البحث عن حل: أزمات أسعار الصرف في ضوء التجارب الدولية
الجنيه المصري، هذا القرص المعدني الصغير الذي تتضاءل قيمته وتتلاشى يوما
بعد يوم إنما هو الصورة المكثفة الدقيقة لحال الاقتصاد المصري، الناس والموارد
والموقع والإنتاج والثروة شأنه شأن أي عملة. ولهذا السبب فإن بعض الدول تتفنن في
اتباع سياسات تحكميه تستهدف زيادة قيمته الاسمية عن قوته الحقيقية، كحالنا مع
اتباع سياسة سعر الصرف الثابت، بينما دول أخرى تفعل العكس، أي تجعل قيمة عملتها
الاسمية أقل من قيمتها الحقيقية لأن ذلك من شأنه أن يفسح لها طرق المنافسة في
الأسواق الخارجية، كما هي الحال في الصين أو فيتنام. واليوم، ومنذ الأحد الماضي
عندما قرر البنك المركزي المصري تخفيض قيمة الجنيه أمام الدولار بنسبة 14% تقريبا،
أصبح الجنيه هو حديث كل بيت في مصر تقريبا. جنون الدولار أو على الأصح تضعضع قيمة
الجنيه يضرب كل المصريين في مقتل، أغنيائهم وفقرائهم سواء بسواء.
بعض الناس تتصور أن المسألة سهلة وأن البنك المركزي تسرع أو أخطأ في اتخاذ
قرار بتخفيض قيمة الجنيه. الحقيقة أن البنك المركزي لم يكن أمامه طريق آخر. ربما
لو كان مسار الأمور قد اختلف عما جرى فعلا في السنتين الأخيرتين، لوجد البنك
المركزي المصري طريقا آخر. صحيح أن بعض سياسات البنك المركزي الإدراية بفرض قيود
على المعاملات الدولارية أسهمت في إشعال السوق، لكن صانع القرار داخل البنك
المركزي كان واقعا تحت ضغوط سياسية وإعلامية من أجل "محاربة السوق
السوداء" فلم يعد هدف السياسة النقدية هو توفير مقومات الاستقرار النقدي بقدر
ما أصبح "التصدي لتجار العملات في السوق السوداء". هكذا ضلت السياسة
النقدية طريقها، وضاع منها الهدف، فأصبح الجنيه المصري عاريا يواجه مصيره وحده بينما
المعركة دائرة على أشدها بين البنك المركزي وبين شركات الصرافة، وكأنما وظيفة
البنك هي أن يقوم بدور رجل البوليس في سوق العملات المحلية. وجد البنك المركزي
نفسه في محنة، وبينما كان يتوجب عليه أن يكون "مستقلا سياسيا" فإنه
ارتمى في أحضان السياسة، واعتقدت قياداته إن نجاحها يكمن في إرضاء السلطة
السياسية. وهذا بالضبط ما يضرب وظيفة البنك المركزي في مقتل.
أولاً:
اقتصاد هش
الاقتصاد المصري في وضع شديد الصعوبة، فلماذا تكون العملة قوية إذن؟ ليس
هناك ما يعزز مثل هذا الطموح. في الربع الأول من السنة المالية الحالية سجلت كل
مؤشرات الاقتصاد تقريبا، باستثناء بعض الأرقام التجميعية المصنوعة اتجاهات سلبية.
عجز الميزانية العامة للدولة زاد على المستهدف، العجز التجاري إتسع عما كان، معدل
التضخم ارتفع وكذلك معدل البطالة، وأسعار الفائدة على الأوراق المالية التي تصدرها
الحكومة لم تتوقف عن الزيادة حتى وصلت في العطائين الأخيرين (14 مارس) إلى أكثر من
15% للأوراق إستحقاق نوفمبر 2020 وأكثر من 17% للأوراق استحقاق نوفمبر 2025.
