سياسة الدم: تركيا تحارب داعش أم الأكراد؟
الأحد 09/أغسطس/2015 - 03:13 م
د.أحمد موسى بدوي
في السابع من يونيو2015، تمكن حزب الشعوب الديمقراطي من تحقيق المفاجأة، وقلب موازين القوى داخل البرلمان التركي الجديد، وأصبحت للأكراد قوة حزبية ممثلة بـــ (79 عضوًا)، تزامنت هذه المفاجأة مع نجاح أكراد سوريا مدعومين بأكراد العراق في صد هجمات داعش المتوالية على مدينة كوباني السورية. ولم يمض وقت طويل حتى قامت داعش بتنفيذ أول عملية إرهابية لها داخل تركيا، لتبدأ سلسلة من التطورات المتلاحقة في السياسة التركية، تجاه الأزمة السورية وتنظيم داعش وحزب العمال الكردستاني. وهذا المقال محاولة لفهم دوافع التغير في الموقف التركي، وهل يرتبط هذا التغير بالوضع السياسي الداخلي؟
يرى العديد من المحللين أن تركيا قدمت لتنظيم داعش دعمًا لوجستيًا كبيرًا، شمل تسهيلات في المرور من تركيا وإليها، وعلاج المصابين فضلا عن المعلومات الاستخباراتية
أولا- داعش وتركيا.. أية علاقة
دون الخوض في تفاصيل الموقف التركي المعروف من التحالف الدولي لمواجهة تنظيم داعش، نتوقف عند معركة أكراد سوريا ضد داعش، التي بدأت في 2014، حيث يرى العديد من المحللين أن تركيا قدمت لتنظيم داعش في هذه المعركة، دعمًا لوجستيًا كبيرًا، شمل تسهيلات في المرور من تركيا وإليها، وعلاج المصابين بالمستشفيات التركية، فضلا عن المعلومات الاستخباراتية، ويتحدث البعض عن امدادات بالأسلحة. وبعد انتصار أكراد سوريا في معركة كوباني ضد داعش، أعلن الرئيس التركي، أن تركيا لن تسمح بوجود كيان كردي في سوريا على غرار ما هو حاصل في شمال العراق. وتشير التقارير إلى أن سلاح الجو التركي اعتبارا من 23 يوليو2015 نفذ عشرات الطلعات الجوية، استهدفت جميعا حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، مقابل استهداف ثلاثة مواقع لداعش فقط، مصحوبا بحملة اعتقالات واسعة لناشطين أكراد داخل تركيا. ما بين وقائع معركة كوباني، والتصريح الرسمي التركي وتقارير الهجمات الجوية التركية، يمكن للقارئ أن يستوضح كنه العلاقة بين داعش وتركيا.
على معنى أن الحادث الإرهابي الذي تبنته داعش على مدينة سوروج التركية، كان الدافع المعلن لتغيير الموقف التركي، وبدلا من أن تنضم تركيا للجهود الدولية لمحاربة هذا التنظيم، ضلت الطائرات التركية طريقها، لتركز قصفها على مواقع حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، وبدلا من غلق الحدود في وجه المتطرفين العابرين لتركيا تجاه سوريا، قررت السلطات التركية توسيع دائرة الاعتقال بين أكراد تركيا. من هنا نستنتج أن الدعم التركي الخفي لداعش، كان مشروطًا بقيام هذا التنظيم الإرهابي بتدمير القوة الكردية في شمال سوريا، أو على الأقل العمل على تشتيت الكيان الكردي وعدم تماسكه. ولما تيقنت الحكومة التركية من استحالة قيام داعش بهذه المهمة، بعد الفشل المتكرر، أصبح لزاما على تركيا أن تنفض يدها من هذا الاتفاق الذي فاحت رائحته الكريهة في الأجواء.
ويبدو أننا أمام صفقة أمريكية- تركية، تقوم الأولى بغض الطرف عن اعتزام الأخيرة ضرب حزب العمال الكردستاني، واستهداف العناصر السياسية الكردية في الداخل التركي، مقابل أن تسمح تركيا باستخدام قاعدة إنجرليك الجوية في الهجوم على داعش. الصفقة لاقت ترحيبا واسعا من القوى الغربية. هي صفقة الخاسر فيها حتى الآن الشعب الكردي، فقد اعتقد الأكراد في كردستان العراق، وفي سوريا أن حق تقرير المصير لإنشاء دولتهم، صار قاب قوسين أو أدنى، خاصة بعد أن عملت السياسة الكردية منذ عام 2003، على التوافق مع مصالح القوى الغربية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة، ووطدت علاقاتها الاقتصادية مع كبريات الشركات الدولية، وارتبطت بعلاقات جيدة مع ايران واسرائيل.
