غرور القوة ومصادر الضعف: احتمالات التدخل السعودي في سوريا
لن يستطيع أحد، ما لم تتدخل الولايات المتحدة، ولن تتدخل، وقف تقدم قوات الجيش السوري إلى حلب والسيطرة عليها. فالأسد يحارب وسط جبهة تضم الروس في الجو والبحر، والإيرانيين وحزب اللـه على الأرض، في مقابل قوى متخلفة مفككة متنازعة وعاجزة. لكن انتصار الأسد وحلفائه في معركة حلب لن يكتب نهاية الحرب في سورية، فالحرب في سورية مقدر لها أن تستمر، وأن تتحول إلى حرب استنزاف طويلة المدى للقوى المشاركة فيها. الحرب السورية هي قلب "حرب الثلاثين عاما العربية" التي بدأت، ولكن خطوط نهايتها أبعد كثيرا عما نشاهده الآن. ولا تزال هناك فصول لم تبدأ بعد، مثل الفصل السوداني رغم كل ارهاصاته الحالية في دارفور وكردفان والنوبة ناهيك عن الاستعدادات السودانية الجارية لتجهيز مسرح الصراع ضد مصر. الحرب السورية تتوسع من شرق البحر المتوسط إلى سواحل ليبيا وإلى البحر الأحمر ومضيق باب المندب. حروب سوريا واليمن وليبيا ليست حروبا قائمة بذاتها، ولكنها حروب متشابكة ومعقدة.
لكن ما يميز الحرب الدائرة في سوريا حاليا هو أنها قد استوفت تقريبا كل شروط الحرب العالمية، بحضور كل القوى الكبرى، وكل الفرقاء الإقليميين في ساحة القتال، وعجز الأمم المتحدة والنظام الدولي القائم عن احتوائها. إنها الحرب التي تسعى فيها روسيا إلى تأكيد جدارتها بخلافة الاتحاد السوفيتي ووراثة دوره حتى وإن اختلف الزمن. إنها الحرب التي تسعى فيها إيران إلى تأكيد أحقيتها بقيادة الشرق الأوسط وامتلاك حق الفيتو في تقرير مصيره ووضع الدعائم الكفيلة بفتح ممر واسع وآمن وتحت السيطرة لنفوذها ومصالحها من أراضي فارس إلى مياه البحر المتوسط الدافئة، بكل ما يعنيه ذلك من دلالات حضارية واستراتيجية. إنها الحرب التي تريد فيها "القوى السياسية الشيعية" أن تثبت أنها الوجه المتقدم والمسالم للإسلام والمسلمين في عالم إسلامي تحاول السيطرة عليه "القوى السياسية السنية" متمثلة في السعودية في العقود الأخيرة. إنها الحرب التي يراد لها أن تطلق كل الصراعات في منطقة خضعت لحالة من الجمود السياسي والركود، وأن تكسر كل القيود التي كانت تعترض طريق انفجار الصراعات.
وفي مقابل وحدة المصالح الإيرانية- الروسية في ضمان الوصول إلى مياه البحر الأبيض المتوسط الدافئة، بما يتيحه ذلك من إمكانات لممارسة دور حضاري وتاريخي أكبر وأقوى، تبدو المصالح في الناحية الأخرى مفككة ومهشمة.
في هذا المقال سنحاول تفسير الدعوة السعودية إلى التدخل البري في سوريا من أجل اقتلاع بشار الأسد من كرسي الحكم في دمشق ودلالات هذه الدعوة التي أثارت كثيرا من الجدل في الأيام الأخيرة. وتثير الدعوة السعودية إلى التدخل البري في سوريا عددا كبيرا من علامات الإستفهام، عن مضمون الدعوة، وعن قدرة السعودية على التمدد العسكري إلى المنامة وعدن وصنعاء وإلى دمشق وحلب، وهي الدولة التي لم تحارب في تاريخها قط، ولم تنتظم في معركة تحت قيادة سعودية إلا في الحرب الأخيرة الجارية حاليا ضد المتمردين الحوثيين المتحالفين مع رئيس اليمن المعزول علي عبد اللـه صالح والتي أعلنتها السعودية في مارس الماضي. وبدلا من أن تقوم القيادة العسكرية السعودية بإعادة تقييم الأوضاع في اليمن مع اقتراب الذكرى الأولى لشن الحرب التي اعتقدت القيادة السعودية وهي تعلنها في مارس 2015 إنها ستستغرق عدة أسابيع، نجدها بدلا من ذلك تعلن بنفسها استعدادها لإرسال قوات برية إلى سوريا، لإسقاط بشار الأسد، وهو ما يعني التمدد العسكري في منطقة تمتد من عدن في الجنوب إلى حلب وإدلب في الشمال.
