المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

الدور المنتظر: كيف يواجه البرلمان المشكلات الاجتماعية التي تعاني منها مصر؟ (1-3)

الأربعاء 03/فبراير/2016 - 02:22 م
المركز العربي للبحوث والدراسات
د.أحمد موسى بدوي

فأل حسن، أن تكتب مواد الدستور الجديد بوعي وحس عميقين بأبعاد العدالة الاجتماعية، والمجتمع المصري يترقب في قلق وينتظر من البرلمان والحكومة  تفعيل  هذه النصوص في صورة قوانين وبرامج وسياسات، تؤدي إلى حلول ناجزة للمشكلات الاجتماعية الخطيرة التي يعاني منها المجتمع المصري. هي حرب صعبة بالتأكيد، تستوجب تضافر كل الجهود لخوض معارك جانبية ضد الفساد والبيروقراطية وعجز الموارد وسوء توزيعها. وفي هذا المقال  نقدم مقاربة نظرية سوسيولوجية للمشكلات الاجتماعية، نتبعها بمقالين لوصف وتحليل المشكلات التي يعاني منها المجتمع المصري، وكيف يمكن أن يتصدى البرلمان لهذه المشكلات في الفترة القادمة.

أولاً: تاريخ المشكلات الاجتماعية الحديثة

من البدهي أن يختص علم الاجتماع بدراسة المشكلات الاجتماعية التي صاحبت انتقال المجتمع الإقطاعي إلى الرأسمالي، في أواخر القرن الثامن عشر، لدرجة أن بعضا من العلماء يعرفون علم الاجتماع، بأنه علم دراسة المشكلات الاجتماعية. ومن المعلوم أن نشأة هذا العلم كانت إصلاحية محافظة تسعى إلى تدعيم أركان المجتمع الرأسمالي الصاعد في أوربا في ذلك الوقت، بعد أن تأكد بفعل الثورة الصناعية أن مجتمعا جديدا قيد التَشكُل، تقوده الطبقة البرجوازية من أصحاب المؤسسات الصناعية والتجارية والمصرفية، وطبقة العمال التي تكونت من سكان المدن والنازحين من الأرياف بحثا عن فرص العمل التي وفرتها المصانع. كان العمل في تلك الفترة يتم تحت ظروف قاسية، للحصول على أقصى فائض لقيمة العمل، وتعرض العمال من الرجال، والنساء، والأطفال، لكل أنواع الاستغلال من أصحاب المصانع، ما أدى إلى ولادة ظواهر ومشكلات اجتماعية جديدة لم تكن موجودة من قبل.

في هذا السياق الذي تتغير فيه مفردات الحياة بشكل ثوري، تظهر مشكلات جديدة لم يعرفها الإنسان من قبل، يظهر علم الاجتماع إلى الوجود، في محاولة، لتشخيص الظواهر الجديدة المرتبطة بالعمل، ونشأة المدن الصناعية والهجرة إليها، وانتشار الأمراض الاجتماعية، كالعنف، والفردية، والجرائم، والإدمان، والتشرد، إلى غير ذلك من ظواهر أصبحت معضلات تحتاج إلى دراسة مستقلة.

 

ثانياً: تيارات في مقاربة المشكلات الاجتماعية

لم تكن نشأة علم الاجتماع مرهونة فقط بالتطور الرأسمالي والصناعي، وظهور المشكلات الاجتماعية، وإنما ارتبط كذلك بالجدل والنقاش الفلسفي والسياسي السائد الداعي إلى عقد اجتماعي جديد يحدد العلاقة بين المجتمع والدولة بعد زوال المجتمع الإقطاعي. ذلك الجدل الذي أنتج تيارين متعارضين تجاه الحداثة. ورث علم الاجتماع منذ نشأته هذا التناقض، فجسدت الأعمال الأولى في السوسيولوجيا وجهة نظر هذين التيارين: الأول يذهب إلى  أن التحولات البنيوية العميقة، تصب في صالح أفراد المجتمع، وتؤدي إلى تطور وتقدم المجتمعات، وأنه من الضروري المحافظة على هذه الاتجاه التطوري، والعمل على ضبط المشكلات الاجتماعية التي تحول دون التقدم.

لم تكن نشأة علم الاجتماع مرهونة بظهور المشكلات الاجتماعية، وإنما ارتبط بالجدل الداعي إلى عقد اجتماعي جديد يحدد العلاقة بين المجتمع والدولة بعد زوال المجتمع الإقطاعي

أما التيار الثاني، فقد اتخذ من الإنسان المقهور موضوعًا له، مركزًا على آليات الاستغلال التي تمارسها الطبقة البورجوازية الجديدة على بقية فئات المجتمع من العمال والفلاحين والمهمشين. داعيا إلى الثورة على النخبة السياسية والاقتصادية الجديدة. بطبيعة الحال، كلا التيارين المحافظ والراديكالي، ينطلقان من الإقرار بوجود مشكلات اجتماعية كبيرة، ثم يفترقان في سبل حل هذه المشكلات.

