المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

مــواجـهـة الإرهـــاب: الدور المعرفي والتنويري للإعلام المصري

الأحد 26/يوليو/2015 - 11:38 ص
المركز العربي للبحوث والدراسات
السيد يسين
في تصورنا أن الإعلام المصري لن يستطيع أن يقوم بدور فاعل في مواجهة الإرهاب إلا إذا قام بدور معرفي ودور تنويري. والدور المعرفي يتمثل أساسا في التشخيص الدقيق لظاهرة الإرهاب من وجهة نظر العلم الاجتماعي حتى تتبين أبعاده المختلفة، ويمكن بناء على هذا التشخيص رسم سياسة متكاملة لمواجهته.
 ومن ناحية ثانية لابد من معالجة موضوع تجديد الخطاب الديني باعتباره ضرورة حتمية في المواجهة الثقافية للإرهاب. وأخيرا حتى يقوم الإعلام المصري بدوره التنويري المفتقد، لابد من التركيز على أهمية تكوين العقل النقدي باعتبار ذلك البداية الضرورية لتجديد الفكر الديني.

أولًا: الدور المعرفي  للإعلام المصري .. تشخيص ظاهرة الإرهاب
1- التأويل الإرهابي للنصوص الإسلامية
لا نبالغ لو أكدنا أن هناك طرقا متعددة للتأويل الإرهابي للنصوص الإسلامية، والوظيفة الأساسية لهذا التأويل هو إضفاء الشرعية الإسلامية على أساليب العنف التي تتبعها الجماعات الدينية المتشددة التي تتبنى اتجاها عدائيا إزاء غير المسلمين، بل وإزاء المسلمين أنفسهم لو كانوا حكاما باعتبارهم من الطواغيت الذين يحق شرعا الخروج عليهم وقتالهم، أو من عوام المسلمين الذين لا يؤمنون بأفكارهم المتطرفة.
وقد استندت جماعة الإخوان المسلمين التي أنشأها الشيخ "حسن البنا" في  مصر عام 1928 تقليد التأويل الإرهابي للنصوص الإسلامية حين اختارت شعارا لها سيفين متقاطعين ويكتب تحتهما كلمة "وأعدوا"، وهي اختصار للآية القرآنية الكريمة "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ترهبون بها عدو الله وعدوكم".
وجماعة الإخوان المسلمين -وتبعها بعد ذلك كافة الجماعات التكفيرية الإرهابية- هي التي تحدد من هم أعداء اللـه ومن هم أعداء المسلمين الذين ينبغي "إرهابهم" بقوة السيف. وهؤلاء الأعداء قد يكونون أجانب غير مسلمين، أو مسلمين لا يتوافقون مع فكر هذه الجماعات.
وقد عمّق هذا الاتجاه المفكر "سيد قطب" الذي انضم لجماعة الإخوان المسلمين عام 1950، وانفرد بصياغة نظرية تكفيرية شاملة أهم مفرداتها الحكم على المجتمعات الإسلامية المعاصرة أنها مجتمعات جاهلية، والدعوة إلى الانقلاب المسلح على الدول القائمة لفرض تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية لإخراجها من الجاهلية إلى الحضارة.
الوظيفة الأساسية للتأويل هو إضفاء الشرعية الإسلامية على أساليب العنف التي تتبعها الجماعات الدينية المتشددة
وتوالت بعد ذلك الاجتهادات التأويلية الإرهابية التي قامت بها جماعات تكفيرية متعددة أبرزها جماعة "الجهاد" المصرية، وكذلك الجماعة الإسلامية المصرية، وبعد ذلك تنظيم "القاعدة" بقيادة "أسامة بن لادن"، وأخيرًا تنظيم "داعش" الذي أعلن الخلافة الإسلامية في  سوريا والعراق.
وقد استطاع النظام السياسي المصري في عهد الرئيس الأسبق "مبارك" حصار الجماعات الإرهابية التي مارست الإرهاب المنهجي المنظم ضد المصريين والأجانب فقد قبض على قيادات وأعضاء هذه الجماعات وحاكمهم على ما اقترفوه من جرائم.
غير أنه نشأت في السجون والمعتقلات المصرية حركة من قبل قادة هذه الجماعات لممارسة النقد الذاتي لما اقترفوه من جرائم باتفاق مع الجهات الأمنية. وأصدرت جماعة "الجهاد" وثيقة بعنوان "ترشيد العمل الجهادي في  مصر والعالم" أشرف على صياغتها أحد أبرز قيادتها وهو الدكتور "فضل" كما أن "الجماعة الإسلامية" أصدرت أكثر من عشرين كتيبا في النقد الذاتي أشرف على تحريرها "كرم زهدي" ومجموعة من قيادات الجماعة.
