الإخضاع الرمزي : الرموز الانتخابية..الدولة والأميون
الأربعاء 30/سبتمبر/2015 - 10:06 ص
د. محمود أحمد عبد الله
بحسب بعض المصادر الصحفية، حددت الدائرة الأولى بمحكمة القضاء الإداري، بمجلس الدولة لنظر أولى جلسات الدعوى المقامة من أحد المحامين التي يطالب من خلالها بتبديل الرموز الانتخابية المطروحة واختيار رموز أخرى تليق بهيبة مرشحي البرلمان، بحيث لا يتعرض المرشح للتهكم والسخرية من الرمز الذي يتم إلصاقه به. واختصمت الدعوى رئيس اللجنة العليا للانتخابات بصفته، حيث طالبت بإلغاء كل الرموز والاكتفاء بصورة المرشح، ووضعها على بطاقة الانتخاب أفضل وأوقع، فهي تعتبر واضحة للأميين قبل المتعلم عند اختيار مرشحه الذي يريد أن يمثله في البرلمان. ولفتت الدعوى النظر إلى أن الغرض الجوهري من وضع تلك الرموز هو تعريف الأميين الذين يجهلون القراءة والكتابة، وإعطاء مرشحيهم رموزا يسهل عليهم معرفتها لاختيار مرشحيهم، مضيفة أن الرموز جاءت غامضة، واستشهد المحامي برمز الوشاح وقطرة المياه وصنبور مياه والمنقلة والمنطاد ومروحة اليد والطبق الطائر ورأس حورس، إلى جانب رموز كثيرة قد تبعث على السخرية والاستهانة بالمرشح ومنها الشاكوش والمفك ولمبة الجاز وثمرة الموز والستارة والمنشار والشنيور والدومينو والملعقة، إضافة إلى بعض الرموز التي لا تصلح بأي حال أن تكون رموزا انتخابية وفقا للمدعى مثل تمثال نهضة مصر والمتحف المصري والسكة الحديد وإطار السيارة.
إن هذه الدعوى هي مثال جيد على حالة السخط التي تنتاب المرشحين من جراء استخدام الرموز الانتخابية. ولعلهم في المجمل يتعللون بعدة علل تشكك في جدوى هذه الرموز، أولاها الاستخدام السياسي للرموز حيث يمكن أن تستغل الرموز لازدراء المعارضة، عبر منح أفرادها رموزا مهينة في معناها الشعبي، أو بغرض التمييز بين المعارضة والمستقلين، بحيث تبدو الأحزاب برمتها أهم من المستقلين، أو الإيحاء بقوة الأحزاب القديمة في مقابل الأحزاب الجديدة الشابة. وثانيها أن بعض الرموز ليست ذات صلة بالبيئة المحلية المصرية بوجه عام، وبالبيئة المحلية في بعض المناطق، كاستخدام الرموز التكنولوجية الحديثة، وهو ما يشكك في الهدف من استخدامها. فإذا كانت هذه الرموز قد صنعت خصيصا للمواطن الأمي، فإن اختيارها على هذا النحو يوحي بأن توزيعها لا يراعي الخصوصية الثقافية لمرشحي المناطق الريفية. ومن جهة ثالثة، فإن الرموز ليس لها دلالة واحدة، فقد تحمل معنى الاستهجان لدى طبقة أو فئة اجتماعية، وقد تدل على النقيض لدى طبقة أو فئة أخرى. فالرمز الواحد حمال أوجه بحسب المعارف التي يمتلكها الناخبون، وبحسب الثقافة المحلية التي يتشبعون بدلالاتها ومعانيها. فالقلم لدى المتعلمين رمز له قيمته وأهميته، بينما لدى غير المتعلمين فقد يكون دالا على سلطة رمزية، سلطة موظفي الحكومة الحاملين للأقلام التي قد تزج بأحدهم إلى السجن مثلا. كذلك فإن حصول مرشح على رمز فرعوني كرأس الملكة نفرتاري له دلالته لدى المتعلمات من النساء، بينما يحمل ذلك الرأس لغير المتعلمات استهزاء بمرشح قريتهن. ويمكن في هذا المقام أن ندرك أن شبكة المعاني المتعددة التي يحملها الرمز الانتخابي إنما تعني أن ثمة تراسلا ضمنيا بين الإدارة الانتخابية والناخبين، تراسلا يحمل معاني الترجيح لأحد المرشحين، أو التوبيخ لآخر، أو التجريح، أو التبخيس، لتوجيه المرشحين بالاتجاه المراد من جهة الإدارة. فمثلا عند إعطاء رمز "الميكروويف" لمرشح متقدم من منطقة ريفية، هو في الواقع توجيه رسالة ضمنية لمرشحيه بأن المرشح المذكور لا يحمل طموحاتكم بل طموحات ملاك الميكروويف، أو أن تقوم الإدارة بمنح المرشح رمز "المسدس"، للإيحاء بتطرف رؤية المتقدم للترشيح عن رؤية الدولة وممثليها للاعتدال. باختصار هذه العملية جزء من نسق الاتصال بين الدولة والمواطنين، وبالتحديد المواطنين الأميين الذين تمثل لهم الرموز أدوات أساسية للتفاهم والتواصل، ومن خلالها يدركون المقدس والمدنس، الصالح والطالح. هذا النسق يؤسس لما يمكن تسميته بـ"الإخضاع الرمزي".
