ترامب: حل سريع للقلق على الوجود
حوار جوليانو باتيستون مع زيجمونت باومان فى 14 نوفمبر 2016
تنتشر بين صفوف "اليسار
الليبرالي" في المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية استجابة عامة لنجاح
دونالد ترامب بالانتخابات: وهى استجابة الخوف. إذ نجد استجابات من نوع "أنها لحظة
خطر عظيم، فانتصار دونالد ترامب يتحدى نموذج الديمقراطية الغربية". وكذلك
القول بأنه "سينقلنا لمرحلة سياسية مختلفة، مرحلة ما بعد الليبرالية الجديدة،
مرحلة ما بعد نهاية تاريخ السياسة، دون غيره من الرؤساء المحتملين...". أو
القول "انتخاب هذا الرجل للرئاسة ليس سوى مأساة للجمهورية الأمريكية، مأساة
للدستور ..." فهل تتفق مع مثل هذه الاستجابات المروعة؟
تتراكم الرؤى
المروعة كلما دخل الناس إلى ساحة المجهول الواسعة: اليقين بأن لا شيء، أو قليلاً
مما كان سوف يستمر كما كان، حيث لا يوجد شيء يمكن التأكيد عليه أو القول ببديل له.
إن ردود الفعل
على فوز ترامب، كما ترى، لحظية ووافرة، ولكنها، ويا للدهشة، متفق عليها: إنها تشبه
إلى حد كبير حالة التصويت على البريكس، حيث ينسب التصويت لترامب إلى الاحتجاج
الشعبي على المؤسسة السياسية والنخبة السياسية فى البلد ككل، التي أصاب الإحباط
قطاعاً عريضاً من أهلها لفشل المؤسسة والنخبة في الوفاء بالوعود. ولا عجب أن هذه النوعية
من التفسيرات كانت الأكثر شيوعاً بين الليبراليين، الذين لديهم مصلحة قوية في
الحفاظ على المؤسسة السياسية الحالية.
فالرجل ليس جزءاً
من تلك النخبة السياسية، ولم يشغل أبداً أي منصب منتخب، وجاء "من خارج
المؤسسة السياسية" وعلى خلاف مع الحزب الذي كان عضواً رسمياً فيه (وعاد
للانضمام إليه في عام 2009 بعدما ظل عضواً لمدة خمس سنوات فى الحزب الديموقراطي)،
ولذلك يعتبر انتخابه فرصة رائعة وفريدة من نوعها لإدانة النظام السياسي بأكمله -
كما هو الحال في الاستفتاء البريطاني، حيث كانت جميع الأحزاب السياسية الرئيسية
(حزب المحافظون، وحزب العمال والليبراليون) متفقين في الدعوة للبقاء في الاتحاد
الأوروبي، وبذلك يمكن للمصوت الواحد أن يستخدم صوته ليعبر عن نفوره من النظام
السياسي برمته.
هناك ثمة عامل
آخر (أو بالأحرى عامل مكمل) يتبدى في التعليقات الفورية، وهو الشغف الملحوظ للناس لاستبدال
المشاحنات البرلمانية التي لا نهاية لها وليست فعالة وعاجزة مع ذلك، استبدالها بإرادة
لا تقهر ولا يمكن تعويضها، إرادة "الرجل القوي" (أو المرأة القوية)
وعزمه وقدرته على فرض الحق دون مماطلة وتسويف، أن يضع الحلول السريعة بمحض إرادته.
وقد صور ترامب نفسه بمهارة فى صورة شخص له هذه الصفات التي تحلم بها قطاعات كبيرة
من الناخبين.
هذه ليست
بالطبع كافة العوامل التى ساهمت فى فوز ترامب - ولكنها بالتأكيد العوامل الحاسمة،
وربما أهمها. فعضوية هيلارى كلينتون لمدة ثلاثين عاماً فى المؤسسة وأجندتها غير
المقنعة، واهنة العزم، حالت دون اعتبارها
الاختيار الحق والمقبول شعبياً.
