المديونية الخبيئة: خطورة سياسة الاقتراض وتراكم الديون العامة
من التعبيرات خفيفة الظل التي أطلقها النواب في وصف السياسة المالية للحكومة، وصفها بأنها حكومة "سلفني..شكرا"! ويعكس هذا الوصف خفة دم المصريين حتى في أشد أوقات الأزمة. ومع ذلك فإن هذا الوصف يكثف في كلمتين اثنتين طبيعة السياسة المالية الحكومية، وهو لا ينطبق فقط على الحكومة الحالية، حتى لا نظلمها، وإنما ينطبق على غيرها من الحكومات المصرية السابقة منذ سنوات طويلة وليس في فترة ما بعد ثورة يناير أو ثورة يونيو فقط. إن السياسة المالية الحكومية كانت ولا تزال هي سياسة "سلفني شكرا" مما يلقي بظلال قاتمة على الاقتصاد المصري وعلى قدرته في تحقيق ما يطلق عليه صناع السياسة الاقتصادية "التنمية الاحتوائية المستدامة"، بمعنى التنمية التي تشمل كل الناس ويستفيد منها الغني والفقير سواء بسواء وتحمل في طبيعتها مقومات الاستقرار والاستمرار. سياسة الاقتراض الحالية، وهي جزء لا يتجزأ من السياسة المالية تتعارض جوهريا مع هدف تحقيق "التنمية الاحتوائية المستدامة".
وسوف أحاول في هذا المقال إلقاء الضوء على ثلاث حقائق، الأولى هي أن سياسة الاقتراض الحكومي الحالية ما هي إلا استمرار لسياسات سابقة سارت على النهج نفسه، وتعود للوارء إلى عقود طويلة مضت، والثانية هي أن سياسة الاقتراض الحكومي ترافقت في الوقت نفسه مع تدفقات مالية استثنائية ضخمة، ضاعت هدرا بسبب سوء الإدارة المالية، والثالثة هي أن سياسة الاقتراض الحالية قد أدت إلى دخول الاقتصاد بأكمله إلى "دائرة المديونية الخبيثة" وهي دائرة يصبح فيها الاقتراض الحالي والمستقبلي وسيلة لسداد أعباء الديون السابقة وليس للتنمية. إنها دائرة شيطانية تضيع فيها الموارد، وتهدر فيها جهود الناس الساعية إلى تحقيق ارتفاع في مسستويات المعيشة. لقد أصبحت خدمة الديون تبتلع ما يقرب من ثلث الميزانية وما يعادل 15% من الناتج المحلي الإجمالي، وأكثر مما يحصل عليه كل موظفي الدولة والمحليات والهيئات العامة في السنة من أجور وحوافز ومزايا اجتماعية، أما الديون الأصلية نفسها فقد تجاوزت قيمتها قيمة الناتج المحلي الإجمالي، وتزيد سنويا بمعدلات تفوق كثيرا معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي.
