الفرصة والتكلفة: الاقتصاد المصري وصندوق النقد الدولي
الإثنين 15/أغسطس/2016 - 12:09 م
إبراهيم نوار
عادت مصر إلى صندوق النقد الدولى، بعد أن ظلت مترددة لسنوات منذ ثورة يناير.
ففى الأشهر التالية للثورة رفض المجلس العسكري فكرة الاقتراض من الصندوق، وقدمت القوات المسلحة دعمًا ماليًا استثنائيًا للميزانية العامة للدولة، ثم ساعدت المنح والمساعدات المالية والعينية العربية على تجنب إعادة فتح مفاوضات الاقتراض من الصندوق أكثر من مرة، وظلت مصر تقدم رجلًا وتؤخر رجلًا حتى شهر إبريل من العام الحالى، وخلال تلك الفترة فتحت مصر مفاوضات مع الصندوق ثم تراجعت عنها، مرة للاقتراض بقيمة 1.2 مليار دولار في أعقاب ثورة يناير مباشرة، ومرة ثانية بقيمة 3.2 مليار دولار بعد ثورة 30 يونيو، ثم رفعت الحكومة قيمة القرض المطلوب إلى 4.8 مليار دولار، وبعدها توقفت المفاوضات.
وعلى الرغم من اهتمام الوفد الرسمى المصرى المبعوث إلى اجتماعات دورة الربيع لكل من صندوق النقد والبنك الدوليين بتسويق السياسات الاقتصادية للحكومة، فإن المبعوثين المصريين استبعدوا أي احتمال لطلب الاقتراض من الصندوق، رغم أنه كانت هناك محادثات جارية مع البنك الدولى لترتيب قرض كبير لدعم الاقتصاد، يرتبط بقروض أخرى من بنك التنمية الإفريقى وبعض صناديق التنمية العربية.
الآن عادت مصر رسميًا إلى طلب مساعدة الصندوق، في الوقت الذي فشل فيه البنك المركزى المصرى في إدارة أزمة سعر صرف الجنيه، أو تخفيف حدتها، وتضاربت التوجهات داخل دوائر وزارة المالية والبنك المركزى بشأن اتجاهات أسعار الفائدة، وبشأن قيمة الجنيه المصرى، لما لكل منهما من أثر كبير على العجز في الموازنة المالية للحكومة في السنة المالية الحالية، وعلى أعباء سداد الديون العامة، ووجدت الحكومة أن تأمين احتياجاتها التمويلية من الخارج لن يتأتى بغير اتفاق مع الصندوق، بعد أن استنفدت الحكومة أو كادت مصادر التمويل المحلية، وبدأت أسعار الفائدة على أذون الخزانة في الزحف إلى معدل تجاوز ١٧٪ سنويًا «بلغ سعر الفائدة على عطاء أول أغسطس الحالى لأجل ٥ يوليو ٢٠٢٦ «١٧.٥٦٪ سنويًا»، وهو ما يعنى تفاقم أعباء خدمة الديون الحكومية.
يدفع الحكومة الآن إلى الاقتراض من الخارج اعتباران، الأول أن أسعار الفائدة على الدولار تتراوح بين ١٪ و١.٥٪ سنويا، الأمر الذي يجعل الاقتراض الخارجى يبدو رخيصًا مقارنة بتكلفة الاقتراض المحلى، والثانى أن نسبة الدين الخارجى في مصر إلى إجمالى الناتج المحلى تبلغ حاليًا نحو ١٦٪ وهى نسبة تقل عن المتوسط المقابل في الدول النامية الصاعدة التي تبلغ نحو ٢٥٪، هذه إذن الأسباب الحقيقية للجوء الحكومة إلى صندوق النقد الدولى بعد أكثر من ٥ سنوات من الممانعة في الاقتراض من الصندوق.
الحكومة قررت بإرادتها أن تدخل إلى مصيدة الاستدانة من الخارج والوقوع في شرك تراكم الاحتياج إلى العملات الأجنبية لسداد أقساط الديون الخارجية، وهى الاحتياجات التي من شأنها أن ترتب أعباء ثقيلة على اقتصاد منهك يعانى من شح الموارد بالنقد الأجنبى سواء من التصدير أو السياحة أو تحويلات العاملين أو إيرادات قناة السويس.
تكلفة الاقتراض من الخارج لا يجب أن تحسب على أساس أسعار الفائدة على الدولار فقط، وإنما على أساس تكلفة تدبير النقد الأجنبى، كما أن القدرة على الاستدانة بالنقد الأجنبى لا تحتسب على أساس معامل متوسط نسبة الديون الخارجية من إجمالى الناتج المحلى، إنما القدرة على السداد، أي أن القدرة على توليد دخل حقيقى بالعملات الأجنبية هي المحدد الأول الذي يجب أن يحكم طلب الاستدانة من الخارج، وهذه القدرة على توليد دخل حقيقى بالنقد الأجنبى هي حاليًا أقل ما تكون في السنوات الخمس الأخيرة.
من المؤكد أن حكومة المهندس شريف إسماعيل تطمح أن يوفر قرض الصندوق، المقدر بنحو ١٢ مليار دولار على مدى ثلاث سنوات، فرصة جيدة للمزيد من الاقتراض من المؤسسات المالية الدولية، ومن أسواق السندات الدولية، بما يصل إلى قيمة مماثلة لقرض الصندوق، ورغم أن الطموح مشروع في وقت الحاجة، إلا أن الحكومة يجب أن تدرك أن الحكومات السابقة منذ ٢٠١١ حتى الآن حصلت على منح ومساعدات وقروض خارجية تتراوح بين ١٨٪ إلى ٢٠٪ من إجمالى الناتج المحلى للبلاد خلال السنوات الخمس الماضية، ومع ذلك فإن هذه المساعدات تبخرت في حلول ومسكنات للأجل القصير ولم يظهر لها أثر إيجابى على المدى الطويل.
ومن الأمور المخيفة أن الجهاز الحكومى المصرى بدأ يتصرف خلال السنوات الأخيرة، وكأن المساعدات الخارجية خصوصًا المنح المجانية، تمثل واحدًا من مرتكزات النمو وتمويل الإنفاق العام، مضيفًا أن الميل المتزايد من جانب الحكومات المصرية منذ ثورة يناير حتى الآن للاعتماد على المساعدات الخارجية من شأنه أن يثير الكثير من القلق بشأن المستقبل، وسيكون على الحكومة الحالية والحكومات المقبلة، مع زيادة الاقتراض من الخارج، أن تنجح في تدبير كميات متزايدة من النقد الأجنبى لسداد الالتزامات الخارجية، وهو أمر يطرح الكثير من علامات الاستفهام حول السياسات الاقتصادية التي تعتزم الحكومة اتباعها والإصلاحات التي تتأهب لإدخالها من أجل زيادة القدرة على تحقيق التوازن والقضاء على مظاهر العجز في المجالات الاقتصادية المختلفة.
وتتضمن سياسات مواجهة العجز المطلوبة، تقليل العجز في الميزانية، ليس فقط عن طريق تقليل النفقات، ولكن عن طريق زيادة الإيرادات الحقيقية بدون الإضرار بالفئات الاجتماعية غير القادرة أو بهيكل الإنتاج في قطاعات الاستثمار الصغير والمتوسط في مجالات التجارة والصناعة والزراعة والمقاولات وغيرها.
