الأزمة السياسية في فنزويلا .. أسبابها، وتطوراتها، والمواقف الدولية
تتشابك
العوامل المحلية والدولية والإقليمية في أزمة الشرعية التي يمر بها الرئيس
الفنزويلي "نيكولاس مادورو" منذ إعلان رئيس الجمعية الوطنية "جوان
جوايدو" نفسه رئيسًا مؤقتًا للبلاد. ولقد أثار اعتراف الولايات المتحدة
الأمريكية المبكر بشرعية "جوايدو" حالة من الجدل السياسي سواءً محليًا
أو دوليًا، وذلك لما اعتبره البعض تسرعًا في موقف واشنطن تجاه تطورات الأحداث في
العاصمة الفنزويلية كراكاس. ولقد اتهم "مادورو" واشنطن بتدبير الانقلاب،
ودعم حالة التمرد طمعًا في نفط فنزويلا. تجدر الإشارة أن الاقتصاد الفنزويلي يعاني
من حالة تدهور شديدة منذ وصول "مادورو" إلى كرسي السلطة في منتصف
أبريل/نيسان 2013 خلفًا لزعيم فنزويلا السابق "هوجو تشافيز".
سنتناول
في هذا التقرير أبعاد الأزمة السياسية في فنزويلا من حيث الأسباب والتطورات
والسيناريوهات المتوقعة خلال الفترة المقبلة، وما يحيط بذلك من مواقف دولية
وإقليمية وارتدادات ذلك على تطور المشهد السياسي الفنزويلي.
واقع الأوضاع الاقتصادية
يعتبر
المحللون الاقتصاديون أن الاقتصاد انعكاس للأوضاع السياسية، وفي هذا السياق سنرصد
فيما يلي أهم مؤشرات قياس القدرة الاقتصادية بهدف فهم الواقع الاقتصادي لحكومة
الرئيس "مادورو" في هذا الوقت.
1- معدل التضخم: وفقًا لدراسة أجرتها الجمعية الوطنية التي تسيطر عليها المعارضة؛ حيث بلغ معدل التضخم 1.300.000% خلال اثنا عشر شهرًا حتى نوفمبر/تشرين الثاني 2018. وتضاعفت أسعار السلع والمواد الأساسية، ويكافح الفنزويليين من أجل شراء المواد الأساسية مثل الطعام ومستلزمات النظافة. وانخفض الناتج المحلي الإجمالي بشكلٍ مطرد بعد أن كانت تمتلك أكبر احتياطي نفطي في العالم(1). وترى المعارضة الفنزويلية أن ذلك التراجع يعود لسوء الإدارة والفساد وتزايد الديون إلى 150 مليار دولار في ظل حقبة "شافيز" و "مادورو" الذي خلفه في رئاسة البلاد(2).
2-
تراجع قيمة العملة: تضاعفت قيمة العملة الوطنية (البوليفارات) في مقابل
الدولار الأمريكي، وهو ما يمثل ضغوطًا كبيرة على المواطنين لا سيما فيما يتعلق
بقدرتهم على توفير احتياجاتهم الأساسية مثل الغذاء والكساء والعلاج. وبفعل ذلك،
تراجعت القوة الشرائية للبوليفار الفنزويلي بفعل وصول العجز في إجمالي الناتج
المحلي إلى 20%(3).
3-
العقوبات الاقتصادية: رغم الاستفادة التي استطاع "شافيز" تحقيقها من
الطفرة النفطية لفنزويلا أوائل الألفينيات إلا أن الاقتصاد الفنزويلي عاني من هذه
الطفرة فيما يتعلق بارتفاع الانفاق الحكومي والقروض التي وصلت حد الانفجار بعد
تولي "مادورو" الحكم. ويرمي الاقتصاديون بالمسئولية في ذلك على حكومة
"مادورو" الاشتراكية. على الناحية الأخرى، يتهم "مادورو"
الإمبريالية العالمية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وأوربا بشن حروبٍ اقتصادية
منظمة لإفقار الفنزويليين وإجبارهم على الثورة على الحكومة باستخدام أداة العقوبات
الاقتصادية التي تبرع واشنطن في توظيفها ضد غير الحلفاء. وتستعد واشنطن لفرض
عقوبات جديدة على القطاع النفطي في فنزويلا مما قد يُنذِر بتفاقم الأزمة الإنسانية
هناك.