وفي الوقت نفسه هبط معدل الادخار المحلي إلى أقل من 6% أي أقل من 20% من
المعدل الذي نحتاجه لإنجاز ما نسميه "تنمية مستدامة" وارتفعت قيمة العجز
التجاري إلى ما يقرب من 12% من إجمالي الإنتاج المحلي، وفي الوقت نفسه هبطت قيمة
تمويل الصادرات للواردات إلى ما يقرب من 25% في الوقت الحالي أي نصف ما كانت عليه
في العام 2010. وقد اسهم استنزاف الاحتياطيات الدولية في هبوط قيمتها من نحو 21
مليار دولار في يونيو 2014 إلى 16.33 مليار دولار في يونيو 2015. والأخطر من ذلك
أن قيمة الاحتياطيات الدولية كانت تغطي نسبة تزيد على ثلاثة أرباع الديون الخارجية
المستحقة، انخفضت الآن إلى ما يعادل ثلث القروض المستحقة للدائنين الأجانب. ولا
تلوح في الأفق بوادر قوية على أن هذا الاتجاه السلبي للمؤشرات الاقتصادية سوف
يتغير بسرعة ولا في الأجل المتوسط مع بقاء السياسة الاقتصادية حبيسة لسياسات عامة
قاصرة وعاجزة.
ومن الغريب في السياسة الاقتصادية أنها عندما تفشل في تحقيق الأهداف التي
حددها هي لنفسها، أو على الأصح حددها لها صانعو القرار، فإن أحدا لا يعترف بالفشل،
ومن ثم لا يسأل نفسه لماذ حدث الفشل. ومن الأمثلة الصارخة على ذلك ما سعت إليه
الموازنة العامة للدولة إلى تخفيض نسبة العجز المالي. المؤشرات المتاحة حتى الآن
تتجه بقوة إلى تسجيل زيادة مطلقة ونسبية في أرقام العجز في الموازنة. المالية قالت
إنها ستحقق تخفيضا في العجز بنسبة 1% تقريبا من الناتج المحلي الإجمالي، الحقيقة
الآن أن العجز المالي خلال الربع الأول من السنة المحلية قد زاد ولم ينخفض، وأن
المؤشرات المتوقعة في نهاية السنة المالية قد تسجل قفزة في العجز إلى ما يترواح بين
12.5% إلى 13.5% من الناتج المحلي
الإجمالي. وإذا أضفنا لذلك أعباء خدمة الديون المتزايدة بسبب ارتفاع أسعار الفائدة
على أذون وسندات الحكومة، فإننا سنكون في مواجهة كارثة اقتصادية حقيقية حيث إن
إجمالي الدين العام الداخلي والخارجي لأجهزة الموازنة العامة وللهيئات والمؤسسات
والقطاع الخاص يزيد على 110% من الناتج المحلي الإجمالي.
فإذا كان الحال كذلك، فمن أين نأتي إذا بالدليل على قوة الجنيه المصري؟ إن
محرك النمو الرئيسي في الاقتصاد المصري هو "الاستهلاك"، وليس الادخار أو
الاستثمار الأجنبي أو التصدير، وهي محركات النمو الرئيسية في اقتصادات العالم.
القاطرة التي تقود الاقتصاد في مصر هي استهلاك الحكومة واستهلاك الأفراد. وهذا الاستهلاك
يتم تمويله أساسا بالعجز، وليس بواسطة مصادر تمويل تم خلقها من العمل في داخل
البلاد. التحويلات الخاصة من الخارج وأهمها تحويلات المصريين العاملين في الخارج
تشكل ما يقرب من ثلث المتحصلات الجارية، وهذه لا يتم إنتاجها في الداخل. التجارة
مع الخارج تعطينا في نهاية الأمر عائدا سلبيا يتمثل في العجز المتزايد في الميزان
التجاري. شركات السياحة الأجنبية الكبرى هربت، المستثمرون الأجانب (باستثناء
المستثمرين في قطاع النفط والغاز هربوا)، المساعدات العربية تتقلص بسبب الظروف
التي تعاني منها دول الخليج من انخفاض أسعار النفط وتكاليف الحرب في اليمن وفي
سوريا. ارتفاع هائل في فاتورة الاستيراد بدأنا نشعر بآثاره فعلا، ولكن دورة الآثار
التلقائية المترتبة على هبوط سعر الجنيه لم تكتمل بعد، إنها بالكاد بدأت وسوف
تستمر لفترة من الوقت.