دون الخوض في تفاصيل الموقف التركي المعروف من التحالف الدولي لمواجهة تنظيم داعش، نتوقف عند معركة أكراد سوريا ضد داعش، التي بدأت في 2014، حيث يرى العديد من المحللين أن تركيا قدمت لتنظيم داعش في هذه المعركة، دعمًا لوجستيًا كبيرًا، شمل تسهيلات في المرور من تركيا وإليها، وعلاج المصابين بالمستشفيات التركية، فضلا عن المعلومات الاستخباراتية، ويتحدث البعض عن امدادات بالأسلحة. وبعد انتصار أكراد سوريا في معركة كوباني ضد داعش، أعلن الرئيس التركي، أن تركيا لن تسمح بوجود كيان كردي في سوريا على غرار ما هو حاصل في شمال العراق. وتشير التقارير إلى أن سلاح الجو التركي اعتبارا من 23 يوليو2015 نفذ عشرات الطلعات الجوية، استهدفت جميعا حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، مقابل استهداف ثلاثة مواقع لداعش فقط، مصحوبا بحملة اعتقالات واسعة لناشطين أكراد داخل تركيا. ما بين وقائع معركة كوباني، والتصريح الرسمي التركي وتقارير الهجمات الجوية التركية، يمكن للقارئ أن يستوضح كنه العلاقة بين داعش وتركيا.
على معنى أن الحادث الإرهابي الذي تبنته داعش على مدينة سوروج التركية، كان الدافع المعلن لتغيير الموقف التركي، وبدلا من أن تنضم تركيا للجهود الدولية لمحاربة هذا التنظيم، ضلت الطائرات التركية طريقها، لتركز قصفها على مواقع حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، وبدلا من غلق الحدود في وجه المتطرفين العابرين لتركيا تجاه سوريا، قررت السلطات التركية توسيع دائرة الاعتقال بين أكراد تركيا. من هنا نستنتج أن الدعم التركي الخفي لداعش، كان مشروطًا بقيام هذا التنظيم الإرهابي بتدمير القوة الكردية في شمال سوريا، أو على الأقل العمل على تشتيت الكيان الكردي وعدم تماسكه. ولما تيقنت الحكومة التركية من استحالة قيام داعش بهذه المهمة، بعد الفشل المتكرر، أصبح لزاما على تركيا أن تنفض يدها من هذا الاتفاق الذي فاحت رائحته الكريهة في الأجواء.
ويبدو أننا أمام صفقة أمريكية- تركية، تقوم الأولى بغض الطرف عن اعتزام الأخيرة ضرب حزب العمال الكردستاني، واستهداف العناصر السياسية الكردية في الداخل التركي، مقابل أن تسمح تركيا باستخدام قاعدة إنجرليك الجوية في الهجوم على داعش. الصفقة لاقت ترحيبا واسعا من القوى الغربية. هي صفقة الخاسر فيها حتى الآن الشعب الكردي، فقد اعتقد الأكراد في كردستان العراق، وفي سوريا أن حق تقرير المصير لإنشاء دولتهم، صار قاب قوسين أو أدنى، خاصة بعد أن عملت السياسة الكردية منذ عام 2003، على التوافق مع مصالح القوى الغربية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة، ووطدت علاقاتها الاقتصادية مع كبريات الشركات الدولية، وارتبطت بعلاقات جيدة مع ايران واسرائيل.