4-
تزايد معدلات الهجرة: يعكس ارتفاع معدلات الهجرة حالة التراجع الاقتصادي.
وتشير الإحصاءات إلى أن أكثر من 3 مليون فنزويلي قد غادروا بلادهم منذ 2014.
واعتبرت المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة أن خروج مهاجرين من فنزويلا
يقترب من "لحظة حرجة"، وشبهت موجات الهجرة من فنزويلا تتقارب مع حالة
النزوح والهجرة في البحر المتوسط. ويهرب الفنزويليين من بلادهم بفعل الأزمات
الاقتصادية والاضطرابات السياسية التي تشهده البلاد، وهو ما مثل ضغوطًا متزايدة
على دول الجوار(4).
تطورات المشهد السياسي
انخرط
كثير من الفنزويليين في الاحتجاجات العنيفة التي شهدتها فنزويلا تزامنًا مع إعلان
المعارضة الفنزويلية مقاطعتها للانتخابات الرئاسية التي أفضت إلى إعادة انتخاب
"مادورو" رئيسًا للبلاد(5). وعلى الرغم من تأزم الموقف السياسي داخليًا في
كاراكاس إلا أن الأزمة اكتسبت زخمًا دوليًا شجع من حالة الحراك السياسي الداخلي،
وذلك بفعل تكتل دول الجوار الإقليمي في أمريكا اللاتينية مع قرار واشنطن بالاعتراف
الرسمي بالمعارضة الفنزويلية.
تجدر
الإشارة إلى أنه سادت حالة من التنافس بين السلطة والمعارضة التي تسيطر على
الجمعية الوطنية قبل تفاقم الأوضاع. وقد تحول هذا الصراع مؤخرًا إلى صراع من أجل
اكتساب الشرعية سواءً في الداخل أو الخارج. واتهمت الحكومة الفنزويلية واشنطن، ومن
اسمتهم بالإمبرياليين بتدبير محاولة الانقلاب التي تعرض لها الرئيس الفنزويلي
"مادورو" في أغسطس/آب 2018.
حاول الرئيس "مادورو" حل
الجمعية الوطنية التي تسيطر عليها المعارضة، ويترأسها زعيم المعارضة
"جوايدو"، والتف على هذه النتائج باتخاذ إجراءات قاسية ضد الانتخابات
مثل إنشاء مجلس تأسيسي جديد بسلطات وصلاحيات واسعة، وعلى إثر ذلك توترت علاقته بالمعارضة
السياسية في البلاد، ورفضت دول جوار فنزويلا، والاتحاد الأوربي والولايات المتحدة
الإجراءات التي اتخذها "مادورو" معتبرين أن ذلك التفافًا على شرعية
الجمعية الوطنية التي تسيطر عليها المعارضة.
يعتبر
المحللون أن الأطراف الإقليمية والدولية هي التي زادت من تسارع الأحداث داخليًا؛
إذ لم يستطع "جوايدو" حتى الآن إحداث انقسامات رأسية في الكتلة الصلبة
التي يتكئ عليها الرئيس "مادورو" مثل الجيش، وتمثيليات البلاد في
الخارج، وقوى الأمن، والمحكمة العليا التي أصدرت قرارًا في 29 يناير/كانون الأول
من هذا الشهر قرارًا بمنع "جوايدو" من السفر وتجميد حساباته وأرصدته في
البنوك رغم أن منصبه كرئيس للجمعية الوطنية يحظر التحقيق معه قبل موافقة أغلبية
أعضاء الجمعية الوطنية برفع الحصانة عنه. وتعول إدارة الرئيس "دونالد
ترامب" على المعارضة الفنزويلية بزعامة "جوايدو" لاستعادة فنزويلا
نحو المعسكر الغربي بزعامة الولايات المتحدة. وفي هذا الصدد، حذرت من التعرض له
وقامت بتجميد أرصدة حسابات الحكومة الفنزويلية لا سيما شركة النفط الوطنية لصالح
"جوايدو".
