المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

الحرب الاقتصادية التي تخوضها مصر: المستوى الحالي للأجور والمرتبات

السبت 16/سبتمبر/2017 - 02:19 ص
المركز العربي للبحوث والدراسات
إبراهيم نوار

تعتقد السلطات المالية والمنظمات الدولية المعنية بصحة وسلامة الإقتصاد المصري أن فاتورة الأجور والمرتبات للجهاز الإداري للدولة (الحكومة المركزية + المحليات+ الهيئات العامة الحدمية) تشكل عبئا على المالية العامة للدولة، وإنها أحد أسباب الخلل في الميزانية. ومن ثم فإن برامج الإصلاح الإقتصادي والمالي تتضمن ضرورة إصلاح الجهاز الإداري، بما يؤدي إلى تقليل العبء المالي ومن ثم حدة الخلل في الميزانية. وفي هذا السياق عمدت الحكومة إلى سن تشريع جديد يساعد على إعادة تنظيم العلاقة بين الموظفين العموميين وبين الدولة، فصدر قانون الخدمة (القانون رقم 81 لسنة 2016) وهو بمثابة عقد عمل جديد بين الحكومة وموظفيها الغرض منه هو زيادة إحكام قبضة الحكومة على الموظفين العاملين ووضع نظم جديدة للتعاقد والتسيير والحقوق والواجبات لكل من طرفي العلاقة: الحكومة والموظف.

وكانت مصر قد شهدت منذ منتصف سبعينات القرن الماضي تغييرات جذرية في نظام العلاقة بين الحكومة والموظفين العموميين، تخلت فيها الدولة عن سياسة التشغيل الكامل (full employment) ، وسنت تشريعات جديدة فصلت بمقتضاها الجهاز الإداري للدولة عن الوحدات الإقتصادية التي تديرها، وهو ما أدى فعليا إلى تخفيض حجم الجهاز الإداري للدولة وتقليل عدد العاملين فيه. وقد استمرت سياسات التشغيل الجديدة تنتج آثارها الواسعة النطاق على صعيد نسبة التشغيل بين الإيدي العاملة، فارتفع معدل البطالة عاما بعد آخر خصوصا بين خريجي الجامعات والمعاهد والمدراس الفنية المتوسطة.

 

وعلى الرغم من ذلك فقد اتسع نطاق الخلل في الميزانية العامة للدولة في السنوات الأخيرة. ومنذ إصدار قانون الخدمة المدنية الجديد ولائحته التنفيذية إتجهت الحكومة إلى إعادة النظر في هيكل المرتبات والأجور ضمن برامج الإصلاح المالي والإقتصادي. وقد نتج عن ذلك تراجع نسبة الأجور والمرتبات من إجمالي المصروفات العامة، وتراجع نسبتها كذلك من إجمالي الناتج المحلي. وكانت الظاهرة الأهم تتمثل في أن معدل الزيادة في الأجوروالمرتبات يتحرك معدلات أقل وأبطأ من معدل التضخم ومن معدلات الزيادة  في الإنفاق العام للدولة.

ومن الواضح أن الحكومة تخلط بين الحاجة إلى إصلاح أجهزة النظام الإداري وبين ضرورة تحقيق وفورات مالية لتقليل العجز في الميزانية وعلاج الخلل في الميزانية العامة للدولة. وليس هناك شك في الحاجة إلى إصلاح نظام التعاقد القانوني وإرساء قواعد قانونية سليمة تحكم العلاقة بي العاملين وبين الأجهزة التي يعملون فيها، إضافة إلى ضرورة إصلاح هيكل الأجور بما يحقق رفع كفاءة العمل والإنتاج ويأخذ في اعتباره معايير العدالة الإجتماعية. وتتضمن هذه المعايير ضرورة المحافظة على قيمة الأجر الحقيقي على الأقل من غول التضخم، والعمل على زيادة الدخل الحقيقي للعاملين بما يحقق الرضا الشخصي والإجتماعي ويوفر حافزا للعمل على زيادة الإنتاجية.