كما يجب أن تتضمن السياسات برامج لتضييق فجوة الميزان التجارى السلعى، خصوصًا بعد أن هبطت الصادرات لتمثل أقل من ثلث الواردات، إذ أنه من المتوقع أن يقترب العجز التجارى في العام الحالى من ضعف ما كان عليه في السنة المالية ٢٠١٠/٢٠١١.
وإلى جانب العمل على تحقيق التوازن المالى والتجارى، يجب أن تتبنى الحكومة برامج واضحة لتشجيع الاستثمار الأجنبى بما يسمح بضخ موارد مالية صافية من الخارج في القطاعات غير الاستخراجية، خصوصًا في الصناعات التحويلية، والمشكلة الحقيقية التي ستواجهها الحكومة هنا هي أن معظم السياسات الصحيحة التي يمكن إدخالها في هذه المجالات لن تنتج آثارًا واسعة النطاق في المدى القصير، وإنما ستحتاج إلى وقت لكى تنتج آثارها الإيجابية على نطاق واسع. وعلى سبيل المثال فإن زيادة الاستثمارات الأجنبية والاستثمارات الخاصة تتطلب أولًا مكافحة الفساد، لكن مكافحة الفساد تتطلب إعادة النظر في نظام العمل الحكومى، وربما إعادة النظر في دور بعض المؤسسات والقوانين، ولن يتحقق ذلك بسرعة، ولن ينتج آثاره بين يوم وليلة. ومن الضرورى أن نعرف أن الفساد الحكومى وغياب الرقابة المالية الحقيقية أو نقصها، وانخفاض مستوى الشفافية وتضارب القوانين وتنازع الاختصاص وبطء دورة العمل الإدارى وتعقيداتها تمثل عوائق رئيسية تحد من تدفق الاستثمار الأجنبى إلى مصر، وتحد من النمو. صحيح أن المتغير الأمنى والاستقرار السياسي يلعبان دورًا مهمًا في جذب الاستثمار الأجنبى، لكن من الواضح في الحالة المصرية أن التأثير السلبى للفساد يفوق تأثير المتغيرات الأخرى التي نجحت مصر فعلًا في تطويرها إلى الأفضل.
الحقيقة أنه ليس من الصعب أن تعبر مصر أزمتها الاقتصادية، لكن ذلك يحتاج إلى قدر كبير من الإرادة السياسية والكفاءة في الإدارة السياسية والقدرة على التنفيذ بكفاءة مؤسسية عالية، مع ضرورة وجود ثقة متبادلة بين الحكومة والمواطنين، فالحكومة التي تحاول التظاهر بأنها ترعى مصالح غير القادرين والطبقة الوسطى الدنيا، تحصل فقط من هؤلاء على رد فعل يتظاهر بالتجاوب مع الحكومة، فتكون النتيجة أن كلًا من الطرفين يتظاهر بالرضا عن سلوك الآخر بينما الاقتصاد يدفع الثمن، وهو ما يؤدى إلى سوء الحال يومًا بعد يوم، بمعنى آخر فإن كلا الطرفين، الدولة والمواطنين، يجب أن يتوقفا عن ابتزاز الآخر أو التظاهر باسترضائه، فقد تدنت إنتاجية الفرد إلى مستوى ضئيل، وزاد إنفاق الدولة على حساب قدرة المجتمع على التمويل، حتى تراكمت قيمة الدين العام المحلى والخارجى إلى أكثر من قيمة الناتج المحلى السنوى للبلاد.
قضايا المفاوضات مع الصندوق
استجاب صندوق النقد الدولى لطلب مصر البدء في مفاوضات لترتيب قرض كبير بقيمة ١٢ مليار دولار، وأرسل بعثة للتفاوض وصلت إلى مصر في ٣٠ يوليو، ومن المفترض أن تستمر المفاوضات الأولية نحو ١١ يومًا، تعود بعدها بعثة الصندوق إلى واشنطن لتقييم النتائج وعرض الموقف على مديرى الصندوق، قبل أن يقرر مجلس المديرين صياغة خطاب للنوايا يتم توقيعه بواسطة الطرفين يتضمن شروط القرض، ومن الطبيعى أن يتضمن أي اتفاق للاقتراض من مؤسسة مالية دولية قائمة بالشروط المحددة للقرض تكون ملزمة للطرفين، وتتضمن هذه الشروط تقديم شرائح القرض بالتزامن مع تنفيذ الالتزامات، ولذلك فإنه من المثير للدهشة أن يزعم البعض أنه «لا مشروطية في قرض الصندوق»! ويجب أن نعلم أن عملية التفاوض مع الصندوق تكون طويلة وشاقة، وربما ستكون أطول وأشق في حالة مصر التي تعانى من الكثير من الصعوبات والمعوقات المتعلقة ببرنامج الإصلاح المالى الذي وضعته على ضوء الطلبات السابقة للصندوق.
لكن المعضلة الكبرى التي سيواجهها المفاوض المصرى مع الصندوق هذه المرة، هي أن الوضع الآن أسوأ مما كان عليه من قبل في أي مرة بدأت فيها مصر مفاوضات مع الصندوق ثم تراجعت عنها في السنوات الخمس الأخيرة.
وسوف تتضمن مفاوضات وفد صندوق النقد الدولى مع المسئولين المصريين عددًا مهمًا من القضايا الصعبة والشائكة، وسيتعين تقديم إجابات واضحة وصريحة بعيدة عن «الفهلوة» لوفد الصندوق، وتتضمن القضايا المطروحة على جدول المفاوضات: تقويم المالية العامة للدولة وتصحيح الاختلالات في الميزانية وبيان كيفية مواجهة الزيادة في معدل خدمة الديون، وبيان الإجراءات التي تعتزم الحكومة اتخاذها لمكافحة الفساد وتحقيق الشفافية، وسياسة الحكومة في مواجهة تعدد الأنساق المؤسسية العاملة في الاقتصاد وكيفية مكافحة الاقتصاد الخفى أو دمجه، واستئناف برنامج خصخصة المؤسسات المملوكة للدولة ومنها البنوك، وتحسين بيئة ومناخ الأعمال الخاصة والاستثمارات «المثل الذي يضربه الصندوق هنا أن استخراج تصريح للبناء يستغرق في مصر ٢١٨ يومًا مقابل ٢٩ يومًا في كوريا الجنوبية»، وتوسيع إمكانية استخدام الحسابات المصرفية للمواطنين، ومكافحة الفقر، وزيادة الاستثمارات في قطاعات التعليم والصحة وخدمات الرعاية الاجتماعية.
ولاشك أن أزمة الجنيه المصرى ستتصدر هذه المفاوضات، وسيقترح الصندوق نظامًا لإدارة سوق الصرف في مصر على أساس «سعر صرف مرن يقبل التحرك يوميًا في حدود تخضع للسيطرة»، لكن الصندوق سيضغط أولًا من أجل اتخاذ إجراءات حاسمة لتصحيح الاختلالات في حسابات المعاملات الخارجية، ورفع قيمة الاحتياطي النقدى الأجنبى إلى ٢٥ مليار دولار أو ما يعادل قيمة تمويل الواردات لمدة ٣ أشهر على الأقل، بموارد حقيقية.