ثانيًا:
هل يمكن الدفاع عن سعر العملة؟
العملة في السوق هي سلعة مثلها مثل غيرها من السلع، يتحدد سعرها بالعرض والطلب
والمتغيرات الأخرى في أسواق العملات. وتستطيع مصر التحكم في عرض الجنيه، فلها الحق
في أن تصدره بواسطة البنك المركزي طبقا لقواعد وأصول متعارف عليها ويراقبها صندوق
النقد الدولي. كذلك فإن تحديد أسعار الفائدة هو أحد الحقوق السيادية للدولة في
أسواقها المحلية. وهناك أدوات كثيرة يمكن أن يلجأ إليها البنك المركزي للتحكم في
عرض النقود في السوق المحلية. لكن البنك المركزي المصري ليس ضمن سلطاته إصدار
الدولار وليست لديه القدرة على التحكم في عرضه في الأسواق. ومع ذلك فإن البنك
المركزي قد يرخص للبنوك أو قد يصدر هو لصالح السلطات المالية أوراقا مالية أو
أوعية ادخارية تحمل أسعار فائدة متميزة تختلف عن سعر الخصم الأساسي الذي يصدره
مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي.
وفي حال انخفاض قيمة العملة المحلية، نجد بعضا من صناع السياسة النقدية يقع
تحت إغراء التدخل بضخ أموال في السوق بقصد الدفاع عن قيمة العملة، أو للحد من
اتساع الهامش الذي تتحرك في داخله. وربما نجحت محاولات من هذا القبيل لضمان توازن
المعاملات اليومية، ولكن مثل هذا المسلك يفشل تماما في الحالات التي يكون فيها ضعف
العملة مشتقا من ضعف اقتصادي عام. ففي مثل تلك الحالات من الضروري وضع برنامج عاجل
لإنعاش الاقتصاد وليس لإنعاش قيمة العملة على حساب الإقتصاد. وعلى سبيل المثال
فإنه بدلا من ضخ مليارات الدولارات للدفاع عن قيمة عملة ما فقد يكون من المفيد
أكثر أن نستثمر هذه المليارات في علاج ضعف الاقتصاد، أو في خلق استثمارات جديدة
تغذي قوة العملة وقوة الاقتصاد.
وسوف نقدم هنا إشارة إلى ثلاث تجارب في التعامل مع أزمات أسعار الصرف.
ثالثًا:
التجربة البريطانية
في عام 1992 تعرض الجنيه الإسترليني لضغوط شديدة داخل نظام تبادل النقد
الأوربي (ERM) في ذلك الوقت. وعندما هبطت قيمة الإسترليني إلى ما دون الحد
الأدنى لقيمة العملة البريطانية مقابل المارك الألماني، قرر رئيس الوزراء جون
ميجور الدفاع عن قيمة الإسترليني حتى لو كانت تكلفة ذلك هي الخروج من نظام تبادل
النقد الأوربي. لكن التكلفة الحقيقية لمحاولة جون ميجور الفاشلة كانت فادحة، فقد
خسرت الخزانة البريطانية ما يقرب من 3.4 مليار جنيه إسترليني في الدفاع عن
الإسترليني، بينما حقق المضارب الدولي في أسواق العملات جورج سوروس أرباحا سريعة
خلال أسابيع قليلية تقدر قيمتها بنحو مليار جنيه إسترليني. وفي نهاية الأمر فإن
الخسارة الأخيرة تمثلت في سقوط جون ميجور وخروج المحافظين من الحكم وصعود حزب
العمال البريطاني بقيادة توني بلير.