وقد
عبَّر الرئيس "مادورو" عن رغبته في الحوار مع المعارضة دون تدخل خارجي،
ورغم أنه طرح إمكانية إجراء انتخابات مبكرة للجمعية الوطنية إلا أنه رفض التشكيك
في نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي قاطعتها المعارضة. وترفض قوى المعارضة
الحوار مع سلطة الرئيس "مادورو"، وتتهمه بتسييس القضاء، وتزوير
الانتخابات الأخيرة لصالحه.
المواقف الدولية والإقليمية
أثارت
الأزمة السياسية في فنزويلا تحركات دولية كبيرة، فهناك من اتبع موقف الولايات
المتحدة في دعم زعيم المعارضة الفنزويلية "جوايدو" مثل اغلب دول امريكا
اللاتينية باستثناء كوبا، وأمريكا الشمالية باستثناء المكسيك، وأستراليا. على
الناحية الاخرى، أيدت روسيا والصين وتركيا شرعية الرئيس "مادورو" فيما
منحته دول الاتحاد الأوربي مهلة أسبوع لإجراء انتخابات مبكرة، وهددت بالاعتراف
بالمعارضة. في هذا السياق، يُمكن أن نتناول فيما يلي هذه الجدل من خلال تصنيفها
إلى 3 مجموعات وفقًا للموقف الدبلوماسي والسياسي من شرعية "مادورو".
1-
الدعم الكامل لسلطة "جوايدو": مثَّل اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بزعيم المعارضة
رئيسًا لفنزويلا سخطًا كبيرًا من قِبل حكومة الرئيس "مادورو" التي أعلنت
عن قطع العلاقات السياسية والدبلوماسية مع واشنطن، ومنحها 72 ساعة للبعثة الدبلوماسية
الرسمية لواشنطن للمغادرة. وكرد سريع على هذه الخطوة، كتب وزير الخارجية الأمريكي
"مايك بومبيو" على حسابه الرسمي على تويتر أن واشنطن لا تعترف في الأساس
بشرعية "مادورو"، وبالتالي لا ترى من حقه قطع علاقات فنزويلا
الدبلوماسية مع واشنطن. وبالإضافة إلى العقوبات الاقتصادية التي تنتهجها واشنطن ضد
غير الحلفاء، طرح "ترامب" فكرة الخيار العسكري ضد فنزويلا عام 2017،
واعاد طرحة في الازمة الاخيرة بشكلٍ مبطن؛ حيث قال في مؤتمرٍ صحفي بالبيت الأبيض:
"إننا لا ندرس شيئًا محددًا ولكن كل الخيارات مطروحة، كل الخيارات على
الطاولة." وهو ما يُعد تلميحًا عن حسم الولايات المتحدة لموقفها تجاه نظام
"مادورو" سواءً بعملٍ سياسي، أو فعلٍ عسكري. وفي السياق ذاته، اتخذت دول
أمريكا اللاتينية قرارًا حاسمًا بالتنسيق الدبلوماسي فيما بينها باستثناء كوبا
لدعم المعارضة الفنزويلية. ويرى الخبراء أن استمرار "مادورو" قد يكون
صعبًا بفعل المحيط الإقليمي المعادي لوجوده. ويرتبط هذا العداء بسبب الفشل
الاقتصادي لنظام "مادورو" الذي ادى إلى هجرة أكثر من 3 مليون فنزويلي
خلال الخمسة الاعوام الماضية وحدها إلى دول الجوار الجغرافي.
2-
الدعم الكامل لسلطة "مادورو": تدعم كل من روسيا، والصين، وتركيا على المستوى الرسمي
"مادورو". وقد عبر المتحدث الرسمي للخارجية الصينية عن ذلك بوضوح، وقال
المتحدث باسم الخارجية الصينية أن بلاده ضد أي تدخل أجنبي في فنزويلا، وتدعم
السلطات الفنزويلية الشرعية في حماية سيادتها واستقلالها واستقرارها. وتقف أنقرة
مع "مادورو" وهو ما ظهر في اتصال الرئيس التركي "أردوغان" مع
"مادورو"، وإعلانه عن دعم "مادورو" قائلًا: "انهض أخي
مادورو، نحن نقف معك". وتتحكم المصالح الاقتصادية في موقف أنقرة تجاه
فنزويلا؛ حيث رفضت تركيا فرض العقوبات الاقتصادية على كاراكاس، وقامت سياستها
الاقتصادية على تجاوز العقوبات خاصة فيما يتعلق باستيراد أنقرة للذهب الفنزويلي
إضافة إلى تجارة الأسلحة. وعرقلت روسيا والصين وجنوب أفريقيا وغينيا الاستوائية
مسعى الولايات المتحدة الأمريكية لاستصدار بيان من مجلس الأمن الدولي يعتبر أن
الجمعية الوطنية الفنزويلية المؤسسة الوحيدة المنتخبة ديمقراطيًا" في البلاد،
وهو ما يعني رفع غطاء الشرعية عن الرئيس "مادورو" باعتباره رئيس منتخب
شعبيًا. وقد أعلن الرئيس "بوتين"، ووزير الخارجية الروسي "لافروف"
عن دعم موسكو لشرعية "مادورو".