وقد أتيح لي أن أشارك في  ندوة علمية نظمها منذ سنوات "مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية بالقاهرة" لمناقشة وثيقة "ترشيد العمل الجهادي"، وقد أعددت دراسة متكاملة للوثيقة عنوانها "مراجعة الفكر الإسلامي المتطرف: إشكالية القياس الخاطئ والتأويل المنحرف". وسأحاول تلخيص أبرز النتائج التي خلصت إليها.
ويمكن القول إن دراستنا انصبت على دراسة موضوعين أساسيين هما الإطار المرجعي للوثيقة، وآلية التأويل المنحرف للآيات القرآنية، لإسباغ الشرعية على إرهاب جماعة "الجهاد".
والوثيقة على الرغم من أنها محاولة في النقد الذاتي الذي يعنَى نقد الأساليب الإرهابية التي طبقتها الجماعة، فإنها – ويا للمفارقة- تؤكد على مجموعة من الأفكار والمبادئ التي تبرر التطرف وتؤسس لشرعية الإرهاب!
في  الإطار المرجعي للوثيقة أربعة أفكار رئيسية هي الإعلاء من شأن الخلافة الإسلامية، ورفض الحداثة الغربية، وتطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية بدلا من التشريعات الوضعية، وتتبنى نظرية متكاملة في  تكفير غير المسلمين. وهي لم تعترف بأخطائها إلا مرة واحدة حين ذكرت أن تطبيق فكرة "الجهاد" بصورة خاطئة أدى إلى كوارث لا حدود لها.
ولعل الفكرة الجوهرية الأولى هي النظر إلى الخلافة الإسلامية نظرة مثالية تؤدي في النهاية إلى تقديسها والحلم باستعادتها. وهذه النظرة المثالية تفتقد بشدة إلى المنهج النقدي في تناول تاريخ الخلافة الإسلامية التي عاشت -على ما تقول الوثيقة ألفًا وثلاثمائة سنة- مرهوبة الجانب حتى سقوط الخلافة العثمانية في الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918)، حين انفرط عقد المسلمين وضعفوا وتفرقوا شذر مذر.
وإذا تجاوزنا موضوع الخلافة الإسلامية، فإننا نجد في مقدمة الوثيقة إدانة مطلقة للثقافة الأوربية باعتبار أن العمل بقوانينهم (ويقصد الأوربيين) أدت إلى شيوع الفساد وانحلال الأخلاق في  بلاد المسلمين (ص1).
وتقرر الوثيقة أن عودة بلاد المسلمين إلى تحكيم الشريعة الإسلامية هو أساس كل صلاح للبلاد والعباد، وهذه في  الواقع نظرة تبسيطية للأمور، لأن إصلاح المجتمعات المعاصرة عملية بالغة التعقيد، وتدخل فيها اعتبارات دولية وسياسية واقتصادية وثقافية ومؤسسية. وأهم من ذلك كله الرؤية الاستراتيجية التكاملية التي ستتبناها النخب السياسية الحاكمة، والإرادة السياسية لتحقيق الإصلاح.
ما سبق من أفكار تكون مفردات الإطار المرجعي لجماعة الجهاد، ولكن أخطر ما في  الوثيقة هو عرضها لنظرية متكاملة في التكفير. وفي تقديرنا أن هذه النظرية هي الأساس الذي اعتمدت عليه الجماعات الإرهابية المتطرفة في تكفير الحكام وتكفير المجتمعات الإسلامية لأنها لا تطبق الشريعة الإسلامية، وتكفير غير المسلمين بل وتكفير بعض المسلمين بشروط معينة. ونظرية التكفير المتكاملة التي تعرضها الوثيقة لها مقدمات تبنى عليها نتائج خطيرة.
المقدمات تتمثل فيما يسجله قلم الدكتور "فضل" في الصفحة الثانية من الوثيقة تحت بند أولًا: "دين الإسلام". يقول "والإسلام ملزم لجميع المكلفين من الإنس والجن من وقت بعثة النبى (ص) وإلى يوم القيامة". وبالتالي فالبشر جميعهم منذ البعثة النبوية وإلى يوم القيامة هم "أمة الدعوة" "المدعوون لاعتناق دين الإسلام" فمن استجاب منهم لذلك فهم "أمة الإجابة".
