خيارات دونالد ترامب في التعامل مع الاتفاق النووي
حينما فرغت من كتابة
هذا المقال كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد عيّن الجنرال هيربرت رايموند
ماكماستر الذي شارك في الحملات الأمريكية على العراق وأفغانستان كمستشار للأمن
القومي. كانت كل التعليقات تشير إلى أن سبب الاختيار كان بالتحديد هذه الخبرة في
المشرق الإسلامي وهو ما يقرأ بالتوازي مع أولوية
ترامب التي يبدو مهووساً بها وهي محاربة ما يسميه "الإرهاب
الإسلامي".
لم تمر سوى أسابيع على
تولي ترامب مقاليد السلطة في البيت الأبيض، إلا أن هذه الأسابيع قد حملت الكثير من
الإثارة على صعيد الإجراءات الخاصة والمتسرعة التي اتخذها الرئيس الجديد من جهة
وعلى صعيد الفضائح التي كان من أهمها تورط مستشار ترامب الأمني مايكل فلين في
علاقة تخابر مع الروس ما أدى إلى عزله خلال أيام معدودة من اختياره وهو من سيخلفه
ماكماستر.
هذه مجرد لمحة يمكن أن
توضح لنا حجم الالتباس الأمريكي ليس فقط تجاه موضوع الاتفاق النووي الذي نحن بصدده
ولكن تجاه العلاقات الأمريكية الخارجية بشكل عام وبشكل خاص العلاقة مع موسكو التي
بدت أقرب للتحالف مع الإدارة الأمريكية الجديدة قبل ظهور مؤشرات على تدخلها في
الانتخابات ومحاولة اختراقها للبيت الأبيض عبر شخصيات كمايكل فلين وغيره وهو ما
سيجبر أصدقاء روسيا في دوائر صنع القرار الأمريكية على التعامل معها بحذر في
الفترة القادمة.
في ظل هذا الالتباس
والانقسام بداخل دوائر صنع القرار الأمريكية نحاول في هذا المقال استعراض الخيارات
المختلفة التي يمكن أن تتعامل بها أمريكا- ترامب مع الاتفاق النووي الإيراني.
الموقف الترامبي من الاتفاق
خلال الأسابيع الأولى
من ولايته تبادل ترامب ومسؤولون إيرانيون تصريحات عدائية وبدا واضحاً أن الرئيس
الجديد جاد فعلاً في مسألة تغيير سياسة بلاده تجاه الدولة التي ظهرت خلال الأعوام
السابقة وكأنها شريكة للولايات المتحدة.
في الواقع، ورغم أن موقف
دونالد ترامب الرافض للاتفاق النووي كان واضحاً منذ حملته الانتخابية حيث وصفه
بالغبي وهدد بشكل علني بتمزيقه بمجرد فوزه بالرئاسة، إلا أن معظم المراقبين كانوا
يعتبرون أن هذه التصريحات هي أداة للاستهلاك الانتخابي وأن الوضع سيختلف بمجرد
استلام مفاتيح البيت الأبيض.
طهران نفسها لم تأخذ تلك
التصريحات على محمل الجد، فقد كانت معتادة حتى خلال الفترة الأوبامية على استقبال
الانتقادات من الجانب الأمريكي وهي انتقادات لم تعطلها كثيراً سواء كان على صعيد
مشاريع تطوير السلاح في الداخل أو كان على مستوى التدخلات الخارجية وخاصة في
العراق وسوريا واليمن.
هذا هو ربما ما جعلها
لا تبالي وهي تقوم بتجربة علنية لتجريب صاروخ باليستي متوسط المدى. الأمر الذي يتنافى
مع أهم مبادىء الاتفاق النووي المتعلقة بتجميد مثل هذه العمليات حتى حين. أدى ذلك لغضب
الإدارة الأمريكية الجديدة خاصة وأنه قد تزامن مع استهداف مجموعة الحوثي المدعومة من
طهران لقطعة بحرية سعودية. هذه المرة لم يكن الغضب الأمريكي مفتعلاً أو مسرحياً
على غرار الغضب والاستياء الذي كان يعبر عنه الرئيس السابق من حين لآخر دون اتخاذ
إجراءات فعلية فترامب لم يكتفي بتجديد وعوده بمعاقبة إيران "التي لم تقدّر"،
بحسب تعبيره، ما منحه لها باراك أوباما،
بل عمد إلى تفعيل عقوبات اقتصادية طالت الكثير من الكيانات الإيرانية.