3-
دعم المعارضة بشكلٍ مبطن: يعتبر المحللون أن موقف الاتحاد الأوربي يمثل دعمًا
مبطنًا للمعارضة؛ حيث اعتبر بيان الاتحاد الأوربي أن مسألة إجراء انتخابات مبكرة
في فنزويلا خطوة ضرورية لتجاوز الأزمة السياسية، وهو ما ترفضه الحكومة في كاراكاس.
ورفض "مادورو" مهلة الثمانية أيام التي منحتها دول الاتحاد الأوربي له
لوضع خطة لإجراء انتخابات جديدة(6).
ختامًا؛ تتجه أفاق الحل في فنزويلا إلى اكتساب أبعاد دولية
وإقليمية خاصة بعد ظهور موقفًا موحدًا بين دول أمريكا اللاتينية باستثناء كوبا
فيما يتعلق بدعم المعارضة الفنزويلية. وقد يُضعف الموقف الموحد لدول جوار فنزويلا
ضد "مادورو" من إمكانية أن تلعب هذه الأطراف دور الوسيط بين نظام
"مادورو" والمعارضة السياسية هناك.
ويؤكد موقف القوى الكبرى كالولايات المتحدة ومن
ورائها الاتحاد الأوربي وكندا من اتجاه الازمة إلى مرحلة الحسم لصالح المعارضة
بزعامة "جوايدو" (ولو نظريًا) خاصة أنه لم يتمكن حتى الآن من اكتساب دعم
المؤسسات الفنزويلية المؤثرة كالجيش وقوى الأمن التي لزمت الحياد بين الأطراف رغم
دعمها غير الصريح لسلطة "مادورو". ويعني ذلك أن المعارضة في الداخل قامت
بالأساس على دعم القوى الخارجية أكثر منه دعمًا من القوى والأطراف الداخلية في
فنزويلا، وهو ما يثير العديد من التساؤلات والتوقعات خلال الفترة المقبلة فيما
يتعلق بإمكانية أن تنجح المعارضة في كسب دعم الجيش وقوى الأمن.
الهوامش
1-
Venezuela: All you need to know about the
crisis in seven charts (27/1/2019), BBC, Accessed at:
2- آية عبد العزيز،
تغلغل جديد... ماذا يريد أردوغان من فنزويلا؟ (12/12/2018)، المركز العربي للبحوث
والدراسات، على الرابط:
http://www.acrseg.org/41047?fbclid=IwAR3BUiorIuFsovKYh5_kFIJf72kEgzzyiPvhMWOHSHZM21_sirS9F3ri06E
3- المرجع السابق.
4- انظر: نهال أحمد، فنزويلا: ما بين أزمات متفاقمة
ومحاولات استيعاب من الجوار، المركز العربي للبحوث والدراسات، على الرابط:
http://www.acrseg.org/40943
وانظر أيضًا: "موجات
الهجرة من فنزويلا تقترب من لحظة حرجة، رويترز، على الرابط:
https://ara.reuters.com/article/worldNews/idARAKCN1L924D
5-
Venezuela crisis: What is happening?
(28/1/2019), BBC, Accessed at: https://www.bbc.co.uk/newsround/46993793
6- رئيس فنزويلا يرفض مطالب الاتحاد الأوروبي لإجراء
انتخابات جديدة، البيان، على الرابط:
https://www.albayan.ae/one-world/overseas/2019-01-27-1.3471875