يسعي حزب العدالة والتنمية إلى انتخابات مبكرة، ولن يقبل بالتعايش ضمن حكومة ائتلاف، ولن يقبل أردوغان أن تتحطم أحلامه على عتبة البرلمان الجديد
ثانيا: حزب العمال الكردستاني والدولة التركية الكمالية
يذهب الدكتور راينر هيرمان، الخبير في الشئون التركية، في كتابه (تركيا بين الدولة الدينية والدولة المدنية، ترجمة علا عادل،2012) إلى أن المسألة الكردية أصبحت مرادفا لكل الصراعات التي تحل بتركيا، حيث يعتبر الأكراد من أكثر الطوائف المعرضة للتمييز هناك. ويرجع الصراع من وجهة نظره إلى الأسس التي رسخها كمال أتاتورك في تركيا، التي تحظر على جميع الأقليات التمتع بحقوق ثقافية أو اجتماعية أو سياسية خاصة. هذا التناقض بين الدولة الكمالية، التي لا تزال تحكم تركيا حتى اللحظة الراهنة، وبين الحقوق المشروعة للأكراد، يدفع بالعلاقات بين الجانبين إلى التوتر المستمر، فلا الدولة تريد أن تقر بحقوق الأكراد، ولا الأكراد قادرين على الذوبان في الهوية التركية، والتخلي عن أصولهم العرقية. وهو ما أدى إلى اندلاع حرب أهلية بين الدولة وفصائل مسلحة من الأكراد على رأسها، حزب العمال الكردستاني، استمرت من عام 1984 حتى عام 1999، اضطر خلالها أكثر من 3 ملايين نسمة من الهجرة القسرية، وخلفت الحرب أكثر من 40 ألف قتيل، ولم تضع الحرب أوزارها إلا بعد القبض على عبد اللـه أوجلان قائد حزب العمال، في فبراير 1999.
بعد انتهاء الحرب الأهلية، سعى كل طرف - من جانب واحد- إلى حل الأزمة على طريقته، فقد أقر عدد كبير من قادة حزب العمال في 2002، مبدأ تحويل الحزب إلى حركة ديمقراطية، وتغيير اسمه إلى حزب كاديك. غير أن هذه المبادرة لم تلق ترحيبا داخل تركيا أو من الاتحاد الأوربي أو الولايات المتحدة، وظل الحزب وقادته على رأس المنظمات الإرهابية من وجهة نظر الجميع. وفي المقابل تبنت الدولة التركية، مبادرات تسمح باستخدام اللغة الكردية في بعض المدارس، وفي وسائل الإعلام الكردية، فضلا عن إلغاء حالة الطوارئ في المحافظات الكردية، والغاء عقوبة الإعدام التي استفاد منها عبد اللـه أوجلان، فتحول الحكم بالإعدام إلى السجن مدى الحياة. غير أن المبادرات من الجانبين لم تنزع فتيل الصراع الذي كان يتجدد كلما شعرت الحكومة التركية بتطور قدرات حزب العمال العسكرية، حدث ذلك في 2004، ثم 2006، وبلغت ذروة الصراع في 2008، باجتياح عشرة آلاف جندي تركي لشمال العراق، لتدمير القدرات العسكرية لحزب العمال، وبموافقة أمريكا، التي أعلنت دعمها لتركيا وقدمت واشنطن لأنقرة كل البيانات والمعلومات المتوفرة لديها عن مواقع حزب العمال في العراق.
ثالثا: التحول السياسي للأكراد في تركيا
لكن المتابع للمسألة الكردية التركية، يرى تطورًا في توجه الأكراد نحو الاندماج السياسي في تركيا، بسبب عدة عوامل:
(1) أن المناطق الكردية، شهدت طفرة اقتصادية كبيرة، مع تدهور الأوضاع في العراق عام 2003، وحتى اللحظة الراهنة، فالشاحنات التركية، وغالبيتها مملوكة للأكراد الاتراك، منذ ذلك التاريخ وحتى الآن، تحمل في جوفها معظم الواردات إلى العراق، وهو ما حقق للأكراد أرباحًا طائلة، واستقرارًا لم يشهدوه من قبل. وتزامن ذلك مع النمو الاقتصادي لتركيا الدولة. ما عزز الانتماء بين الطبقة الوسطى الكردية وطبقة رجال الأعمال بالدولة المركزية، وخفوت صوت المقاومة والمطالبات العرقية. ولم يبق إلا فصائل كردية محدودة، ترفض الاندماج في المجتمع التركي، وتعارض العمل السياسي، وتعمل على الانفصال.