أظن أن ما نشهده
حالياً هو إعادة بناء مبادئ الديمقراطية المسلم بها (على الرغم من أنني لا أعتقد
أن هذا المصطلح نفسه سوف يتم التخلي عنه كاصطلاح للمثالية السياسية؛ فهذا
"الدال"، بتعبير فرديناند دي سوسير، تم فهمه ولا يزال قادراً على ولادة
كثير من "المعانى" الدالة عليه. فهناك، على سبيل المثال، إحتمال ملحوظ لعدم
الرضا العام عن السلطات التقليدية (من قبيل سلطات مونتسكيو الثلاثة المستقلة بحسب
تقسيمه– السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية، أو ما يوجد داخل النظام
البريطاني من "ضوابط وتوازنات") فقد أضحت لا معنى لها، وأبدلها الناس، صراحة
أو ضمناً، بقوة مكثفة ممثلة فى نموذج استبدادي أو فى نموذج ديكتاتورى. فالعبارات
التى قلتها هى تعبير عن أعراض لاتجاه - إذا جاز التعبير – لنقل السلطة من الذرى النخبوية
الغامضة حيث تكمن أو تتدفق إلى أقرب موضع: ليتسنى التواصل المباشر بين الرجل (أو
المرأة) القوي الذى يقبع فى القمة ومجموع أنصاره بفضل توسط "مواقع التواصل الاجتماعي"
كوسيط لإجراء مسوح الرأى.
- على الرغم من اهتمام ترامب بالقضايا العرقية والقومية، إلا
أن دعوته لم تستند كلية على النزعة القومية العرقية. وقد أكد عديد من المحللين أنه
بصرف النظر عن اتخاذه مجموعة من المواقف الرجعية تجاه قضية "الاختلاف"، إلا
أن أكثر أوراق ترامب المربحة هى قلق المواطنين من الأوضاع الاقتصادية حيث يشعرون
بتهميش العولمة لهم. فهل القلق من الأوضاع الاقتصادية مرتبط بالقلق من الآخرين؟ وكيف
ذلك؟
إن
الخدعة هى الربط بين الجانبين: أن تجعل الجانبين متشابكين لا ينفصلان ومتداخلين
معاً. هذا بالضبط ما فعله ترامب، المحتال الكبير (وإن لم يكن وحده على المسرح
السياسي في العالم). إنني أميل لأتجاوز هذا الربط المذكور مراراً بين سياسات
الهوية والقلق الاقتصادي – لأقول بأن ترامب أراد تلخيص كل جوانب عدم اليقين
الوجودي الذي يطارد كل من تبقى من أبناء الطبقة العاملة القديمة والطبقات
"الوسطى" السابقة وإقناع المحرومين بأن التخلص من الغرباء، والأجانب
المخالفين فى العِرق واللاجئين والوافدين الجدد هو "الحل السريع" الذي
من شأنه أن يدفع بعيداً كل أنواع القلق بضربة واحدة.
- بعض الناس الذين صوتوا لترامب ينتمون لفئة "المطرودين":
أولئك الذين كانوا جزءاً من "العِقد الاجتماعي" وتعرضوا للتهميش أو طُردوا
منه، وأولئك الذين ليس لديهم أمل أن يكون جزءاً منه في المستقبل (المرحلة التى
أشار إليها بونافنتورا دي سوزا سانتوس بــ"مرحلة ما بعد وما قبل التعاقد). فهل
توافق على ما يقوله هؤلاء الأكاديميون، أمثال ساسكيا ساسين، الذي يدعى أن فوز
ترامب يمثل نهاية للنموذج الاقتصادي الكينزي بعد الحرب، لصالح نموذج طارد؟
إن
الانتقال من عقلية الاندماج إلى عقلية الإقصاء، ورؤيته وسياسته ليس بالأمر الجديد.