أولا: استمرار لسياسات مالية سابقة
تسجل دراسة السياسة المالية المصرية نزوعا تاريخيا ناحية ما يسمى "التمويل بالعجز" منذ ستينيات القرن الماضي. ومن ثم فإن سياسة الاعتماد على الاقتراض من أجل تمويل الميزانية العامة للدولة بشكل عام، كان طابعا تاريخيا منذ استولت الدولة على مقومات التراكم الرأسمالي في مصر من خلال موجات التأميم والتمصير والمصادرة. وعلى الرغم من أن ما حصلت عليه الدولة من خلال "نقل ملكية وسائل الإنتاج" تم وضعه في إطار مؤسسي جديد هو "المؤسسة الاقتصادية" في النصف الثاني من الخمسينيات، فإن سوء الإدارة أدى إلى أن تصبح مكونات هذه "المؤسسة الاقتصادية" عاجزة عن تمويل نفسها بنفسها، مما اضطر الدولة تدريجيا فيما بعد إلى اتباع سياسات مالية "كينزية" تأخذ بمبدأ "التمويل بالعجز". وقد اتسع نطاق استخدام هذا المبدأ في تمويل الميزانية العامة للدولة، والتي شملت المشروعات الاقتصادية جنبا إلى جنب مع ميزانية الجهاز الإداري للدولة في سنوات الخطة الخمسية الأولى التي اعتمدت على سياسة اقتصادية تستند إلى مبدأين أساسيين، الأول هو "التمويل بالعجز" كوسيلة للتنمية، والثاني هو "إحلال الواردات" كهدف للتنمية. وبذلك أصبح التمويل بالعجز سياسة تجد لنفسها مبررات استمرارها في تحقيق هدف التنمية الأفقية المتمثل في إحلال الواردات والعمل على إنتاج كل شيء "من الإبرة إلى الصاروخ"! وكانت النتيجة هي ما نراه الآن من إننا أصبحنا نستورد كل شيء من الإبرة واللبان والبسكويت إلى السيارات والطائرات والقنابل.
وكعادة كل الظواهر الاقتصادية السلبية فإن الدين العام الحكومي الداخلي والخارجي بدأ صغيرا، ثم راح ينمو يوما بعد يوم حتى راح يهدد قدرات الاقتصاد على تحقيق النمو، حتى خرج عن نطاق السيطرة، وأصبح المحرك السلبي للاقتصاد، يمتص عرق الناس، خصوصا من يعملون في "خلق الثروة" مثل الفلاحين والعمال وأصحاب رؤوس الأموال (المنظمين)، ويحول ناتج مجهودهم إلى البنوك، أي تحويل مسار الثروة بعد خلقها إلى غير من عملوا في صناعتها أو خلقها. ويترك هذا التناقض بين مساري "خلق الثورة" و "تحويل الثروة" حالة مؤلمة من "الاغتراب" بين صناع الثروة وبين المستفيدين منها. ويقود هذا الاغتراب إلى حالة من "تآكل الهمة" والحافز نحو العمل، وهو ما يؤدي تدريجيا إلى تهشم وتشوه كل معادلات التوازن الاقتصادي الكلي بسبب تآكل الحافز لزيادة الإنتاج؛ فالعامل أو الفلاح أو صاحب رأس المال المنظم الذي يقف على رأس مشروعه، سيجد حافزا أقوى على العمل وزيادة الإنتاجية كلما استفاد أكثر وارتفع مستوى معيشته ورفاهيته بسبب عمله، بينما سيحدث العكس إذا ما وجد نفسه أكثر بؤسا يوما بعد يوم على الرغم من عمله ومجهوده.
وتطورت نسبة الدين العام المحلي لتزيد سنة بعد أخرى حتى وصلت إلى ما يترواح بين 80% إلى 90% من إجمالي الناتج المحلي خلال تسعينيات القرن الماضي، ولم تتوقف عن الزيادة بمعدلات تفوق معدل زيادة الناتج المحلي نفسه. وكان العجز في الموازنة العامة للدولة هو المصدر الرئيسي لزيادة الدين العام المستحق على الحكومة، والديون المضمونة بواسطة الحكومة. وسوف نقتصر هنا على ذكر الديون العامة المستحقة على الحكومة وغيرها من أجهزة الموازنة العامة للدولة مثل وحدات الحكم المحلي والهيئات العامة.
ويوضح الجدول التالي تطور العجز في الموازنة العامة للدولة، وما يرتبط بذلك من متغيرات أهمها معدلات النمو وخدمة الديون.
