيوم لإنتاج يورانيوم عالي التخصيب الكافي لإنتاج سلاح نووي. حيث تتراوح التقديرات ما بين 800 - 1700 كجم من اليورانيوم منخفض التخصيب لإنتاج 20 - 25 كجم عالي التخصيب (90% فأعلى)، وهي الكمية اللازمة لصنع سلاح نووي واحد قدرته 20 كيلو/ طن، مماثل لقنبلة هيروشيما. وعلى ضوء الزيادة المتوقعة في أداء أجهزة التخصيب؛ فإن إيران قد تكون على بعد ستة (6) أشهر فقط من امتلاك كمية اليورانيوم منخفض التخصيب الكافي، والذي يمكن استخدامه -فور أن يتم تحويله إلى يورانيوم عالي التخصيب- في صنع سلاح نووي واحد. كما كشف تقرير الوكالة أيضًا عن أمر ذي مغزى آخر، وهو استخدام طهران “,”خبرة أجنبية“,” في تجارب على المفجرات التي تستخدم لإحداث الانفجار في السلاح النووي، ولم يكشف مسئول الوكالة الدولية عن مصدر “,”الخبرة الأجنبية“,”، ولكنه استبعد العالم النووي الباكستاني عبد القدير خان، وكذلك استبعد كوريا الشمالية وليبيا من قائمة المتهمين، وقد حافظت طهران على سرية مصدر هذه المساعدة، وإن كانت مصادر المعلومات الغربية ترشح خبراء نوويين روس أمكن للمافيا الروسية نقلهم إلى إيران. وقد أكد هذه الشائعات تمكن إيران أيضًا من التوصل إلى تصميم رأس صاروخي قادر على حمل سلاح نووي.
وإذا كان تقرير الوكالة الدولية للطاقة النووية قد طالب إيران بالكشف عن أنشطتها النووية السرية، وتمكينها من الوصول إلى الوثائق والأشخاص ذوي الصلة بهذا الشأن، وأن توفر الشفافية الكاملة فيما تقدمه من معلومات، وتقوم بتنفيذ البروتوكول الإضافي؛ فإن ذلك يعني فشل الاتجاه الخيالي الذي لجأت إليه الوكالة بطرح طريق جديد للتعامل مع الأنشطة النووية الإيرانية موضع الشكوك خارج مجلس الأمن الدولي. كما منحت هذه المبادرة الفاشلة نظام الحكم في طهران الكثير من الوقت المطلوب من أجل التغلب على المشاكل التقنية التي تواجهها، وتركيب أعداد أكثر وأفضل من أجهزة الطرد المركزي. كما عكس التقرير أيضًا الفشل الكامل والمطلق للطريق الدبلوماسي والذي بدأ في أوائل عام 2008، والذي ارتكز على إغراء قادة النظام الإيراني من أجل الانصياع مقابل تقديم حزمة شديدة السخاء من المحفزات الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية.
وتوجد أدلة على أن القيادة الإيرانية ربما تلجأ لتمثيل دور صانع القرار غير العقلاني ( Irrational Decision Maker )؛ من أجل أن تفرض التصرف بصورة أكثر عقلانية على خصومها، وقد تزداد في النزوع إلى هذه التصرف اللاعقلاني إذا ما فرض نوع من الالتزام على إيران، أو ما قد يستتبعه ذلك من قرار دولي بفرض عقوبات ثم حصار دولي من مجلس الأمن عليها. وفي إطار القرارات غير العقلانية ما سبق أن هدَّد به قائد الحرس الثوري من دفع عدة ملايين من الحرس الثوري ومتطوعي الباسيج إلى جنوب العراق لإغراق القوات الأمريكية والبريطانية في بحر من الدماء، إلى جانب تهديد خامنئي نفسه لإسرائيل بتحويلها إلى كرة من اللهب في حالة تعرض إيران لضربة عسكرية، وكذلك القواعد الأمريكية في الخليج، وإغلاق مضيق هرمز في وجه ناقلات النفط، وذلك كنوع من الحرب النفسية الإيرانية الموجهة ضد خصومها.