وسوف نبحث في هذه الدراسة طبيعة العلاقة بين إجراءات الإصلاح الإداري وبين الخلل في المالية العامة للدولة وبيان مدى صحة الفرضية التي تقول إن الإصلاح الإداري من خلال تخفيض نصيب الأجور والمرتبات من الناتج المحلي والمصروفات العامة للدولة يؤدي إلى تخفيض الخلل وعدم التوازن المالي. وفي هذه الدراسة فإننا سوف نتجاوز التحليل التقليدي الذي ينسب مخصصات الأجور إلى الإنفاق العام في الميزانية، وذلك نظرا لأن الإنفاق العام قد يحتوي على تشوهات تعكس أخطاءا في السياسة المالية تتجاوز حدود العلاقة بين الأجور والمرتبات من ناحية وبين المصروفات الكلية من ناحية أخرى. وعلى الرغم من إننا سننسب الأجور والمرتبات في التحليل النهائي إلى الناتج المحلي الإجمالي، فإننا سوف ندرس أيضا العلاقة بين الأجور والمرتبات وبين المصروفات العامة للدولة الواردة في الميزانيات العامة خلال السنوات الخمس الأخيرة، وبذلك فإننا نتجنب خطر الوقوع في تعميمات ناتجة عن دراسة سنة واحدة فقط، كما نتجنب استخلاص نتائج من المقارنة فقط مع المصروفات العامة فقط.   

فاتورة الأجور وسياسات التشغيل

تعتقد الإدارة المصرية أن فاتورة الأجور تمثل إحدى مظاهر الخلل في المالية العامة. ومن ثم فقد اتجهت الحكومات المتعاقبة إلى اتخاذ إجراءات للسيطرة على فاتورة الأجور، ونجحت بالفعل من خلال هذه الإجراءات من تخفيض حصة الأجور من المصاريف العامة الكلية ومن إجمالي الناتج المحلي. وتدلل الدراسات الإقتصادية والإجتماعية التي أجريت خلال الفترة  منذ منتصف سبعينات القرن الماضي حتى الآن على أن نصيب الأجور من إجمالي النانج المحلي إتجه للتراجع تاريخيا حتى وصل الآن إلى أقل معدل له على الإطلاق. المفارقة التي يجب أن نرصدها بعناية هنا هي ان تخفيض حصة الأجور من إجمالي الناتج المحلي لم يترافق مع تحسن حقيقي في مؤشرات النمو ولا في مؤشرات كفاءة إدارة الإقتصاد ككل.

وتعتبر خريطة الأجور في مصر واحدة من أكبر عشوائيات النظام الإقتصادي والإداري؛ فالإجور تختلف إلى درجة التباين الشديد داخل أجهزة الحكومة المركزية، كما تختلف بصورة كبيرة حتى داخل الجهاز الواحد. كذلك تتباين الأجور والمرتبات بشدة في الهيئات العامة الخدمية والإقتصادية، وتتباين إلى درجات أشد حتى في داخل الهيئة الواحدة. على سبيل المثال لا الحصر فإن قيمة المرتبات والأجور الكلية التي يحصل عليها الموظف في وزارة البترول تختلف بشدة عن تلك التي يحصل عليها الموظف من الدرجة نفسها في وزارة التربية والتعليم. كذلك فإن الدخل الشهري الكلي الذي يحصل عليه الموظف في قطاع الوزير في أي وزارة يزيد كثيرا عن ذلك الذي يحصل عليه الموظف المربوط على الدرجة نفسها في الوزارة نفسها، ناهيك عن فروق الدخل التي يحصل عليها الموظفون الذين يستفيدون من موارد الصنديق الخاصة.