إن الحكمة الناصعة هنا تتمثل في ضرورة أن يبتعد السياسيون عن تحدي السوق،
فللسوق قوانينها التي لا تقهر. وفي حال مخالفة هذه الحكمة فإن أمثال هؤلاء
السياسيين يدفعون الثمن الفادح في شكل سقوط مدو من مقاعد السلطة، وتظل لعنة
قراراتهم الخاطئة تطاردهم في الحياة وفي الممات.
ويذكر خبراء الأسواق معركة الإسترليني في عام 1992 للتدليل على أن سياسة
التدخل لتحديد سعر الصرف هي سياسة خاطئة، وأن مهمة البنك المركزي لا تتمثل في
الدفاع عن قيمة العملة، بل يجب ترك تحديد قيمة العملة للسوق وعدم التفريط في الاحتياطي
النقدي وتبديده في السوق لحماية سعر العملة، وإنما بدلا من ذلك يتعين على البنك
المركزي أن يساعد على خلق الظروف النقدية المستقرة، والحد من التضخم، وتوفير
البيئة الأمثل للتشغيل والنمو ومن ثم إمداد العملة بمصادر قوة لا تنضب.
رابعًا:
التجربة التركية
تعرضت تركيا منذ أواخر السبعينيات لموجات من الأزمات الاقتصادية الواسعة
النطاق التي تميزت بالملامح التالية: ظهور أعراض خلل نقدي يؤدي بأسعار الليرة
للهبوط الحاد مقابل الدولار، يعقب هذا الهبوط بدء ظهور أعراض أزمة إقتصادية واسعة
النطاق، وتؤدي الأزمة إلى حالة من عدم الاستقرار السياسي الذي يأخذ في التعمق حتى
ينتهي بسقوط سياسي للسلطة الحاكمة. وإليكم التاريخ كما يحدثنا: في الفترة
1979/1980 هبطت قيمة الليرة التركية هبوطا حادا، فوقعت أزمة إقتصادية واسعة
النطاق، قادت تركيا إلى وقوع انقلاب عسكري في سبتمبر 1980.
وفي العام 1994 هبطت الليرة التركية هبوطا حادا، ومع بدء ظهور أعراض الأزمة
الاقتصادية سادت البلاد حالة من التململ والقلق وعدم الاستقرار السياسي، وعندما
استمر تردي حال البلاد سقطت حكومة رئيسة الوزراء تانسو تشيللر. كما هبطت قيمة
الليرة التركية هبوطا حادا في عام 1999 وفي عام 2001 حيث أدى انهيار العملة إلى
حالة من الانهيار الاقتصادي والانكماش في كل القطاعات تقريبا، وسجل الناتج المحلي
الإجمالي انكماشا بنسبة 5% وهو ما كتب نهاية الائتلاف الحاكم في ذلك الوقت بقيادة
بولنت أجاويد.
التجربة التركية تخبرنا بكل وضوح أن هبوط قيمة العملة الوطنية هو جرس الإنذار
الذي يدق بقوة ليحذرنا من أزمة اقتصادية واسعة النطاق تلوح في الأفق، وأن مثل تلك
الأزمات لا ينتهي في معظم الأحوال بحلول اقتصادية، وإنما ينتهي بسقوط سياسي للسلطة
الحاكمة كما أوضحنا من قبل. هذا هو نمط التداعي التلقائي للأزمات النقدية، فتلك
تعبر عن خلل حاد في العلاقة بين الاقتصاد المحلي والاقتصاد العالمي إضافة إلى
الخلل داخل بنية الاقتصاد المحلي نفسه، وهو خلل يتجاوز في معظم الأحوال حدود
السياسة الإقتصادية.