وفي هذا المسار اللاعقلاني فإن تصعيد الأزمة قد يأخذ أبعادًا سياسية واقتصادية وعسكرية هدفها كلها كسب الوقت، وهو المنهج الإيراني الذي يبدو واضحًا في رفض أو الانتقاء بين شروط المبادرات الدولية التي تقدم لإيران من أكثر من طرف دولي، بقصد الحيلولة دون استمرارها في تخصيب اليورانيوم على أراضيها، وآخرها المبادرة الروسية لإجراء التخصيب في روسيا بمشاركة الخبراء الإيرانيين، وسلة الحوافز التي قدمتها مجموعة الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن وألمانيا (5+1).
وتسعى إيران من وراء كسب الوقت إلى تحقيق هدفين:
الهدف الأول: إتاحة الفرصة الزمنية اللازمة لاستكمال المراحل المتبقية من البرنامج النووي.
الهدف الثاني: دحرجة الأزمة حتى تنتهي ولاية إدارة بوش، والرهان على نجاح المرشح الديموقراطي (أوباما) في الوصول إلى البيت الأبيض، وإمكانية التفاهم معه، وبحيث تبدأ معه إيران لعبة التفاوض من المربع رقم واحد من جديد، استمرارًا لسياسة كسب الوقت.
ولأن سلة الحوافز التي قدمتها مجموعة دول (5+1) إلى إيران تعتبر -في الرؤية الإيرانية- الحد الأدنى الذي يمكن لإيران أن تقبل به الآن؛ لذلك فإنها تفاوض على مزايا أكبر من ذلك. ومن ثم فهي لم توقف التخصيب وتفاوض على المقابل لذلك، في حين أنها كانت منذ أكثر من عامين قد أوقفت التخصيب أثناء مفاوضاتها مع الترويكا الأوروبية مطالبة بالثمن. ثم أعادت التخصيب مرة أخرى مطالبة بثمن أعلى مقابل إيقافه مرة أخرى، وهو ثمن أعلى من سلة الحوافز، وفي إطار تفاوض مباشر مع الولايات المتحدة حول موضوعات أشمل من الملف النووي، وبدون شروط مسبقة تتضمن هذه المرة تجميد التخصيب مؤقتًا أو بنسبة أقل مقابل تجميد العقوبات. وهنا تبدو براعة المفاوض الإيراني الذي يعرض سلعته ثم يستردها ثم يعرضها مرة أخرى مقابل ثمن أعلى.
وكنتيجة مباشرة للتصعيد الذي تتبعه إيران في الأزمة حاليًّا، وبجانب ما تتسبب فيه من تأثيرات لا مفر منها على دول المنطقة، خاصة الخليجية، سبق الإشارة إليها؛ فإن هناك احتمالاً متزايدًا آخر بخروج الأزمة عن نطاق السيطرة؛ بسبب إما تدخل عوامل خارجة عن التقدير (مثل تدخل إسرائيل عسكريًّا، أو غياب أو تغييب أحد القادة الإيرانيين، أو ضغط الشارع الإيراني)، أو الخطأ في تقدير القيادة الإيرانية لدور دول مجلس التعاون الخليجي في أي حشد عسكري أمريكي في المنطقة وتحميل هذه الدول المسئولية عن ذلك. وبالتالي معاقبتها، أو لقيام قائد عسكري محلي (إيراني أو غربي) بتصرف فردي متهور يورط أطراف الأزمة في مواجهة عسكرية مباشرة، أو لغير ذلك من الأسباب، أو وقوع تحرش بين الزوارق الإيرانية والسفن الحربية الأمريكية في الخليج على النحو الذي جري في بداية هذا العام.