أولاً: تحالف عسكري أم مجرد تدخل سعودي؟
يلاحظ في الدعوة السعودية للتدخل البري في سوريا أنها صدرت غير ناضجة وغير مدروسة كما لو كانت ردا انفعاليا على تطورات الأحداث في غير مصلحة حلفاء السعودية العسكريين (مثل جبهة النصرة، وجبهة أحرار الشام وجماعة جيش الإسلام وغيرها من جماعات المرتزقة الإسلامية المتطرفة المسلحة). في البداية دعت السعودية إلى إقامة تحالف إسلامي عسكري مناهض للإرهاب تحت قيادة سعودية- تركية، لكن تركيا ترددت في أن تعلن أنها ستكون طرفا في القيادة. ثم أعلنت السعودية أن القوات ستكون لمكافحة الإرهاب والمحافظة على الأمن القومي للدول الأعضاء فيها، كما لو كان هذا التحالف هو "الصورة الإسلامية" من حلف شمال الأطلنطي. لكن الردود الباردة من الدول التي ظنت الرياض أنها ستقف بجانبها، ومنها تركيا والإمارات أدى إلى تغيير في الصيغة وفي النبرة. وكان رد السعودية هو أنها على استعداد لإرسال قوات خاصة برية إلى سوريا تعمل تحت قيادة التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية. لقد انزلقت الدعوة السعودية للتدخل البري في سوريا خلال أقل من إسبوع، من إعلان تشكيل قوة إسلامية مشتركة تحت قيادة الرياض وأنقرة إلى مجرد إرسال قوات خاصة سعودية برية تعمل تحت قيادة الولايات المتحدة في سوريا! الدولة الوحيدة التي بايعت الدعوة السعودية بدون قيد أو شرط كانت مملكة البحرين.
وتكشف السياسة الدفاعية السعودية عن تخبط عميق في التوجهات منذ قمة كامب ديفيد الأمريكية- الخليجية في مايو من العام الماضي. وقد ازدادت حدة هذا التخبط منذ منتصف شهر ديسمبر 2015 ، وبدا بعد ذلك أن وزير الدفاع السعودي الأمير محمد بن سلمان، ووزير الخارجية عادل الجبير يدفعان بقوة في اتجاه دفع السعودية إلى التمدد العسكري خارج حدودها لإثبات أنها القوة الجديرة بقيادة العالم الإسلامي في مواجهة إيران. ونظرا لتردد الموقف المصري حيال "نزعة التمدد العسكري السعودي"، فإن السعودية تعول كثيرا على أنقرة. لكن حسابات أنقرة تختلف كثيرا عن حسابات السعودية. وقد تلقت أنقرة نصائح قوية من حلفائها الغربيين، بما في ذلك قيادات أوربية وأمريكية بعدم التورط في صراع يبدو أنه صراع على النفوذ بين كل من السعودية وإيران.
ومع ذلك فسوف تحتاج تركيا إلى الدفاع عما تعتبره مصالحها الإستراتيجية في سوريا، بزعم الدفاع عن حقوق السوريين التركمان ومواجهة النزعة الاستقلالية لدى الأكراد، والعمل على تأكيد وجود دور رئيسي لها في تقرير مصير منطقة الشرق الأوسط.
ثانياً: ثقوب في المعسكر المعادي للأسد
إن المعسكر الذي يقف في مواجهة روسيا وإيران والأسد وحزب اللـه لا يضم على الأرض قوى شديدة الصلابة يصعب قهرها، وإنما يضم جماعات متناحرة تقف داعش منها في ناحية وجبهة النصرة والجماعات الأخرى المسلحة في ناحية أخرى. وبسبب المصالح المتضاربة بين هذه الجماعات، ومنها ما يعود بالأساس إلى الخلاف على تقسيم الإمدادات المالية والمادية التي تقدمها السعودية والولايات المتحدة، فإن هذه الجماعات قد تلقى المصير نفسه الذي لاقاه ما كان يسمى "الجيش العراقي الحر" الذي كانت القيادة العسكرية الأمريكية قد أسسته في شمال العراق تحت القيادة السياسية للمعارض العراقي أحمد الجلبي في منتصف تسعينيات القرن الماضي، وفشل في تحقيق أي مكاسب على الأرض، مما اضطر الولايات المتحدة إلى التدخل المباشر مع حلفائها لإسقاط صدام حسين عام 2003.