خامسًا:
تجربة البرازيل
تواجه رئيسة البرازيل الحالية ديلما روسيف أزمة سياسية طاحنة ومطالبات قوية
بعزلها وإنهاء سيطرة الحزب الحاكم (حزب العمال) وسط أزمة اقتصادية عميقة بدأت مع
تدهور قيمة الريال البرازيلي، ثم عجز الحكومة عن اتخاذ إجراءات سريعة لمواجهة
تدهور قيمة العملة. ويعتبر عام 2015 أحد أشد الأعوام سوءا في البرازيل من الناحية
الاقتصادية فقد انكمش الاقتصاد بنسبة 3.7% ومن المتوقع أن يسجل انكماشا إضافيا في
العام الحالي بنسبة 2.9%. ويترافق ذلك مع ارتفاع مؤشرات التضخم والبطالة. وقد
هبطت قيمة الريال خلال عام 2015 بنسبة 72%
تقريبا ولا يزال حتى الآن تحت ضغوط شديدة بسبب عمق الأزمة السياسية في البلاد.
وكانت البرازيل قد تعرضت لأزمة مماثلة تقريبا بين عامي 1996 و1998 حينما
هبطت قيمة الاحتياطيات الدولية بنسبة 40% بسبب هروب الاستثمارات الأجنبية. ومع
انهيار قيمة الريال البرازيلي حاول البنك المركزي جاهدا الدفاع عن قيمة العملة
المحلية، وفي الوقت نفسه المحافظة على سمعة البرازيل المالية بالاستمرار في سداد
مستحقات البنوك والدائنين الأجانب في المواعيد المحددة. وحصلت البرازيل في عام
1998 على قرض كبير من صندوق النقد الدولي بقيمة 41.5 مليار دولار لمواصلة هذه
السياسة التي انتهت بالفشل في الدفاع عن قيمة الريال. وانتهى الأمر بالبنك المركزي
إلى تخفيض قيمة العملة المحلية بنسبة 8% في يناير 1999 وبنهاية الشهر نفسة كانت
نسبة التخفيض في قيمة العملة قد وصلت إلى 66% مقابل الدولار.
سادسًا: هل
يمكن إنعاش الجنيه؟
الجنيه المصري حاليا مثله مثل رجل مريض متهالك صدمه قطار مسرع في واحد من
المزلقانات العشوائية! هل يمكن إنقاذه؟ وكيف ننقذه؟ الإجابة عن السؤال الأول
ضرورية وهي تبدو سهلة. نعم يمكن إنقاذ الجنيه، بل ويجب أن نعمل جميعا حكومة وشعبا
على إنقاذه، فهو في نهاية الأمر عنوان الاقتصاد. ومثلما يقول القانونيون بأن
"الحكم القضائي هو عنوان الحقيقية"، مع إن ذلك قد لا يكون بالضرورة
صحيحا خصوصا في حال فساد القانون أو القضاء، فإن الاقتصاديين في مصر يمكنهم القول
بأن "الجنيه هو عنوان الاقتصاد". إذا صح الجنيه يكون الاقتصاد صحيحا
وإذا اعتل فإن علته هي علة الاقتصاد. المهم أن يقتنع صناع السياسة النقدية بأن
معركتهم هي وضع الجنيه في غرفة "إنعاش اقتصادي" والتعامل معه على هذا الأساس.
وعلى هؤلاء أن يكفوا عن الاعتقاد بأن معركتهم هي ضد السوق السوداء أو شركات
الصرافة أو الاعتقاد بأن مضاربات الإخوان هي السبب! الحقيقة هي أن الاقتصاد مريض
ويعاني من أمراض مزمنة وليست طارئة.
وقد يجوز في مثل هذه الحالات استخدام وسائل علاج طارئة وعاجلة، مثلما يلجأ
الطبيب إلى استخدام الضمادات لوقف النزيف أو استخدام الكمادات الباردة لوقف
التأثير الحاد لارتفاع درجة حرارة المريض. لكن هذا ليس العلاج. النصيحة الأولى
لصناع السياسة الاقتصادية هي الكف عن الاعتقاد بأن معركتهم هي محاربة أعراض المرض
وليس مكافحة المرض ذاته.