(2) نجاح حزب العدالة والتنمية منذ تسلمه السلطة، في الاستثمار الأمثل للملف الكردي، فكان حريصًا على السير للأمام - ولكن ببطء - في حل المشكلات الكردية. ما يفسر نشاط الحزب قبل الاستحقاقات الكبرى في ابراز المسألة الكردية وتسليط الضوء عليها، وتقديم الوعود المستقبلية. نوع من الابتزاز السياسي، يضع الأكراد في موقف إما أن تقبل التصويت للعدالة والتنمية أو أنك سوف تخسر قضيتك. والواقع أن نظام البرلمان التركي، يسمح بهذا الابتزاز، فعتبة دخول البرلمان هي الحصول على نسبة 10% من أصوات الناخبين، وهي نسبة عالية، تثبط وتضعف من طموحات الأكراد السياسية، وتجعلهم غير فاعلين على مستوى التشريع في نيل حقوقهم المشروعة.
(3) غير أن الانتخابات الرئاسية الأخيرة، شهدت تحولا لافتا للنظر للغاية، بترشح صلاح دمرطاش، وهو محامي ونائب برلماني كردي مستقل، عن مدينة ديار بكر، يبلغ من العمر 41 عاما، وهو شاب طموح يمتلك أدوات السياسي، ومقومات القيادة، وقد تحصل على ما يقرب من 7% من جملة أصوات الأتراك، وهي نسبة معتبرة، منتزعة من منافسين أقوياء، رجب طيب أردوغان مرشح حزب العدالة والتنمية، وأكمل الدين إحسان أوغلو مرشح حزبي (الشعب الجمهوري، والحركة القومية). هذا التحول منح الأكراد أملًا جديدا في الانتخابات البرلمانية التي أجريت بعد الرئاسية بعدة أشهر.
(4) وهو ما تحقق فعلا بإعلان صلاح دمرطاش، المرشح السابق للانتخابات الرئاسية، ورئيس حزب الشعوب الديمقراطي، خوض الانتخابات البرلمانية كحزب وليس كمرشحين مستقلين كما جرت العادة في السابق، مراهنًا على الزخم الذي صاحب ترشحه في الانتخابات الرئاسية، وعلى قدرته على جذب قطاعات من اليساريين والعلويين الاتراك، ونجح حزب الشعوب الديمقراطية في تخطي حاجز ال 10% في الانتخابات البرلمانية، وحقق انتصارًا سياسيا مدويًا جاء على حساب حزب العدالة والتنمية.
يذهب الدكتور راينر هيرمان، الخبير في الشئون التركية، في كتابه (تركيا بين الدولة الدينية والدولة المدنية، ترجمة علا عادل،2012) إلى أن المسألة الكردية أصبحت مرادفا لكل الصراعات التي تحل بتركيا، حيث يعتبر الأكراد من أكثر الطوائف المعرضة للتمييز هناك. ويرجع الصراع من وجهة نظره إلى الأسس التي رسخها كمال أتاتورك في تركيا، التي تحظر على جميع الأقليات التمتع بحقوق ثقافية أو اجتماعية أو سياسية خاصة. هذا التناقض بين الدولة الكمالية، التي لا تزال تحكم تركيا حتى اللحظة الراهنة، وبين الحقوق المشروعة للأكراد، يدفع بالعلاقات بين الجانبين إلى التوتر المستمر، فلا الدولة تريد أن تقر بحقوق الأكراد، ولا الأكراد قادرين على الذوبان في الهوية التركية، والتخلي عن أصولهم العرقية. وهو ما أدى إلى اندلاع حرب أهلية بين الدولة وفصائل مسلحة من الأكراد على رأسها، حزب العمال الكردستاني، استمرت من عام 1984 حتى عام 1999، اضطر خلالها أكثر من 3 ملايين نسمة من الهجرة القسرية، وخلفت الحرب أكثر من 40 ألف قتيل، ولم تضع الحرب أوزارها إلا بعد القبض على عبد اللـه أوجلان قائد حزب العمال، في فبراير 1999.
بعد انتهاء الحرب الأهلية، سعى كل طرف - من جانب واحد- إلى حل الأزمة على طريقته، فقد أقر عدد كبير من قادة حزب العمال في 2002، مبدأ تحويل الحزب إلى حركة ديمقراطية، وتغيير اسمه إلى حزب كاديك. غير أن هذه المبادرة لم تلق ترحيبا داخل تركيا أو من الاتحاد الأوربي أو الولايات المتحدة، وظل الحزب وقادته على رأس المنظمات الإرهابية من وجهة نظر الجميع. وفي المقابل تبنت الدولة التركية، مبادرات تسمح باستخدام اللغة الكردية في بعض المدارس، وفي وسائل الإعلام الكردية، فضلا عن إلغاء حالة الطوارئ في المحافظات الكردية، والغاء عقوبة الإعدام التي استفاد منها عبد اللـه أوجلان، فتحول الحكم بالإعدام إلى السجن مدى الحياة. غير أن المبادرات من الجانبين لم تنزع فتيل الصراع الذي كان يتجدد كلما شعرت الحكومة التركية بتطور قدرات حزب العمال العسكرية، حدث ذلك في 2004، ثم 2006، وبلغت ذروة الصراع في 2008، باجتياح عشرة آلاف جندي تركي لشمال العراق، لتدمير القدرات العسكرية لحزب العمال، وبموافقة أمريكا، التي أعلنت دعمها لتركيا وقدمت واشنطن لأنقرة كل البيانات والمعلومات المتوفرة لديها عن مواقع حزب العمال في العراق.