وأستطيع أن أقول إن ذلك سيكون من أكثر التحديات المباشرة صعوبة في المفاوضات، إذ أن البنك المركزى المصرى يضبط حسابات الاحتياطي بإضافة قيمة الودائع المستحقة للغير «ودائع السعودية والإمارات والكويت وليبيا وتركيا وعمان» التي تقترب قيمتها من ١٥ مليار دولار، وهذه الودائع لا تعتبر في حقيقة الأمر احتياطيات حقيقية لأنها مجرد تحويلات من أطراف خارجية يتم استردادها خلال فترة متفق عليها.
كما يضيف البنك المركزى كذلك قيمة القروض الخارجية «مثل قروض البنك الدولى وبنك التنمية الإفريقى وبنك الاستثمار الأوروبي»، ومن المتوقع أن تحتاج مصر لما يقرب من ١٥ مليار دولار خلال السنوات الأربع المقبلة لسداد مستحقات خارجية ولرد الودائع المملوكة لحكومات خارجية (دول خليجية وتركيا) ما لم يتم الاتفاق على تجديد هذه الودائع، وسوف يتضمن النظام الذي يقترحه الصندوق تخفيضًا جديدًا لقيمة الجنيه المصرى، قبل البدء في تنفيذ سياسة سعر الصرف المرن، وسيطلب الصندوق زيادة سعر الفائدة على الجنيه المصرى، بغرض تعزيز الطلب على الجنيه لأغراض الادخار، خصوصًا أن معدل التضخم الرسمى في مصر يبلغ حاليًا نحو ١٤٪ في حين يبلغ أفضل سعر للعائد على الجنيه ١٢.٥٪ «شهادات استثمار البنك الأهلي وبنك مصر».
علاج الاختلالات المالية
تقترب الحكومة عمليًا من استكمال برنامج يجرى تنفيذه بهدوء لتخفيض الدعم، خصوصًا دعم الطاقة الذي بدأ عام ٢٠١٤ ومن المقرر أن يتم التخلص منه تماما عام ٢٠١٨، وسيحقق التخلص من دعم الطاقة تعزيزا لموقف الحكومة في مفاوضاتها مع الصندوق، كما أن برامج الرعاية الاجتماعية مثل توسيع الفئات المشمولة بالإعانات الاجتماعية ومعاشات الضمان الاجتماعى (على الرغم من تفاهة قيمتها الشرائية) والإسكان الاجتماعى، ستضع الحكومة في موقف قوى نسبيًا فيما يتعلق بطلبات الصندوق لوضع نظام قوى وشامل للحماية الاجتماعية، وسيتعين على الحكومة أن تقدم للصندوق بيانًا شافيًا يفيد بأن سياستها المالية ستحقق خلال فترة زمنية محددة تحسنًا جوهريًا في صحة المالية العامة للدولة، والحقيقة أن الحكومة نجحت خلال السنوات الأخيرة في إزالة الكثير من عناصر الشكوى التي كان الصندوق يرددها فيما يتعلق بالزيادات في قيمة الأجور والدعم والمزايا الاجتماعية، حيث تراجعت قيمة الأجور والمزايا الاجتماعية إلى أقل من ٧٪ من إجمالى الناتج المحلى، وزادت في موازنة السنة المالية الجارية (٢٠١٦/٢٠١٧) بنسبة ٧.٤٪ أي ما يقرب من نصف معدل التضخم السنوى وقت بدء العمل بالميزانية، كذلك فإن العمل بضريبة القيمة المضافة والذي تتوقع وزارة المالية أن يزيد الإيرادات العامة بمقدار ٣٠ مليار جنيه يمثل خطوة جيدة طالما طلب الصندوق تحقيقها، ومع ذلك سيبقى على الحكومة أن تقدم للصندوق برنامجا واضحا يتعلق بالإصلاحات الهيكلية وتحقيق الشفافية ومكافحة الفساد، وتحقيق الاتساق في السياسات المالية، وإنهاء ظاهرة الاقتصاد الخفى، وإخضاع كل المؤسسات الاقتصادية التي تعمل في السوق بدون استثناء للرقابة المالية الكاملة والدقيقة، ومن القضايا التي تحتاج إلى جهد كبير في الوقت الحاضر ضرورة إصلاح النظام الضريبى، خصوصًا إدخال نظام عادل للضرائب التصاعدية على الدخل وعلى الأرباح التجارية والرأسمالية يساعد في سد فجوة التمويل وتقليل العجز في الميزانية وتخفيض الحاجة إلى الاقتراض الداخلى والخارجى.
الدعم المطلوب لبرنامج الإصلاح
ففى الأشهر التالية للثورة رفض المجلس العسكري فكرة الاقتراض من الصندوق، وقدمت القوات المسلحة دعمًا ماليًا استثنائيًا للميزانية العامة للدولة، ثم ساعدت المنح والمساعدات المالية والعينية العربية على تجنب إعادة فتح مفاوضات الاقتراض من الصندوق أكثر من مرة، وظلت مصر تقدم رجلًا وتؤخر رجلًا حتى شهر إبريل من العام الحالى، وخلال تلك الفترة فتحت مصر مفاوضات مع الصندوق ثم تراجعت عنها، مرة للاقتراض بقيمة 1.2 مليار دولار في أعقاب ثورة يناير مباشرة، ومرة ثانية بقيمة 3.2 مليار دولار بعد ثورة 30 يونيو، ثم رفعت الحكومة قيمة القرض المطلوب إلى 4.8 مليار دولار، وبعدها توقفت المفاوضات.
وعلى الرغم من اهتمام الوفد الرسمى المصرى المبعوث إلى اجتماعات دورة الربيع لكل من صندوق النقد والبنك الدوليين بتسويق السياسات الاقتصادية للحكومة، فإن المبعوثين المصريين استبعدوا أي احتمال لطلب الاقتراض من الصندوق، رغم أنه كانت هناك محادثات جارية مع البنك الدولى لترتيب قرض كبير لدعم الاقتصاد، يرتبط بقروض أخرى من بنك التنمية الإفريقى وبعض صناديق التنمية العربية.
الآن عادت مصر رسميًا إلى طلب مساعدة الصندوق، في الوقت الذي فشل فيه البنك المركزى المصرى في إدارة أزمة سعر صرف الجنيه، أو تخفيف حدتها، وتضاربت التوجهات داخل دوائر وزارة المالية والبنك المركزى بشأن اتجاهات أسعار الفائدة، وبشأن قيمة الجنيه المصرى، لما لكل منهما من أثر كبير على العجز في الموازنة المالية للحكومة في السنة المالية الحالية، وعلى أعباء سداد الديون العامة، ووجدت الحكومة أن تأمين احتياجاتها التمويلية من الخارج لن يتأتى بغير اتفاق مع الصندوق، بعد أن استنفدت الحكومة أو كادت مصادر التمويل المحلية، وبدأت أسعار الفائدة على أذون الخزانة في الزحف إلى معدل تجاوز ١٧٪ سنويًا «بلغ سعر الفائدة على عطاء أول أغسطس الحالى لأجل ٥ يوليو ٢٠٢٦ «١٧.٥٦٪ سنويًا»، وهو ما يعنى تفاقم أعباء خدمة الديون الحكومية.
يدفع الحكومة الآن إلى الاقتراض من الخارج اعتباران، الأول أن أسعار الفائدة على الدولار تتراوح بين ١٪ و١.٥٪ سنويا، الأمر الذي يجعل الاقتراض الخارجى يبدو رخيصًا مقارنة بتكلفة الاقتراض المحلى، والثانى أن نسبة الدين الخارجى في مصر إلى إجمالى الناتج المحلى تبلغ حاليًا نحو ١٦٪ وهى نسبة تقل عن المتوسط المقابل في الدول النامية الصاعدة التي تبلغ نحو ٢٥٪، هذه إذن الأسباب الحقيقية للجوء الحكومة إلى صندوق النقد الدولى بعد أكثر من ٥ سنوات من الممانعة في الاقتراض من الصندوق.