جدول (1) تطور قيمة العجز في الموازنة العامة للدولة وعبء الدين العام على الناتج المحلي الإجمالي
السنة/ المتغير |
الناتج المحلي الإجمالي (مليار جنيه) |
معدل النمو السنوي % |
العجز الكلي في الموازنة |
قيمة الفوائد على الدين العام |
نسبة الزيادة % |
قيمة سداد القروض |
نسبة الزيادة % |
قيمة الاقتراض الجديد |
2006/2007 |
744.8 |
7.1 |
54.7 |
47.7 |
-- |
7.7 |
-- |
62.2 |
2007/2008 |
895.5 |
7.2 |
61.1 |
50.5 |
5.9 |
9.5 |
23.4 |
69.9 |
2008/2009 |
1042.2 |
4.7 |
71.8 |
52.8 |
4.6 |
18.3 |
92.6 |
89.9 |
2009/2010 |
1206.6 |
5.1 |
98.8 |
72.3 |
36.9 |
26.5 |
44.8 |
124.1 |
2010/2011 |
1371.1 |
1.8 |
134.4 |
85.1 |
17.7 |
32.2 |
21.5 |
166.6 |
2011/2012 |
1575.5 |
2.2 |
166.7 |
104.4 |
22.7 |
36.4 |
13.0 |
203.2 |
2012/2013 |
1753.3 |
2.1 |
239.7 |
147.0 |
40.8 |
71.3 |
95.9 |
311.0 |
2013/2014 |
1997.6 |
-- |
255.4 |
173.1 |
17.8 |
107.5 |
50.8 |
363.3 |
المصدر: قوانين الحساب الختامي للدولة عن الأعوام المذكورة وتقارير متابعة الخطة (الأداء الاقتصادي والاجتماعي) الصادرة عن وزارة التخطيط
وتظهر أرقام الجدول أعلاه المؤشرات التالية:
- أن معدل النمو الاقتصادي كان في تراجع مستمر منذ عام 2007، أي قبل قيام ثورة يناير. صحيح إن معدلات النمو بعد ثورة يناير سجلت تراجعا حادا، ثم سجل الاقتصاد تعافيا محدودا بعد ثورة يونيو ليصل الآن إلى أكثر من 4%، إلا أن هذا المعدل لا يزال أقل بكثير مما كان يتم تحقيقه سابقا. ومع ذلك فإننا يجب أن نسجل هنا بسرعة أن معدلات النمو المحققة في العقد الأول من القرن الحالي كانت مصنوعة على الورق فقط بواسطة ألاعيب محاسبية وليس نتيجة تحقيق نمو في الاقتصاد الحقيقي. وسوف نبين ذلك بوضوح أكثر عندما نتناول الموارد الاستثنائية التي حصلت عليها الموازنة العامة للدولة والتي تم إهدارها ولم يستفد منها الاقتصاد الحقيقي.
- أن العجز في الموازنة العامة للدولة كان يزيد من سنة إلى أخرى خلال السنوات المذكورة، وأن معدلات الزيادة في العجز المالي وخدمة الديون كانت تفوق معدلات الزيادة في الناتج المحلي الإجمالي خلال السنوات المذكورة، وهو ما سيقود كما أسلفنا إلى وقوع الاقتصاد في "دائرة المديونية الخبيثة"، بحيث أصبح الاقتصاد كله موجها ليس لتحقيق التنمية ولكن لخدمة أعباء العجز والمديونية. إن معدل الزيادة في قيمة خدمة الديون وصل إلى أقصاه قبل ثورة يناير بنسبة 37% تقريبا في يونيو 2010 أي في السنة المالية السابقة على انتفاضة يناير 2011.
- أن قيمة الاقتراض الجديد ليسداد قيمة االديون المستحقة في آجالها تضاعفت في السنوات الأربع السابقة لثورة يناير، حيث تجاوزت 120 مليار جنيه في السنة السابقة على الثورة مقابل نحو 60 مليار جنيه في السنة المالية 2006/2007. واستمر هذا الاتجاه بشدة خلال السنوات التالية للثورة (يناير ويونيو) حتى الآن. وبلغت قيمة الاقتراض الجديد في السنة المالية 1013/2014 نحو ثلاثة أمثال ما كانت عليه في السنة المالية الأولى بعد الثورة، من 124 مليارا إلى 363 مليار جنيه.
