"عقدة الكوريل": أي مستقبل للعلاقات الروسية اليابانية؟
جاء المؤتمر الصحفي المشترك بين الرئيس الروسي بوتين
ورئيس الوزراء الياباني شينزو آبي يوم السبت 26 مايو 2018، ليُلقي الضوء مجدداً
على ضرورة وجود اتفاق سلام بين الدولتين، ومشدداً على ضرورة أن تأتي تلك الخطوة
متوافقة مع المصالح الاستراتيجية لكل من روسيا واليابان، وبما يقبله الشعبان
الروسي والياباني، هذا وتم توقيع 11 مذكرة حول التعاون المشترك بين البلدين على
هاشم تلك المحادثات في مجالات البناء والسياحة والصناعة والتجارة والاستثمارات
وغيرهم.(1)
ويرجع تاريخ العلاقات بين البلدين إلى اعتراف اليابان
رسمياً بالاتحاد الروسي بعد تفكك الاتحاد السوفيتي في 27 يناير 1992، ومنذ ذلك
الوقت قطعت العلاقات بينهما شوطاً لا بأس به، وقد غلب على هذه العلاقات طابع
التعاون الدولي، وخاصة في المجال الاقتصادي، برغم التوترات التي كانت تنشأ بين
الحين والأخر نتيجة النزاع حول جزر الكوريل، وهي إيتوروب وكوناشير وشيكوتان
وهابوماي.(2)
أبعاد
التعاون
تَسير العلاقات بين روسيا واليابان في مسارين غير
متكافئين، شبكة من التعاون تتوسع ببطء في مختلف المجالات، ونزاعاً إقليمياً على
جزر كوريل الجنوبية، ومع أوائل التسعينيات، جاءت تلك القضية في طليعة العلاقات
الثنائية بين البلدين، فلم يتلق اقتراح موسكو للتنمية الاقتصادية المشتركة للجزر
رداً إيجابياً من طوكيو.
وخلال فترة رئاسته الأولى لروسيا (2000-2004)، كان هدف
فلاديمير بوتين الاستراتيجي هو دمج روسيا في المجتمع العالمي، ولتحقيق هذه الخطة
في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، قرر تعديل العلاقات مع طوكيو والاعتماد على الأموال
والتقنيات اليابانية لتحسين الوضع الخارجي، واقترح أثناء زيارته لها عام 2000 خطة
رئيسة لتوسيع خط السكك الحديدية العابر لسيبيريا إلى اليابان، وبناء جسر للطاقة
بين البلدين.
ونتيجة للمحادثات رفيعة المستوى، تم اعتماد خطة عمل
روسية يابانية عام 2003، تهدف إلى تعزيز الحوار السياسي، واستمرار المحادثات بشأن
إبرام معاهدة سلام، والتعاون في المجال الاقتصادي وإنفاذ القانون.
ويأخذ التعاون بينهما عدة أشكال على الأصعدة المختلفة
السياسية والدبلوماسية والاقتصادية؛ فنجد أن هناك علاقات تواصل قوية بين البرلماني
الروسي والياباني، وقام رئيس مجلس الاتحاد الروسي (مجلس الشيوخ) بزيارة طوكيو في
يناير 2009، وخلال زيارة رئيس مجلس المستشارين الياباني إلى روسيا أكتوبر 2009،
التقى رئيس مجلس الاتحاد الروسي ورئيس مجلس الدوما ووزير الخارجية سيرجي لافروف،
ثم تبع ذلك عقد لقاءات بين المسئولين من كلا الجانبين.(3)
وعلى الصعيد الاقتصادي، مازالت العلاقات التجارية
والاستثمارية الثنائية بين البلدين محدودة إلى حد ما؛ فتحتل روسيا المركز الرابع
عشر بين شركاء اليابان التجاريين، وتبلغ حصة روسيا من التجارة الخارجية في اليابان
نحو 2.2%،وتوجد اليابان في المرتبة الثامنة بين الشركاء التجاريين لروسيا، وتبلغ
حصتها من التجارة الخارجية في روسيا حوالي 3.7%، وارتفع حجم التجارة بينهما بنسبة
6.6% في عام 2013، وبلغ 33.2 مليار دولار.