الحكومة قررت بإرادتها أن تدخل إلى مصيدة الاستدانة من الخارج والوقوع في شرك تراكم الاحتياج إلى العملات الأجنبية لسداد أقساط الديون الخارجية، وهى الاحتياجات التي من شأنها أن ترتب أعباء ثقيلة على اقتصاد منهك يعانى من شح الموارد بالنقد الأجنبى سواء من التصدير أو السياحة أو تحويلات العاملين أو إيرادات قناة السويس.
تكلفة الاقتراض من الخارج لا يجب أن تحسب على أساس أسعار الفائدة على الدولار فقط، وإنما على أساس تكلفة تدبير النقد الأجنبى، كما أن القدرة على الاستدانة بالنقد الأجنبى لا تحتسب على أساس معامل متوسط نسبة الديون الخارجية من إجمالى الناتج المحلى، إنما القدرة على السداد، أي أن القدرة على توليد دخل حقيقى بالعملات الأجنبية هي المحدد الأول الذي يجب أن يحكم طلب الاستدانة من الخارج، وهذه القدرة على توليد دخل حقيقى بالنقد الأجنبى هي حاليًا أقل ما تكون في السنوات الخمس الأخيرة.
من المؤكد أن حكومة المهندس شريف إسماعيل تطمح أن يوفر قرض الصندوق، المقدر بنحو ١٢ مليار دولار على مدى ثلاث سنوات، فرصة جيدة للمزيد من الاقتراض من المؤسسات المالية الدولية، ومن أسواق السندات الدولية، بما يصل إلى قيمة مماثلة لقرض الصندوق، ورغم أن الطموح مشروع في وقت الحاجة، إلا أن الحكومة يجب أن تدرك أن الحكومات السابقة منذ ٢٠١١ حتى الآن حصلت على منح ومساعدات وقروض خارجية تتراوح بين ١٨٪ إلى ٢٠٪ من إجمالى الناتج المحلى للبلاد خلال السنوات الخمس الماضية، ومع ذلك فإن هذه المساعدات تبخرت في حلول ومسكنات للأجل القصير ولم يظهر لها أثر إيجابى على المدى الطويل.
ومن الأمور المخيفة أن الجهاز الحكومى المصرى بدأ يتصرف خلال السنوات الأخيرة، وكأن المساعدات الخارجية خصوصًا المنح المجانية، تمثل واحدًا من مرتكزات النمو وتمويل الإنفاق العام، مضيفًا أن الميل المتزايد من جانب الحكومات المصرية منذ ثورة يناير حتى الآن للاعتماد على المساعدات الخارجية من شأنه أن يثير الكثير من القلق بشأن المستقبل، وسيكون على الحكومة الحالية والحكومات المقبلة، مع زيادة الاقتراض من الخارج، أن تنجح في تدبير كميات متزايدة من النقد الأجنبى لسداد الالتزامات الخارجية، وهو أمر يطرح الكثير من علامات الاستفهام حول السياسات الاقتصادية التي تعتزم الحكومة اتباعها والإصلاحات التي تتأهب لإدخالها من أجل زيادة القدرة على تحقيق التوازن والقضاء على مظاهر العجز في المجالات الاقتصادية المختلفة.
وتتضمن سياسات مواجهة العجز المطلوبة، تقليل العجز في الميزانية، ليس فقط عن طريق تقليل النفقات، ولكن عن طريق زيادة الإيرادات الحقيقية بدون الإضرار بالفئات الاجتماعية غير القادرة أو بهيكل الإنتاج في قطاعات الاستثمار الصغير والمتوسط في مجالات التجارة والصناعة والزراعة والمقاولات وغيرها.
كما يجب أن تتضمن السياسات برامج لتضييق فجوة الميزان التجارى السلعى، خصوصًا بعد أن هبطت الصادرات لتمثل أقل من ثلث الواردات، إذ أنه من المتوقع أن يقترب العجز التجارى في العام الحالى من ضعف ما كان عليه في السنة المالية ٢٠١٠/٢٠١١.
وإلى جانب العمل على تحقيق التوازن المالى والتجارى، يجب أن تتبنى الحكومة برامج واضحة لتشجيع الاستثمار الأجنبى بما يسمح بضخ موارد مالية صافية من الخارج في القطاعات غير الاستخراجية، خصوصًا في الصناعات التحويلية، والمشكلة الحقيقية التي ستواجهها الحكومة هنا هي أن معظم السياسات الصحيحة التي يمكن إدخالها في هذه المجالات لن تنتج آثارًا واسعة النطاق في المدى القصير، وإنما ستحتاج إلى وقت لكى تنتج آثارها الإيجابية على نطاق واسع. وعلى سبيل المثال فإن زيادة الاستثمارات الأجنبية والاستثمارات الخاصة تتطلب أولًا مكافحة الفساد، لكن مكافحة الفساد تتطلب إعادة النظر في نظام العمل الحكومى، وربما إعادة النظر في دور بعض المؤسسات والقوانين، ولن يتحقق ذلك بسرعة، ولن ينتج آثاره بين يوم وليلة. ومن الضرورى أن نعرف أن الفساد الحكومى وغياب الرقابة المالية الحقيقية أو نقصها، وانخفاض مستوى الشفافية وتضارب القوانين وتنازع الاختصاص وبطء دورة العمل الإدارى وتعقيداتها تمثل عوائق رئيسية تحد من تدفق الاستثمار الأجنبى إلى مصر، وتحد من النمو. صحيح أن المتغير الأمنى والاستقرار السياسي يلعبان دورًا مهمًا في جذب الاستثمار الأجنبى، لكن من الواضح في الحالة المصرية أن التأثير السلبى للفساد يفوق تأثير المتغيرات الأخرى التي نجحت مصر فعلًا في تطويرها إلى الأفضل.
الحقيقة أنه ليس من الصعب أن تعبر مصر أزمتها الاقتصادية، لكن ذلك يحتاج إلى قدر كبير من الإرادة السياسية والكفاءة في الإدارة السياسية والقدرة على التنفيذ بكفاءة مؤسسية عالية، مع ضرورة وجود ثقة متبادلة بين الحكومة والمواطنين، فالحكومة التي تحاول التظاهر بأنها ترعى مصالح غير القادرين والطبقة الوسطى الدنيا، تحصل فقط من هؤلاء على رد فعل يتظاهر بالتجاوب مع الحكومة، فتكون النتيجة أن كلًا من الطرفين يتظاهر بالرضا عن سلوك الآخر بينما الاقتصاد يدفع الثمن، وهو ما يؤدى إلى سوء الحال يومًا بعد يوم، بمعنى آخر فإن كلا الطرفين، الدولة والمواطنين، يجب أن يتوقفا عن ابتزاز الآخر أو التظاهر باسترضائه، فقد تدنت إنتاجية الفرد إلى مستوى ضئيل، وزاد إنفاق الدولة على حساب قدرة المجتمع على التمويل، حتى تراكمت قيمة الدين العام المحلى والخارجى إلى أكثر من قيمة الناتج المحلى السنوى للبلاد.