كما أن هناك احتمالاً متزايدًا بتعرض دولة خليجية أو قياداتها لنوع أو آخر من الإرهاب التقليدي (يماثل محاولة اغتيال أمير الكويت الراحل الشيخ جابر الأحمد الصباح في عام 1987 بفعل عناصر موالية لإيران؛ بسبب دعم الكويت للعراق في الحرب العراقية الإيرانية)؛ كنتيجة لأوامر من القيادة الإيرانية ذاتها لأحد أجهزتها المخابراتية، أو لتدخل أطراف إرهابية أخرى مثل تنظيم القاعدة أو حزب الله الخليجي تعمل لحساب هذه الأجهزة أو لحسابها الخاص، كما هو الحال في العراق؛ بهدف إحداث انقلاب يؤدي إلى قيام “,”إمارة إسلامية متطرفة“,”، كما هو الحال في الصومال اليوم، وأفغانستان تحت حكم طالبان، ولم يعد خافيًا تحريك إيران لجماهير الشيعة في البحرين لشن مظاهرات حاشدة من حين لآخر؛ للمطالبة بما تسميه حقوقًا سياسية للطائفة الشيعية هناك.
ومن سمات الأسلوب الإيراني في إدارة الأزمات –أيضًا- اللعب بأوراق الآخرين في إثارة بؤر توتر في المنطقة في وجه خصوم إيران، وبما يؤكد لهؤلاء الخصوم قدرة القيادة الإيرانية على اللعب خارج حدود إيران بواسطة أذرعها الممتدة والمتمثلة في أتباعها من العملاء داخل عدد من الدول العربية والإسلامية (مثل عرقلتها انتخاب رئيس جمهورية لبنان لأكثر من سنة، وتحريك حركة حماس في غزة ضد مصر في منطقة الحدود بدعوى فتح بوابة رفح، ونفوذ الحرس الثوري في سوريا، وتحريك القوى الشيعية في الكويت لتأبين اغتيال عماد مغنية، ودفع قلب الدين حكمتيار -زعيم الحزب الإسلامي في أفغانستان- لمحاربة قوات الناتو وحكومة قرضاي هناك)، هذا إلى جانب تحريك دول صديقة لإيران للعمل ضد الولايات المتحدة بالقرب من حدودها (مثل فنزويلا وكوبا)، وفي القوقاز وآسيا الوسطى أيضًا.
تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع قوى دولية كبرى مؤثرة في مجلس الأمن (روسيا والصين) لمنع المجلس من اتخاذ قرارات ضد إيران، مع استغلال الأزمات التي تنشب بين هذه الدول والولايات المتحدة لصالح إيران (نشر عناصر الدرع الصاروخي الأمريكي في تشيكيا وبولندا، وأزمة جورجيا مع روسيا).
وتشير خلاصة الخبرة التاريخية والحالية للأسلوب الإيراني في إدارة الأزمات للآتي:
1) التصرف وكأن مراكز القرار متعددة كأسلوب مشتت لذهن الخصم.
2) التصرف وكأن صانع القرار الإيراني غير عقلاني؛ لإجبار الخصم على أن يكون عقلانيًّا أكثر.
3) استخدام انتشار القوة ( Force Projection ) كأسلوب للتصعيد.
4) الاستخدام المكثف لوسائل الإعلام في إدارة حملة الدبلوماسية العلنية.
5) إعلان الخطوط الحمراء بالنسبة لقدرات إيران على التحرك عسكريًّا باستخدام القوة التقليدية، وحدود قدراتها، مع عدم اجتيازها؛ مما يعني ممارسة القيادة والسيطرة المباشرة من قبل القيادة السياسية لكل الأجهزة المدنية والعسكرية، وذلك كوسيلة ردع نفسي للخصوم.
6) قيام نفس القيادة السياسية الإيرانية باختراق نفس الخطوط الحمراء حين تسمح لنفسها باستخدام القوة بغير الوسائل التقليدية (مثل العمليات الإرهابية، والدعاية المضادة، والتخريب المعنوي، وتحميل الصواريخ شهاب برؤوس كيماوية وبيولوجية).