لكن، وقبل تحليل
مستجدات العلاقة الأمريكية الإيرانية وموقف الرئيس المنتخب الجديد من الملف النووي
فإنه يجب علينا تقديم تعريف وتذكير بما يعنيه ذلك الاتفاق.
ما الاتفاق النووي؟
هناك عدة نقاط يجب
أخذها في الاعتبار عند الحديث عن الاتفاق النووي ولعل أهمها:
1- الاتفاق النووي الذي اعتمد في لوزان
بتاريخ 24/ يوليو/2015 والذي دخل حيز التنفيذ بداية العام 2016 لم يكن مجرد اتفاق
تقني، بل كان اتفاقاً ملخصه ضمان تحسن السلوك الإيراني وخاصة تجميد المساعي النووية
لمدى عشر سنوات مقابل إعادة فتح الأسواق أمام الاقتصاد الإيراني وقبول ذلك البلد
الذي عانى لعقود من الحصار والمقاطعة ضمن المنظومة السياسية والاقتصادية الدولية.
كان ذلك وفقاً لنظرية تبناها وبشكل واضح
الرئيس السابق باراك أوباما وفريق عمله وهي التي كانت تقول أن ما لم ينجح
المجتمع الدولي في الوصول إليه بطريق الاستهداف والعداء قد ينجح في التحصل عليه عن
طريق الضغوط الناعمة والاحتواء.
2- كثيراً ما ينسى المحللون أن هذا الاتفاق ليس اتفاقاً ثنائياً بين الولايات
المتحدة وإيران وإن كانت الأولى صاحبة الصوت الأعلى في الحديث عنه، فهو اتفاق بين
إيران ومجموعة الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن بالإضافة إلى ألمانيا
والاتحاد الأوروبي. أهمية هذه النقطة هي في كونها تضع الولايات المتحدة في حجمها
الطبيعي كأحد أطراف الاتفاق. هكذا يكون حديث ترامب عن إلغاء الاتفاق أو تمزيقه حديثاً
للاستهلاك الشعبوي فقط، حيث أنه لا يملك الحديث نيابة عن كل تلك الدول في الطرف
الغربي. كذلك الحديث عن العقوبات، حيث أن الجهة الوحيدة التي بإمكانها معاقبة
إيران على سلوكها هي مجلس الأمن بعد توصية من وكالة الطاقة الذرية. هنا لا يمكن
التقليل من أثر العقوبات الأحادية التي بإمكان الولايات المتحدة أن تفرضها على أي
طرف دولي حيث تظل هي الدولة الأكبر والأهم وصاحبة التحكم الذي لا ينكر في
اقتصاديات العالم ومؤسساته. إلا أنه، وفيما يتعلق بالعقوبات المرتبطة بتنفيذ
الاتفاق فإن دورها يظل محدوداً، ولذلك فقد هاجمت طهران العقوبات الأمريكية الأخيرة
التي فرضها الرئيس ترامب عليها باعتبارها غير قانونية.
3- للترويج للاتفاق النووي خاصة في المنطقة
العربية كان الرئيس السابق باراك أوباما وإدارته المتحمسة للاتفاق تصوره كضمان
لتحسن السلوك الإيراني العام وتغير نهجها العدائي وتدخلاتها ضد جيرانها العرب. إلا
أن ما حدث كان عكس ذلك تماماً، وفي رأيي فإن السبب كان يعود للفارق الكبير بين
تحسن السلوك الإيراني النووي وتحسن السلوك الإيراني العام. بالنسبة للغرب، وخاصة
الولايات المتحدة، كان الاهتمام ينحصر في تحسن السلوك تجاه المسألة النووية . هذا
هو ما أوجد حالة التراخي واللامبالاة التي كانت أقرب لتشجيع إيران على التمادي في
تدخلاتها وسياستها القائمة على تجنيد ودعم المليشيات الشيعية الإرهابية وغيرها.