إن الأرقام السابقة تبين بوضوح الزيادة الهائلة لعبء العجز والمديونية على الناتج المحلي الإجمالي وزيادة نسبة الموارد الحقيقية المحولة من صناع الثروة إلى البنوك الدائنة للحكومة.
ثانيا: إهدار تدفقات مالية استثنائية
من الظواهر الاقتصادية اللافتة للنظر أن القيادات السياسية والحكومات المتعاقبة في مصر لعبت بذكاء ورقة الأهمية المحورية (إستراتيجيا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا) لمصر في الإقليم الذي تعيش فيه من أجل الحصول على موارد إضافية سهلة من الخارج بغرض استخدام هذه الموارد من أجل تحقيق التنمية وبناء القدرات الإستراتيجية؛ فقد حصل جمال عبد الناصر وحكوماته المتعاقبة على مساعدات سخية اقتصادية وعسكرية من الاتحاد السوفيتي خلال الخمسينيات والستينيات، واستخدمت حكومات عبد الناصر الموارد التي أتاحتها هذه المساعدات في محاولات لإقامة قاعدة صناعية وعسكرية قوية في مصر، لكن مدى قوة هذه القاعدة تم اختبارها على الأرض فعليا في يونيو 1967 فأثبت الاختبار مدى ضعفها هشاشتها. ومن الطبيعي أن المفكرين الناصريين والقوميين العرب سوف يدافعون دائما عن جمال عبد الناصر، لكن دفاعهم عن النظام الذي أنشأه يتوقف عن الصمود ويفقد كل معناه عندما يعزي هؤلاء فشل ذلك النظام وهزيمته على أرضية الحجة التي تقول إن النظام كان "ضحية مؤامرة خارجية". إن نظرية المؤامرة الخارجية لا تفسر انهيار النظام عسكريا واقتصاديا خلال ساعات محدودة. وبعد المساعدات السوفيتية وإلى جانبها جاءت المساعدات العربية التي تعهدت بها الدول العربية في قمة الخرطوم (أغسطس 1967) لمساعدة مصر على إعادة بناء نفسها.
وبعد التغير الحاد في الإستراتيجية المصرية من "محاربة إسرائيل" في عصري الملك فاروق (حرب 1948) وجمال عبد الناصر (1956 و1967) وحلول إستراتيجية "السلام مع إسرائيل" في عصر أنور السادات، استغل النظام المصري ذكاءه في بيع اإاستراتيجية الجديدة مقابل مساعدات عسكرية واقتصادية سخية من الولايات المتحدة الأمريكية، تعهدت بها واشنطن لمدة عشر سنوات في البداية، ثم يتم الآن تجديدها سنويا بقوانين من الكونجرس الأمريكي. وفي سياق هذه إستراتيجية "السلام مع إسرائيل" حصلت مصر على عشرات المليارات من الدولارات خلال العقود الماضية، استخدمت في تمويل إعادة تسليح القوات المسلحة المصرية بأسلحة غربية (أساسا من الولايات المتحدة) لتحل محل الأسلحة السوفييتية. ولقد تم إهدار الكثير من هذه المساعدات حيث لم تنجب ثمارا اقتصادية تذكر، وإنما استحدمت أساسا في تمويل الاستيراد من أجل الاستهلاك وفي مشروعات كانت تعد أبوابا رئيسية من أبواب الفساد يستفيد منها المقاولون والموردون بعيدا عن المنتجين المحليين.
