مصير "الرئاسة الفرنسية" في يد الانتخابات التشريعية
الثلاثاء 23/مايو/2017 - 09:02 م
د. محمد السعيد إدريس
عندما أعلنت نتائج الانتخابات الرئاسية الفرنسية مساء الأحد (14/5/2017)، كان هناك إدراك حقيقى لدى الكثيرين داخل فرنسا وخارجها أن فوز مرشح «الوسط ـ المستقل» إيمانويل ماكرون «39 عامًا» رغم أهميته الكبيرة ضمن الصراع الساخن وغير المسبوق على الرئاسة، أمام منافسته اليمينية المتطرفة مارين لوبان، زعيمة حزب «الجبهة الوطنية»، أن هذا الفوز هو مجرد نصف انتصار، لسبب رئيسى، هو أن هذا الانتصار يبقى مهددًا بالنتائج غير المحسومة للانتخابات التشريعية التى ستجرى فى فرنسا الشهر المقبل، والتى كشفت نتائج التصويت سواء فى انتخابات الجولة الأولى أو فى انتخابات الجولة الثانية، أن الناخب الفرنسى افتقد حماسه للنظام السياسى الحاكم فى فرنسا، وأن الطبقة الحاكمة التاريخية من الحزبين الكبيرين: الحزب الديجولى اليمينى والحزب الاشتراكى باتت خارج حسابات الناخبين، وأن الرئيس الفرنسى الفائز لا يرتكز إلى حزب سياسى قوى يترجم انتصاره فى الانتخابات الرئاسية إلى انتصار فى الانتخابات التشريعية، يمكنه أن يكون رئيسًا حقيقيًا قادرًا على تنفيذ برنامجه السياسي، وأن التصويت الذى حصلت عليه الزعيمة اليمينية المتطرفة، مارين لوبان، يمكن أن يتكرر فى الانتخابات التشريعية، ويمكنها من الدخول إلى البرلمان وقيادة معارضة قوية ضد الرئيس ماكرون، وإفشال جهود إنجاح مشروعه السياسى.
نتائج انتخابية ملتبسة
لا أحد يستطيع أن يقلل من أهمية فوز إيمانويل ماكرون رئيسًا لفرنسا، لكن هذا الفوز رغم أهميته الكبيرة بالنسبة لفرنسا، وبالنسبة لأوروبا بالذات ومستقبل الاتحاد الأوروبي، لكنه فى الواقع فوز مفعم بالثغرات من منظور مدى قدرته على استعادة فرنسا لنفسها، وإرساء قواعد حكم جديدة مستقرة خلافًا لتلك القواعد التى ثار عليها الشعب الفرنسى فى جولة الانتخابات الرئاسية الأولى التى أجريت يوم الأحد (٣٠/٤/٢٠١٧)، وأسقط فيها عمدًا كل رموزها من قادة مؤسسة الحكم سواء كانوا من اليمين الديجولى أو من اليسار الاشتراكى.
صحيح أن إيمانويل ماكرون فاز بنسبة كبيرة قادرة على تمكينه من أن يحكم فرنسا بقدر عالٍ من الثقة، حيث حصل على ٦٦.١٪ من إجمالى الأصوات الصحيحة التى شاركت فى الاقتراع، فى حين حصلت منافسته مارين لوبان على ٣٣.٩٪ لكن فى المقابل هناك ثلث الفرنسيين الذين لهم حق الاقتراع تعمدوا عدم المشاركة، ما يعنى أنهم لا يؤيدون أيًا من المرشحين، وافتقدوا الثقة الكافية للتصويت لأى منهما، وهى نسبة عالية جدًا، فقد امتنع ٢٥.٤٪ ممن لهم حق التصويت عن الإدلاء بأصواتهم، وقدم ٨.٦٪ من المقترعين أوراق بيضاء فى صناديق الاقتراع، خالية من اسم ماكرون أو لوبان، رغم ذلك فإن كلمة «لا» لكل منهما كانت واضحة جدًا بل وصارخة، فى إشارة تقول إن الشعب الفرنسى وجد نفسه فجأة أمام واقع أليم، سبق أن عاشه قبل حوالى ستة أشهر الشعب الأمريكى فى انتخاباته الرئاسية، وهو واقع الاختيار بين السيئ والأسوأ.
فرنسا وأمريكا
لقد عاش الفرنسيون الحالة نفسها، الاختيار بين مرشح من خارج مؤسسة الحكم ليست له أية خبرة، وليس لديه إلا إعلان التمرد على مؤسسة الحكم البالية، حديث السن «٣٩ عامًا»، وبين مرشحة متطرفة تثير الفزع على مستقبل فرنسا، لكنها الأكثر جدية فى الدعوة للتخلص من تقاليد الحكم الفرنسى ومؤسسته، تمامًا مثلما كان على الأمريكيين أن يختاروا بين هيلارى كلينتون، التى تمثل مؤسسة الحكم التى جرى تجريحها وإثبات فسادها على لسان المرشح المنافس، وبين هذا المنافس دونالد ترامب الذى لا يعرف شيئًا عن السياسة والحكم وتتمحور كل خبراته فى بورصة العقارات.