كأن كل شيء كان مقبولاً طالما ارتضى نظام الملالي تأخير الحصول على السلاح النووي.
هذا هو ما جعل عدداً كبيراً من المحللين يتحدثون عن الاتفاق النووي كصفقة بين
واشنطن وطهران على حساب الجيران العرب.
4- جاء الاتفاق النووي في وقت كان فيه
الطرفان الأوروبي والإيراني بحاجة للإنعاش الاقتصادي، وخاصة الأخيرة التي استنزفت
نفسها من خلال تدخلاتها العسكرية الخارجية ودعمها غير المحدود للمجوعات الفوضوية
في أكثر من مكان، هذا غير تهاوي أسعار النفط الذي شكّل ضربة أخرى قوية لها. بهذا
الاتفاق حصلت إيران بشكل فوري على 400 مليون دولار، هذا بخلاف تحرير مبالغ
بمليارات الدولارات كانت مجمدة في البنوك الأمريكية، كما ساهم إلغاء الحظر في تمكن
إيران من شراء الذهب والمعادن الثمينة وصناعة السيارات والمواد البتروكيميائية
إضافة إلى صيانة الطائرات المدنية في الخارج.
المؤسف هو أن طهران
وعوضاً عن استغلال كل ذلك في تحقيق الرفاه والأمن الاقتصادي الداخلي وجهت كل تلك
الطاقات المالية تجاه المسألة العسكرية داعمة بلا حدود مؤسسات كالحرس الثوري الذي يكاد أن يسيطر على الاقتصاد
الإيراني.
بين أوباما وترامب:
لسوء حظ إيران فإن
الرئيس الجديد لا يضع فروقاً كبيرة بينها وبين الدول السنية الأخرى بحيث سيصعب أن
تنطلي عليه الدعاية التي عملت عليها طهران لسنوات والتي تجعلها تظهر بمظهر الشريك
في محاربة الإرهاب الذي يرعاه منافسوها من أهل السنة. كان أوباما وفريقه الرئاسي يظنون
أنهم قادرين على تفهم العلاقات المتشابكة بين دول المنطقة ولذلك فقد كان يحاولون
إقامة علاقة متوازنة مع إيران من جهة عبر الاتفاق النووي ومن جهة أخرى عبر
الاستفادة من حماسها الطائفي من أجل التنسيق في مجال محاربة ما يسميه بالإرهاب،
كما كان يعملون في ذات الوقت على توطيد علاقتهم بدول الخليج الذين تربطهم بها
علاقات تاريخية واستراتيجية.
هذه السياسة التي
حاولت إظهار التوازن كانت ذات آثار سلبية على العلاقات الأمريكية الخارجية، فقد
هزت ثقة دول الخليج بحليفتها القديمة ما جعلها تفكر في نسج شراكات جديدة، كما أن
إيران نفسها لم تستطع أن تسلّم جميع
أوراقها لأمريكا التي كان واضحاً أنها قد ترضي في وقت ما أصدقاءها العرب على حساب
المصالح الإيرانية.
تغيّر الوضع اليوم
بشكل واضح ولا جدوى هنا من تكرار العبارة التي تقول أن السياسة الأمريكية واحدة
وأن الرؤساء فقط يتغيرون. الواضح أن لكل
رئيس بصمته الخاصة وطريقته في ممارسة السياستين الداخلية والخارجية وذلك يظهر عند
المقارنة مثلاً بين عهد جورج بوش الإبن وخلفه باراك أوباما حيث تراوحت السياسة
الأمريكية بين التهور والتسرع والميل لخوض الحروب في كل مكان في عهد الأول وبين الهدوء
والجمود والتردد لدرجة السلبية في عهد
الثاني.