وتسترسل الوثيقة فتقول "ومعنى إلزام دين الإسلام أن اللـه سبحانه لن يحاسب جميع خلقه المكلفين منذ بعثة النبي (ص) وإلى يوم القيامة إلا على أساس دين الإسلام. والنتيجة هي "فمن لم يعتنق دين الإسلام أو اعتنقه ثم خرج عن شريعته بناقض من نواقض الإسلام فهو هالك لا محالة، إن مات على ذلك".
واستند الدكتور فضل في هذا الحكم الخطير على آية قرآنية هى: قال تعالى (ومن يتبع غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في  الآخرة من الخاسرين) (آل عمران: 85).
وأيد كلامه باقتباس من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية "ومعلوم بالاضطرار من دين الإسلام وباتفاق جميع المسلمين أن من سوّغ اتباع غير دين الإسلام أو اتباع شريعة غير شريعة محمد (ص) فهو"كافر".
والواقع أن الذي يؤكد خطورة هذه النظرية في التكفير أن الوثيقة ترتب عليها نتائج مهمة في  مواضع متعددة.
ومن الطريف أن الوثيقة تستهين بالدولة استهانة شديدة وتكاد ألا تعترف بها. فهي في  مجال التعامل مع الأجانب تقرر (في  صفحة 17) "تحريم الاعتداء عليهم" لأن هؤلاء الأجانب قد يقدمون إلى بلاد المسلمين بدعوة أو بعقد عمل من مسلم صاحب عمل أو صاحب شركة سياحة، وهذا أمان شرعي صحيح لا شك فيه، أما تأشيرة السلطات بعد ذلك فلا تغيّر شيئًا من حكم أمان المسلم لهم!
ومازالت الوثيقة – للأسف الشديد – تعيش في الماضي، والدليل أنها قررت أن الشريعة لم تبح لآحاد الرعية معاقبة عامة الناس أو إقامة الحدود عليهم (وهذه بدهية لأنها من مهام الدولة المعاصرة) غير أن الوثيقة – من باب الدقة العلمية – قررت أنه لا يستثنى من ذلك إلا إقامة المسلم الحدود على عبيده!
وأيا ما كان الأمر فيمكن القول: إن ما سكتت عنه الوثيقة هو آلية التفكير التي أنتجت أفكارها وهي استخدام القياس الخاطئ، وأهم من ذلك التأويل المنحرف للنصوص الدينية.
2- تشريح العقل الإرهابي
أن العقل التقليدي هو المقدمة الضرورية لنشأة العقل الإرهابي، ولا يمكن الكشف عن مكونات العقل الإرهابي إلا بتحديد آليات الخطاب الإسلامي المتطرف والمراوغ. والآلية الأولى: هي الهروب من التاريخ إلى كلام مرسل عن أمجاد الحضارة الإسلامية في عصورها الزاهرة، والتي هي ليست محل أى خلاف، ثم كلام معاد عن أعداء الإسلام الذين ينبغي شرعًا قتالهم.
والآلية الثانية هي استخدام المشابهة التاريخية بطريقة ظاهرة الخطأ، وذلك بتأكيد أن "الصحيفة" التي كتبت في العهد النبوى ووصفت بأنها "دستور المدينة" هي دستور حقًا بالمعنى الحديث للمفهوم، وأن الإسلام بذلك سبق تاريخيًا كل الدساتير الحديثة.
والسؤال هنا هل تتضمن "الصحيفة" حقًا – كأي دستور حقيقي- آلية محددة لانتقال السلطة بالإضافة إلى التحديد الدقيق للسلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية؟ وإذا كانت الإجابة بنعم ترى ما سر الصراع الدموي على السلطة طوال أغلب مراحل التاريخ الإسلامى، وما تفسير الانقلابات السياسية المتتابعة والتي اعتمدت على استخدام القوة والعنف والاغتيال؟ وهل صحيح أن التعددية التي سادت في الدولة العثمانية وقامت على نظام "الملل" تتشابه مع التعددية السائدة في المجتمع الحديث؟
أن العقل التقليدي هو المقدمة الضرورية لنشأة العقل الإرهابي، ولا يمكن الكشف عن مكونات العقل الإرهابي إلا بتحديد آليات الخطاب الإسلامي المتطرف والمراوغ
والآلية الثالثة: وهي أخطر آلياته على وجه الإطلاق، هي استخدام الفتوى في تكفير الخصوم الفكريين، سواء صدرت من مفتٍ محترفٍ، أو من مفتٍ هاوٍ يصدر الفتاوى على هواه. ومثالها الفتوى التي سبق أن أصدرها محمد عمارة ومفادها؛ أن العلمانيين المسلمين الأتقياء الذي لا يؤمنون بمنطلقات الإسلام السياسي هم مشركون وجاهلون ووثنيون.