خطوط عريضة
ويبدو أن «ماكرون» كان على دراية بحقيقة الواقع الذى يحيط بفوزه الانتخابي، لذلك بادر بإطلاق مجموعة من الشعارات المعبرة التى أراد بها أن يستعيد ثقة الفرنسيين فى مستقبل بلدهم، وشاركه فى ذلك الرئيس الفرنسى المنتهية ولايته فرانسوا أولاند. فعقب إعلان فوزه ألقى «ماكرون» خطابًا حماسيًا على أنصاره المحتشدين، أمام متحف اللوفر بباريس، حدد فيه الخطوط العريضة التى سيحكم بها فرنسا فى شعارات براقة، قال فيها «سأحارب الانقسام الذى نواجهه والذى يؤثر علينا جميعًا». هذه هى المهمة الأولى والأساسية التى عليه أن يجد لها الحلول. ففرنسا منقسمة الآن وغير متوحدة التوجه بعد معركة انتخابية مزقت ما تبقى من روابط الفرنسيين مع نظامهم السياسى والطبقة الحاكمة التى نالها من التشويه الكثير.
فرنسا والاتحاد الأوروبي
بعدها قال مكررًا ذات المعنى «سأعمل على تعزيز التضامن بين كل الفرنسيين لضمان وحدة الأمة، وسأركز كل جهدى على تحقيق أمانيكم وتطلعاتكم». وكان حريصًا على أن يستعيد ثقة الفرنسيين فى المستقبل، عندما قال «أمامنا واجب إزاء بلادنا، ونحن ورثة أمة عظيمة وتاريخ عظيم»، لكن أهم رسالة تخص أولويات الحكم بالنسبة له كانت قوله: «سأدافع عن فرنسا ومصالحها الحيوية وعن أوروبا ومصيرها المشترك».
هنا وضع يديه على أهم أولوياته، وعلى المهمة التى اختاره الشعب من أجلها أى إعادة توثيق روابط فرنسا مع الاتحاد الأوروبي، ودعم مسيرة هذا الاتحاد والحيلولة دون انهياره، على العكس من المعركة القاسية التى خاضتها منافسته مارين لوبان ضد الاتحاد الأوروبى وعلاقة فرنسا به، وهى المعركة التى كانت فاصلة بينها وبين الحصول على ثقة الفرنسيين وجعلت الأغلبية تصوت لإيمانويل ماكرون، وهذا ما حرص الرئيس الفرنسى المنتهية ولايته فرانسوا أولاند على تأكيده فى بيان كان حريصًا أن يقول فيه إنه «اتصل بماكرون وزير الاقتصاد السابق فى حكومته ليهنئه» معتبرًا أن «فوزه الكبير يؤكد أن الأغلبية الكبيرة جدًا من مواطنينا الفرنسيين أرادوا التوحد حول قيم الجمهورية، وإظهار ارتباطهم بالاتحاد الأوروبي».
أزمة المجتمع الفرنسى
رغم أهمية هذين الهدفين، فإنهما لا يمثلان علاجًا ناجعًا لأزمات المجتمع السياسى الفرنسي، وليس فقط النظام السياسي، هناك الآن قوتان تصويتيتان كبيرتان لم تصوتا لإيمانويل ماكرون تبلغ أكثر من ٣٠٪ من المقترعين، وهما الذين لم يقترعوا أو اقترعوا بأوراق بيضاء اعتراضًا عليه وعلى ما يمثله، وإلا كانوا قد صوتوا له، فهم اعترضوا عليه كما اعترضوا على مارين لوبان، وهناك ما يقرب من ٣٠٪ من القوة التصويتية الذين صوتوا لصالح مارين لوبان لهم رؤية معاكسة لمشروع ماكرون وسيعملون ضده، عليه أن يبتدع رؤى سياسية واقتصادية جديدة لاجتذابهم، وعليه أن يدرك حقيقتين مهمتين وهو يفكر فى ذلك. الأولى: أن معظم الذين صوتوا له كان تأييدهم له نابعًا من خوفهم على مستقبل الاقتصاد الفرنسي، وبالتحديد على مدخراتهم فى حالة الانسحاب من منطقة اليورو أكثر من تأييدهم لشخصه. والثانية: أن الانتخابات التشريعية الشهر القادم، هى التى ستقرر مستقبله السياسي، وهى التى ستقول هل سيستطيع حكم فرنسا وتحقيق مشروعه السياسى أم لا. فحسب قول صحيفة الجارديان البريطانية سيبقى شلل الحياة السياسية فى فرنسا مستمرًا، إذا لم يحصل ماكرون على الأغلبية المطلوبة فى الانتخابات التشريعية المقبلة.