قضايا المفاوضات مع الصندوق
استجاب صندوق النقد الدولى لطلب مصر البدء في مفاوضات لترتيب قرض كبير بقيمة ١٢ مليار دولار، وأرسل بعثة للتفاوض وصلت إلى مصر في ٣٠ يوليو، ومن المفترض أن تستمر المفاوضات الأولية نحو ١١ يومًا، تعود بعدها بعثة الصندوق إلى واشنطن لتقييم النتائج وعرض الموقف على مديرى الصندوق، قبل أن يقرر مجلس المديرين صياغة خطاب للنوايا يتم توقيعه بواسطة الطرفين يتضمن شروط القرض، ومن الطبيعى أن يتضمن أي اتفاق للاقتراض من مؤسسة مالية دولية قائمة بالشروط المحددة للقرض تكون ملزمة للطرفين، وتتضمن هذه الشروط تقديم شرائح القرض بالتزامن مع تنفيذ الالتزامات، ولذلك فإنه من المثير للدهشة أن يزعم البعض أنه «لا مشروطية في قرض الصندوق»! ويجب أن نعلم أن عملية التفاوض مع الصندوق تكون طويلة وشاقة، وربما ستكون أطول وأشق في حالة مصر التي تعانى من الكثير من الصعوبات والمعوقات المتعلقة ببرنامج الإصلاح المالى الذي وضعته على ضوء الطلبات السابقة للصندوق.
لكن المعضلة الكبرى التي سيواجهها المفاوض المصرى مع الصندوق هذه المرة، هي أن الوضع الآن أسوأ مما كان عليه من قبل في أي مرة بدأت فيها مصر مفاوضات مع الصندوق ثم تراجعت عنها في السنوات الخمس الأخيرة.
وسوف تتضمن مفاوضات وفد صندوق النقد الدولى مع المسئولين المصريين عددًا مهمًا من القضايا الصعبة والشائكة، وسيتعين تقديم إجابات واضحة وصريحة بعيدة عن «الفهلوة» لوفد الصندوق، وتتضمن القضايا المطروحة على جدول المفاوضات: تقويم المالية العامة للدولة وتصحيح الاختلالات في الميزانية وبيان كيفية مواجهة الزيادة في معدل خدمة الديون، وبيان الإجراءات التي تعتزم الحكومة اتخاذها لمكافحة الفساد وتحقيق الشفافية، وسياسة الحكومة في مواجهة تعدد الأنساق المؤسسية العاملة في الاقتصاد وكيفية مكافحة الاقتصاد الخفى أو دمجه، واستئناف برنامج خصخصة المؤسسات المملوكة للدولة ومنها البنوك، وتحسين بيئة ومناخ الأعمال الخاصة والاستثمارات «المثل الذي يضربه الصندوق هنا أن استخراج تصريح للبناء يستغرق في مصر ٢١٨ يومًا مقابل ٢٩ يومًا في كوريا الجنوبية»، وتوسيع إمكانية استخدام الحسابات المصرفية للمواطنين، ومكافحة الفقر، وزيادة الاستثمارات في قطاعات التعليم والصحة وخدمات الرعاية الاجتماعية.
ولاشك أن أزمة الجنيه المصرى ستتصدر هذه المفاوضات، وسيقترح الصندوق نظامًا لإدارة سوق الصرف في مصر على أساس «سعر صرف مرن يقبل التحرك يوميًا في حدود تخضع للسيطرة»، لكن الصندوق سيضغط أولًا من أجل اتخاذ إجراءات حاسمة لتصحيح الاختلالات في حسابات المعاملات الخارجية، ورفع قيمة الاحتياطي النقدى الأجنبى إلى ٢٥ مليار دولار أو ما يعادل قيمة تمويل الواردات لمدة ٣ أشهر على الأقل، بموارد حقيقية.
وأستطيع أن أقول إن ذلك سيكون من أكثر التحديات المباشرة صعوبة في المفاوضات، إذ أن البنك المركزى المصرى يضبط حسابات الاحتياطي بإضافة قيمة الودائع المستحقة للغير «ودائع السعودية والإمارات والكويت وليبيا وتركيا وعمان» التي تقترب قيمتها من ١٥ مليار دولار، وهذه الودائع لا تعتبر في حقيقة الأمر احتياطيات حقيقية لأنها مجرد تحويلات من أطراف خارجية يتم استردادها خلال فترة متفق عليها.
كما يضيف البنك المركزى كذلك قيمة القروض الخارجية «مثل قروض البنك الدولى وبنك التنمية الإفريقى وبنك الاستثمار الأوروبي»، ومن المتوقع أن تحتاج مصر لما يقرب من ١٥ مليار دولار خلال السنوات الأربع المقبلة لسداد مستحقات خارجية ولرد الودائع المملوكة لحكومات خارجية (دول خليجية وتركيا) ما لم يتم الاتفاق على تجديد هذه الودائع، وسوف يتضمن النظام الذي يقترحه الصندوق تخفيضًا جديدًا لقيمة الجنيه المصرى، قبل البدء في تنفيذ سياسة سعر الصرف المرن، وسيطلب الصندوق زيادة سعر الفائدة على الجنيه المصرى، بغرض تعزيز الطلب على الجنيه لأغراض الادخار، خصوصًا أن معدل التضخم الرسمى في مصر يبلغ حاليًا نحو ١٤٪ في حين يبلغ أفضل سعر للعائد على الجنيه ١٢.٥٪ «شهادات استثمار البنك الأهلي وبنك مصر».
علاج الاختلالات المالية
تقترب الحكومة عمليًا من استكمال برنامج يجرى تنفيذه بهدوء لتخفيض الدعم، خصوصًا دعم الطاقة الذي بدأ عام ٢٠١٤ ومن المقرر أن يتم التخلص منه تماما عام ٢٠١٨، وسيحقق التخلص من دعم الطاقة تعزيزا لموقف الحكومة في مفاوضاتها مع الصندوق، كما أن برامج الرعاية الاجتماعية مثل توسيع الفئات المشمولة بالإعانات الاجتماعية ومعاشات الضمان الاجتماعى (على الرغم من تفاهة قيمتها الشرائية) والإسكان الاجتماعى، ستضع الحكومة في موقف قوى نسبيًا فيما يتعلق بطلبات الصندوق لوضع نظام قوى وشامل للحماية الاجتماعية، وسيتعين على الحكومة أن تقدم للصندوق بيانًا شافيًا يفيد بأن سياستها المالية ستحقق خلال فترة زمنية محددة تحسنًا جوهريًا في صحة المالية العامة للدولة، والحقيقة أن الحكومة نجحت خلال السنوات الأخيرة في إزالة الكثير من عناصر الشكوى التي كان الصندوق يرددها فيما يتعلق بالزيادات في قيمة الأجور والدعم والمزايا الاجتماعية، حيث تراجعت قيمة الأجور والمزايا الاجتماعية إلى أقل من ٧٪ من إجمالى الناتج المحلى، وزادت في موازنة السنة المالية الجارية (٢٠١٦/٢٠١٧) بنسبة ٧.٤٪ أي ما يقرب من نصف معدل التضخم السنوى وقت بدء العمل بالميزانية، كذلك فإن العمل بضريبة القيمة المضافة والذي تتوقع وزارة المالية أن يزيد الإيرادات العامة بمقدار ٣٠ مليار جنيه يمثل خطوة جيدة طالما طلب الصندوق تحقيقها، ومع ذلك سيبقى على الحكومة أن تقدم للصندوق برنامجا واضحا يتعلق بالإصلاحات الهيكلية وتحقيق الشفافية ومكافحة الفساد، وتحقيق الاتساق في السياسات المالية، وإنهاء ظاهرة الاقتصاد الخفى، وإخضاع كل المؤسسات الاقتصادية التي تعمل في السوق بدون استثناء للرقابة المالية الكاملة والدقيقة، ومن القضايا التي تحتاج إلى جهد كبير في الوقت الحاضر ضرورة إصلاح النظام الضريبى، خصوصًا إدخال نظام عادل للضرائب التصاعدية على الدخل وعلى الأرباح التجارية والرأسمالية يساعد في سد فجوة التمويل وتقليل العجز في الميزانية وتخفيض الحاجة إلى الاقتراض الداخلى والخارجى.