إن التغير في موازين القوى على الأرض من المرجح أن يؤدي إلى تغيير في الإستراتيجية الأمريكية في سوريا، وقد يتضمن ذلك تفاهما ثلاثيا بين الولايات المتحدة وروسيا وإيران على حساب السعودية وحلفائها. ومن المعروف أن إرسال قوات روسية إلى سوريا بما في ذلك إقامة قاعدة جوية وشبكة دفاع جوي متطورة، تم بتفاهم بين واشنطن وموسكو. وقد كشف السفير الروسي في القاهرة في 8 فبراير عن أن موسكو لا تتعامل لا مع حلف الأطلنطي ولا مع تركيا فيما يتعلق بالطلعات الجوية في سوريا، وإنما تتعامل فقط مع واشنطن في هذا الخصوص. وهذا يعني تقليل شأن تركيا فيما يتعلق بالاحتجاجات التي تقدمها بخصوص انتهاك الطائرات الروسية للمجال الجوي التركي. ومن الواضح أنه إذا كانت هناك انتهاكات من هذا النوع فإنها تتم فعلا بالتنسيق بين موسكو وبين واشنطن.
الدعوة السعودية إلى التدخل البري في سوريا تسير إذن في عكس اتجاه الأحداث. ومع ذلك فإنه من الضروري أن نقرر هنا أن دوائر سياسية عديدة في العالم، بما في ذلك تجار السلاح سوف تتعاظم مصالحها ومكاسبها في حال إرسال قوات برية سعودية إلى سوريا. الأهم من ذلك أن المؤسسة الدينية الوهابية هي أكبر المناصرين للتدخل العسكري البري السعودي في سورية، وهي تعد فعلا عشرات الآلاف من المتطوعين السعوديين والمرتزقة من كل أنحاء العالم الإسلامي، لخوض حرب مقدسة في سوريا، في تكرار للمشهد المأساوي الذي حدث في ثمانينات القرن الماضي، ولا يزال العالم يدفع ثمنه حتى الآن، حين بدأت عمليات التعبئة للحرب المقدسة ضد الروس في أفغانستان، وهي الحرب التي انتهت بهزيمة الروس فعلا وبتأسيس تنظيم القاعدة. هذه المرة ستكون لدينا أفغانستان طويلة زمنيا وقريبة جغرافيا في سوريا، يقف فيها المرتزقة المتاجرين باسم الدين في جانب، بينما تقف القوى الطامعة الأجنبية في الجانب الآخر.
إن أحد وجوه المأساة الحالية في سورية تتمثل في أن معسكر السعودية وحلفاءها لا يرى أبعد من هدف إسقاط بشار الأسد. لكن حمى السعي لإسقاط الأسد تخفي وراءها رغبة جامحة في إقامة نظام ديني متطرف يكون قاعدة للمزيد من عدم الإستقرار في منطقة تعاني أصلا من انفجار كل عوامل عدم الاستقرار. ولكي نرى الصورة على حقيقتها، فما علينا إلا أن نتصور نظاما تتصارع فيه "النصرة" ضد "داعش"، وتتمزق فيه سوريا بينهما، حين تحاول كل منهما تقديم نسخة من الإسلام الذي تفهمه في صورة دولة أو دويلة تقدم النموذج السلفي السياسي للمسلمين في العالم من أجل الاقتداء به. إن شعار إسقاط الأسد الآن يخفي وراءه الكثير مما لايمكن لأصحابه قوله أو التصريح به. وإذا صدقوا فليصرحوا للسوريين بالحقيقة، وليعلنوا أي نظام سيقيمون، وأي بنيان سيرفعون قواعده في سورية بعد إسقاط الأسد.
ثالثاً: غرور القوة ومصادر الضعف
من المدهش أن محاولة التمدد العسكري السعودي التي تشتد بصخب التصريحات تجئ بعد سلسلة من وقائع الفشل الإستراتيجي لبناء تحالف عسكري بقيادة السعودية. في البداية فشلت محاولة إنشاء قوة عربية مشتركة، وأحيل الموضوع إلى التقاعد في أروقة جامعة الدول العربية. ثم جاءت واقعة فشل إنشاء تحالف إسلامي لمكافحة الإرهاب بعد أن تنصلت تركيا من المشاركة في قيادته واعترضت الإمارات على تلك القيادة. وبذلك فقد انحدرت المحاولة الآن إلى مجرد إرسال "قوات خاصة سعودية" للمشاركة في العمليات الدائرة في سوريا تحت قيادة الولايات المتحدة وليس تحت قيادة السعودية أو تركيا. وبذلك فإن مناورات "رعد الشمال" في حفر الباطن (فبراير 2016) فقدت محتواها إلا من حيث رفع مستوى معيشة الضباط والقوات غير السعودية المشاركة في المناورات التي تضم 7 جيوش عربية وإسلامية إلى جانب المملكة العربية السعودية منها تركيا ومصر والأردن وباكستان. ومن المثير للسخرية أن التمرين العسكري المشترك "رعد الشمال" وضعت له القيادة العسكرية السعودية أهدافا إستراتيجية تقترب من الأهداف الإستراتيجية لحلف شمال الأطلنطي أو تتفوق عليها!