ثالثا: التحول السياسي للأكراد في تركيا
لكن المتابع للمسألة الكردية التركية، يرى تطورًا في توجه الأكراد نحو الاندماج السياسي في تركيا، بسبب عدة عوامل:
(1) أن المناطق الكردية، شهدت طفرة اقتصادية كبيرة، مع تدهور الأوضاع في العراق عام 2003، وحتى اللحظة الراهنة، فالشاحنات التركية، وغالبيتها مملوكة للأكراد الاتراك، منذ ذلك التاريخ وحتى الآن، تحمل في جوفها معظم الواردات إلى العراق، وهو ما حقق للأكراد أرباحًا طائلة، واستقرارًا لم يشهدوه من قبل. وتزامن ذلك مع النمو الاقتصادي لتركيا الدولة. ما عزز الانتماء بين الطبقة الوسطى الكردية وطبقة رجال الأعمال بالدولة المركزية، وخفوت صوت المقاومة والمطالبات العرقية. ولم يبق إلا فصائل كردية محدودة، ترفض الاندماج في المجتمع التركي، وتعارض العمل السياسي، وتعمل على الانفصال.
(2) نجاح حزب العدالة والتنمية منذ تسلمه السلطة، في الاستثمار الأمثل للملف الكردي، فكان حريصًا على السير للأمام - ولكن ببطء - في حل المشكلات الكردية. ما يفسر نشاط الحزب قبل الاستحقاقات الكبرى في ابراز المسألة الكردية وتسليط الضوء عليها، وتقديم الوعود المستقبلية. نوع من الابتزاز السياسي، يضع الأكراد في موقف إما أن تقبل التصويت للعدالة والتنمية أو أنك سوف تخسر قضيتك. والواقع أن نظام البرلمان التركي، يسمح بهذا الابتزاز، فعتبة دخول البرلمان هي الحصول على نسبة 10% من أصوات الناخبين، وهي نسبة عالية، تثبط وتضعف من طموحات الأكراد السياسية، وتجعلهم غير فاعلين على مستوى التشريع في نيل حقوقهم المشروعة.
(3) غير أن الانتخابات الرئاسية الأخيرة، شهدت تحولا لافتا للنظر للغاية، بترشح صلاح دمرطاش، وهو محامي ونائب برلماني كردي مستقل، عن مدينة ديار بكر، يبلغ من العمر 41 عاما، وهو شاب طموح يمتلك أدوات السياسي، ومقومات القيادة، وقد تحصل على ما يقرب من 7% من جملة أصوات الأتراك، وهي نسبة معتبرة، منتزعة من منافسين أقوياء، رجب طيب أردوغان مرشح حزب العدالة والتنمية، وأكمل الدين إحسان أوغلو مرشح حزبي (الشعب الجمهوري، والحركة القومية). هذا التحول منح الأكراد أملًا جديدا في الانتخابات البرلمانية التي أجريت بعد الرئاسية بعدة أشهر.
(4) وهو ما تحقق فعلا بإعلان صلاح دمرطاش، المرشح السابق للانتخابات الرئاسية، ورئيس حزب الشعوب الديمقراطي، خوض الانتخابات البرلمانية كحزب وليس كمرشحين مستقلين كما جرت العادة في السابق، مراهنًا على الزخم الذي صاحب ترشحه في الانتخابات الرئاسية، وعلى قدرته على جذب قطاعات من اليساريين والعلويين الاتراك، ونجح حزب الشعوب الديمقراطية في تخطي حاجز ال 10% في الانتخابات البرلمانية، وحقق انتصارًا سياسيا مدويًا جاء على حساب حزب العدالة والتنمية.