وتمتلك روسيا طاقة هائلة وموارد طبيعية كثيرة مقارنة
باليابان الفقيرة في الموارد، بينما تبحث موسكو عن التكنولوجيا اليابانية التي تفيد
في التنمية، ففي الستينيات والسبعينيات، ساهمت طوكيو بشكل فعال في تطوير الصناعات
الخشبية وصيد الأسماك والشحن في روسيا، وفي أواخر الثمانينات، أصبحت مشاريع
الأعمال اليابانية الصغيرة والمتوسطة في شكل مشاريع مشتركة، وبدأت الشركات
اليابانية مشاريع واسعة النطاق لاستكشاف موارد النفط والغاز في سخالين.(4)
أبرز
القضايا الخلافية "جزر الكوريل"
تفصل سلسلة جزر الكوريل المحيط الهادئ عن بحر أوخوتسك،
وهي في الوقت الحالي جزء من منطقة سخالين أوبلاست الروسية، وتم ضمها من قبل
الاتحاد السوفيتي في أعقاب هجومه على اليابان قبل بضعة أشهر من نهاية الحرب
العالمية الثانية.(5)
بدأت المنافسة الروسية اليابانية على الجزر في وقت مبكر
من القرن الثامن عشر، وبحلول عام 1804 اشتركت روسيا واليابان في السيطرة جزئياً
على الجزر، وفي فبراير 1855 وقعت روسيا واليابان على الاتفاقية الأولى للتجارة
الثنائية والحدود، والتي على أساسها تم إعلان علاقات السلام والصداقة بينهما،
وفتحت ثلاثة موانئ يابانية أمام السفن الروسية.
في عام 1875، وقع الطرفان معاهدة تتخلى بموجبها روسيا عن
جزيرة من الكوريل إلى اليابان، في المقابل اعترفت اليابان بالولاية القضائية
الروسية الكاملة على سخالين، وظلت معاهدة 1875 سارية حتى عام 1905 عندما وقعت
روسيا واليابان معاهدة سلام بورتسموث؛ في إطار خروج اليابان منتصرة من الحرب
الروسية اليابانية ما بين عامي 1904-1905، وتخلت روسيا عن الكوريل بأكمله وبعض
الأراضي في جنوب جزيرة سخالين.
في السياق ذاته،
غيرت هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية من الوضع على أرض الواقع لصالح
روسيا، التي أعادت سيطرتها على جزر الكوريل، ورفضت التوقيع على معاهدة سان
فرانسيسكو لعام 1951 لأنها لم تُشر إلى نقل جزر الكوريل، وفي أكتوبر 1956، وقع
الاتحاد السوفيتي واليابان إعلاناً مشتركاً حول إنهاء حالة الحرب بينهما، واستعادة
العلاقات الدبلوماسية والقنصلية، ووافق السوفييت مؤقتاً التخلي عن جزيرتي هابوماي
وشيكوتان لليابان في حال إبرام معاهدة سلام.(6)
وبعد الحرب، لم يتم توقيع معاهدة سلام بين الجانبين، وقدمت
اليابان مطالبات إقليمية بشأن أربع من جزر الكوريل الجنوبية (هابوماي ، شيكوتان،
كوناشير، إيتوروب) التي تعتبرها أقاليمها الشمالية، واستمرت التوترات في العلاقات
بين البلدين حول جزر الكوريل.
ومع
مجيء رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي تبنى نهجاً جديداً للنزاع عن طريق الوعود
بعلاقات اقتصادية أكبر، كدافع لتسهيل التفاوض، وفي ديسمبر 2016، استقبل آبي الرئيس
الروسي ووفد من وزراء ورجال الأعمال روسيين في اليابان، من أجل مناقشة حل النزاع
إلي جانب عقد العديد من الصفقات التجارية، وتم تحقيق العديد من الانجازات الرئيسة
في تلك القمة الثنائية التي عُقدت في موسكو، من أبرزها اتفاق اليابان وروسيا على
زيادة التعاون الاقتصادي، وتسهيل وصول السكان السابقين إلى الجرز الأربع، وتشكيل
لجنة مشتركة للتحقيق في إمكانية اجراء استثمارات مشتركة بالجزر.(7)
أهمية
الجزر
تنبع أهمية الجزر من كونها تحتوي على موارد طبيعية مهمة،
يمكن أن توفر عوائد اقتصادية كبيرة لمن يُسيطر عليها، فهي محاطة بمناطق غنية لصيد
الأسماك وبها احتياطات معدنية كبيرة مثل رواسب الرينيوم النادرة إلى جانب رواسب
الغاز والنفط الشاسعة.