إن هذه الدعوى هي مثال جيد على حالة السخط التي تنتاب المرشحين من جراء استخدام الرموز الانتخابية. ولعلهم في المجمل يتعللون بعدة علل تشكك في جدوى هذه الرموز، أولاها الاستخدام السياسي للرموز حيث يمكن أن تستغل الرموز لازدراء المعارضة، عبر منح أفرادها رموزا مهينة في معناها الشعبي، أو بغرض التمييز بين المعارضة والمستقلين، بحيث تبدو الأحزاب برمتها أهم من المستقلين، أو الإيحاء بقوة الأحزاب القديمة في مقابل الأحزاب الجديدة الشابة. وثانيها أن بعض الرموز ليست ذات صلة بالبيئة المحلية المصرية بوجه عام، وبالبيئة المحلية في بعض المناطق، كاستخدام الرموز التكنولوجية الحديثة، وهو ما يشكك في الهدف من استخدامها. فإذا كانت هذه الرموز قد صنعت خصيصا للمواطن الأمي، فإن اختيارها على هذا النحو يوحي بأن توزيعها لا يراعي الخصوصية الثقافية لمرشحي المناطق الريفية. ومن جهة ثالثة، فإن الرموز ليس لها دلالة واحدة، فقد تحمل معنى الاستهجان لدى طبقة أو فئة اجتماعية، وقد تدل على النقيض لدى طبقة أو فئة أخرى. فالرمز الواحد حمال أوجه بحسب المعارف التي يمتلكها الناخبون، وبحسب الثقافة المحلية التي يتشبعون بدلالاتها ومعانيها. فالقلم لدى المتعلمين رمز له قيمته وأهميته، بينما لدى غير المتعلمين فقد يكون دالا على سلطة رمزية، سلطة موظفي الحكومة الحاملين للأقلام التي قد تزج بأحدهم إلى السجن مثلا. كذلك فإن حصول مرشح على رمز فرعوني كرأس الملكة نفرتاري له دلالته لدى المتعلمات من النساء، بينما يحمل ذلك الرأس لغير المتعلمات استهزاء بمرشح قريتهن. ويمكن في هذا المقام أن ندرك أن شبكة المعاني المتعددة التي يحملها الرمز الانتخابي إنما تعني أن ثمة تراسلا ضمنيا بين الإدارة الانتخابية والناخبين، تراسلا يحمل معاني الترجيح لأحد المرشحين، أو التوبيخ لآخر، أو التجريح، أو التبخيس، لتوجيه المرشحين بالاتجاه المراد من جهة الإدارة. فمثلا عند إعطاء رمز "الميكروويف" لمرشح متقدم من منطقة ريفية، هو في الواقع توجيه رسالة ضمنية لمرشحيه بأن المرشح المذكور لا يحمل طموحاتكم بل طموحات ملاك الميكروويف، أو أن تقوم الإدارة بمنح المرشح رمز "المسدس"، للإيحاء بتطرف رؤية المتقدم للترشيح عن رؤية الدولة وممثليها للاعتدال. باختصار هذه العملية جزء من نسق الاتصال بين الدولة والمواطنين، وبالتحديد المواطنين الأميين الذين تمثل لهم الرموز أدوات أساسية للتفاهم والتواصل، ومن خلالها يدركون المقدس والمدنس، الصالح والطالح. هذا النسق يؤسس لما يمكن تسميته بـ"الإخضاع الرمزي".