يسعي أردوغان إلى التخلص نهائيا من حزب الشعوب الديمقراطية، مستغلًا القوانين التركية، ومتبعًا نفس الطريقة التي كان النظام الحاكم يتبعها من قبل في حل الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية
رابعا: سياسة الدم وإعادة بعث الصراع الكردي-التركي
في الوقت الذي كان أردوغان يسعى فيه للحصول على الأغلبية المطلقة التي تمكنه من تشكيل الحكومة منفردًا، وتتيح له تحقيق حلمه بتغيير الدستور التركي وتحويله إلى نظام رئاسي. يظهر الحزب الكردي، فيفسد كل الخطط، وهنا مربط الفرس، فبعد أكثر من شهرين من الانتخابات البرلمانية التركية، لم يتم الاتفاق على الحكومة الائتلافية، والمرجح أن حزب العدالة والتنمية يسعى إلى انتخابات مبكرة، ولن يقبل بالتعايش ضمن حكومة ائتلاف، ولن يقبل أردوغان أن تتحطم أحلامه على عتبة البرلمان الجديد. ولكن كيف يحقق أردوغان أحلامه إذا أجريت انتخابات مبكرة، فهو عمليا غير قادر على التأثير في الكتلة التصويتية لحزب الشعب الجمهوري أو حزب الحركة القومية، وارتبطت انتصاراته البرلمانية والمحلية وحتى الرئاسية بأصوات الأكراد، التي استردها حزب الشعوب الديمقراطية ببراعة. باختصار لا سبيل أمام أردوغان سوى التعايش مع معطيات الواقع، أو الاندفاع بتهور نحو صناعة متغيرات جديدة. وللأسف اختار أردوغان الخيار الأصعب، والأكثر تكلفة على حساب المواطن التركي.
يسعى أردوغان إلى التخلص نهائيا من حزب الشعوب الديمقراطية، مستغلًا القوانين التركية، ومتبعًا نفس الطريقة التي كان النظام الحاكم يتبعها من قبل في حل الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية. ويبدو ذلك جليًا من الملاحقات الأمنية لعناصر حزب الشعوب، واتهام صلاح دمرطاش نفسه، بتهمة دعم منظمة إرهابية (حزب العمال الكردستاني) وهي التهمة الكفيلة بإيداعه السجن سنوات طويلة، ومنعه من ممارسة العمل السياسي مدى الحياة.
وعلى الجانب الآخر، توجد عناصر كردية انفصالية، ترفض العمل السياسي من الأساس، وهي عناصر جاهزة لتفجير الوضع، وإفساد النضال السياسي للحركة الكردية داخل تركيا. لذلك فإنه مع بداية العمل العسكري التركي ضد مواقع حزب العمل الكردستاني في العراق، بدأت تلك العناصر في تنفيذ عمليات ضد قوات الأمن التركية، والأوضاع تتدهور وتتعقد يوما بعد يوم.
خاتمة
إن اللحظة التاريخية التي تمكن فيها الأكراد من الاندماج الناجح في النظام السياسي التركي ككتلة حزبية كردية، ما يبشر بمزيد من الاستقرار السياسي، تتزامن مع لحظة تاريخية خاصة، يحلم فيها رئيس الدولة بالسلطنة العثمانية الجديدة. لقد اختار أردوغان تحقيق أحلامه على حساب الاستقرار السياسي، وقدم الصراع مع الأكراد وأخَّر الحوار والتوافق. لذلك فإن التغير في السياسة التركية تجاه داعش، مرده أن هذا التنظيم أصبح عديم الفائدة في تحقيق الأهداف التركية، ولم يعد من الملائم في هذا الوقت تحمل مزيد من الانتقادات الدولية.
كما ارتبط هذا التغيير بصفقة مع القوى الغربية، تتوقف تركيا بمقتضاها عن دعم داعش، في مقابل أن تغض القوى الغربية نظرها عن الحرب على الأكراد داخل وخارج تركيا. كان بإمكان حزب العدالة والتنمية أن يسيطر على الأوضاع ويحول دون تفجر المواجهات في ربوع تركيا، ولكنه فضل سياسة الدم، من أجل فبركة متغيرات جديدة على المسرح السياسي، تسمح بإزاحة الوافد الكردي الجديد (حزب الشعوب الديمقراطية). لقد أشعل الحزب الحاكم فتيل الأزمة، وربما ينجح في حظر نشاط الحزب الكردي، ولكنه لن يستطيع أن يخمد النيران التي أشعلها وقتما يشاء.