وكلا التيارين عجزا عن تقديم تشخيص أو مبادرات أو برامج ناجزة لحل المشكلات الاجتماعية التي تضرب كبد المجتمع الأوربي. ودخل العالم في أجواء حربين عالميتين، ولم تكد تنتهي سنوات إعمار أوربا حتى ظهر على سطح الحياة الاجتماعية، ذات المشكلات والأمراض الاجتماعية، وازدادت عمقا بسبب جملة من التحولات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية، وفي هذا السياق التاريخي، يولد تيار ثالث لمعالجة المشكلات الاجتماعية، ضمن مشروع علمي واسع النطاق، وهو التيار النقدي، الذي قدم رؤية مغايرة لكلا التيارين المحافظ والراديكالي.

ثالثاً: في تعريف المشكلة الاجتماعية

بداية لابد من التأكيد على بعض الاعتبارات المهمة لفهم المشكلة الاجتماعية، (1) فكل مشكلة اجتماعية مهما صغر حجمها، تؤدي إلى عواقب ضارة بالمجتمع، ومن الممكن أن يتولد عنها مشكلات فرعية جديدة.(2) وأن معظمها ينشأ نتيجة متغيرات مستقلة مشتركة ومتشابهة، سواء كانت  سياسية أو اقتصادية أو ثقافية. (3) ويترتب على الاعتبار السابق، وجود تداخل وتشابك بين هذه المشكلات، فتبدو وكأنها ضفيرة أو حزمة واحدة. ما يستلزم الوعي التام  بترتيب الأولويات عند تنفيذ برامج وسياسات حل هذه المشكلات. فلا يمكن فصل مشكلة التسرب من التعليم، عن الفقر، وعن تدهور النظام الصحي، كما لا يمكن فصل ظواهر التشرد أو العنف أو الانحراف أو التطرف عن المشكلات المذكورة. أي أنه لا جدوى من التفكير في حلول جزئية لمشكلة ترتبط عضويا بمشكلات أخرى. (4) مما سبق يصبح السؤال الأول والأصعب لصانع القرار: ما العلاقة التي تربط المشكلات ببعضها، ومن أين يبدأ الحل؟ (5) الاعتبار الأخير في ضرورة الوعي بأن النهج الأمثل لحل أي مشكلة اجتماعية يرتبط بقدرة قطاعات المجتمع على تحمل المسئولية المشتركة تجاه القضاء عليها.

إن تعريف المشكلة الاجتماعية أنها: عائق أو قيد بنيوي يجسد أزمة، تنشأ من عدم قدرة أو عدم رغبة النظام السياسي في تلبية الاحتياجات الكاملة لكل أفراد المجتمع

على أية حال، فإن تراث العلوم الاجتماعية، يزخر بمقاربات نظرية عديدة لدراسة المشكلات الاجتماعية، ولكننا في هذا المقال سوف نلقي الضوء على مقاربة توفر غطاء نظريًا واسعا لدراسة المشكلات الاجتماعية، مستفيدين من واحدة من النظريات السيكولوجية الشهيرة، وهي نظرية  الدافعية الإنسانيةHuman motivation  التي قدمها عالم النفس الأمريكي، إبراهام ماسلو (1908-1970) حيث يفترض أن الإنسان في سعي دائم طوال حياته لإشباع مجموعة من الحاجات المتراتبة المتصاعدة هرميا، وحين ينجح في الحصول على احتياجاته الأساسية، ينتقل تلقائيا إلى إشباع حاجات أعلى. صنف ماسلو هرم الاحتياجات، بدءًا من الحاجات الفسيولوجية (المأكل والمشرب، وغيرها من الحاجات البيولوجية التي تضمن وجود الإنسان)، ثم الحاجة للأمن (الصحة الجسدية، وجود وظيفة، أو مصدر دخل، ظهير اجتماعي، الخ) ثم الحاجات الاجتماعية (الحب والانتماء وحاجة الاندماج في عضوية جماعة اجتماعية صغيرة أو كبيرة)، ثم حاجات تقدير الذات (السعي الدائم للإنجاز لكسب احترام الآخرين، واكتساب الثقة. وفي القمة توجد الحاجة لتحقيق الذات، بمعنى الرغبة في الابتكار وحل المشكلات والتعامل مع الحقائق، والقدرة على تقبل الآخر، والإحساس بالجمال والسعي الدائم للمعرفة.