كذلك فإن طبيعة هيكل الأجور والمرتبات في مصر تتسم بوجود هرم مقلوب للدخول النهائية التي يحصل عليها العاملون، حيث يبلغ الأجر الأساسي نسبة تبلغ في المتوسط 20% تقريبا من الأجر الكلي (الذي يشمل الحوافز والمزايا والبدلات والمكافآت). وبينما يتسبب هذا الهرم المقلوب في الإضرار بمصالح العاملين فإن السلطة الإدارية تستفيد منه في جانبين: الأول، هو تخفيض مساهمة الحكومة في صندوق التأمينات والمعاشات، حيث يتم احتساب نسبة مساهمة الحكومة على الراتب الأساسي وليس على الدخل الكلي للموظف من الوظيفة. ويتمثل الجانب الثاني في ضمان خضوع المرؤوسين لرؤسائهم في العمل حيث إن هؤلاء الرؤساء هم الذين يضعون تقارير استحقاق العلاوات والمكافآت.

وقد تضمنت برامج الإصلاح الإقتصادي المتعاقبة إجراءات للحد من ميزانية الأجور، بدأت بفصل ميزانية شركات القطاع العام عن الميزانية العامة للدولة، ثم إصدر قوانين خاصة تنظم مالية القطاع العام وما أطلق عليه "قطاع الأعمال العام"، ثم أوقفت الحكومات المتعاقبة منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي نظام التشغيل الكامل لخريجي الجامعات والمعاهد العليا والفنية والمدراس المتوسطة الصناعية والتجارية والزراعية، وفتحت الحكومة نظاما للخروج على المعاش مبكرا لتخفيف أعداد العاملين في أجهزة الدولة المختلفة بما في ذلك أجهزة الحكومة المركزية. وفي هذا السياق لم يختلف الإتفاق الأخير للحكومة مع صندوق النقد الدولي، ذلك أن الإتفاق يتضمن تخفيض العجز المالي للحكومة وأجهزتها عن طريق تخفيض النفقات العامة ومن ضمنها الأجور. وقد أنتجت هذه السياسة آثارها المباشرة في سوق العمل بزيادة معدل البطالة، وهو ما يتطلب إجراء دراسة أخرى للمقارنة بين التغير في سياسات التشغيل وبين التغيرات في معدل البطالة، خصوصا بين طالبي العمل الجدد من خريجي الجامعات والمدارس الفنية المتوسطة.

تدهور معدل نمو الأجور والتعويضات

ويبين الجدول التالي هيكل توزيع المصروفات لأجهزة الميزانية العامة في السنوات الأخيرة.

 

جدول (1) هيكل المصروفات لقطاع الموازنة العامة

السنة

البنود

2010/2011

2011/2012

2012/2013

2013/2014

2014/2015

2015/2016

2016/2017

الإجمالي

401.9

471.0

588.2

701.5

733.4

817.8

974.8

معدل النمو

--

17.2%

24.9%

19.3%

4.5%

11.5%

13.1%

منها:

الأجور والتعويضات

96.3

122.8

142.9

178.6

198.5

213.7

228.7

الدعم والمزايا الإجتماعية

123.1

150.2

197.1

228.6

198.7

201.0

206.4

الإستثمارات

39.9

35.9

39.5

52.9

61.8

69.3

146.7

الفوائد

85.1

104.4

147.0

173.2

193.0

234.6

292.5

مصروفات أخرى

31.4

30.8

34.9

41.1

50.3

54.5

58.1

المصدر: وزارة المالية، التقرير المالي الشهري، مايو 2017 . محسوب من أرقام جدول (14)

 

ويوضح الجدول أن قيمة المصروفات العامة سجلت أكبر معدل للزيادة في السنة المالية 2012/2013 حيث بلغت الزيادة 25% تقريبا. بينما شهدت السنة المالية 2014/2015 أقل معدل لزيادة المصروفات العامة حيث بلغت النسبة 4.5%. وبشكل عام فقد بلغ متوسط معدل الزيادة في المصروفات العامة حوالي 15% سنويا خلال الفترة منذ 2010 وحتى 2017. لكن توزيع المصروفات على البنود المختلفة يظهر أن بند الفوائد على الديون الحكومية هو الأسرع نموا خلال تلك الفترة، حيث ارتفعت قيمة الفوائد المسددة بمقدار 207.4 مليار جنيه بمعدل نمو سنوي يبلغ 29.6% أي ما يعادل ضعف معدل متوسط النمو في المصروفات العامة، في حين أن الأجور والتعويضات زادت في المتوسط بنسبة 19.6% سنويا.

