لم أكن أنوي الكتابة عن الوقائع المهينة
والمخزية المتعلقة بتلك المرأة المصرية الفاضلة التي أهين شرفها بغير حق بل وأهينت
معه القيم الإسلامية والمصرية الأصيلة وذلك لفرط التغطية التي حظيت بها هذه
الوقائع والمقالات التي أعطتها ما تستحقه من اهتمام وتحليل غير أني مع استمرار
متابعتي للحدث وتكشف المزيد من أبعاده وجدت أن ثمة دلالات وخلاصات لا بد من
تأكيدها ، ولدي في هذا الصدد ملاحظات ثلاث :
تتعلق الملاحظة الأولي بالوقائع التي
تمت روايتها بأكثر الطرق اختلافا وبأقل قدر من الدقة بدءاً من الأسباب ووصولاً إلي
النتائج ، فواقعة العلاقة العاطفية المتسببة في الأحداث أصلاً موضع شك ، وقد كانت
الزوجة المتهمة من الشجاعة بحيث تدافع عن شرفها علناً وتنسب اتهامات زوجها إلي
خلافات مزمنة وتلمح إلي أن الغرض منها هو هضم حقوقها بعد تطليقها ، لكن الأغرب أن
الواقعة المشينة نفسها محل خلاف ! أنكرها عمدة القرية وقال إنها مشاجرة بين نسوة
أدت إلي تمزق ملابسهن جميعاً وأن مسلمين قد ستروا سيدة الكرم ، ونُسب لرئيس مباحث
المنيا أنه وصف واقعة التعرية بأنها شائعة سخيفة ! واستند المنكرون إلي أن الضحية
قد تأخرت أياماً في الإبلاغ عن الواقعة وإلي أن زوجها وأقاربها لم يشيروا إليها في
تحقيقات النيابة ، وقد يكون هذا بسبب ضغوط أو خوف لأن ملابسات الأحداث تشير إلي
صحة الواقعة حتي وإن حدثت مبالغة في تصويرها فقد دافع أحد المتهمين عن نفسه بأنه
هو الذي سترها وهو ما يعني ضمناً صحة الواقعة كما أن معلوماتي أن وفد المجلس
القومي لحقوق الإنسان قد تأكد من ذلك ، ويثير الإنكار شجوناً حول احتمالات ضياع
الحقيقة في وقائع أخري لا تقل أهمية نتيجة براعة المتهمين في التشويش علي الحقائق
.
أما الملاحظة الثانية فتتعلق بالاتهامات
التي وُجهت للجهات الرسمية المعنية بالتباطؤ والتهوين ومحاولة التعتيم ، ومضمون
الاتهامات أن الجهات الأمنية قد أُبلغت بنية الاعتداء قبل الأحداث بيوم علي الأقل
ورغم ذلك لم تتحرك ، وأنها ماطلت في تحرير محضر بالواقعة ومزقت المحضر الذي
يتضمنها بموجب أقوال الضحية وأصرت علي كتابة محضر خالٍ منها ناهيك عن اتهامات
القبض العشوائي بدليل الإفراج عن عدد من المتهمين لأسباب واضحة وضوح الشمس كثبوت
أن أحدهم من واقع تليفونه المحمول هو الذي أبلغ الشرطة عن الواقعة أو أن متهماً
آخر مصاب بشلل كامل وثالثا ثبت أنه كان في عمله أثناء الأحداث بشهادة زملائه
الأقباط ورابعا أثبت مرضه ، ولو كنت من وزير الداخلية لحققت بمنتهي الشفافية في
هذه الاتهامات وأعلنت نتائج التحقيق علي الرأي العام صوناً لمكانة جهاز الشرطة
الذي يتحمل مسئولية أساسية في حماية أمن الوطن .
وقد تكون الملاحظة الأخيرة هي الأهم
وتتعلق بالإطار الذي يجب أن تُفهم الأحداث في سياقه ، وبعيداً عن بعض التفسيرات
العجيبة كالقول بأن الأحداث استهدفت تخريب نتائج زيارة شيخ الأزهر لبابا الفاتيكان
! لا يمكننا أن نفهم الأحداث بمعزل عن البعد الطائفي وهو أمر يدعو إلي الإحباط لأن
رئيس البلاد قد اتخذ خطوات حقيقية مثلت نقلة نوعية في هذا الملف ، غير أنني أشارك
الأستاذ أيمن الصياد في التذكير بالبعد الاجتماعي العام في مقاله بعنوان »سيف
القوة وميزان العدل« الذي بدأ بأحداث الصدام بين الدابودية والهلايل في أسوان 2014
، والمعني واضح وهو أن ثمة أزمة مجتمعية أعم من الأزمة الطائفية تتعلق بالطريقة
التي يحصل بها الأفراد والجماعات علي حقوقهم بعيداً عن دولة القانون ، ويعني هذا
أنه لو كان الطرف المتهم بعلاقة عاطفية مع الزوجة المتهمة مسلما لوقعت الأحداث
نفسها دون إنكار أن البعد الطائفي من شأنه أن يزكيها ، ولا يعني هذا أي إنكار
لإشكالية طائفية تسبب احتقانات مجتمعية شديدة تمن حين لآخر ولكن المعني المقصود أن
ثمة عيباً في بنية المجتمع يتجاوز البعد الطائفي ، ويعني هذا أن العلاج يجب أن
يرقي عن الحلول العرفية التي ثبتت سطحيتها لكي يتضمن أولاً إنفاذ القانون بكل حزم
وعدل ثم المضي قدماً وبمنتهي الجدية في إصلاح عيوبنا الاجتماعية بل ونسفها ، وقد
حفلت مقالات كثيرة بالحديث علي سبيل المثال عما أصاب النظام التعليمي من كوارث
مجتمعية بسبب شيوع الفكر المتطرف بين المعلمين لأسباب معروفة ، كما أن دولة
المواطنة والمساواة والعدل تبقي هي الملاذ الآمن الوحيد ، كذلك فإن استئثار المنيا
وحدها بثلث الأحداث الطائفية وهي التي تحتل الذيل في ترتيب معدلات التنمية البشرية
يذكرنا بأهمية التنمية العادلة في معركة الإصلاح والتغيير ، ولقد ذكرنا الأستاذ
عزت ابراهيم في مقاله الممتاز بالأهرام »معركة العقل في المنيا« بأنها هي التي
أهدت مصر ثلاثة من عمالقة التنوير في مصر هم طه حسين وعلي عبد الرازق ولويس عوض
فما الذي حدث حتي تصبح منبعاً للإرهاب.
بين كل المقالات التي عبرت عن محنة «
سيدة الكرم » كان الرسم الكاريكاتوري للمبدع عمرو سليم هو الأبلغ : «فُقدت
إنسانيتنا . من يجدها يتصل علي حضارة السبعة آلاف سنة».
نقلاً عن الأهرام