وعلى الرغم من أن المساعدات المالية العربية لمصر توقفت بعد كامب ديفيد وتوقيع معاهدة السلام مع إسرائيل، فإن ذلك لم يستمر طويلا، إذ لم تلبث الدول العربية أن أعادت علاقاتها الاقتصادية مع مصر واستأنفت المساعدات المالية بأشكال مختلفة خصوصا عن طريق صناديق التنمية الإقليمية التي أنشأتها الدول العربية المصدرة للنفط. وبعد اغتيال السادات استمر تدفق المساعدات المالية والاقتصادية من الولايات المتحدة وأوربا الغربية والدول العربية النفطية. وتضمنت الموارد الاستثنائية التي حصلت عليها مصر إعفاءات من الديون الخارجية المستحقة عليها في إطار مبادرة عالمية لتخفيف أعباء الديون قام بإدارتها صندوق النقد الدولي. ثم حصلت مصر على جوائز مالية مقابل مشاركتها في حرب تحرير الكويت وفي حرب الخليج الثانية. ومن الضروري حساب هذه التدفقات الاستثنائية بالتفصيل لأن كشف الحساب سيكشف عن الكثير من نواحي الهدر في الموارد والفساد المؤسسي في مصر خلال حقبة التسعينيات على وجه الخصوص.
وفي أوائل القرن الواحد والعشرين راحت تتضاءل بسرعة نتائج برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي كانت تنفذه مصر تحت إشراف صندوق النقد الدولي منذ منتصف التسعينيات؛ فبدأ ذهن الحكومة يتفتق عن حيل بهلوانية تميل إلى استخدام أساليب النصب والفهلوة بدلا عن الاعتماد على المعايير الدولية والحسابات القومية الدقيقة. وكان أخطر ما تم في النصف الثاني من العقد الأول من القرن الواحد والعشرين هو استيلاء الحكومة على أموال صندوقي التأمينات والمعاشات اللذين كانت الحكومة تديرهما نيابة عن أصحاب حقوق التأمينات والمعاشات، ودمج أصول هذين الصندوقين ومستحقاتهمما لدى بنك الاستثمار القومي إلى موارد الموازنة العامة للدولة في مقابل إصدار صكين ورقيين من الخزانة العامة للدولة لصالح الصندوقين، وانتهى الحال الآن إلى احتساب مدفوعات التأمينات الإجتماعية والمعاشات ضمن قيمة الدعم السنوي الذي تتحمله الموازنة العامة للدولة!
وإضافة إلى كل الموارد الاستثنائية السابقة فإن الموازنة العامة للدولة حصلت خلال العقد الأول من القرن الحالي على إيرادات الخصخصة ومن أهمها إيرادات بيع بنك الإسكندرية وبيع حصة من أسهم المصرية للاتصالات، إضافة إلى حصيلة بيع رخص شركات التليفون المحمول وغيرها من الإيرادات غير الدورية، التي كانت جميعا بمثابة هدية حصلت عليها الحكومات المتعاقبة بدون وجه حق من ناتج عمل الأجيال السابقة التي عانت الكثير من سياسات التقشف وربط الأحزمة على البطون والتضخم.