وقد بلغ متوسط الزيادة السنوية في قيمة الدعم والمنح والمزايا الإجتماعية 9.6% أي أقل من متوسط الزيادة السنوية في المصروفات العامة وما يقرب من ثلث معدل الزيادة في مدفوعات فوائد الديون، وهو ما ينفي تهمة مسؤولية الأجور أو الدعم عن تفاقم العجز المالي كما يردد المسؤولون. وهذا يؤكد أن تراكم الديون الحكومية هو العامل الأول المسؤول عن اتساع نطاق العجز المالي وهو ما يؤدي أيضا إلى زيادة صعوبات إعادة المالية العامة للدولة إلى وضع التوازن في أي وقت قريب، ما لم تلتزم الحكومة بتطبيق إجراءات حازمة لتخفيض الديون المستحقة عليها وزيادة الإيرادات الضريبية. وفي حال استمرار النهج الحالي للإدراة المالية فإن البلاد من المحتمل أن تواجه خطرين في آن واحد، الأول هوالعجز عن سداد أعباء خدمة الديون المستحقة في مواعيدها، والثاني هو الإضطرار إلى تنفيذ خطط تقشف أشد وطأة على الإقتصاد ككل بسبب التأثير السلبي لمثل هذه الإجراءات على النمو، كما ستضر هذه الإجراءات بصورة أشد بغير القادرين على وجه الخصوص بسبب اتساع نطاق البطالة وارتفاع تكاليف المعيشة في آن واحد.

ويوضح الجدول (2) معدلات النمو في بنود الإنفاق الرئيسية. 

جدول (2) مقارنة بين معدلات النمو السنوي (%) للدعم والأجور والفوائد على الديون

السنة

--

المتغير

2010/2011

2011/2012

2012/2013

2013/2014

2014/2015

2015/2016

2016/2017

الفوائد المسددة

17.6%

22.8%

40.7%

17.8%

11.5%

26.2%

19.9% *

الدعم والمنح والمزايا

19.6%

22.0%

31.2%

16.0%

(-) %13.1

1.0%

2.7%

الأجور والتعويضات

12.8%

27.6%

16.4%

24.9%

11.1%

7.7%

4.9%

المصدر: محسوب من وزارة المالية، التقرير المالي الشهري، مايو 2017  وأعداد سابقة

*يوليو – أبريل 2016/2017

 

ويظهر الجدول (2) أن متوسط معدل الزيادة في فاتورة الأجور خلال السنوات المذكورة يبلغ 15.1% تقريبا سنويا وهو ما يتجاوز قليلا متوسط الزيادة السنوية في الإنفاق العام. ومع ذلك فإذا نظرنا إلى أرقام السنوات الثلاث الأخيرة فسوف نلاحظ بوضوح أن قيمة الزيادة في فاتورة الأجور تتراجع عاما بعد آخر حتى وصلت إلى 4.9% فقط في العام 2016/2017 أي ما يعادل ربع نسبة الزيادة في معدل التضخم السنوي. وهو ما يعني انخفاض نسبة الأجور من الإنفاق العام وتدهور الدخل الحقيقي للموظفين.

وتحرص  الحكومات في كل أنحاء العالم رغم الإختلاف فيما بين نظمها الإقتصادية والسياسية على أن تكون الزيادات السنوية في الأجور والمرتبات متكافئة مع الزيادة في معدل التضخم وذلك لمجرد المحافظة على قيمة الدخل الحقيقي للعاملين. بل إن الإتجاه العام في بعض الدول ومن بينها دول نامية مثل الهند يميل إلى زيادة الأجور والمرتبات بنسبة تفوق معدل التضخم، حيث ارتفعت قيمة الأجور والمرتبات في الهند عام 2017 بنسبة 10% في المتوسط بالأسعار الجارية، وبعد ترجيح الزيادة بنسبة التضخم فإن الزيادة الحقيقية في الأجور والمرتبات تبلغ 4.3%. وتزداد أهمية مثل هذه الزيادات الحقيقية في المرتبات بالنسبة للموظفين الذين يؤدون خدمات عامة للجمهور كعنصر من عناصر الوقاية ضد الرشوة والفساد.