· أوراق الضغط التي في أيدي صانع القرار الإيراني، وعلى ماذا يراهن؟
تملك إيران أوراقًا كثيرة داخلية وإقليمية ودولية تمكنها من فرض إرادتها في إدارة أزماتها الخارجية، وردع واشنطن عن شن حرب ضدها (محدودة أو شاملة). ففي إطار الأوراق الداخلية تعتبر المزايا الجيوبوليتيكية التي تتمتع بها إيران من حيث اتساع المساحة (1.684.000كم2) وكثافة السكان (80 مليون نسمة) مع موارد طبيعية هائلة (مياه ونفط تنتج 5-6 مليون برميل نفط يوميا) وأراضٍ خصبة للزراعة، وإمكانات ضخمة للصناعات الثقيلة والخفيفة... الخ، إلى جانب تحكمها في الخطوط الملاحية لناقلات النفط بالخليج، بالنظر لسيطرتها على مضيق هرمز الإستراتيجي الذي تمر منه نسبة 40% من احتياجات الدول المستهلكة للنفط في العالم، تجعل تأثير فرض العقوبات عليها محدودًا. أما امتداداتها الإقليمية فتتمثل في نفوذ الشيعة التابعين لها في دول منطقة الخليج وحزب الله في لبنان وحماس وفلسطين، وجماهير الشيعة في بلدان وسط وجنوب آسيا. وعلى الساحة الدولية تمثل العلاقات الاقتصادية بين إيران وكل من روسيا والصين ورقة إيرانية مهمة في منع مجلس الأمن من اتخاذ قرارات تشكل أضرارًا لإيران تلبية للمطالب الأمريكية، وحتى في الدائرة الأوروبية يوجد أيضًا نفوذ إيراني نتيجة المصالح الاقتصادية لبعض الدول الأوروبية في إيران.
وتشكل القوة العسكرية الإيرانية ببعديها، التقليدي [الممثل في قواتها المسلحة وقواتها شبه العسكرية -الحرس الثوري _(البازدران)- ومتطوعي الباسيج، ويقدر عددهم ما بين 4-6 مليون فرد]، والفوق تقليدي [المتمثل في الرؤوس الكيماوية والبيولوجية للصواريخ شهاب-3]، رادعًا قويًّا في وجه المخططات العسكرية الأمريكية والإسرائيلية لضرب إيران. يدخل في هذا الإطار القدرة على شن هجمات بحرية بواسطة 150 لنش صواريخ ولنشات انتحارية ضد القطع البحرية والقواعد الأمريكية في الخليج. ورغم عدم وجود مقارنة بين القوة العسكرية الأمريكية -خاصة الجوية والصاروخية والنووية- والقوة العسكرية الإيرانية، بالنظر للتفوق الساحق للقوة الأمريكية لا سيما على الصعيد التقني، إلا أن قدرة إيران على إحداث خسائر بشرية جسيمة في القوات الأمريكية يمكن -في الرؤية الإيرانية- أن تثني صانع القرار في واشنطن عن الدخول في حرب ضد إيران.