ومن هنا يمكن القول: إن السر الحقيقي في الفشل السياسى للإخوان المسلمين في حكم مصر ليس مجرد عجز الرئيس عن إدارة البلاد كما يفعل أي رجل دولة حقيقي، ولا فشل الوزارة الإخوانية في  حل المشكلات الجسيمة التي تواجه المجتمع، ولكن هو في العقل التقليدى العاجز عن مواجهة مشكلات الواقع بطريقة علمية.  ومن ثم يمكن القول على سبيل القطع: إن تيار الإسلام السياسي في  العالم العربى بعد صعود كل من جماعة الإخوان المسلمين في  مصر وحزب النهضة في  تونس إلى السلطة، يمر الآن بأخطر اختبار تاريخي في  حياته الممتدة.
وترجع خطورة هذا الاختبار التاريخي إلى أن جماعة الإخوان المسلمين وأشباهها في  مختلف البلاد العربية، لم يتح لها أن تتولى الحكم مباشرة حتى تنفذ مبادئها المعلنة في  السياسة والاقتصاد والاجتماع. على العكس من ذلك واجهت جماعة الإخوان المسلمين – بحكم لجوئها للعنف بواسطة الجهاز السري الذي أنشأه الشيخ "حسن البنا" لردع خصوم الجماعة – مشكلات كبرى من قبل النظم السياسية المتتابعة في مصر.
وإذا كنا قد أكدنا أن العقل التقليدي هو الممهد بالضرورة للعقل الإرهابي الذي يدفع الشخص لارتكاب الأفعال الإرهابية على أساس أنها نوع من "الجهاد" في سبيل اللـه، فإن هذا العقل التقليدي لا يمكن فهم مكوناته الأساسية بغير ردها إلى أصل واحد هو "الأصولية". ولا نستخدم مفهوم الأصولية هنا بالمعنى الإيجابي للكلمة، ونعني العودة إلى المبادئ الأساسية للدين التي تتسم بالنقاء بعيدًا عن ثرثرة الهوامش في عصور الانحطاط، والتهافت الفكري والجمود المذهبي للحواشي التي كتبت شرحا للأصول، وإنما المعنى المقصود هنا هو الجمود العقائدي والتزمت الفكري.
وقد أبرز الكاتب المغربي المعروف "علي أومليل" في بحث له بعنوان "حوار الثقافات: العوائق والآفاق"، هذه المعاني السلبية للأصولية. (نشر البحث في أعمال ندوة حوار الثقافات: هل هو ممكن؟ التي عقدت في الرباط في يناير 2003). فقد استطاع أومليل ببراعة ومن خلال تتبعه التاريخي للمواجهة التي تمت بين العالم العربي والعالم الأوربي في بداية النهضة العربية الأولى، أن يبرز تبلور الإدراك العربي بأن تفوق العسكرية الأوربية يقف وراءها تفوق في تنظيم الاقتصاد والمجتمع والدولة، وأيضًا تفوق علمي وتكنولوجي، وأن وراء كل منظومة التقدم الغربي قيما ومبادئ كالتربية على الحرية والمساواة، وحق الشعب في اختيار حكامه، وحرية التعبير والصحافة، وسيادة القانون والمساواة أمامه. غير أنه إزاء ظاهرة التقدم الغربي تبلور وعيٌ مزدوج تجاه الغرب، فهناك إعجاب بمظاهر تقدمه، ولكن هناك أيضًا الغرب الاستعماري المزدوج المعايير. فهو يضمن الحرية لمواطنيه ويحرمها على الشعوب التي يستعبدها.
وقد كان "أومليل" موفقًا حين ربط بين توحش الدولة السلطوية العربية ونزعة تيار الإسلام السياسي لرفض الحداثة، والوقوع في فخ العقل التقليدي بكل رؤاه الرافضة والمتزمتة. وذلك على أساس أن فشل الدولة السلطوية في تحقيق تنميتها المزعومة ينتج عنه نوعان من رد الفعل. الأول ذهب إلى أنه لا تنمية حقيقية بغير تنمية سياسية ديمقراطية أساسها حقوق الإنسان. والثاني هو رفض الحداثة بما فيها الحداثة السياسية والتي أساسها الديمقراطية. وهذا هو موقف الإسلام السياسي الذي تمثله الأصولية. ويقول أومليل في شرح هذا الاتجاه أنه "ما دامت التنمية - نظريًا - هي طريق إلى الحداثة، وما دامت الدولة السلطوية قد فشلت في تحديث المجتمع، فقد كفر الإسلام السياسي بالتنمية والحداثة معًا!".