الدعم المطلوب لبرنامج الإصلاح
ربما يعتقد بعض الناس في الحكومة وخارجها أن صندوق النقد الدولى لديه عصا سحرية لخروج الاقتصاد المصرى من أزمته الراهنة، وهذا اعتقاد خاطئ تمامًا، لأن دور الصندوق هو مجرد دور الطبيب الذي يقدم التشخيص وتذكرة العلاج، ثم يبقى على المريض أن يتحمل تكاليف العلاج والالتزام بالوصفة الطبية والمداومة على تعليماتها حتى يتحقق العلاج، وفى حالات كثيرة فشلت وصفة الصندوق، إما لأن الوصفة نفسها كانت فاسدة، أو لأن المريض عجز عن توفير تكاليف الدواء، أو لأنه لم يلتزم بالتعليمات الواردة في الوصفة.
ويمكن القول حصريًا بأن نجاح وصفة الصندوق يتوقف قبل أي شيء على التعاون بين الحكومة والمواطنين، لكن هذا التعاون يجب أن يكون بقوة الاختيار والاقتناع وليس بقوة القهر والإجبار والتخويف، وأن بناء قاعدة صلبة للثقة المتبادلة بين الحكومة والمواطنين يمثل الأرضية الصحيحة إلى الانطلاق من وضع الأزمة الراهن، ومن المسكنات والحلول قصيرة الأجل إلى وضع النمو على أساس حلول مستقرة طويلة الأجل.
وتبدأ الثقة بالمصارحة وليس باللف والدوران وسياسة «الفهلوة».
ومن دواعى المصارحة أن تعلن الحكومة للمواطنين الحقائق التالية: نصيب الفرد من الناتج المحلى يعادل ٣٧٠٠ دولار أي ما يعادل نحو ٣٨٪ من متوسط الناتج المحلى للفرد على المستوى العالمى، ويقل إنتاج الفرد في مصر عن مثيله في الجزائر أو العراق أو الأردن ونحو ٥٠٪ من متوسط إنتاج الفرد في لبنان، وما يعادل نحو ١٠٪ من متوسط إنتاج الفرد في إسرائيل، معدل نمو الناتج المحلى للفرد ١.٥٪ سنويًا وهو من أقل المعدلات في العالم، معدل الادخار الوطنى ٥.٩٪ من الناتج المحلى الإجمالى وهو أقل من ٢٠٪ من المعدل اللازم لتحقيق التنمية المستدامة، معدل البطالة ١٣.٥٪، معدل التضخم ١٤٪، الدين العام المحلى والخارجى ٢.٧ تريليون جنيه، معدل انتشار الفقر يشمل نحو ٥٠٪ من المصريين أكثر من نصفهم (٢٧٪ من المصريين) يقعون تحت خط الفقر، هذه مؤشرات يتعين مواجهة الناس بها، لا أن تضحك عليهم الحكومة بادعاء أن صادراتنا هي أحسن صادرات في العالم، وأن التعليم لدينا منافس للتعليم في الولايات المتحدة.
الخطير جدًا في المفاوضات مع صندوق النقد الدولى، هو أن الحكومة جادة في طلب الحصول على بطاقة اقتراض من الخارج، وهذا التوجه الحكومى يحتاج منا إلى الكثير من التدقيق، لأن المسئولية في سداد الديون تقع على الأجيال القادمة، وتقتطع من مستوى الرفاهية المحتملة للمولودين الجدد من المصريين، ناهيك عن الأزمات التي قد تسببها الديون الخارجية على وجه الخصوص والتي يمكن أن تصل إلى مستوى أزمات الديون السيادية التي شهدناها أخيرًا تعصف بأوروبا في بلدان مثل اليونان وإسبانيا وإيطاليا وغيرها.
وفى هذا السياق فإن الرغبة في الاقتراض يجب ربطها بالقدرة على السداد، وتشير مؤشرات الديون الخارجية لمصر إلى تصاعد بوتيرة سريعة لقيمة الديون الخارجية ولأعباء خدمتها، ويبين الجدول التالى كيف تطور الدين الخارجى لمصر خلال السنوات الأخيرة، بالمقارنة مع الاحتياطي النقدى وعائدات التصدير، وتظهر المؤشرات أن نمو الدين الخارجى ترافق مع تدهور نسبة تغطية الاحتياطي للدين، وضعف تغذية الميزان التجارى للاحتياجات الخارجية «دور سلبى».
ويمكن القول حصريًا بأن نجاح وصفة الصندوق يتوقف قبل أي شيء على التعاون بين الحكومة والمواطنين، لكن هذا التعاون يجب أن يكون بقوة الاختيار والاقتناع وليس بقوة القهر والإجبار والتخويف، وأن بناء قاعدة صلبة للثقة المتبادلة بين الحكومة والمواطنين يمثل الأرضية الصحيحة إلى الانطلاق من وضع الأزمة الراهن، ومن المسكنات والحلول قصيرة الأجل إلى وضع النمو على أساس حلول مستقرة طويلة الأجل.
وتبدأ الثقة بالمصارحة وليس باللف والدوران وسياسة «الفهلوة».
ومن دواعى المصارحة أن تعلن الحكومة للمواطنين الحقائق التالية: نصيب الفرد من الناتج المحلى يعادل ٣٧٠٠ دولار أي ما يعادل نحو ٣٨٪ من متوسط الناتج المحلى للفرد على المستوى العالمى، ويقل إنتاج الفرد في مصر عن مثيله في الجزائر أو العراق أو الأردن ونحو ٥٠٪ من متوسط إنتاج الفرد في لبنان، وما يعادل نحو ١٠٪ من متوسط إنتاج الفرد في إسرائيل، معدل نمو الناتج المحلى للفرد ١.٥٪ سنويًا وهو من أقل المعدلات في العالم، معدل الادخار الوطنى ٥.٩٪ من الناتج المحلى الإجمالى وهو أقل من ٢٠٪ من المعدل اللازم لتحقيق التنمية المستدامة، معدل البطالة ١٣.٥٪، معدل التضخم ١٤٪، الدين العام المحلى والخارجى ٢.٧ تريليون جنيه، معدل انتشار الفقر يشمل نحو ٥٠٪ من المصريين أكثر من نصفهم (٢٧٪ من المصريين) يقعون تحت خط الفقر، هذه مؤشرات يتعين مواجهة الناس بها، لا أن تضحك عليهم الحكومة بادعاء أن صادراتنا هي أحسن صادرات في العالم، وأن التعليم لدينا منافس للتعليم في الولايات المتحدة.