وبعد ثورة يناير حصلت الخزانة العامة للدولة على موارد إضافية تتمثل في إعفاءات من الديون ومنح وتسهيلات ميسرة وقروض وودائع ومساعدات عينية بلغت قيمتها حتى بداية العام 2016 ما يقرب من 55 مليار دولار طبقا لحسابات البنك الدولي. وإذا أضفنا إلى هذا المبلغ قيمة المساعدات والتعهدات التي قدمتها المملكة العربية السعودية خلال الزيارة الأخيرة التي قام بها الملك سلمان بن عبد العزيز وابنه نائب ولي العهد (أبريل 2016) فإن قيمة المساعدات الاقتصادية التي حصلت عليها من الخارج خلال السنوات المالية منذ ثورة يناير وحتى الآن تصل إلى 77 مليار دولار، يضاف إليها قرض قناة السويس المستحق على هيئة قناة السويس (مقابل شهادات استثمار متميزة العائد)، وهو ما يطرح علامات استفهام كبيرة بشأن إهدار الموارد والفساد المؤسسي وفشل السياسة المالية للحكومات المتعاقبة بدون استثناء منذ الصورة وحتى الآن؛ فعلى الرغم من هذه الموارد الاستثنائية الهائلة تزايدت قيمة الدين العام المحلي والخارجي معدلات سريعة كما يتضح من الجدول التالي:
جدول (2) إجمالي الدين العام المحلي والخارجي لأجهزة الموازنة العامة في نهاية يونيو من السنة المالية
(قيمة الدين العام المحلي بالمليار جنيه وقيمة الدين العام الخارجي بالمليار دولار)
السنة / المتغير |
قيمة إجمالي الدين العام (1) |
معدل النمو السنوي % |
قيمة إجمالي الدين العام الخارجي (2) |
معدل النمو السنوي % |
2007 |
591.0 |
-- |
29.9 |
-- |
2008 |
599.6 |
1.5 |
33.9 |
13.4 |
2009 |
699.6 |
16.7 |
31.5 |
(-) 7.1 |
2010 |
808.4 |
15.6 |
33.7 |
7.0 |
2011 |
967.3 |
19.7 |
34.9 |
3.6 |
2012 |
1155.3 |
19.4 |
34.4 |
(-) 1.4 |
2013 |
1444.4 |
25.0 |
43.2 |
25.6 |
2014 |
-- |
-- |
46.1 |
6.7 |
(1) رصيد الدين العام القائم لأجهزة الموازنة العامة في نهاية شهر يونيو من الأعوام المذكورة، بالمليار جنيه مصري بالأسعار الجارية.
(2) رصيد الدين العام الخارجي لأجهزة الموازنة العامة في نهاية شهر يونيو من الأعوام المذكورة، بالمليار دولار أمريكي بالأسعار الجارية.
المصدر: قوانين الحسابات الختامية للدولة عن الأعوام المذكورة.
ولقد تدهور حال الدين العام المحلي تدهورا شديدا خلال الفترة التالية. وتشير الأرقام التي أعلنتها وزارة المالية في التقرير المالي عن شهر فبراير 2016 إلى أن إجمالي قيمة الديون المستحقة على أجهزة الموازنة العامة للدولة (محلية وخارجية مقومة بالجنيه المصري) ارتفعت إلى 2545 مليار جنيه مصري في نهاية ديسمبر 2015 أي بزيادة تقترب مما يعادل خمسة أمثال ما كانت عليه في نهاية شهر يوينو عام 2007. وفي الوقت نفسه فإن المؤشرات المالية والتجارية السلبية سجلت معدلات مخيفة خلال النصف الأول من السنة المالية الحالية 2015/2016 وهو ما يلقي بظلال قاتمة على الأهداف التي وضعتها الحكومة لتحقيقها في الموازنة العامة الجديدة 2016/2017.