ويضيف، أن فكر الأصوليين دار خارج إشكالية الحداثة. ذلك لأن التفكير في التنمية هو تفكير بالزمان والتاريخ، أما فكر الأصوليين فهو فكر لا زماني ولا تاريخي، لأنه تفكير في نص مقدس تفكيرًا خارج الزمان. والأصولي يرفض الحداثة- كما يقرر أومليل- لأنها تغريب بمعنيين: أولًا لأنها تغريب بالإسلام إذ يصبح غريبًا بين أهله، وثانيًا: لأنها اقتداء بالغرب.
والإسلام، بالنسبة للفكر الأصولي المتشدد، يرفض أي حوار بين الحضارات، بل إنه ينضم للأصوات العنصرية في الغرب التي تدعو للصراع بين الحضارات. والإسلام، وفقا لهذا الفكر الأصولي أيضا، ينبغي أن يسود ليس بالدعوة فحسب، وإنما بالجهاد أيضًا والذي يعنى فرض فكرة الدين بالعنف والإرهاب. وهكذا تتبين الصلات العضوية الوثيقة بين العقل التقليدي الأصولي والعقل الإرهابي.
وإذا قرأنا النصوص التي أنتجها الأصوليون المتشددون في الجماعات الإسلامية المختلفة لأدركنا أن عنف الخطاب لا يعادله عندهم إلا عنف الإرهاب.
ولعل الاهتمام العالمي المتزايد بالتطرف الإيديولوجي والإرهاب الإسلامي يجد مبرره في أحداث 11 سبتمبر، حينما وجه تنظيم "القاعدة" ضربات إرهابية مؤثرة لمراكز القوة الأمريكية، بالإضافة إلى أحداث إرهابية أخرى وقعت في إسبانيا وإنجلترا، بالإضافة إلى الأحداث الإرهابية التي وجهت ضد المملكة العربية السعودية والمغرب والجزائر، وغيرها من الدول.
ومعنى ذلك أن الإرهاب والتطرف الإسلامي قد احتلا النسبة الأكبر من الإرهاب العالمي، بعد أن خلت الساحة تقريبا من الإرهاب الألماني والإيطالي والياباني، الذي ساد من خلال منظمات إرهابية معروفة خلال عقدي الستينيات والسبعينيات.
ولعل السؤال الرئيسي الذي تنبغي إثارته الآن هو كيف نواجه التطرف؟ هناك إجابة تقليدية تتمثل في استخدام الوسائل الأمنية والأدوات السياسية. وهو منهج في تقديرنا عقيم، لأنه ليس بالأمن وحده يجابه الإرهاب. وهناك إجابة أخرى نتبناها وتتمثل في منهج السياسة الثقافية الذي يقوم على أساس تحليل ثقافي عميق لظواهر التطرف والإرهاب.
ولو أردنا أن نعدد مفردات المنهج الأمني والسياسي- وهو منهج ضروري ولكنه ليس كافيًا- لوجدناها تتمثل في عدد من الأساليب، من بينها سياسة تدمير شبكات التطرف ومواجهة الإرهاب من خلال أجهزة الأمن والقانون، وإثارة الانقسامات بين مختلف الجماعات الإرهابية تحت شعار "فرق تسد"، وعزل العناصر المتطرفة، وإعطاء المجال للعناصر المعتدلة حتى يسود خطابها في المجتمع، مع التركيز على الوسطية. ولعل أبرز هذه المفردات هو المواجهة العنيفة الحاسمة مع العناصر المتطرفة والإرهابية لاستئصالها من المجتمع.
ويبقى بعد ذلك أن نناقش منهج السياسة الثقافية في مواجهة الإرهاب.