تمثل الرموز أدوات أساسية للتفاهم والتواصل، ومن خلالها يدرك المواطن المقدس والمدنس، الصالح والطالح. هذا النسق يؤسس لما يمكن تسميته بـ"الإخضاع الرمزي"
أولا- الإخضاع الرمزي: إستراتيجية الدمج الضمني
إنها واحدة من الإستراتيجيات الأساسية المستخدمة هذه الأيام، وكشفت عنها الأوضاع بعد ثورة يناير، وهي المقابل الحقيقي للمقاومة الرمزية. والإخضاع الرمزي ليس سوى إخضاع ناعم يمارسه المسيطر عبر وسائط وإشارات، ويستطيع من خلاله علنا أن يمرر للخاضع ما يريده، وينتظر الاستجابة منه. وبطبيعة الحال فإن هذا النوع من الإخضاع لا يشتغل على الوعي المباشر بالمعنى السيكولوجي، بل يشتغل على اللا وعي، ومترسبات خبرات الطفولة، وآثار الخبرات الحياتية والتاريخية التي يعايشها المصريون يوميا. والنتيجة المباشرة من ردود الفعل والاستجابة هي تزوير الإرادة، أو التزوير الذاتي للإرادة.
ولعلنا في حياتنا اليومية نواجه هذا النمط من الإخضاع داخل الأسرة. فالرجل السلفي يستطيع أن يستخدم خطابه الديني السلفي في جعل أطفاله وزوجته يمارسون ما يريده هو دون أن يضطرهم إليه، والمسألة لا تتطلب حضوره العيني. بل ويستطيع الرجل العادي أن يدفع أبنائه لطاعته عبر الحكي. فالحكايات المسرودة بإتقان يمكنها أن تنقل ضمنا ما تريده السلطة أن تمرره إلى الأفراد الذين تقودهم، وعبر استدراج الدلالات التي تحملها الحكايات يتصرف الفرد بالضبط كما هو مراد دون تدخل مباشر من طرف الحكاء نفسه.
وفي الممارسة الانتخابية، سنجد دلائل وشواهد توثق عملية الإخضاع الرمزي الممنهج. ومنها مثلا استضافة المذيعين لأحد المرشحين، والحديث إليه بلغة (لغة جسد ولغة طبيعية)، وكأنهم يتحدثون إلى الرئيس الفعلي، فلا توجد انتقادات أو مسائلة مسئولة، أو مراجعة نقدية لتصريحاته، بل يبدو الأمر كأنما الضيف والمذيعان في حالة صلاة وتعبد واضحة. والحال كذلك، فإن المتوقع من المتلقي أن يتقمص ويجسد في لا وعيه صورة القائد الملهم، مع ما تتركه الكاميرا من إلماحات في توجيهها ناحية الضيف.
ولعلنا أيضا إن تأملنا في الانتخابات السابقة بعد استفتاء الدستور 2011، سنجد لونا من الإخضاع الرمزي الممنهج. فقد توزع على حواف اللجان عدد هائل من أعضاء التيار الإسلامي، ممسكين أجهزة الحاسب الآلي لمعاونة الجمهور عند الدخول، مع وجود عدد هائل من الملتحين والمنقبات، وأكثرية من الموظفين الموجودين باللجان من أعضاء جماعة الإخوان من العاملين في سلك التعليم أو المتعاطفين معها ومع تيار الإسلام السياسي، لتثبت صورة بعينها ورسالة يجري تمريرها، بأن السياق المحيط هو السياق الغالب الذي تريد السلطة المهيمنة تمريره. ونلحظ أن الأمر ذاته قد تكرر مع انتخابات الرئاسة بعد الثلاثين من يونيه، فاللجان محاطة بقوات الجيش، بشكل يفوق حجم التأمين السابق في الانتخابات السابقة، وذلك من داخل اللجان لا من خارجها. هذا الاهتمام بزيادة حضور أعداد من أفراد الجيش وعناصره، هو إشارة موازية تضغط سيكولوجيا على وعي المواطن، كما ضغطت من قبل بزيادة أعداد الأفراد المحيطين باللجان، في رسالة ضمنية تقول:"انتخب هؤلاء" أو "انتخب رجلنا".