ترامب لا يستنثي إيران
من خطاباته وإجراءاته المعادية للعرب والمسلمين وهو يستخدم لغة مباشرة للتعبير عن
رغبته في نقض الاتفاق النووي مع إيران وتفكيكه. والسؤال الكبير هو: هل يستطيع
ترامب فعلاً ذلك؟
باستحضار النقاط التي
ذكرناها في التعريف بهذا الاتفاق يمكننا أن نستنتج أن إلغاء هذا الاتفاق لمجرد أن
تلك هي رغبة الرئيس المنتخب هو أمر مستحيل وأن أقصى ما يمكنه أن تفعله واشنطن هو
الانسحاب الأحادي من الاتفاق أو انتظار اقناع مجموعة الدول الأخرى الموقعة بالأمر.
إلا أن هناك أسباباً
أخرى مرتبطة بالتوافقات الأمريكية الداخلية فليس كل صناع القرار من فريق ترامب
مقتنعين بالحماس الترامبي لنقض الاتفاق، ولعل أهم اسمين هنا هما جيمس ماتيس وزير
الدفاع وريكس تيليرسون وزير الخارجية حيث يقود كلاهما حملة مختلفة ليس نحو
الانسحاب من الاتفاق وإنما من أجل الضغط على إيران لتنفذ بنوده بشكل أكثر صرامة وجدية.
تشابكات إيرانية:
انطلاقاً من سوريا ،
استطاعت طهران مستفيدة من القوة التي منحها لها الاتفاق من خلق تشابكات إقليمية
مهمة، كما استطاعت ربط مصلحتها الخاصة بمصالح جهات إقليمية ودولية مختلفة بحيث
تكون أول المساندين لها دبلوماسياً وسياسياً ضد محاولات الانقلاب على الاتفاق.
"ترامب يريد أن
يصد إيران، ولكن إيران الآن أقوى من أي وقت مضى". هذا هو، وبشكل حرفي عنوان
التقرير الذي نشرته صحيفة الواشنطن بوست تعليقاً على تهديدات الرئيس الأمريكي.(1)
يوضح التقرير أنه وبخلاف شبكة الربط الاقتصادي والسياسي التي أنشأتها طهران عقب
الاتفاق ورفع العقوبات فإن نظام الملالي قد استطاع فعلاً تطوير قدراته العسكرية ومدى
صواريخه بحيث يستطيع أن يهدد بجدية الوجود والقواعد الأمريكية في المنطقة إضافة
إلى أن الكيان الصهيوني نفسه قد أصبح بالنسبة له في مرمى النيران.
ليس في الأمر مبالغة وحين
نتحدث عن جمهورية الولي الفقيه فإنه يجب علينا بالضرورة أن نستحضر توابعها القريبة
من ممرات ومناطق داخل حدود التواجد الأمريكي في الخليج واليمن ولبنان وغيرها. لهذا
السبب فإن كثيراً من الأصوات باتت اليوم تنصح الرئيس الأمريكي بعدم الاستخفاف
بطهران القادرة على تنفيذ تهديداتها بضرب بعض المصالح الاستراتيجية الأمريكية في
الخليج العربي أو قرب باب المندب.
التشابكات متعددة
ويكفي أن نتذكر أنه، ورغم كل شيء، فإن النغمة الأمريكية المهددة لم تجد من الأطراف
الدولية من يساندها. روسيا التي تخوض حلفاً استراتيجياً مع إيران أعلنت أكثر من
مرة أنها لا تعتبر حليفتها داعمة للإرهاب
كما أنها لا تراها قد خرقت الاتفاق، حتى بعد إجرائها للتجربة الباليستية، باعتبار
أن من حق الجميع إجراء ما يرونه مناسباً لضمان "الاستعداد الدفاعي".