لدينا الآن قائمة بالحاجات التي يسعى أي إنسان لتحقيقها، ولو بدرجات وطموحات متفاوتة. فإذا توافرت الظروف للفرد، ولم يحقق الإشباع في هذه الحاجات، تصبح المشكلة فردية الطابع،  محل دراستها علم النفس بفروعه. أما إذا تضافرت الظروف الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية على إضعاف أو كبح طموحات (أفراد أو جماعات) عن إشباع حاجاتهم المتنوعة، فإننا نكون أمام مشكلة اجتماعية بامتياز. يُسْأل عنها النظام الاجتماعي والسياسي القائم. وعليه فإن تعريف المشكلة الاجتماعية بالاستفادة من نظرية ماسلو: عائق أو قيد بنيوي يجسد أزمة حضارية، أو سياسية أو اقتصادية أو ثقافية أو اجتماعية،  يحول دون اندماج جماعة من الناس في المجتمع اندماجا طبيعيا، أو يحرمهم من التمتع بحياة اجتماعية سوية، تنشأ من عدم قدرة أو عدم رغبة النظام السياسي القائم في تلبية الاحتياجات الكاملة والمتنوعة لكل أفراد المجتمع.

وعليه فإن المشكلة الاجتماعية يمكن أن تصنف وتنقسم بحسب العجز أو عدم القدرة أو عدم الرغبة في تحقيق احتياجات المواطنين المختلفة، فالمجاعة ونقص الغذاء وعدم توفر مياه الشرب الصالحة، وتدني الرعاية الصحية، وانتشار المساكن العشوائية، وتدهور العملية التعليمية، انتهاك حقوق الأطفال والمرأة وكبار السن، والأقليات، والفساد والمحسوبيات، والتمييز العنصري أو الديني أو الطائفي أو الجهوي، وعدم المساواة والاحتقار أو الاستبعاد الاجتماعي، وحتى إهمال المعايير الموضوعية للحكم على الكفاءات والمهارات في العلوم والآداب والفنون، كلها يمكن أن تندرج ضمن قائمة طويلة من المشكلات الاجتماعية التي يعاني أي مجتمع بدرجات متفاوتة.

تتبنى بعض النظم الليبرالية الجديدة سياسيات اقتصادية، تدفع نحو المزيد من عدم المساواة، معتبرةً أن النمو الاقتصادي طويل الأجل يتعارض مع العدالة في توزيع الدخل القومي

مع الانتباه إلى أننا ذكرنا في التعريف على أن بعض النظم السياسية تكون عاجزة عن حل المشكلات الاجتماعية، وبعضها لا ترغب في حل هذه المشكلات، والدولة المصرية تقع في الطائفة الأولى، العاجزة نسبيا عن تلبية احتياجات مواطنيها، ربما بسبب الفساد بكل أنواعه، أو عجز الموارد، أو التخلف البيروقراطي الذي يؤدي إلى هدر هذه الموارد وعدم الاستفادة المثلى منها.

أما الطائفة الثانية، فلدينا العديد من الأمثلة والشواهد على وجود نظم سياسية، في منطقة الشرق الأوسط، لا ترغب في مواجهة المشكلات الاجتماعية التي تضر ببعض الفئات داخل مجتمعاتها، وتتعمد تهميش واستبعاد جماعات عرقية أو دينية أو طائفية أو حتى جهوية،  بضغط من الإرث الثقافي والتاريخ المشترك لجماعة الأغلبية، وليس بسبب الضغوط الاقتصادية.

وفي أماكن أخرى من العالم المتقدم، تتبنى بعض النظم الليبرالية الجديدة سياسيات اقتصادية، تدفع نحو المزيد من عدم المساواة، معتبرةً أن النمو الاقتصادي طويل الأجل يتعارض مع العدالة في توزيع الدخل القومي، على معنى أن النظم السياسية تجبر الشعوب على الاختيار بين  النمو أو العدالة، وتحرص الأحزاب الحاكمة التي تتبنى هذا التوجه على خفض الضرائب على الثروة والدخول العالية، ما يحرم قطاعات كبيرة من الفقراء من تلبية احتياجاتهم المتنوعة، ويؤدي إلى تفاقم أزمات اجتماعية، على مثال المشكلات الاجتماعية التي يعاني منها السود في أمريكا، والمهاجرين العرب في أوربا. في المقال التالي نركز على توصيف المشكلات الاجتماعية التي يعاني منها المجتمع المصري، بناء على المؤشرات الكمية والشواهد الكيفية المتاحة.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