إنها واحدة من الإستراتيجيات الأساسية المستخدمة هذه الأيام، وكشفت عنها الأوضاع بعد ثورة يناير، وهي المقابل الحقيقي للمقاومة الرمزية. والإخضاع الرمزي ليس سوى إخضاع ناعم يمارسه المسيطر عبر وسائط وإشارات، ويستطيع من خلاله علنا أن يمرر للخاضع ما يريده، وينتظر الاستجابة منه. وبطبيعة الحال فإن هذا النوع من الإخضاع لا يشتغل على الوعي المباشر بالمعنى السيكولوجي، بل يشتغل على اللا وعي، ومترسبات خبرات الطفولة، وآثار الخبرات الحياتية والتاريخية التي يعايشها المصريون يوميا. والنتيجة المباشرة من ردود الفعل والاستجابة هي تزوير الإرادة، أو التزوير الذاتي للإرادة.
ولعلنا في حياتنا اليومية نواجه هذا النمط من الإخضاع داخل الأسرة. فالرجل السلفي يستطيع أن يستخدم خطابه الديني السلفي في جعل أطفاله وزوجته يمارسون ما يريده هو دون أن يضطرهم إليه، والمسألة لا تتطلب حضوره العيني. بل ويستطيع الرجل العادي أن يدفع أبنائه لطاعته عبر الحكي. فالحكايات المسرودة بإتقان يمكنها أن تنقل ضمنا ما تريده السلطة أن تمرره إلى الأفراد الذين تقودهم، وعبر استدراج الدلالات التي تحملها الحكايات يتصرف الفرد بالضبط كما هو مراد دون تدخل مباشر من طرف الحكاء نفسه.
وفي الممارسة الانتخابية، سنجد دلائل وشواهد توثق عملية الإخضاع الرمزي الممنهج. ومنها مثلا استضافة المذيعين لأحد المرشحين، والحديث إليه بلغة (لغة جسد ولغة طبيعية)، وكأنهم يتحدثون إلى الرئيس الفعلي، فلا توجد انتقادات أو مسائلة مسئولة، أو مراجعة نقدية لتصريحاته، بل يبدو الأمر كأنما الضيف والمذيعان في حالة صلاة وتعبد واضحة. والحال كذلك، فإن المتوقع من المتلقي أن يتقمص ويجسد في لا وعيه صورة القائد الملهم، مع ما تتركه الكاميرا من إلماحات في توجيهها ناحية الضيف.
ولعلنا أيضا إن تأملنا في الانتخابات السابقة بعد استفتاء الدستور 2011، سنجد لونا من الإخضاع الرمزي الممنهج. فقد توزع على حواف اللجان عدد هائل من أعضاء التيار الإسلامي، ممسكين أجهزة الحاسب الآلي لمعاونة الجمهور عند الدخول، مع وجود عدد هائل من الملتحين والمنقبات، وأكثرية من الموظفين الموجودين باللجان من أعضاء جماعة الإخوان من العاملين في سلك التعليم أو المتعاطفين معها ومع تيار الإسلام السياسي، لتثبت صورة بعينها ورسالة يجري تمريرها، بأن السياق المحيط هو السياق الغالب الذي تريد السلطة المهيمنة تمريره. ونلحظ أن الأمر ذاته قد تكرر مع انتخابات الرئاسة بعد الثلاثين من يونيه، فاللجان محاطة بقوات الجيش، بشكل يفوق حجم التأمين السابق في الانتخابات السابقة، وذلك من داخل اللجان لا من خارجها. هذا الاهتمام بزيادة حضور أعداد من أفراد الجيش وعناصره، هو إشارة موازية تضغط سيكولوجيا على وعي المواطن، كما ضغطت من قبل بزيادة أعداد الأفراد المحيطين باللجان، في رسالة ضمنية تقول:"انتخب هؤلاء" أو "انتخب رجلنا".
إن الدراسات الفلكلورية والأنثروبولوجية والسيوسيولوجية تتحدث عن الأمي باعتباره مبدعا وحكيما وقادرا على الاختيار
ثانيا- الأميون: القوة المغيبة
إذا كانت الرموز الانتخابية موجهة لجمهور المواطنين من الأميين بشكل خاص، فإن السائد في الخطاب النخبوي الذي يجد منافذه عبر الأدبيات والإعلام هو أن واحدة من المعوقات الأساسية لعملية المقرطة هو عدم تشبع المواطن العادي بالثقافة السياسية التي تؤهله لتمييز دور البرلمان وأدوار أعضائه في المجتمع. إذ يزداد اليقين بأن الممارسة الديمقراطية يسودها عدم وعي المواطن بالدور الحقيقي الذي ينبغي أن يقوم به عضو البرلمان، وبموجبه يتم اختياره، وتحديد السمات المميزة له بموجبها.