أكثر من ذلك فإنه من غير
المتوقع أن يكون الاتحاد الأوروبي، الحليف الأقرب إلى الولايات المتحدة، من
الداعمين لسياسة العقوبات وذلك لارتباطه الحالي مع السلطة الإيرانية باتفاقيات
بملايين الدولارات. وإذا تحدثنا بلغة البزنس التي يعرفها الرئيس الأمريكي وسياسيوه
المقربون من طبقة رجال الأعمال فإننا سندرك أن الخسارة لن تكون على الطرف الأوروبي
فقط ولكن أيضاً ستقع خسائر مهمة على الجانب الأمريكي حيث تستعد عشرات الشركات
للدخول بقوة إلى السوق الإيراني الخصب الذي لا يتميز فقط بالكثافة السكانية ولكن
أيضاً بالدور المهم على صعيد سوق الطاقة فإيران تتمتع بمركز متقدم على صعيد إنتاج
النفط الخام، كما تعتبر ثالث أكبر مصدّر له و صاحبة أكبر احتياطي عالمي من النفط
والغاز الطبيعي.
من المهم هنا التذكير
بأن رفض الاتفاق النووي والتشكيك في النوايا الإيرانية ليس شيئاً شخصياً خاصاً
بالرئيس الجديد، بل هو اتجاه قوي داخل الولايات المتحدة ومدعوم من الكثير من
الشخصيات اليمينية ولعلنا نذكر على سبيل المثال اقتراح الدبلوماسي جون بولتن بأن
ترعى أمريكا- ترامب المعارضات الإيرانية المسلحة التي تهدف لانتزاع الحكم بالقوة
من أيدي السلطة الحالية.
لكن التشابكات التي
استطاعت طهران نسجها خلال السنوات الماضية دعمت موقفها بشكل جيد وحصنتها أمام أي
اجراءات قد تضرها بشكل فعلي، والأهم، أوجدت لها الكثير من الأنصار. على سبيل
المثال فإن هوس ترامب بمكافحة التنظيمات الإسلامية المقاتلة قد دفعه لاحترام
التدخل الروسي في سوريا كما جعله يبدي إعجابه بالرئيس بوتين الذي يخوض حرباً
استباقية ضد المتشددين. الشراكة المتوقعة مع روسيا إذا لم تتأثر بمستجدات السياسة
الأمريكية سوف تحمي بشكل ما إيران المرتبطة بها وقد يستطيع الرئيس الروسي إقناع
الإدارة الأمريكية بأهمية الدور الإيراني في مكافحة الإرهاب، على اعتبار أنها
الدولة القادرة على توفير الكثير من المقاتلين الدوليين من أبناء عقيدة الولي
الفقيه من الذين لا يتورعون عن فعل كل ما يناط بهم بلا تفكير.
الشراكة مع روسيا
مشكلة الشراكة أو
التحالف الإيراني الروسي لا تنحصر في التنسيق تجاه المسألة السورية، بل إنها تتعدى
ذلك لتستهدف استغلال الوسيط الروسي من أجل إقناع صانع القرار الأمريكي بأن الإرهاب الحقيقي إنما هو الإرهاب السني الذي
يستهدف الجميع خاصة المصالح الغربية في حين تقصر المجموعات الشيعية نطاق عملهاعلى الهجمات
ضد المسلمين السنة "الإرهابيين".
الشراكة الموازية بين
روسيا والولايات المتحدة قد تقود لتنسيق الطرفين مع إيران للأسباب أعلاه، لكنها قد
تقود أيضاً، بحسب وجهات نظر معتبرة، إلى تفكيك العلاقة الروسية الإيرانية بمحاولة
إقناع موسكو بأن تضحي بحليفتها الإشكالية في سبيل علاقات طيبة وتنسيق أكبر مع
واشنطن. عبّر عن هذه الرؤية بوضوح جاي سولومون من صحيفة "وول ستريت
جورنال" بمقال تناول فيه "النظر في توسيع الهوة بين روسيا وإيران".(3)
اللافت في مقال
سولومون تركيزه على أن تفكيك هذه العلاقة بين الطرفين ليس أمراً سهلاً فهو يذكرنا
بأن الرئيس السابق أوباما قد استطاع خلال فترة حكمه الأولى إقناع الرئيس الروسي
حينها ديمتري ميديفييدف بأن يصوّت لصالح عقوبات الأمم المتحدة التي فرضت ذلك الحين
على إيران بسبب أنشطتها النووية.