ومن المثير للدهشة أيضا أن الدعوة إلى التمدد العسكري السعودي من اليمن إلى البحرين إلى سوريا تجيء في وقت فقدت فيه المملكة العربية السعودية الكثير من مقومات قوتها الاقتصادية. وعلى الرغم من أن بعض المحللين، خصوصا في الولايات المتحدة يهولون من تأثير انخفاض أسعار النفط على السعودية، فإنه يجب الاعتراف بأن السعودية ليست في أحسن أوضاعها الاقتصادية. فبسبب انهيار أسعار النفط في الأسواق العالمية تدهورت إيرادات السعودية من تصدير النفط الخام إلى ما يقرب من 25% فقط مما كانت عليه في النصف الأول من عام 2014. وترافق هذا التدهور مع زيادة الأعباء العسكرية للحرب في اليمن مما أدى إلى زيادة السحب من الاحتياطي المالي الخارجي بقيمة 100 مليار دولار تقريبا خلال العام الماضي.
إن صعوبة عودة أسعار النفط إلى ما كانت عليه قبل يونيو 2014 تتزايد مع تعاظم تأثير اتفاقية باريس العالمية بشأن المناخ والمحافظة على البيئة وفرض قيود على الانبعاثات الكربونية. ومن المرجح أن تلجأ حكومات الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي إلى زيادة الضرائب على الانبعاثات الكربونية بما يشكل رادعا يمنع العودة إلى التوسع في استخدام النفط مع انخفاض أسعاره في السوق. وسوف تلعب ضريبة الكربون دورا حاسما في التأثير على سوق النفط بما يبقي أسعار النفط غالبا عند مستويات منخفضة. بمعنى آخر فإن الثروة الرئيسية للملكة العربية السعودية ستتحول خلال العقود المقبلة إلى "مورد احتياطي غير مرغوب فيه"! وهذا ما دعا السعودية إلى تعويم فكرة خصخصة القطاع النفطي بما في ذلك عملاق النفط العالمي المتمثل في شركة آرامكو السعودية والشركات الفرعية التابعة لها.
إن هذه المفارقة بين تردي قيمة الموارد النفطية وبين الرغبة في التمدد العسكري بما ينطوي عليه من زيادة الإنفاق تعكس أزمة سياسية واجتماعية حادة في السعودية. ويقف على رأس هذه الأزمة الأمير محمد بن سلمان الذي يسعى لتأكيد انفراده بالسلطة في السعودية على حساب جميع خصومه داخل العائلة الحاكمة وخارجها في آن واحد. وربما يوجد في السعودية وفي داخل الديوان الملكي من ينصح الأمير الشاب بأن "الحرب هي أفضل أسلحة التعبئة" فهي من ناحية سوف تستوعب عشرات الآلاف من الشباب العاطلين الذين ستغريهم التعويضات المالية في مقابل القتال في سوريا أو اليمن أو البحرين، وبذلك يتحول هؤلاء الشباب إلى قوة مساندة للأمير، خصوصا وأن من سيتولى عمليات التعبئة من الناحية الإيديولوجية هي المؤسسة الدينية الوهابية.وطبقا لنصيحة بهذا المعني فإن التمدد العسكري خارج الحدود سيضمن للأمير محمد بن سلمان ولاء المؤسسة الدينية الوهابية المتشددة ويبعد عنه خطر تمرد الشباب الذي يشعر بالغبن والتهميش، بما في ذلك شباب القبائل بطابعه التقليدي المتحفظ.