ويبين الجدول (3) تطور قيمة الأجور والتعويضات والمزايا الإجتماعية للعاملين في أجهزة الموازنة العامة للدولة، وحصتها من المصروفات العامة وإجمالي الناتج المحلي.

جدول (3) تطور قيمة الأجور والتعويضات والمزايا الإجتماعية وحصتها من المصروفات والناتج (%)

السنة

المتغير

2011/2012

2012/2013

2013/2014

2014/2015

2015/2016

2016/2017

2017/2018

المصروفات

471

588.2

701.5

733.4

817.8

984.8

1206.0

الأجور والتعويضات والمزايا

122.8

142.9

178.6

198.5

213.7

228.7

239.5

% من المصرزفات

26.1%

24.3%

25.5%

27.1%

26.1%

23.5%

19.9%

% من الناتج المحلي

7.4%

7.7%

8.4%

8.1%

7.9%

7.0%

5.8%

المصدر: وزارة المالية، الميزانية العامة للدولة 2017/2018 والتقارير المالية الشهرية للسنوات المذكورة.

 

وتشير بيانات الجدول السابق إلى أن حصة الأجور والمرتبات للعاملين في أجهزة الموازنة العامة للدولة من إجمالي الناتج المحلي خلال الفترة من يونيو 2011 وحتى يونيو 2017 تصل إلى 7.5% في المتوسط.  وخلال تلك الفترة وصل نصيب الأجور والمرتبات والمنح والمزايا الإجتماعية للعاملين في الدولة أقصاه في السنة المالية 2013/2014 ليبلغ 8.4% من إجمالي الناتج المحلي، لكن هذه الحصة إنحدرت منذ ذلك الوقت لتسجل 5.8% من إجمالي الناتج المحلي في الميزانية العامة الأخيرة.

إذن فإن البيانات توضح أن حصة الأجور والمرتبات من إجمالي الناتج المحلي تتدهور من سنة إلى أخرى، وبلغت نسبة التدهور بين يونيو 2014 إلى يونيو 2017 حوالي 31% في السنة المالية الأخيرة مقارنة بما كانت عليه في سنة المقارنة. وربما نعتبر ذلك واحدا من العوامل القوية التي تفسر انتشار الفقر وزيادة معدل التباين في توزيع الدخل بشكل عام حيث تشكل الأجور والمرتبات للعاملين في الجهاز الإداري للدولة مكونا رئيسيا من مكونات دخل العمل على مستوى الإقتصاد ككل.

السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هنا هو: هل تعتبر الأجور والمرتبات سببا من أسباب الخلل في المالية العامة للدولة؟

 

رأينا فيما سبق كيف أن الأجور والمرتبات تزيد بمعدل يقترب من معدل الزيادة في المصروفات العامة للدولة بشكل عام، بصرف النظر عن الإختلافات في معدلات الزيادة بين عام وآخر. ورأينا أيضا أن معدل الزيادة في الأجور والمرتبات والتعويضات والمزايا الإجتماعية للعاملين في السنوات الأخيرة يقل من عام إلى آخر، وأن معدلات الزيادة تقل عن معدل التضخم، وهو ما يعني إنخفاض الدخل الحقيقي للعاملين في أجهزة الدولة. ويردد المسؤولون في كل مناسبة أن تضخم الجهاز الإداري للدولة يعد سببا من اسباب الخلل في مالية الدولة بسبب ما يحصل عليه العاملون من أجور. لكن المسؤولين في حقيقة الأمر يرددون هذه المقدمة في كل مناسبة كمقدمة وحجة لتبرير تخفيض حجم الجهاز الإداري للدولة (بما في ذلك أجهزة الحكومة المركزية والمحليات والهيئات العامة الخدمية). وينطوي هذا الحديث على تناقض بين الرغبة الحقيقية في تخفيض عدد العاملين وبين ضرورة زيادة المرتبات والأجور للعاملين. الحكومة في حقيقة الأمر تسعي إلى تخفيض كل منهما، تخفيض عدد العاملين وتخفيض المرتبات، وهي تقوم بتنفيذ هذا الهدف المزدوج في الميزانيات العامة للدولة من سنة إلى سنة.