الانتخابات التشريعية جولة انتخابات رئاسية ثالثة
انطلاقًا من هذا الإدراك، فإن الانتخابات التشريعية القادمة، ستكون بمثابة جولة ثالثة حاسمة للانتخابات الرئاسية، أى أن رئاسة ماكرون لفرنسا ستبقى معلقة فعليًا لحين ظهور نتائج الانتخابات التشريعية، لأنه قد يجد نفسه مضطرًا لاختيار رئيس للحكومة من حزب منافس له أو تحالف انتخابي، قد يكون شريكًا فيه وقد لا يكون، ووفقًا لتوازن القوى داخل البرلمان سيتحدد بدقة مستوى قدرة «ماكرون» على الحكم، إذا أخذنا فى الاعتبار نتائج استطلاع الرأى الذى أجرته مؤسسة «IPSOS» التى أظهرت أن ٤٣٪ ممن صوتوا لصالح «ماكرون» فى جولة الإعادة قالوا إنهم فعلوا ذلك «اضطرارًا» بدافع قطع الطريق أمام اليمين المتطرف، بينما لم تتجاوز نسبة الذين قالوا إنهم صوتوا له تأييدًا لبرنامجه السياسى الـ ١٦٪ فقط.
وإذا أخذنا فى الاعتبار ارتفاع نسبة الممتنعين عن التصويت إلى نسبة قياسية تجاوزت ٣٤٪، فإن المتبقى من نسبة الـ ٦٦.١٪ التى نالها ماكرون فى الجولة الثانية، لن تمثل سوى ٤٣.٦٪ من العدد الإجمالى للناخبين. الأمر نفسه ينطبق على الأصوات التى حصلت عليها مارين لوبان، فنسبة الأصوات تلك التى بلغت ٣٣.٩٪ لا تمثل بدورها سوى ٢٢٪ من مجموع الناخبين. هذا يعنى أن إيمانويل ماكرون فاز بالرئاسة بفضل أصوات ٢٠.٧ مليون ناخب مقابل ١٠.٦ مليون ناخب حصلت عليها مارين لوبان، بينما بلغت أصوات معسكر الامتناع ١٦ مليونًا «١٢ مليونا قاطعوا الانتخابات و٤ ملايين قدموا أوراق بيضاء»، ولعل هذا ما حفز الزعيم اليسارى جان لوك ميلانشون إلى القول فى خطاب التهنئة الذى ألقاه عقب فوز ماكرون إن «مارين لوبان حلت فى المرتبة الثالثة فى هذه الجولة الثانية»، ما يعنى أنه يعتبر أن تلك الكتلة التصويتية الكبيرة للممتنعين هى القوة الانتخابية الحقيقية الثانية فى البلاد، وهذا ما جعله يركز عليها ويحاول استقطابها فى حزبه الذى يحمل اسم «فرنسا المتمردة»، بدعوته لها لإقامة «جبهة اجتماعية» لمنع ماكرون من الحصول على الأغلبية البرلمانية.
رسالة عمالية
بوادر خطر تشكل هذه الجبهة عبر عن نفسه بعد يوم واحد من إعلان فوز إيمانويل ماكرون فى تظاهرة كبرى احتشدت فى ميدان «ربيوبليك» وضمن ائتلاف ٧٠ فصيلًا نقابيًا من مختلف التوجهات، فى رسالة عمالية رافضة لما كان قد أعلنه ماكرون من عزمه على إصدار حزمة من المراسيم الرئاسية فى غيبة البرلمان، بهدف مباشرة ما سماه «حركته الإصلاحية». هذا واقع اجتماعى ـ سياسى له أهمية وفى ذات الوقت يخوض ماكرون الانتخابات التشريعية دون أى قاعدة برلمانية، وأنه قرر اختيار مرشحيه لهذه الانتخابات من أفراد المجتمع المدني، ومن النواب الحاليين الذين سيستقيلون من أحزابهم، وبعض السياسيين الذين سيفضلون العمل معه، على غرار رئيس الوزراء الاشتراكي، مانويل فالس، الذى أبدى رغبته بالترشح ضمن قائمة ماكرون.
عودة التيار الديجولى
ويجمع الخبراء على أن التيار اليمينى الديجولى «أى حزب الجمهوريين» سوف يسجل عودة قوية فى البرلمان المقبل، وذلك بعد أن تخلص من عبء فرانسوا فيون وفضائحه المالية التى تسببت فى خسارة الحزب فى الانتخابات الرئاسية. وسيسعى جان لوك ميلانشون اليسارى زعيم حزب «فرنسا المتمردة» إلى استغلال حالة الارتباك والتفكك التى تسيطر على الحزب الاشتراكى الفرنسى الآن لضم الجزء الأكبر منهم إلى حزبه بدلًا من أن يذهبوا إلى تكتل ماكرون الانتخابى. وعلى الجانب الآخر تراهن مارين لوبان على نسبة الأصوات التى أحرزتها فى الانتخابات الرئاسية للفوز بها، وبالمزيد من الأصوات المترددة عن التصويت فى الانتخابات التشريعية، على أمل أن تكون صاحبة أكبر كتلة معارضة داخل البرلمان، ومن خلالها تمارس دور المناوئ والمعرقل لمشروع «ماكرون» الإصلاحي، ما يعنى أن فرنسا ستبقى من الآن وحتى ظهور الانتخابات التشريعية فى مرحلة عدم اليقين انتظارًا لجولة انتخابات رئاسية ثالثة للحسم تحمل اسم «الانتخابات التشريعية».