ومن الصعب أن نحرم صناع السياسات النقدية من أن يحلموا مثل غيرهم من المسئولين،
فهذا وزير يحلم بأن ينقل مصر من المكانة 140 من بين 141 دولة على جدول كفاءة
التعليم الأساسي إلى المراتب الثلاثين الأولى على مستوى العالم! وهذا آخر يعتقد أن
الصناعة المصرية بوضعها الحالي "قادرة على المنافسة في أوربا وأمريكا"،
وذاك ثالث سوف يدخل مصر في عصر القطار فائق السرعة عبر المزلقانات العشوائية!
هؤلاء وأمثالهم يبيعون الوهم إلى الناس.
السيد محافظ البنك المركزي يحلم بأن يرفع قيمة الاحتياطي النقدي من 16
مليار دولار حاليا تقريبا إلى 25 مليار دولار. حسن، هذا جيد ومن حقه أن يسمع
لنصائح صندوق الدولي وأن يطلق الشعارات التي تروقه، لكنه يجب أن يعلم أن مهمة صانع
السياسة هي "صنع الحقائق" وليس "إطلاق الشعارات". لدينا مشكلة
في بؤرة النظر إلى المشاكل. صنع الاحتياطي النقدي يتطلب تحقيق الآتي: فائض في
ميزان التجارة السلعية الذي يعاني من عجز مزمن، فائض في ميزان المعاملات الجارية
الذي يعاني من عجز طارئ بسبب هروب شركات السياحة الأجنبية الكبرى التي نعتبرها في
سوق السياحة صانعة للأسواق (market maker)، وجمود إيرادات قناة السويس
تقريبا، فائض في ميزان المعاملات الرأسمالية بينما يعاني هذا الميزان من تراجع
ومعدلات سلبية منذ سنوات حتى قبل 25 يناير 2011. المصدر الرئيسي لتمويل وتغذية الاحتياطي
النقدي هو التحويلات الخاصة التي تمثل نسبة مهمة من المتحصلات الجارية بالعملة
الأجنبية ولا يضاهيها مصدر آخر غير المساعدات العربية والدولية في السنوات القليلة
الماضية.
وربما سيواجه الجنيه المصري أوقاتا شديدة الصعوبة من الآن وحتى شهر مايو
المقبل، حينما يبدأ موسم إجازات المصريين العاملين في الخارج. سوف يعود هؤلاء
حاملين معهم الملايين من الدولارات مثلهم مثل السياح يسعون إلى الإنفاق على
مطالبهم اليومية، إضافة إلى تلبية احتياجاتهم الإستثمارية خصوصا في مجالات البناء
والإسكان. ورغم صعوبة الوضع الحالي بالنسبة للجنيه فإن هناك أربع قنوات يمكن أن
تمد الجنيه ببعض القوة في الأجل القصير، يمكنها مع توفير بعض الإجراءات الاقتصادية
أن توقف أو تقلل من نزيف الجنيه. وهذه القنوات الأربع هي:
-
تحويلات المصريين
العاملين في الخارج التي ترتفع موسميا مع اقتراب شهور الصيف كما ذكرنا.
- البدء في استعدادات استخراج وتصدير الغاز الطبيعي من حقل "ظهر"
ضمن امتياز "شروق" الذي تديره مجموعة إيني الإيطالية. إن إنتاج
وتصدير الغاز من حقل "ظهر"
سيوقف تراجع إنتاج الغاز في مصر (-10% في العام الماضي) كما أنه سيتيح للبلاد
حصيلة من التصدير بالعملات الأجنبية.
- هناك مؤشرات على احتمال "عودة خجول" للسياحة في الأشهر المقبلة من
بعض البلدان. وإذا شجعنا ذلك،فإن مساهمة السياحة في تغذية الاحتياطي النقدي
الأجنبي ستزيد.