وبناء على هذا الطرح النظري، فإن الأميين يفتقدون الحصافة التي تمكنهم من حسن الاختيار، مما يكن أثره واضحًا في اختيار أعضاء غير قادرين على القيام بواجباتهم الحقيقية داخل المجلس النيابي، ويكونون بمثابة ديكور للسلطة الحاكمة، فلا يمثلون قوة ضغط عليها، لتوجيهها فيما يخدم مصلحة المواطنين. وعليه يوصف المواطن (الأمي بالأخص) بالجهل وعدم الوعي والعجز عن فهم التقاليد الديمقراطية، بما يوحي بعدم أهليته على ممارسة الحرية السياسية.
وتواصل هذه السردية مسيرتها بالرهان على عدم قدرة هذا المواطن الأمي على التمييز بين الصواب والخطأ، وعجزه عن مقاومة إغراءات المال والمصلحة والدين. ولذلك يسهل أن يكون ضحية سهلة لتيارات الإسلام السياسي، بدعوتها العاطفية التي تجتذب القلوب، ولا تناقش العقول، كما يسهل أن يقع فريسة لرجال الأعمال الفاسدين الذين يملكون المال الذي يستطيعون به شراءه.
ومع ذلك فإن الدراسات الفلكلورية والأنثروبولوجية والسيوسيولوجية تتحدث عن هذا الأمي باعتباره مبدعا وحكيما وقادرا على الاختيار. فهو صانع ثقافة شعبية عاتية، حمالة أوجه، وممتعة جماليا، وممتلكة لرؤية يمكن للمثقف أن يستزيد منها لفهم الواقع الاجتماعي المصري. فالأمي بحسب هذه الأدبيات مبدع بقدرته المتميزة على التكيف مع ضيق الحال، بحسن إدارته لموارده الشحيحة. ولعل في عمارة الفقراء أبرز الأمثلة الدالة على عبقرية هذا الأمي المحتقر في أدبيات "الثقافة السياسية المصرية".
إذا كانت الرموز الانتخابية موجهة لجمهور المواطنين من الأميين بشكل خاص، فإن السائد في الخطاب النخبوي الذي يجد منافذه عبر الأدبيات والإعلام هو أن واحدة من المعوقات الأساسية لعملية المقرطة هو عدم تشبع المواطن العادي بالثقافة السياسية التي تؤهله لتمييز دور البرلمان وأدوار أعضائه في المجتمع. إذ يزداد اليقين بأن الممارسة الديمقراطية يسودها عدم وعي المواطن بالدور الحقيقي الذي ينبغي أن يقوم به عضو البرلمان، وبموجبه يتم اختياره، وتحديد السمات المميزة له بموجبها.
وبناء على هذا الطرح النظري، فإن الأميين يفتقدون الحصافة التي تمكنهم من حسن الاختيار، مما يكن أثره واضحًا في اختيار أعضاء غير قادرين على القيام بواجباتهم الحقيقية داخل المجلس النيابي، ويكونون بمثابة ديكور للسلطة الحاكمة، فلا يمثلون قوة ضغط عليها، لتوجيهها فيما يخدم مصلحة المواطنين. وعليه يوصف المواطن (الأمي بالأخص) بالجهل وعدم الوعي والعجز عن فهم التقاليد الديمقراطية، بما يوحي بعدم أهليته على ممارسة الحرية السياسية.
وتواصل هذه السردية مسيرتها بالرهان على عدم قدرة هذا المواطن الأمي على التمييز بين الصواب والخطأ، وعجزه عن مقاومة إغراءات المال والمصلحة والدين. ولذلك يسهل أن يكون ضحية سهلة لتيارات الإسلام السياسي، بدعوتها العاطفية التي تجتذب القلوب، ولا تناقش العقول، كما يسهل أن يقع فريسة لرجال الأعمال الفاسدين الذين يملكون المال الذي يستطيعون به شراءه.