ويعتبر المأزق الأمريكي في كل من العراق غرب إيران، وأفغانستان في شرقها، فرصة مواتية لطهران للتمدد في العراق وإرساء قواعد نفوذ، لا سيما في جنوب العراق، وبما يشكل تهديدًا قويًّا للقوات الأمريكية والمخطط الأمريكي هناك. كما أن الدور الذي يلعبه الزعيم الأفغاني (قلب الدين حكمتيار) في محاربة قوات الناتو في أفغانستان -وهو المعروف بولائه لإيران- ورقة ضغط عسكرية أخرى في أيدي طهران ضد الولايات المتحدة. وقد جربت إيران بالفعل إحدى أوراقها الإقليمية المتمثلة في حزب الله بلبنان؛ بدفعه لإثارة إسرائيل في يوليو عام 2006؛ مما كان سببًا في الحرب التي وقعت بين لبنان وإسرائيل واستمرت 33 يومًا، وقُصف الأخيرة بالصواريخ التي صدرتها إيران لحزب الله لأول مرة في تاريخ إسرائيل. وقد فشلت واشنطن في استغلال هذه الحرب لتحقيق أحد أهدافها، وهو تدمير حزب الله ونزع هذه الورقة من أيدي طهران، حيث خرج هذا الحزب قويًّا ومتماسكًا من هذه الحرب فارضًا نفوذه في لبنان، وفي سوريا أيضًا، وفي غزة من خلال السيطرة على حركة حماس والمنظمات الفلسطينية الأخرى المتشددة باستغلال القضية الفلسطينية بما يخدم مصالح إيران، وباعتبار الأخيرة -طبقًا لما يزعم قادتها- هي الوحيدة بين الدول الإسلامية التي
لا زالت تعادي إسرائيل والولايات المتحدة، وأنها المدافعة وحدها عن حقوق الفلسطينيين والمقدسات الإسلامية في القدس، بينما تطبع الدول الإسلامية الأخرى علاقاتها مع إسرائيل وتستجيب للضغوط الأمريكية.
كما تلعب طهران على ورقة أخرى، وهي إدراك واشنطن أن تحقيق هدفها في إسقاط نظام حكم الملالي في إيران سيترتب عليه حدوث فراغ سياسي وإستراتيجي ضخم في منطقة غرب آسيا -بما فيها منطقة الخليج- أكبر وأخطر من الفراغ السياسي الذي حدث في العراق عقب تدمير نظام صدام حسين هناك، وشكّل أكبر مشكلة للولايات المتحدة غير قادرة على معالجتها حتى اليوم رغم خسائرها التي تعدت 4200 قتيل أمريكي. وقد تستغل الهند باعتبارها أكبر قوة بشرية وعسكرية ونووية واقتصادية هذا الفراغ لملئه بالنفوذ الهندي، لا سيما وأن للهند قوة بشرية ضخمة عاملة في دول الخليج العربية يفوق تعدادها 2 مليون نسمة، شكلت نفوذًا قويًّا في هذه الدول، واضعين في الاعتبار القرب الجغرافي للهند من إيران، والمناورات البحرية الهندية المستمرة في بحر العرب.
ولا يعني امتلاك إيران كل هذه الأوراق أنها تسعى إلى مواجهة مع الولايات المتحدة؛ فهذا ليس في حسابات صانع القرار الإيراني، الذي يدرك فارق القوة العسكرية الضخم بين إيران والولايات المتحدة لصالح الأخيرة. ولكن تسعى إيران في المقابل للتلويح بهذه الأوراق من حين لآخر كوسائل ردع تهدد بها، بل وتختبرها إذا ما تطلب الأمر ذلك، كما حدث في لبنان بالنسبة لحزب الله، وفي فلسطين بالنسبة لحماس؛ على أساس أن التهديد بالردع أهم من استخدامه؛ لأنه في حالة استخدامه فقد قيمته الردعية بالنظر للفارق في القوة لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل. ولذلك تعتمد إيران على هذه الأوراق لدعم موقفها التفاوضي مع مجموعة دول (5+1)، والمساومة للوصول إلى أفضل الصفقات مع هذه المجموعة، وباتباع أساليب تاجر البازار الماهر.
( 1 ) د. سامي الفرج - تخطيط الاحتمالات والاستعداد لإدارة الأزمة النووية - القبس الكويتية 8، 9 يوليو 2006، وإصدارة مركز الكويت للدراسات الإستراتيجية عن نفس الموضوع في 24 يناير 2007
( 2 ) مصدر سابق
( 3 ) حسام سويلم - أبعاد جديدة للمواجهة الإيرانية - الأمريكية - الإسرائيلية - مختارات إيرانية العدد 99 في أكتوبر 2008.
- تقرير محمد البرادعي أمام مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة في سبتمبر 2008.