لكن السؤال حول مدى رشادة الإجراءات الحكومية يظل قائما: هل تمثل فاتورة الأجور عبئا حقيقيا على الموازنة العامة للدولة؟

للإجابة على هذا السؤال نعقد مقارنة بين نصيب العاملين في الحكومة من إجمالي الناتج المحلي في مصر بمثيله في أقاليم العالم الرئيسية. ويبين الجدول التالي حصة العاملين في الحكومة طبقا لبيانات البنك الدولي عام 2015. 

جدول (4) حصة المرتبات الحكومية من إجمالي الناتج المحلي في أقاليم العالم المختلفة.

 

الإقليم

حصة العاملين في الحكومة من الناتج

جنوب آسيا

4.9%

شرق آسيا والمحيط الهادي

5.0%

وسط وشرق أوروبا

6.0%

أمريكا اللاتينية

7.0%

أفريقيا جنوب الصحراء

7.0%

الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

9.0%

الدول الصناعية  OECD

5.1%

(البنك الدولي)

 

وبمقارنة نصيب العاملين في الحكومة في مصر حاليا البالغ 5.8% من الناتج المحلي بمثيله في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يتبين أنه يعادل نحو ثلثي متوسط الإقليم، بينما يقل عن متوسط الحصة المماثلة في كل الدول النامية في كل أقاليم العالم باستثاء جنوب وشرق آسيا والمحيط الهادي والدول الصناعية الأعضاء في منظمة التعاون الإقتصادي والتنمية (OECD)

استنتاجات

يتبين مما سبق أن تخفيض حصة الأجور في القطاع الحكومي (الحكومة المركزية+ المحليات+ الهيئات الخدمية) من المصروفات العامة وإجمالي الناتج لم يساعد على إصلاح الخلل في الميزانية العامة للدولة، لكنه أدى إلى الإسهام في إضعاف الوزن النسبي للأجور في الناتج وإضعاف الوضع الإقتصادي والإجتماعي للموظفين العموميين بسبب انخفاض دخولهم الحقيقية، وزيادة حدة التباين والتفاوت الإقتصادي والإجتماعي بينهم وبين غيرهم من الفئات الإجتماعية. وهذا يعني أن الخلل في إصلاح المالية العامة للدولة يتجاوز بكثير نطاق الإجراءات الحالية التي تتخذها الحكومة على صعيد تجميد الأجور والمرتبات الإسمية تقريبا، وتخفيض قيمتها الحقيقية، وهو ما أدى ويؤدي إلى تدهور مستويات المعيشة للملايين من الأسر التي يعمل عائلوها لدى الجهاز الإداري للدولة.

ولكي تنجح الحكومة في علاج الخلل في المالية العامة وتخفيض العجز والإقتراب من تحقيق التوازن في الميزانية فإن عليها أن تنظر إلى أبعد من مجرد تخفيض الإنفاق على الدعم (وهو ما قمنا به في دراسة سابقة) وتخفيض الإنفاق على الأجور (وهو ما عرضناه في هذه الدراسة). إن تخفيض الإنفاق العام للدولة يتطلب أن تعيد الحكومة النظر في مخصصات البنود الأخرى للإنفاق، باستثناء الإستثمار الذي يجب أن يتضاعف ربما أكثر من مرة، مع العمل على فتح قنوات زيادة الإيرادات العامة للدولة وأهمها الضرائب العامة بمكوناتها المختلفة. بغير ذلك سوف تستمر السياسة المالية تدور في حلقة مفرغة وسوف تعجز عن تحقيق الأهداف المرجوة مع ضمان استمرار معدلات عالية للنمو، وضمان المحافظة على مستويات المعيشة من التدهور.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