رابعاً: مزيد من التعقيدات في الطريق
إن رغبة السعودية في إرسال قوات خاصة إلى سوريا تصطدم أولا بعدد من العقبات اللوجيستية أولها كيفية الدخول إلى سورية، وهل سيكون ذلك بواسطة إنزال جوي، أو اقتحام بري من الأراضي التركية، وذلك مع استبعاد الممر الأردني الذي يمكن أن تصطدم فيه القوات الخاصة البرية السعودية بعقبات قد تؤدي إلى فناء مثل هذه القوات قبل أن تصل إلى ساحة العمليات في حلب. الأخطر، أن تتأخر الخطوة السعودية حتى تنتهي عمليات حلب بانتصار قوات الأسد، وبذلك لا يصبح إرسال قوات براية سعودية إلى سوريا إلا مجرد خطوة كمية غير نوعية وتكون القوة الخاصة السعودية مثلها مثل أي فصيل تموله وتدربه وتسلحه المملكة العربية السعودية في سورية. ويتضح كل يوم أن الدعوة السعودية إلى التدخل البري في سوريا لم تكن مدروسة ولم تكن ناضجة، ومن الصعب إنضاجها وهي مكشوفة تتنازعها توجهات متضاربة من أطراف تختلف مع بعضها بعضا في المصالح.
ولا يتوقف الصراع في سوريا على مجرد الإطاحة بالأسد أو المحافظة عليه. فالصراع في سورية يشتبك اشتباكا عضويا بحلم إقامة دولة كردية تمتد من شمال غرب إيران إلى جنوب تركيا. وقد استطاع الأكراد منذ عام 1990 إقامة تحالف دائم ومستقر مع الولايات المتحدة الأمريكية، لم يختلف عليه القادة الأكراد السياسيون أو القبليون، على الرغم من اختلافهم في موضوعات شتى. وفي الوقت الحالي تعمل روسيا على كسب ولاء الأكراد السوريين والعراقيين في آن واحد، وذلك في مسعى للحد من نفوذ تركيا في سورية وتقليص وجودها هناك والحد من إمكانات توسعها أو بناء تحالفات مع قوى محلية سوريا باستثناء التركمان. ويرى الأكراد حلمهم يقترب كلما زادت فرص بقاء الأسد في إطار صفقة مع الروس، على عكس ما كان الحال في العراق عندما كان حلمهم يقترب فقط في حال التخلص من صدام حسين في إطار صفقة مع الولايات المتحدة. ويرتبط ذلك مباشرة بضرورة التخلص من نفوذ داعش والقوى الدينية المسلحة المتطرفة المعادية للاستقلال الكردي.
ومن هنا فإن التدخل البري السعودي في سوريا سيصطدم أيضا بعقبة الأكراد الذين لا يجدون لهم مصلحة في التحالف مع حلفاء تركيا وهي العدو الرئيسي لهم في سوريا وليس بشار الأسد. إن وجود قوات برية سعودية في سوريا سوف يستفز المقاومة الكردية ضد الوجود العسكري السعودي الذي سيميل بطبيعة الحال إلى تعزيز نفوذ جبهة النصرة وجماعات عسكرية ومدنية أخرى ترعاها السعودية. لكن الأكراد الذين يتميزون بشدة الحرص في عملياتهم العسكرية لن ينجروا إلى معارك مباشرة ضد السعوديين ما لم يمثل السعوديون تهديدا مباشرا لهم.
الأهم من ذلك كله أن ذهاب قوة برية سعودية إلى سوريا، سيجعل هذه القوة فريسة مثالية سهلة للحرس الثوري الإيراني وقوات حزب اللـه وقوات بشار الأسد. فبينما ستعاني القوات السعودية من ضعف وطول خطوط الإمدادات، فإن القوات الحليفة لإيران أو القوات السورية والإيرانية ستتمتع بمميزات قصر خطوط الإمدادات وأمانها وقرب القيادة وسهولة الاتصال بين المراكز القيادية وبين القيادات العملياتية على الأرض.
وفوق ذلك كله، كما قلت في بداية هذا المقال إن الحرب في سوريا ليست حربا سورية خالصة تتعلق بإسقاط الأسد، وليست حربا إقليمية خالصة تتعلق بصراع النفوذ بين السعودية وإيران وتركيا. إنها حرب عالمية بالمعنى الكامل تتعلق بتوازن القوى العالمي بعد نهاية الحرب الباردة، وهو التوازن الذي لم يتم حسمه حتى الآن بين اتجاهين متصارعين، اتجاه سيطرة القطب الواحد وهو الولايات المتحدة تحت مظلة عسكرية أوسع نطاقا تتمثل في حلف الأطلنطي، واتجاه إدارة العالم بواسطة تعددية قطبية تشارك فيها بقدر متماثل تقريبا قوى قديمة مثل روسيا والصين وقوى صاعدة مثل إيران. الحرب السورية معقدة، متشابكة، مؤلمة وطويلة، وهي ليست ساحة لاختبار القوة السعودية، لأن إيران تنتظرها هناك.