وبالنسبة لموسكو، تزداد اهميتها لاستضافتها عدة قواعد
عسكرية روسية، واستثمرت موسكو في البنية التحتية العسكرية بالسنوات الأخيرة، وكان
أبرزها نشر أنظمة الصواريخ الباليستية، ومن ناحية أخرى، أعلن وزير الدفاع الروسي
سيرجي شويجو في فبراير 2017 أن روسيا ستُعزز قوتها العسكرية في الجزر في الأشهر
المقبلة، من خلال نشر فرقة جديدة للجيش.(8)
ونظراً لأن اليابان تفتقر إلى الموارد الطبيعية كما أن
روسيا تحتاج إلى مثل تلك الموارد لتنمية اقتصادها في ظل العقوبات الاقتصادية
المفروضة عليها، نجد أنه من غير المحتمل أن تتخلى روسيا عن الجزر، كما نستطيع أن نستنتج
من هذا أسباب تنازع الطرفين على المنطقة.
آفاق الحل
يمكن من خلال بعض المؤشرات استنتاج ملامح الوضع الحالي
لتلك القضية، فاللقاء الذي جمع قيادات كلاً من البلدين في مايو 2018 والتصريحات
الصادرة عن الرئيسين تعني أما أنها ستأتي على غرار الإعلانات والتصريحات السابقة،
والتي لم تفض إلى أي صيغ ملموسة ذات الصلة بالنزاع الإقليمي، أو أنه من الممكن
الوصول إلى بعض نقاط التفاهم المشتركة منها على سبيل المثال تفعيل الإعلان المشترك
بينهما الصادر عام 1956، والذي يقضي بتخلي روسيا عن جزيرتين هابوماي وشيكوتان إلى
اليابان.
وبصفة عامة، عند تناول آفاق حل النزاع يمكننا التحدث عن رؤيتين
متعارضتين، واحدة متشائمة والأخرى متفائلة، سنعرضهما في التالي:
أولاً: الرؤية المتشائمة: وتذهب إلى عدم تحقيق أي
تقدم ملحوظ في سبيل حل النزاع حول الجزر، خاصة أن الكرملين يعطي تركيزاً قليلاً في
سياسته الخارجية على آسيا مقارنة بمناطق أخرى في العالم كالشرق الأوسط، فضلاً عن
أن التحالف الأمني الياباني مع الولايات المتحدة، يعني أن طوكيو ليست جهة
دبلوماسية مستقلة(9)، وهو ما يفُسر المخاوف الروسية من أن واشنطن يمكن أن تضع قوات
في جزر الكوريل إذا اُعيدت لليابان، وهذا من شأنه أن يؤدي لزيادة التوترات بين
روسيا والولايات المتحدة، وقد يزداد الأمر سوءاً إذا قرر الناتو إرسال قوات إلى الجزر،
وهو ما ينعكس سلباً على الأزمات السياسية الأخرى، التي تحدث مع روسيا في أوروبا
الشرقية.(10)
ويرى
أنصار تلك الرؤية الجانب الاقتصادي في العلاقات بمنطق التشكك في جدواه، فيدًعوا أن
المستثمرين الأجانب من مختلف الجنسيات يعتبروا روسيا مكاناً غير ملائم للاستثمار؛
فحتى إذا تم رفع العقوبات الاقتصادية عليها، فستُقدم القليل من الفرص الاستثمارية
الجذابة، وأن معدل نمو الاقتصاد الروسي يُمثل جزء من معدل النمو في الصين أو غيرها
من الاقتصاديات الآسيوية سريعة النمو، إلى جانب الروتين الحكومة وتعقد إجراءات
الاستثمار بها، وتاريخ الحكومة فيما يتعلق بمصادرة الشركات الخاصة.