ومع ذلك فإن الدراسات الفلكلورية والأنثروبولوجية والسيوسيولوجية تتحدث عن هذا الأمي باعتباره مبدعا وحكيما وقادرا على الاختيار. فهو صانع ثقافة شعبية عاتية، حمالة أوجه، وممتعة جماليا، وممتلكة لرؤية يمكن للمثقف أن يستزيد منها لفهم الواقع الاجتماعي المصري. فالأمي بحسب هذه الأدبيات مبدع بقدرته المتميزة على التكيف مع ضيق الحال، بحسن إدارته لموارده الشحيحة. ولعل في عمارة الفقراء أبرز الأمثلة الدالة على عبقرية هذا الأمي المحتقر في أدبيات "الثقافة السياسية المصرية".
من خلال استغلال الدلالات الثقافية المحلية للرموز يتم السيطرة على الانتخابات، وتوجيهها في الاتجاه الذي تريده السلطة الحاكمة، فهي آلية ضبط، ووسيلة لما يسميه فوكو بـ "عقلية الحكم"
ثالثا- ما الذي يعنيه هذا؟
الأمر باختصار أن هذه الأدبيات تعمل على شخصنة قضية الديمقراطية، وتغفل عن عمد عدة أمور، أولها أن النظام السياسي نفسه هو المؤسس على حكم الفرد، ونتيجة لذلك فإن العملية السياسية نفسها لا تستوعب الأميين أنفسهم داخلها، وبالتالي نتيجة هذا التهميش المتعمد، تتعدد استجابات الأميين، وبقية الفئات والشرائح الاجتماعية. ثانيها، أن التأسيس على الفردية، هو نقيض للثقافة الشعبية للأميين، نقيض لرؤيتهم للعالم، التي هي ثقافة ديمقراطية بامتياز، وليست ثقافة هذا النظام الحاكم، الذي لم يتغير حتى اللحظة الراهنة. ثالثها، أن التصورات النخبوية عن الأميين هو محاولة لتسويغ أمر أبعد، وهو تفكيك الوجود الحي للأحزاب، طالما أن الغالبية العظمى غير قادرة على الاختيار، ما يقوض ضمنا العملية الديمقراطية، ويؤسس لعقلية الأب الحاكم. رابعها، أن الرموز الانتخابية تمضي في نسق اتصال أبوي، يحمل عدد من الرسائل الموجهة من الدولة للمواطن الأمي، وللمواطن بوجه عام، يتم من خلالها استغلال الدلالات الثقافية المحلية للرموز، حتى تتسنى السيطرة على العملية الانتخابية، وتوجيهها في الاتجاه الذي تريده السلطة الحاكمة، فهي آلية ضبط، ووسيلة لما يسميه فوكو بـ"عقلية الحكم"، العقلية التي تتحكم وتضبط وتهندس سلوكيات مجموعة من السكان، بحيث تمضي في المسار المراد.
الأمر باختصار أن هذه الأدبيات تعمل على شخصنة قضية الديمقراطية، وتغفل عن عمد عدة أمور، أولها أن النظام السياسي نفسه هو المؤسس على حكم الفرد، ونتيجة لذلك فإن العملية السياسية نفسها لا تستوعب الأميين أنفسهم داخلها، وبالتالي نتيجة هذا التهميش المتعمد، تتعدد استجابات الأميين، وبقية الفئات والشرائح الاجتماعية. ثانيها، أن التأسيس على الفردية، هو نقيض للثقافة الشعبية للأميين، نقيض لرؤيتهم للعالم، التي هي ثقافة ديمقراطية بامتياز، وليست ثقافة هذا النظام الحاكم، الذي لم يتغير حتى اللحظة الراهنة. ثالثها، أن التصورات النخبوية عن الأميين هو محاولة لتسويغ أمر أبعد، وهو تفكيك الوجود الحي للأحزاب، طالما أن الغالبية العظمى غير قادرة على الاختيار، ما يقوض ضمنا العملية الديمقراطية، ويؤسس لعقلية الأب الحاكم. رابعها، أن الرموز الانتخابية تمضي في نسق اتصال أبوي، يحمل عدد من الرسائل الموجهة من الدولة للمواطن الأمي، وللمواطن بوجه عام، يتم من خلالها استغلال الدلالات الثقافية المحلية للرموز، حتى تتسنى السيطرة على العملية الانتخابية، وتوجيهها في الاتجاه الذي تريده السلطة الحاكمة، فهي آلية ضبط، ووسيلة لما يسميه فوكو بـ"عقلية الحكم"، العقلية التي تتحكم وتضبط وتهندس سلوكيات مجموعة من السكان، بحيث تمضي في المسار المراد.