لكن هذا التفكيك لم
يستمر طويلاً فسرعان ما دب الخلاف على إثر قضايا الدرع الصاروخي والتدخل الروسي في
القرم وأوكرانيا ما أدى إلى إطلاق حزمة من العقوبات ضد موسكو التي قابلت كل ذلك
بمزيد من الإصرار على فرض هيبتها في مناطق نفوذها السابقة والتي أضافت إليها هذه
المرة مناطق نفوذ جديدة أبرزها سوريا.
قبل متابعة هذه القراءة
للعلاقة المعقدة بين واشنطن وكل من موسكو وطهران أحب أن أتوقف عند نقطة التفكيك
تلك. كما قلنا فإن الأمر ليس سهلاً ولكنه في ذات الوقت ليس مستحيلاً وقد سبق وطرحت
هذه الفكرة في مقال سابق لي عن التحالف
الروسي الإيراني. حينها قلت أنه لا يجب التعامل مع روسيا وإيران وكأنهما في صندوق
أبدي واحد فكلا الطرفين يحكمهما منطق المصلحة ولذلك فإن بإمكان الدول العربية أو
السنية المعارضة للتدخل الروسي في سوريا وغيره من مظاهر التماهي الروسي مع السياسة
الإيرانية أن تسعى للفصل بين الجانبين وخاصة استمالة الطرف الروسي الذي، أيضاً، يرتبط
بالكثير من المصالح مع دول المنطقة.(2)
أخيراً: ماذا يعني انهيار الاتفاق؟
لو فرضنا جدلاً ورغم
كل ما سردناه سابقاً أنه قد تم تمزيق هذا الاتفاق بحسب رغبة الرئيس ترامب، فما
الذي يمكن أن يعنيه ذلك؟
من المهم أن نعلم أن إنهيار
الاتفاق لن يعني بأي حال الدخول في حرب مع إيران، كما أنه، وكما رأينا أعلاه، لن
يعني العودة لمربع الحصار الاقتصادي الذي ستعارضه أطراف دولية عديدة اشتبكت
مصالحها مع طهران.
انهيار الاتفاق لا
يعني سوى الدخول في جولة جديدة من المفاوضات الهادفة لانجاز اتفاق بشروط معدّلة .
مثل هذا السيناريو سيخدم الطرفين، الأمريكي الذي سيظهر متصالحاً مع الموقف اليميني المتشدد من الاتفاق، والإيراني
الذي سيرتاح من ذلك التناقض الذي ولده الاتفاق مع الغرب والذي أظهر البلاد كحليف
لما كان يسمى حتى سنوات قليلة مضت بـ"الشيطان الأكبر". بهذه الطريقة
سيكون ترامب قد قدم خدمة مهمة للجناح المتشدد من الملالي حيث سيمكنهم من استعادة
أدبياتهم القديمة حول "الاستهداف الامبريالي" للثورة وهو ما سيحتاجون له
بشدة خلال الأيام القادمة بالنظر لأن البلاد مقبلة على انتخابات رئاسية. من جهة
أخرى ستكون طهران، في حالة الغاء الاتفاق، في حل من كل تعهد مما سيمنحها مساحة
وحرية أكبر في العمل وصولاً لهدفها
الاستراتيجي: الانتقال والتحول من مرحلة القوة الإقليمية إلى مساحة أكبر كلاعب
دولي خاصة بعد استكمال المشروع النووي الذي لا تفصلها عنه سوى خطوات قصيرة.
الهوامش
[1] Liz Sly&
Loveday Morris,
Trump want to push back against Iran, but Iran is now more powerful than ever,
The Washington post, تاريخ النشر الخامس من فبراير2017.
2 Jay Solomon,
Trump administration looks at driving wedge between Russia and Iran, The Wall
Street Journal, بتاريخ الخامس من فبراير 2017
3
مدى الفاتح، التحالف الوسي الإيراني، واقعه ومستقبله، مجلة البيان، العدد354،
نوفمبر 2016.
* باحث سوداني في العلاقات الدولية