الخطير جدًا في المفاوضات مع صندوق النقد الدولى، هو أن الحكومة جادة في طلب الحصول على بطاقة اقتراض من الخارج، وهذا التوجه الحكومى يحتاج منا إلى الكثير من التدقيق، لأن المسئولية في سداد الديون تقع على الأجيال القادمة، وتقتطع من مستوى الرفاهية المحتملة للمولودين الجدد من المصريين، ناهيك عن الأزمات التي قد تسببها الديون الخارجية على وجه الخصوص والتي يمكن أن تصل إلى مستوى أزمات الديون السيادية التي شهدناها أخيرًا تعصف بأوروبا في بلدان مثل اليونان وإسبانيا وإيطاليا وغيرها.
وفى هذا السياق فإن الرغبة في الاقتراض يجب ربطها بالقدرة على السداد، وتشير مؤشرات الديون الخارجية لمصر إلى تصاعد بوتيرة سريعة لقيمة الديون الخارجية ولأعباء خدمتها، ويبين الجدول التالى كيف تطور الدين الخارجى لمصر خلال السنوات الأخيرة، بالمقارنة مع الاحتياطي النقدى وعائدات التصدير، وتظهر المؤشرات أن نمو الدين الخارجى ترافق مع تدهور نسبة تغطية الاحتياطي للدين، وضعف تغذية الميزان التجارى للاحتياجات الخارجية «دور سلبى».
وتوضح أرقام تطور إجمالى الدين الخارجى إن قيمته زادت في السنوات الخمس الأخيرة بنحو ١٨.٥ مليار دولار، بنسبة زيادة تبلغ ٤٦.٢٪ أو بمعدل ٩.٢٤٪ سنويا، أي ما يقرب من خمسة أمثال متوسط معدل النمو الاقتصادى خلال الفترة المذكورة.
وفى الوقت نفسه فقد تدهورت الحصيلة الإجمالية للنقد الأجنبى من المصادر الرئيسية المغذية، مثل السياحة والتصدير وتدفقات الاستثمار الأجنبى، ولذلك فإن صمود الاحتياطي النقدى تحقق بفضل تحويلات المصريين العاملين في الخارج والمنح والقروض التي حصلت عليها الحكومة من الدول العربية، ومن المتوقع أن تصطدم مفاوضات مصر مع صندوق النقد الدولى بحقيقة ضآلة قيمة الاحتياطي من النقد الأجنبى مقارنة بطلب الصندوق أن تصل قيمة الاحتياطي إلى ٢٥ مليار دولار.
ونظرًا لأن الفترة المقبلة ربما تشهد المزيد من إجراءات التقشف في الأسواق الخارجية للعمالة المصرية، فإن ذلك سيترك أثره على تحويلات العاملين.
ومن الضرورى الإشارة هنا إلى ظاهرتين من أخطر الظواهر الاقتصادية السلبية التي يجب أن تتصدى لها السياسة المالية والاقتصادية، طالما توفرت الإرادة للإصلاح، الذي سوف يتحدد إطاره في هذه المرة في خطاب النوايا حال التوصل إليه، وتتعلق الظاهرتان اللتان ربما لا يهتم بهما الصندوق بقدر اهتمامه بالسياسة النقدية والمالية، نظرًا لطبيعة اختصاصه ودوره على المستوى العالمى، بطبيعة الهيكل الاقتصادى في مصر الذي تعرض خلال نصف القرن الأخير لتغيرات سلبية عميقة أدت عمومًا إلى تراجع معدلات النمو وخلق الوظائف واتساع نطاق التفاوت الاقتصادى بين الطبقات المختلفة، الظاهرة الأولى التي يجب أن تهتم الحكومة بالعمل على علاجها هي ظاهرة تحول الاقتصاد المصرى من اقتصاد يتجه بقوة نحو التصنيع وزيادة القيمة المضافة للصناعات التحويلية إلى اقتصاد ريعى جامد يعتمد بقدر متزايد على العائد الريعى، خصوصًا من قطاعات البترول والغاز والتعدين والخدمات الدولية المدعومة بالمزايا النسبية للموقع الجغرافى (مثل قناة السويس).
لقد هبط نصيب الصناعات التحويلية من إجمالى الناتج المحلى في مصر من نحو ٢٢٪ في أوائل السبعينيات من القرن الماضى إلى نحو ١٥٪ في الوقت الراهن، أي أنها خسرت ما يقرب من ٣٠٪ من قيمتها النسبية في بنية الاقتصاد.
ليس ذلك فقط، بل إن الأمور ساءت أكثر في السنوات الأخيرة حيث زاد الاعتماد على المعونات والمنح إلى مستوى غير مسبوق في تاريخ مصر الحديث.
ولن تستطيع مصر النهوض والانطلاق إلا إذا تحولت بقوة إلى الصناعات التحويلية بدءًا من مجالات الاستثمار الصغير والمتوسط إلى مستوى الصناعة المشاركة في شبكات القيمة والتجارة على مستوى العالم.
إن تحول الاقتصاد المصرى من اقتصاد منتج إلى اقتصاد ريعى من شأنه أن يقتل القدرة على النهوض والانطلاق في المدى المنظور، أما الظاهرة الثانية التي يعانى منها الاقتصاد حاليًا، والتي تم تكريسها في السنوات الأخيرة فهى ظاهرة بروز «الاقتصاد الخفى» الذي تديره مؤسسات رسمية وغير رسمية بعيدا عن أجهزة الرقابة والمحاسبة وبعيدا عن قواعد الشفافية.
إن انتشار ظاهرة «الاقتصاد الخفى» في قطاعات الإنشاءات والبنية الأساسية والمقاولات والتوريدات بشكل عام، إلى جانب كل مجالات النشاط التي يعمل فيها القطاع غير الرسمى مثل قطاعات تجارة التجزئة والجملة، خصوصًا في أسواق السلع الاستهلاكية والمعمرة وتجارة الغلال والخضروات والفواكه والماشية واللحوم وغيرها يهدد بنية الاقتصاد بانتشار التشوهات، ويحد من القدرة على التخطيط السليم أو توجيه النمو وفقًا لإستراتيجيات محددة، لأغراض توفير فرص العمل وزيادة فرص النمو وتحقيق التوازن والعدالة الاجتماعية، ومن الضرورى أن تضع الحكومة في اعتبارها أن تحويل الاقتصاد من اقتصاد ريعى إلى اقتصاد صناعى منتج، ومن اقتصاد ينتشر فيه «الاقتصاد الخفى» إلى اقتصاد تسوده الشفافية ويخضع خضوعًا صارمًا للرقابة المالية، هما مهمتان وطنيتان بالدرجة الأولى، لا علاقة لصندوق النقد الدولى بهما، وتتمثل أهمية علاج كل من الظاهرتين في أن الاقتصاد المصرى لن يستطيع التعافى إلى مستوى القدرة على التنمية المستدامة بدون علاجهما والشفاء منهما، وإلا فإن أي وصفة للإصلاح ستعانى من مشكلات عميقة وشائكة عند التطبيق.
عرضنا في هذا المقال إذن الإجابة عن عدد من الأسئلة، ونقول في النهاية إن لجوء مصر أخيرًا إلى الصندوق لم يكن من باب رفاهية الاختيار، وإن ذلك كان ضروريًا بعد أن ارتفعت تكلفة الاقتراض المحلى إلى حد ربما لا يقدر الاقتصاد على احتماله، وبعد أن نضبت تقريبًا موارد المساعدات والمعونات من دول الخليج.