- وتتمثل القناة الرابعة للموارد الدولارية في حقيقة أن الأشخاص والشركات
الحائزين للدولار يحجمون عن بيع العملة الأجنبية في الوقت الحاضر نتظارا لوضوح
أكبر في السوق. وربما يؤدي موسم إجازات المغتربين إلى الضغط على هؤلاء من أجل بيع
ما في حوزتهم من النقد الأجنبي، بما يساعد على وقف موجة التصاعد في الأسعار.
إن تلك المصادر الأربعة التي أشرنا إليها هي ذات طبيعة مؤقتة قصيرة الأجل،
ولن يمكنها تغيير المسار في سوق العملات، لكن البنك المركزي يستطيع استخدامها مثل
ضمادات أو مثل كمادات باردة للحد من النزيف أو تخفيف درجة حرارة سوق العملات.
لكن سياسة البنك المركزي في الأجل القصير يجب أن تضع في اعتبارها خطورة
الآثار المترتبة على ارتفاع سعر الدولار والعمل على محاصرة هذه الآثار مبكرا وليس
الانتظار حتى تنفجر ثم التحرك وراءها. إن أحد أهم مقومات نجاح السياسة هي اتخاذ
القرارات الصحيحة في التوقيت الصحيح وتنفيذها بدقة وعناية. وإنني أحذر هنا من
انفجار معدل التضخم هذا الشهر والشهر التالي، ويجب على البنك المركزي من الآن أن
يعلن زيادة في أسعار الفائدة بقصد امتصاص السيولة من السوق. إن ارتفاع أسعار
الفائدة على أذون وسندات الخزانة إلى مايترواح بين 15% إلى 17% يستلزم التحرك
السريع لردم الفجوة بين أسعار الفائدة المحلية وأسعار الفائدة على قروض الحكومة.
وعلى البنك المركزي أن يحدد، سواء أعلن أو لم يعلن، مستوى لنسبة التضخم
المستهدف، وأن يظلل المنطقة بين أسعار الفائدة المحلية وبين معدل التضخم. وفي هذا
السياق فإننا يجب أن نعترف بأن "سياسة أسعار الفائدة السلبية" تمثل إحدى
كوارث السياسة النقدية. فليس من المعقول أن يكون معدل التضخم فوق 10% سنويا في حين
تكون أسعار الفائدة أقل من ذلك. إن ما قام به البنك المركزي من اصدار أوعية ادخارية مميزة بسعر فائدة 12.5% أدى فعليا إلى
المزيد من تشويه هيكل أسعار الفائدة في مصر ولم يسهم في إقامة هيكل متناسق لأسعار
الفائدة. أسعار الفائدة على الجنيه يجب أن تكون إيجابية ويجب أن تكون منسقة وبعيدة
عن التمييز بين البنوك.
وفيما يتعلق بالتجارة فإن اتخاذ إجراءات إدارية تقضي بوقف استيراد سلع
معينة أو بفرض قيود استيرادية إدارية ونقدية ليس هو الحل. الحل هو اتخاذ إجراءات
اقتصادية مثل زيادة ضريبة القيمة المضافة على سلع معينة، أو فرض زيادات مؤقتة على الرسوم
الجمركية أو فرض رسوم إضافية على خدمات الاستيراد التي تقدمها الدولة في الموانئ
والجمارك بصورة مؤقتة على مجموعات معينة من السلع التي تعتقد الحكومة إنها تؤثر
سلبا على الاستقرار الاقتصادي. لقد انتهى زمان التحكم في التجارة بقرارات إدارية.
هناك إذا مساحة من الأمل في الأجل القصير، لكن علاج علة الجنيه تتجاوز حدود
السياسة الاقتصادية بكثير. علة الجنيه دخلت بقوة إلى "دائرة السياسة"
بعيدا عن الاقتصاد. فنبحث معا عن حل سياسي لأزمة الجنيه.