إيران و"تآكل المكانة" داخل العراق
تراقب إيران بحذر ودقة شديدتين ما يحدث داخل العراق من تطورات تراها طهران شديدة الخطورة على المشروع السياسي للجمهورية الإسلامية، نظراً لمحورية إيران ضمن هذا المشروع سواء من منظور الأمن أو من منظور المصالح. فمنذ انتهاء الحرب العراقية- الإيرانية عام 1988، والتي امتدت لثماني سنوات، وإيران حريصة على عدم تمكين العراق من امتلاك القدرة والإمكانيات مرة ثانية لشن حرب أخرى مماثلة على إيران، أو على الأقل أن يصبح العراق مصدراً لتهديد الأمن الإيراني. كما أن طموحات إيران في مشروعها الإقليمي تجعل من العراق محور ارتكاز هذا المشروع. فالعراق هي الجوار المباشر برياً لإيران، ومن العراق تستطيع إيران أن تتمدد برياً إلى الغرب نحو سوريا ولبنان، ومنها تكون أقرب ما تكون إلى إسرائيل التي تراها عدوها الاستراتيجي، كما يمكن أن تتمدد نحو الجنوب إلى المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربية. وفي الاتجاهين ترى إيران بيئة مواتية يمكن أن تكون حاضنة لمشروعها الإقليمي في بعده الطائفي الشيعي. ففي العراق توجد أغلبية شيعية كبيرة ومميزة، وفي دول الخليج توجد أقليات شيعية قوية لها ثقلها السياسي والاقتصادي والثقافي، تجعل منها حاضنة ملائمة لحمل المشروع الإيراني. لذلك يعد العراق مرتكزاً مصلحياً أساسياً في هذا المشروع يصعب التفريط فيه.
وإذا كانت الأحداث، في مجملها، مواتية بالنسبة لإيران في علاقتها مع العراق من هذا المنظور الأمني والمصلحي، ابتداءً من حرب الخليج الثانية عام 1991 التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية ضمن تحالف دولي كبير لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي، وهي الحرب التي دمرت الجزء الأكبر من القدرات الاستراتيجية العراقية ووضعت العراق تحت طائلة حظر أمريكي- بريطاني شديد القسوة، وامتداداً إلى الغزو والاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 الذي أنهى ما تبقى من قدرات استراتيجية عراقية وفكك وحدته وتماسكه الوطني ووضعه تحت طائلة نظام سياسي طائفي ومحاصصة سياسية طائفية مدمرة حيث استطاعت إيران أن تكون هي الفائز الأكبر ضمن تداعيات وتوازنات القوى التي فرضتها هذه الأحداث وباتت قوة إقليمية مهيمنة في العراق بفعل العديد من الأدوات العسكرية والأمنية والاستخباراتية ناهيك عن القوى السياسية الشيعية الحاكمة في بغداد والموالية لطهران، فإن العراق بات يشهد في الأشهر الأخيرة تطورات شديدة الأهمية والخطورة على المستويين الأمني والسياسي أخذت تنال من مكانة إيران وتفوقها النسبي في معادلة حكم العراق والسيطرة على قراره الوطني.
تآكل المكانة الإيرانية في العراق
من أبرز التحديات التي أخذت تواجه إيران في العراق يأتي التوجه السياسي الأمريكي الجديد بتوجيهات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب باستعادة النفوذ الأمريكي في العراق في مقدمة هذه التحديات. فقد أتاحت الحرب التي تشنها الحكومة العراقية برئاسة حيدر العبادي ضد تنظيم "داعش"، الإرهابي وخاصة في الموصل فرصة مواتية للولايات المتحدة لتحقيق هذا الطموح من هلال مشاركتها الفعَّالة في هذه الحرب، حيث بدأت الولايات المتحدة في بناء العديد من القواعد العسكرية الجديدة في أنحاء متفرقة من شمال العراق وعلى الأخص على طول الطريق من الموصل إلى الحدود مع سوريا، وبذلك يكون في مقدورها إجهاض الحلم الإيراني بإنشاء طريق بري يربط بينها وبين كل من سوريا ولبنان ويصلها بالبحر المتوسط عبر العراق، وهذا الحلم يعتبر من أهم ما كانت تعتبره طهران مكسباً استراتيجياً في مقدورها تحقيقه ثمناً لدورها في القتال إلى جانب النظام السوري.