وقد تزامن ذلك مع نقلة نوعية أخرى – الانتقال من مجتمع المنتجين إلى مجتمع
المستهلكين، الانتقال الذى لا يخلو من عملية التهميش: "فالطبقة الدنيا" ليست
محتقرة فقط بل ومنفية من مجتمع الطبقات، أو من فئة "المستهلكين المعيبة"
فهم غير لائقين ليتم دمجهم فيها. فالاتجاه الحالي "لأمننة" المشاكل
الاجتماعية يزيد الطين بلة: يوسع شبكة الاستبعاد فيما يحقر من شأن المستبعدين
وينقلهم من فئة الأقل، على الرغم من جودة نوعيتهم، إلى فئة الأكثر شراً، بفضل
التقسيم السام - المهووس والقاتل.
- في بعض كتبك، على سبيل المثال في كتابك البحث عن
السياسة، حللت ما تسميه "الثالوث الشرير"، وهو عدم اليقين وانعدام الأمن
والضعف، حللت مشاعر الناس الذين يعيشون في عالم حدث فيه الطلاق بين السلطة
والسياسة. هل يؤدى هذا الطلاق حتماً إلى طلب الناس لـ"الرجل القوي"
(الموضوع الذي تناولته في ورقة أرسلتها إلى ندوة اسطنبول، ونشرت في صحيفة كورييري
ديلا سيرا) ونشدان الشعبوية؟
نعم، أميل
إلى الاعتقاد بذلك. فالطلاق الذى تذكره يترك فجوة - فجوة كبيرة بشكل مخيف -، فجوة ينبع
منها خليط سام من اليأس والتعاسة. فالنزوع المحافظ وما إلى ذلك من أدوات مألوفة
ومتوفرة حسب الظن للمواجهة الفعالة للمتاعب والهموم، هو نزوع لم يعد فى الظن قادراً
على الوفاء بالوعود. ففى مجتمع يتذكر فيه قلة قليلة سحر العيش في ظل نظام شمولي أو
ديكتاتوري لحاكم قوي لم يجرب من قبل، لا يبدو مثل هذا الحاكم سماً يتجرعه المواطن
بل العلاج بفضل ادعاء القدرة على إنجاز الأمور وتقديم الحلول الفورية، والحلول السريعة
والآثار المباشرة التى يعدون بها فيما يقدمونه من مهر.
- كتب بيبي غريللو، زعيم حركة النجوم الخمسة
الإيطالية تعليقاً مقتضباً بعد فوز ترامب، مركزاً على أوجه التشابه بين نجاح حزبه
في إيطاليا ونجاح ترامب في الولايات المتحدة الأمريكية، قائلا: "أولئك الذين لديهم
الجرأة والصلابة، أولئك البرابرة، سوف يقودون العالم إلى الأمام. ونحن البرابرة!
". ولقد اعتدنا دوماً أن نحكم على كل القوى المناهضة للمؤسسة باعتبارها شكلاً
من أشكال "الشعبوية". أفلا تظن أن كلمة الشعبوية المعتادة هي تسمية عتيقة،
تستخدمها مؤسسة واثقة بذاتها تجنبا للسعى إلى فهم من هم البرابرة، وماذا يريدون في
الواقع؟ أو يمكن تفسير انتخاب ترامب أيضاً كرسالة إلى المؤسسة؟
في
أوروبا، انتشرت الصراصير على سطح الأرض حالياً. حيث يعتبر البرابرة هم المنقذون
لمن رأوا حضارتهم قد فشلت. أو هذا ما بذلوا قصارى جهدهم لإقناع السذج به. أو هذا
ما يريد المحرومون والمهملون عند توزيع الهدايا المتحضرة أن يقتنعوا به عن يقين. وقد
تستغل بعض المؤسسات هذه الفرصة، تماماً مثل المؤمنين بالآخرة فى سعيهم أحياناً إلى
الانتحار.