في الوقت الذي كان أردوغان يسعى فيه للحصول على الأغلبية المطلقة التي تمكنه من تشكيل الحكومة منفردًا، وتتيح له تحقيق حلمه بتغيير الدستور التركي وتحويله إلى نظام رئاسي. يظهر الحزب الكردي، فيفسد كل الخطط، وهنا مربط الفرس، فبعد أكثر من شهرين من الانتخابات البرلمانية التركية، لم يتم الاتفاق على الحكومة الائتلافية، والمرجح أن حزب العدالة والتنمية يسعى إلى انتخابات مبكرة، ولن يقبل بالتعايش ضمن حكومة ائتلاف، ولن يقبل أردوغان أن تتحطم أحلامه على عتبة البرلمان الجديد. ولكن كيف يحقق أردوغان أحلامه إذا أجريت انتخابات مبكرة، فهو عمليا غير قادر على التأثير في الكتلة التصويتية لحزب الشعب الجمهوري أو حزب الحركة القومية، وارتبطت انتصاراته البرلمانية والمحلية وحتى الرئاسية بأصوات الأكراد، التي استردها حزب الشعوب الديمقراطية ببراعة. باختصار لا سبيل أمام أردوغان سوى التعايش مع معطيات الواقع، أو الاندفاع بتهور نحو صناعة متغيرات جديدة. وللأسف اختار أردوغان الخيار الأصعب، والأكثر تكلفة على حساب المواطن التركي.
يسعى أردوغان إلى التخلص نهائيا من حزب الشعوب الديمقراطية، مستغلًا القوانين التركية، ومتبعًا نفس الطريقة التي كان النظام الحاكم يتبعها من قبل في حل الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية. ويبدو ذلك جليًا من الملاحقات الأمنية لعناصر حزب الشعوب، واتهام صلاح دمرطاش نفسه، بتهمة دعم منظمة إرهابية (حزب العمال الكردستاني) وهي التهمة الكفيلة بإيداعه السجن سنوات طويلة، ومنعه من ممارسة العمل السياسي مدى الحياة.
وعلى الجانب الآخر، توجد عناصر كردية انفصالية، ترفض العمل السياسي من الأساس، وهي عناصر جاهزة لتفجير الوضع، وإفساد النضال السياسي للحركة الكردية داخل تركيا. لذلك فإنه مع بداية العمل العسكري التركي ضد مواقع حزب العمل الكردستاني في العراق، بدأت تلك العناصر في تنفيذ عمليات ضد قوات الأمن التركية، والأوضاع تتدهور وتتعقد يوما بعد يوم.
خاتمة
إن اللحظة التاريخية التي تمكن فيها الأكراد من الاندماج الناجح في النظام السياسي التركي ككتلة حزبية كردية، ما يبشر بمزيد من الاستقرار السياسي، تتزامن مع لحظة تاريخية خاصة، يحلم فيها رئيس الدولة بالسلطنة العثمانية الجديدة. لقد اختار أردوغان تحقيق أحلامه على حساب الاستقرار السياسي، وقدم الصراع مع الأكراد وأخَّر الحوار والتوافق. لذلك فإن التغير في السياسة التركية تجاه داعش، مرده أن هذا التنظيم أصبح عديم الفائدة في تحقيق الأهداف التركية، ولم يعد من الملائم في هذا الوقت تحمل مزيد من الانتقادات الدولية.
كما ارتبط هذا التغيير بصفقة مع القوى الغربية، تتوقف تركيا بمقتضاها عن دعم داعش، في مقابل أن تغض القوى الغربية نظرها عن الحرب على الأكراد داخل وخارج تركيا. كان بإمكان حزب العدالة والتنمية أن يسيطر على الأوضاع ويحول دون تفجر المواجهات في ربوع تركيا، ولكنه فضل سياسة الدم، من أجل فبركة متغيرات جديدة على المسرح السياسي، تسمح بإزاحة الوافد الكردي الجديد (حزب الشعوب الديمقراطية). لقد أشعل الحزب الحاكم فتيل الأزمة، وربما ينجح في حظر نشاط الحزب الكردي، ولكنه لن يستطيع أن يخمد النيران التي أشعلها وقتما يشاء.