كما أن الولايات المتحدة ومن خلال مشاركتها في الحرب ضد "داعش" في العراق جنباً إلى جنب مع الجيش العراقي، وقيامها بالدور الأساسي في التسليح والتدريب لهذا الجيش ونقل الخبرات قد استطاعت تحقيق مكسبين مهمين ضد ما تعتبره إيران مصالح لها في العراق، المكسب الأول، التأسيس لشراكة قتالية مع الجيش العراقي ضد عدو مشترك، ومن ثم الطموح إلى تأسيس تحالف عسكري أمريكي- عراقي على حساب التفرد الإيراني بالعراق. أما المكسب الثاني فهو تقوية الجيش العراقي في وجه التنظيمات والميليشيات الموالية لإيران التي تكون في مجملها ما يُعرف بـ "الحشد الشعبي" الذي كانت إيران تراهن على تحويل إلى "حرس ثوري" عراقي نظير للحرس الثوري الإيراني، وأن تكون له الكلمة العليا في الشئون الأمنية والدفاعية العراقية على حساب دور الجيش العراقي، الأمر الذي أخذ يؤثر بشكل سلبي ومتسارع على مكانة النفوذ الإيراني في العراق.
كانت إيران تراقب هذه التطورات جنباً إلى جنب مع تطورات أخرى لا تقل خطورة وأهمية كانت تحدث على صعيد تحالفها مع القوى الشيعية الحاكمة والموالية لها في بغداد ابتداءً من حيدر العبادي رئيس الحكومة ومقتدى الصدر زعيم التيار الصدري وعمار الحكيم رئيس التحالف الوطني الذي يضم القوى الشيعية الأساسية المشاركة في حكم العراق، وامتداداً إلى النتائج السياسية المحتملة للانتصارات ضد تنظيم "داعش" الإرهابي التي تصب في اتجاه دعم مسار إجراء تحولات سياسية عميقة ضمن مشروع وطني يكون قادراً على استيعاب القوى السُنية تحسباً لمطالب "تصفية حسابات" بعد تحرير المحافظات السُنية من "الدواعش" وهي تحولات تقود نحو حتمية التخلص من نظام الحكم الطائفي الذي كرّس تهميشاً للسُنة وفرض شمولية "شيعية" كانت من أهم أسباب نجاحات "داعش" في التوسع في مساحات واسعة بالمحافظات السُنية بالعراق. مثل هذه المطالب والتحولات إن حدثت فإنها ستكون حتماً ضد النفوذ الإيراني.
وزاد من قلق إيران إصرار قيادة إقليم كردستان العراق على إجراء استفتاء "حق تقرير المصير" تمهيداً للانفصال عن العراق يوم 25 سبتمبر/ أيلول الجاري، الأمر الذي قد يمثل حافزاً قوياً لأكراد إيران، في حال نجاحه، لإعلان مطالب مشابهة الأمر الذي تعتبره طهران تهديداً شديد الخطورة لوحدتها الوطنية واستقرارها.
لذلك حاولت إيران على مدى الأشهر الثلاث الماضية احتواء ما اعتبرته تمرداً على نفوذها في العراق من جانب حلفاءها التقليديين من زعماء الشيعة خاصة عقب زيارة حيدر العبادي رئيس الحكومة العراقية للسعودية (19/6/2017) وبعدها زيارة مقتدى الصدر للمملكة (23/7/2017) ثم زيارته للإمارات (14/8/2017)، إضافة إلى تصدع حزب المجلس الإسلامي الأعلى الذي يعد أحد أهم أذرع النفوذ الإيراني في العراق باستقالة زعيمه عمار الحكيم وتأسيسه لحزب جديد من جيل الشباب بمشروع سياسي يصطدم مباشرة بالمشروع الإيراني يدعو إلى تأسيس منظومة علاقات متينة ورصينة مع محيط العراق العربي والإسلامي وفق مصلحة العراق أولاً والمصالح المشتركة مع هذه الدول، ويلتقي بذلك مع الشعار الذي كان مقتدى الصدر قد رفعه قبل أشهر وعنوانه "العراق أولاً".