ثانياً: الرؤية المتفائلة: تنطلق من أن معطيات الواقع
إنما توضح أن هناك شكل ما من التحسن قد يطرأ في سبيل حل ذلك النزاع، فاللقاء
المذكور بين زعيمي البلدين هو رقم 21، وهو ما يؤكد على عمق العلاقات والتنسيق
المستمر، واستحداث اليابان وزارة خاصة للتعاون الاقتصادي مع روسيا، إنما هو وجه
أخر لعمق تلك العلاقات.(11)
ويبرهن أنصار هذه الرؤية وجهة نظرهم بأن هناك استراتيجية
لدى بوتين وشينزو آبي منذ السنوات الأولى لتوليهما زعامة البلدين، وضعا على أساسها
أولوية وطنية لفتح حقبة جديدة من العلاقات الثنائية، فشلت في البداية، ثم أعادوا
المحاولة مرة أخرى على أسس أكثر سلامة، ربما لرغبة كل منهما ترك أثر تاريخي
لبلديهما، فيرغب آبي أن يظهر كقائد قادر على إعادة جزء من الأراضي التي ضاعت خلال
الحرب العالمية الثانية، ويأمل بوتين أن يظهر كشخصية سياسية قادرة على حل النزاعات
الإقليمية مع معظم الدول المجاورة لروسيا، كما حدث بالفعل عندما توصل إلى حل وسط
في النزاعات مع الصين والنرويج.
ويُدعم من ذلك تمتع الزعيمان بمستوى عالي من الثقة
المتبادلة، ففي عدة مناسبات خاطب آبي الرئيس الروسي كصديق له، واتضح ذلك أثناء
حديثه مع الرئيس ترامب في زيارته للولايات المتحدة فبراير 2017، والتي وصف فيها
بوتين بالشخص الذي كان دائماً يفي بوعوده، كما قال بوتين عن رئيس الوزراء الياباني
أنه شريك موثوق به وصادق للغاية، وانه مستعد للتوصل إلى اتفاق حول القضايا الصعبة.(12)
وختاماً، يمكن القول أنه برغم تحسن العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية بين موسكو وطوكيو، فإن قضية التخلي عن الجزر وتسليمها أمر مشكوك فيها إلى حد كبير، كما أنه من الصعب أن تتخلى اليابان عن مطالبها الإقليمية، لكنه أيضاً غير متوقع أن ينشأ نزاع بين البلدين على الجزر، وكل ما يمكن أن يحدث هو أن تصبح الجزر منطقة استثمارات مشتركة، مع التوسع في إعطاء المواطنون اليابانيون حرية الوصول إليها.
المراجع
1 - إينا أسالخانوفا،
بوتين وآبي يؤكدان سعيهما إلى اتفاقية سلام، روسيا اليوم،
26/5/2018، على الرابط التالي: arabic.rt.com/world/946495-بوتين-وآبي-يؤكدان-سعيهما-إلى-اتفاقية-سلام
2 - Russian-Japanese Relations,
The Embassy Of The Russian Federation To Japan Site, On the link: https://tokyo.mid.ru/web/tokyo-en/russian-japanese-relations
3 – idem.
4 - Economic
Relations Between Russia And Japan, The Embassy Of The Russian Federation To
Japan Site, On the link: https://tokyo.mid.ru/web/tokyo-en/economic-relations-between-russia-and-japan
5 - Léo-Paul Jacob, The Peace Treaty That Never Was: Russia,
Japan, and the Kuril Islands, Nato Association Canda, 16/5/2017, On the
link:
http://natoassociation.ca/the-peace-treaty-that-never-was-russia-japan-and-the-kuril-islands/
6 - Kuril Islands
in Russian-Japanese Relations, Sputnik International, 15/12/2016, on the
link: https://sputniknews.com/politics/201612151048576977-kuril-islands-russia-japan-relations/
7 - Léo-Paul Jacob, op cit.
8 – idem.
9 - Chris Miller, Japan–Russia
Relations: The View from Moscow, policy brief, The German Marshall Fund Of The
United States, ¾/2017, on the link: http://www.gmfus.org/publications/japan%E2%80%93russia-relations-view-moscow
10 - Léo-Paul Jacob, op cit.
11- نورهان الشيخ، قراءة في منتدى بطرسبرج ودلالاته،
موقع جريدة الأهرام، 27/5/2018، على الرابط التالي: ahram.org.eg/News/202659/4/653188/قضايا-واراء/قراءة-في-منتدى-بطرسبرج-ودلالاته.aspx
12 - Sergey Sevastyanov, Hopes and Realities in Relations Between Russia and Japan: Is a Breakthrough Possible?, East Asia, March 2017, Volume 34, Issue 1, pp 45-49.