ثالثا: دائرة المديونية الخبيئة
أصبحنا جميعا والحمد للـه بفضل السياسة المالية الحالية نعمل ونكد من أجل دفع مستحقات البنوك لدى الحكومة. ومع ذلك فإن مشروع الموازنة العامة الجديد لا يتضمن جديدا من شأنه أن يغير من هذه الحال. على العكس من ذلك فإن مشروع الموازنة يتضمن اختلالات مبكرة ربما تقود إلى نتائج أكثر كارثة. على سبيل المثال قام قطاع الموازنة العامة في وزارة المالية باحتساب قيمة الجنيه المصري على أساس سعر صرف متوسط قدرة 8.95 جنيه للدولار مقابل التقديرات السابقة (قبل إقالة الوزير السابق) التي كانت تحتسب متوسط سعر الصرف بوافع 8.5 جنيه للدولار. وفي الحالتين فإن سعر الصرف الذي تم على أساسه بناء تقديرات الميزانية سواء مع مجيء الوزير الحالي أو الذي سبقه يظل سعرا ورقيا غير حقيقي لا علاقة له بالواقع. إن سعر الجنيه على الرغم من تخفيضه رسميا بواسطة البنك المركزي المصري هو الآن أقل بكثير من السعر السائد في السوق. وهذا يعني ببساطة أن البنوك المصرية لن تحصل إلا على النذر اليسير من مدخرات المصريين العاملين بالخارج، والتي ستأتي بصحبتهم خلال موسم الإجازات السنوية الذي أصبح على مرمى أسابيع. وتبلغ الفجوة بين سعري الصرف الرسمي وغير الرسمي حاليا (20 أبريل 2016) ما يعادل 23% من السعر الرسمي، حيث سجل سعر الجنيه في سوق الصرافة 10.90 جنيه مقابل الدولار، وذلك على الرغم من إهدار ما يقرب من 11 مليار دولار من موارد البنك المركزي على دعم الجنيه المصري منذ شهر نوفمبر الماضي. إن السعر الرسمي للجنيه في طريقه إلى التخفيض مرة أخرى لا محالة قبل نهاية يونيو المقبل، بل إن الجنيه قد يتعرض للتخفيض مرتين على الأقل من الآن وحتى نهاية 2016.
ومن المدهش أن ذلك يحدث في الوقت الذي يصر فيه محافظ البنك المركزي على أن هدفه هو أن يرفع قيمة الاحتياطي النقدي إلى 25 مليار دولار, ولا أعرف على وجه اليقين كيف سيرفع محافظ البنك المركزي الإحتياطي من العملات الأجنبية إلى هذا المستوى وسط ظروف السوق الحالية. وبشكل عام، فليس بوسع محافظ البنك المركزي التحكم في قيمة أرصدة النقد الأجنبي الاحتياطية، لأن هذه الاحتياطيات يتم تمويلها من مصادر لا تخضع لا لسيطرة البنك المركزي ولا للسياسة النقدية برمتها مثل فائض ميزان المدفوعات وفائض المعاملات الرأسمالية والتحويلات الخاصة وغيرها.
ومن المدهش في سياق آخر أن يعلن وزير المالية أن هدفه في موازنة 2016/2017 هو تخفيض عجز الموازنة إلى ما يقرب من 9% من إجمالي الناتج المحلي. وأظن أن هدف وزير المالية في هذا الخصوص يلحق بهدف محافظ البنك المركزي المصري في رفع قيمة الاحتياطي من النقد الأجنبي إلى 25 مليار دولار. لقد خرج معدل نمو الدين العام ومعدل نمو خدمة الديون عن نطاق السيطرة، وهو ما يحتاج إلى إعادة النظر تماما في السياسات المالية والنقدية والتجارية بهدف وضع نسق جديد للسياسة الاقتصادية يقود إلى كسر الدائرة المفرغة الخبيثة للاقتراض سواء من السوق المحلي أو من السوق الخارجي.
جدول (3) تطور عبء خدمة الديون في السنوات الأخيرة:
السنة المالية/ المتغير |
قيمة خدمة الدين العام (مليار دولار) |
معدل النمو السنوي لخدمة الدين |
نصيب خدمة الدين من الناتج المحلي الإجمالي |
2006/2007 |
55.4 |
-- |
7.4 |
2007/ 2008 |
60.0 |
8.3 |
6.7 |
2008/ 2009 |
71.1 |
18.5 |
6.8 |
2009/2010 |
98.8 |
38.9 |
8.2 |
2010/ 2011 |
117.3 |
18.7 |
8.6 |
2011/2012 |
140.8 |
20.0 |
8.9 |
2012/ 2013 |
218.3 |
55.0 |
12.5 |
2013؟2014 |
280.6 |
28.5 |
14.0 |
- المصدر: محسوب من بيانات وزارة المالية، قوانين الحسابات الختامية للميزانية عن السنوات المذكورة والتقارير المالية الشهرية.