فتنة البيت الشيعي
كانت إيران تعتقد أن بمقدورها، وعبر أدواتها التقليدية، احتواء هذه التحولات المهمة، كما أنها أعطت كل تركيزها على التنسيق مع تركيا لوأد التمرد الكردستاني من خلال الزيارة المهمة التي قام بها رئيس الأركان الإيراني محمد حسين باقري لتركيا التقى خلالها بكبار المسؤولين الأتراك وخاصة الرئيس رجب طيب إردوغان ونظيره التركي الجنرال خلوصي أكار للبحث في ملفات شديدة الأهمية كان على رأسها الاستفتاء الذي يرجح إجراؤه في كردستان العراق، لكنها فوجئت بأن التمرد على زعامتها في العراق من جانب قيادات شيعية بارزة، أخذ يتحول إلى ما يمكن اعتباره "فتنة في البيت الشيعي" على إثر الخطيئة التي ارتكبت من جانب حزب الله والجيش السوري وتتمثل في "النقل الآمن" لمقاتلي وعائلات تنظيم "داعش" الإرهابي بعد استسلامهم في جرود عرسال على الحدود السورية- اللبنانية ونقلهم، حسب رغبتهم، إلى "إدلب" السورية برعاية حزب الله وتنفيذ من جانب الجيش السوري.
بدأ التمرد على لسان حيدر العبادي رئيس الحكومة العراقية بإعلان انتقاده لـ "حزب الله" بسبب هذه الخطيئة واعتبر أن "صفقة الترحيل" تهدد العراق، وامتد التمرد بعد ذلك ليضم معظم القوى العراقية المدنية إضافة إلى نشطاء موالين للسيد مقتدى الصدر والسيد "عمار الحكيم"، في حين أتخذ نوري المالكي موقفاً داعماً لـ "حزب الله" ولإيران، باعتبار أن خطوة ترحيل "حزب الله" لـ "الدواعش" ما كانت يمكن أن تتم دون ضوء أخضر إيراني، الأمر الذي يعني أن إيران باتت هي المتهمة في أعين العراقيين المحسوبين على طهران تقليدياً باستثناء نوري المالكي في "فتنة" غير مسبوقة بدأت تجتاح البيت الشيعي، وهذا ما أدى إلى الدفع بكل من محمود شهرودي رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام يرافقه الأمين العام للمجلس الجنرال محسن رضائي بالتوجه إلى بغداد في محاولة لنزع فتيل هذه الفتنة، وتجديد الحوار مع الزعماء الشيعة في العراق مستثمراً رصيده الإيجابي لدى هؤلاء الزعماء، لكنه صدم بأن هؤلاء القادة الذين استمعوا إلى نصائحه لم يعودوا مستعدين لتقبل الأوامر بل أن لهم رؤيتهم الجديدة للعراق وللعلاقة مع طهران ويطالبون بتخفيف الضغوط الإيرانية على الحكومة العراقية، كما يطالبون طهران بأن تنظر إلى الانفتاح الجديد في العلاقات العراقية- الخليجية باعتبارها "خياراً إستراتيجياً غير موجه ضدها"، ما يعني أن الأزمة التي أخذت تهدد "البيت الشيعي" لم تعد تصلح معها الوساطات والنصائح حتى لو كانت من شخص بوزن شهرودي.
صدمة آية الله محمود شهرودي في العراق كانت مضاعفة. فالواضح أنه فشل في هذه المهمة التي بُعث من أجلها في أول اختبار عملي لكفاءته في منصبه الجديد كرئيس لمجمع تشخيص مصلحة النظام الذي تولاه خلفاً لرجل إيران القوي الراحل علي أكبر هاشمي رفسنجاني. كان هناك منافسون كُثر لشهرودي من أبرزهم علي أكر ناطق نوري رئيس مجلس الشورى الأسبق والمرشح الأسبق لرئاسة الجمهورية عام 1997 أمام الرئيس محمد خاتمي وزير الداخلية الأسبق من عام 1981 إلى عام 1985، وأيضاً آية الله أحمد خاتمي عضو مجلس خبراء القيادة أحد أبرز خطباء جمعة طهران، وعلي أكبر ولاياتي كبير مستشاري المرشد الأعلى وزير الخارجية الأسبق، ومحسن رضائي الأمين العام لمجمع تشخيص مصلحة النظام أحد أبرز قادة الحرس الثوري، والمرشح شبه الدائم في انتخابات رئاسة الجمهورية. كل هؤلاء كانوا مرشحين للمنصب الكبير ولكن المرشد اختار محمود شهرودي لمكانته وخبرته الواسعة والناجحة وخلفيته الدينية المميزة والذي سبق له أن شغل منصب رئاسة السلطة القضائية، وشغل بعدها رئيس الهيئة العليا لحل الخلاف وتنظيم العلاقات بين السلطات الثلاث في إيران والتي شكلت بأمر المرشد الأعلى عام 2011، فضلاً عن كونه عضواً بمجلس خبراء القيادة ومجمع تشخيص مصلحة النظام. وكان يفترض أن يوفق في هذه المهمة خصوصاً أنه يعد الأكثر تمايزاً في علاقاته بالعراق وزعامته، فهو لديه جنسية عراقية، وهو عراقي المولد فضلاً عن أنه من المؤسسين الأوائل لـ "حزب الدعوة" العراقي الذي يقوده حالياً نوري المالكي، كما أنه تزعم في بداية الثمانينيات "المجلس الإسلامي الأعلى" التابع لآل الحكيم وبالتحديد مؤسسه محمد باقر الحكيم وشقيقه عبد العزيز والد السيد عمار الحكيم الذي أعلن مؤخراً تمرده على هذا الحزب وتابعيته لإيران.