لكننا نحذر من خطورة زيادة الدين الخارجى، لأن التعثر يمكن أن يلقى بمصر في غيبوبة اقتصادية ومالية يتوقف الخروج منها على الإرادة الدولية وليس المصرية.
كما أننا في الوقت نفسه نؤكد أن نجاح أي برنامج للإصلاح لن يكون بغير توافق حر بين الحكومة والمواطنين، بلا ضغط ولا إكراه.
وقد أشرت في نهاية المقال إلى خطورة ظاهرتى انتشار الطابع الريعى للاقتصاد على حساب الطابع الإنتاجى، خصوصًا في مجال الصناعة التحويلية، وانتشار الاقتصاد الخفى في عدد كبير من الأنشطة الاقتصادية مما يهدد هيكل الاقتصاد الوطنى بالتشوهات وانعدام الشفافية وغياب الرقابة المالية.
وفى الوقت نفسه فقد تدهورت الحصيلة الإجمالية للنقد الأجنبى من المصادر الرئيسية المغذية، مثل السياحة والتصدير وتدفقات الاستثمار الأجنبى، ولذلك فإن صمود الاحتياطي النقدى تحقق بفضل تحويلات المصريين العاملين في الخارج والمنح والقروض التي حصلت عليها الحكومة من الدول العربية، ومن المتوقع أن تصطدم مفاوضات مصر مع صندوق النقد الدولى بحقيقة ضآلة قيمة الاحتياطي من النقد الأجنبى مقارنة بطلب الصندوق أن تصل قيمة الاحتياطي إلى ٢٥ مليار دولار.
ونظرًا لأن الفترة المقبلة ربما تشهد المزيد من إجراءات التقشف في الأسواق الخارجية للعمالة المصرية، فإن ذلك سيترك أثره على تحويلات العاملين.
ومن الضرورى الإشارة هنا إلى ظاهرتين من أخطر الظواهر الاقتصادية السلبية التي يجب أن تتصدى لها السياسة المالية والاقتصادية، طالما توفرت الإرادة للإصلاح، الذي سوف يتحدد إطاره في هذه المرة في خطاب النوايا حال التوصل إليه، وتتعلق الظاهرتان اللتان ربما لا يهتم بهما الصندوق بقدر اهتمامه بالسياسة النقدية والمالية، نظرًا لطبيعة اختصاصه ودوره على المستوى العالمى، بطبيعة الهيكل الاقتصادى في مصر الذي تعرض خلال نصف القرن الأخير لتغيرات سلبية عميقة أدت عمومًا إلى تراجع معدلات النمو وخلق الوظائف واتساع نطاق التفاوت الاقتصادى بين الطبقات المختلفة، الظاهرة الأولى التي يجب أن تهتم الحكومة بالعمل على علاجها هي ظاهرة تحول الاقتصاد المصرى من اقتصاد يتجه بقوة نحو التصنيع وزيادة القيمة المضافة للصناعات التحويلية إلى اقتصاد ريعى جامد يعتمد بقدر متزايد على العائد الريعى، خصوصًا من قطاعات البترول والغاز والتعدين والخدمات الدولية المدعومة بالمزايا النسبية للموقع الجغرافى (مثل قناة السويس).
لقد هبط نصيب الصناعات التحويلية من إجمالى الناتج المحلى في مصر من نحو ٢٢٪ في أوائل السبعينيات من القرن الماضى إلى نحو ١٥٪ في الوقت الراهن، أي أنها خسرت ما يقرب من ٣٠٪ من قيمتها النسبية في بنية الاقتصاد.
ليس ذلك فقط، بل إن الأمور ساءت أكثر في السنوات الأخيرة حيث زاد الاعتماد على المعونات والمنح إلى مستوى غير مسبوق في تاريخ مصر الحديث.
ولن تستطيع مصر النهوض والانطلاق إلا إذا تحولت بقوة إلى الصناعات التحويلية بدءًا من مجالات الاستثمار الصغير والمتوسط إلى مستوى الصناعة المشاركة في شبكات القيمة والتجارة على مستوى العالم.
إن تحول الاقتصاد المصرى من اقتصاد منتج إلى اقتصاد ريعى من شأنه أن يقتل القدرة على النهوض والانطلاق في المدى المنظور، أما الظاهرة الثانية التي يعانى منها الاقتصاد حاليًا، والتي تم تكريسها في السنوات الأخيرة فهى ظاهرة بروز «الاقتصاد الخفى» الذي تديره مؤسسات رسمية وغير رسمية بعيدا عن أجهزة الرقابة والمحاسبة وبعيدا عن قواعد الشفافية.
إن انتشار ظاهرة «الاقتصاد الخفى» في قطاعات الإنشاءات والبنية الأساسية والمقاولات والتوريدات بشكل عام، إلى جانب كل مجالات النشاط التي يعمل فيها القطاع غير الرسمى مثل قطاعات تجارة التجزئة والجملة، خصوصًا في أسواق السلع الاستهلاكية والمعمرة وتجارة الغلال والخضروات والفواكه والماشية واللحوم وغيرها يهدد بنية الاقتصاد بانتشار التشوهات، ويحد من القدرة على التخطيط السليم أو توجيه النمو وفقًا لإستراتيجيات محددة، لأغراض توفير فرص العمل وزيادة فرص النمو وتحقيق التوازن والعدالة الاجتماعية، ومن الضرورى أن تضع الحكومة في اعتبارها أن تحويل الاقتصاد من اقتصاد ريعى إلى اقتصاد صناعى منتج، ومن اقتصاد ينتشر فيه «الاقتصاد الخفى» إلى اقتصاد تسوده الشفافية ويخضع خضوعًا صارمًا للرقابة المالية، هما مهمتان وطنيتان بالدرجة الأولى، لا علاقة لصندوق النقد الدولى بهما، وتتمثل أهمية علاج كل من الظاهرتين في أن الاقتصاد المصرى لن يستطيع التعافى إلى مستوى القدرة على التنمية المستدامة بدون علاجهما والشفاء منهما، وإلا فإن أي وصفة للإصلاح ستعانى من مشكلات عميقة وشائكة عند التطبيق.
عرضنا في هذا المقال إذن الإجابة عن عدد من الأسئلة، ونقول في النهاية إن لجوء مصر أخيرًا إلى الصندوق لم يكن من باب رفاهية الاختيار، وإن ذلك كان ضروريًا بعد أن ارتفعت تكلفة الاقتراض المحلى إلى حد ربما لا يقدر الاقتصاد على احتماله، وبعد أن نضبت تقريبًا موارد المساعدات والمعونات من دول الخليج.
لكننا نحذر من خطورة زيادة الدين الخارجى، لأن التعثر يمكن أن يلقى بمصر في غيبوبة اقتصادية ومالية يتوقف الخروج منها على الإرادة الدولية وليس المصرية.
كما أننا في الوقت نفسه نؤكد أن نجاح أي برنامج للإصلاح لن يكون بغير توافق حر بين الحكومة والمواطنين، بلا ضغط ولا إكراه.
وقد أشرت في نهاية المقال إلى خطورة ظاهرتى انتشار الطابع الريعى للاقتصاد على حساب الطابع الإنتاجى، خصوصًا في مجال الصناعة التحويلية، وانتشار الاقتصاد الخفى في عدد كبير من الأنشطة الاقتصادية مما يهدد هيكل الاقتصاد الوطنى بالتشوهات وانعدام الشفافية وغياب الرقابة المالية.