لقد بلغت الزيادة التراكمية في قيمة خدمة الدين العام خلال الفترة منذ 2007 وحتى 2014 حوالي 188% أي بمتوسط 26.8% سنويا خلال السنوات المالية السبع المذكورة، في حين أن الزيادة التراكمية في معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة نفسها بلغت 30.2% أي بمعدل 4.3% سنويا، وهذا يعني أن معدل الزيادة في خدمة الديون يعادل أكثر من سنة أمثال (6.2) معدل الزيادة في إجمالي الناتج المحلي. ويمثل الفارق بين معدل نمو خدمة الديون ومعدل نمو الناتج أخطر مكونات الفجوة التمويلية، لأن الحكومة ستجد نفسها مضطرة لا محالة إلى الاقتراض بمعدلات أكبر من أجل سداد أعباء الديون السابقة، وهذه هي الدائرة المفرغة الخبيثة للمديونية.
إن قدرة الاقتصاد على تحقيق معدلات للنمو تقابل معدلات نمو خدمة الديون المستحقة على الحكومة هي معدومة تماما، وليس من المتوقع في ظل معدلات الادخار والاستثمار الحالية أن يحقق الإقتصاد معدلات للنمو تزيد على 4% في المتوسط، وما يترك للأفراد فرصة تغطي بالكاد احتياجات مواصلة الحياة بمعدل نمو في الدخل الفردي يبلغ 1.5% (متوسط معدل النمو الاقتصادي 4% مطروحا منه متوسط معدل نمو السكان البالغ 2.5%). بل إن احتمالات تراجع المساعدات الخارجية من شأنها أن تقلل من معدلات النمو الاقتصادي المتوقع خلال السنوات المقبلة. وليس هناك من بارقة أمل سوى أن يسهم القطاع الريعي (مثل النفط والغاز والتعدين والمحاجر) بنسبة أكبر في الناتج المحلي. وفي هذا السياق فإن احتمالات تصدير الغاز من حقل "ظهر" الواقع ضمن امتياز "شروق" في المنطقة الاقتصادية الخالصة لمصر شرق البحر المتوسط من الممكن أن يساعد على تخفيف حدة الظروف السلبية المحيطة بالاقتصاد اعتبارا من أوئل السنة المالية 2017/2018 وليس قبل ذلك.
رابعا: ضرورة إلزام الحكومة بتخفيض العجز
لن تتمكن الحكومة من تخفيض عجز الموازنة إراديا، فقد فشلت في تحقيق ذلك على الرغم من وعودها أكثر من مرة. وإذا أردنا مساعدة الحكومة على تخفيض العجز فإن مجلس النواب يجب أن يصدر قانونا يحدد فيه نطاق العجز المالي السنوي لمدة 5 سنوات بحيث يتراجع الدين العام (الداخلي والخارجي) إلى ما يترواح بين 60% إلى 70% من إجمالي الناتج المحلي، وتخفيض عجز الموازنة إلى ما يترواح بين 6% إلى 7% من إجمالي الناتج المحلي. لقد أصبح عجز الموازنة هو الخلل الاقتصادي الرئيسي الذي يعاني منه الاقتصاد.
ومع ذلك فإن علاج العجز المالي ليس الوسيلة الوحيدة لتحقيق انطلاقة اقتصادية تليق بوضع مصر وبمكانتها في المنطقة وفي العالم؛ فذلك يحتاج إلى علاج عدد من التشوهات الهيكلية مثل العجز التجاري المزمن وتردي معدلات الادخار والاستثمار على المستوى الوطني، إلى جانب ضرورة توسيع الطاقات الإنتاجية في قطاعات الإنتاج السلعي وقطاعات التصدير للخارج. إن مصر لن تستطيع أن تعاود ممارسة دورها الإقليمي بالخطب والشعارات السياسية وهي تمد يدها لغيرها.