إذا كان المبعوث الإيراني الذي أوفده المرشد الأعلى لعلاج الخطر الذي يواجه النفوذ الإيراني في العراق وبالذات تحول ولاءات أبرز زعماء الشيعة بعيداً عن طهران ومسعاهم نحو علاقات متوازنة للعراق بين إيران والدول العربية خاصة في الخليج قد فشل في مهمته، فإن هذا يعني أن فرص إيران في العراق بدأت بالفعل تتآكل وأنه لن يكون بمقدور شخص آخر بديل احتواء الأزمة التي ستؤثر حتماً على مكانة شهرودي كقيادة إيرانية على رأس أهم مؤسسات الحكم في إيران، نظراً لأن فشله الشخصي أضحى فشلاً إيرانياً عاماً.
أدرت إيران هذه الحقيقة، وأدركها أيضاً السيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله في لبنان الذي أسرع بإصدار بيان رد فيه على تصريحات القوى العراقية المعترضة على اتفاق ترحيل مسلحي "داعش" من جرود القلمون وعرسال إلى أدلب في سوريا، وقال في البيان أن "الاتفاق الذي قضى بنقل عدد من المسلحين (لم يقل الإرهابيين) وعائلاتهم تم بنقلهم من أرض سورية إلى أرض سورية، وليس من أرض لبنانية إلى أرض عراقية"، وأوضح، في مخاطبته العراقيين أنه لي لبنان "كانت لدينا قضية إنسانية – وطنية جامعة، هي قضية العسكريين اللبنانيين المخطوفين من قبل داعش منذ سنوات عدة، وكان الطريق الوحيد والحصري في نهاية المطاف هو التفاوض مع هؤلاء المسلحين لحسم هذه القضية"، وأضاف إلى أن "داعش رفض كشف مصيرهم، وبعد معركة قاسية جداً على طرفي الحدود اللبنانية- السورية، وبعد أن خسر أغلب قوته ومساحة الأرض التي يسيطر عليها رضخ وأذعن".
نصر الله كان حريصاً على توضيح أن الاتفاق كان اضطرارياً، وأن ترحيل "الدواعش" كان مقابل الإفصاح عن مصير الجنود اللبنانيين المختطفين الذين تبين أنهم جرت تصفيتهم منذ فترة طويلة ولم يتسلم اللبنانيون سوى رفاتهم، وأن أزمتهم مازالت تتفاعل داخل لبنان. كما أنه كان حريصاً على أن يختم بيانه بالتأكيد للعراقيين أن "معركتنا ومصيرنا واحد، وانتصارنا على التكفيريين والإرهابيين وحلفاءهم وداعميهم من قوى إقليمية ودولية سيكون تاريخياً، وأن أخوتنا لن يزعزعها أي شيء على الإطلاق".
أمنيات يبدو أن الأزمة داخل العراق تجاوزتها، ولعل ما يؤكد ذلك إدراك آية الله شهرودي في نهاية زيارته لبغداد أنه لم يعد لديه ما يقدمه للحفاء العراقيين أمام ما يراه من "فتنة" فرضت نفسها على "البيت الشيعي" سوى دعوتهم لـ "الاهتمام بالقضايا الثقافية والاجتماعية والتربوية بعد اجتياز الأزمات الأمنية". توصيات أقرب إلى الاعتراف بالفشل.