3- الصراع بين المجتمع والذات الإرهابية
تحدثنا في مقال سابق "العولمة وعواصف الإرهاب" عن القانون الأساسي الذي صاغه عالم الاجتماع الأمريكي "كاستلز" والذي يقوم على أساسه المجتمع الشبكي (نسبة إلى شبكة الإنترنت) وهو "الصراع بين الشبكة والذات". أما الشبكة فيقصد بها "التشكيلات التنظيمية الجديدة التي قامت على أساس الاستخدام الواسع المدى للميديا الاتصالية المتشابكة" والذات التي يرمز بها إلى الأنشطة التي يحاول فيها الناس تأكيد هوياتهم في مواجهة موجات العولمة المتدفقة سواء بالقبول أو بالرفض. في ضوء هذا القانون العام للمجتمع الشبكى سنحاول فهم ظاهرة الإرهاب، والذي هو في الواقع "الصراع بين المجتمع والذات الإرهابية" التي تسعى إلى تغيير العالم ولو بسفك دماء الآخرين عن طريق التفجيرات، أو سفك دماء النفس ذاتها حين يفجر الإرهابي نفسه ويموت معتقدًا أنه بذلك ينتصر للإيديولوجية المتطرفة التي يدين بها.
ويثور هنا سؤال رئيسي: كيف لنا أن نفسر ظاهرة الإرهاب ونحدد معالم شبكة العوامل المركبة والمعقدة التي تؤدى إليه في مجتمعات متباينة من حيث تاريخها الاجتماعي والثقافي ومختلفة من زاوية وضعها الاقتصادي؟
لقد سبق للباحثين في علوم السياسة وعلم النفس السياسي وعلم الاجتماع صياغة نظريات متعددة حاولت تفسير ظاهرة الإرهاب المعقدة، وتحليل العوامل المتعددة التي تؤدي إليها.
وقد اهتممت شخصيًا باعتباري باحثًا في علم الاجتماع السياسي بظاهرة الإرهاب منذ سنوات بعيدة، ونشرت أبحاثي في هذا الصدد في كتاب صدر لي بعنوان "إعادة اختراع السياسى" (القاهرة، ميريت، 2006).
غير أنني -بمناسبة وصول حركات الإسلام السياسي إلى السلطة في مصر وتونس- جددت أبحاثي وأصدرت كتيبًا بعنوان "صعود وسقوط حركات الإسلام السياسي" أصدره "المركز العربي للبحوث" وهو مركز متخصص في الموضوع في أولي كراساته الشهرية بعنوان "صعود وسقوط حركات الإسلام السياسي: ثلاثية الحداثة والهوية والإرهاب" وذلك في إبريل 2013. وفيها تنبأت بالسقوط الحتمي لحكم الإخوان المسلمين بناء على تحليلاتي السابقة عن "العقل التقليدي" والذي عادة ما يتحول إلى "عقل إرهابي" يسوّغ استخدام العنف، سواء ضد السلطة أو ضد الجماهير.
أن جماعة الإخوان المسلمين لم تمارس إطلاقًا النقد الذاتي لطروحاتها النظرية أو لسلوكها العملي، وخصوصًا في مسألة لجوئها للعنف والاغتيالات السياسية على يد الجهاز السري للجماعة
وقد لفت نظرى أخيرًا –بحكم اهتمامى القديم بموضوع الإرهاب- بحث بالغ الأهمية أصدرته مؤسسة "راند Rand الأمريكية" والتي تعتبر أبرز تجليات العقل الإستراتيجي الأمريكي عنوانه "تحسين مستوى فهم العسكريين الأمريكيين للبيئات غير المستقرة المهيئة للجماعات المتطرفة التي تمارس العنف: استبصارات من العلم الاجتماعي" وصدر البحث عام 2003 وحرره "دافيد تاهلر thalar وآخرون.
والجديد والمبهر في هذا البحث، أنه تضمن مسحًا شاملًا لكل النظريات السائدة في  العلم الاجتماعي بفروعه المختلفة، والتي تتعلق ببيئات الصراع القلقة من وجهة النظر العلمية. ليس ذلك فقط ولكن البحث حدد اثني عشر عاملًا من العوامل المرتبطة بالبيئات المعرضة للصراعات وبعد ذلك قدم مصفوفات Matrixes متكاملة تبين أنواع التفاعل المختلفة بين هذه العوامل.
وقد حلل البحث ثلاث نظريات سوسيولوجية هي "نظرية الصراع"، و"نظرية الحركة الاجتماعية"، و"النظرية المؤسسية/ التنظيمية". ونريد أن نوجز الأفكار الرئيسية لكل نظرية من هذه النظريات لكي نحدد التفسيرات التي تقدمها للبيئات غير المستقرة المولدة للإرهاب.
ونبدأ بنظرية الصراع. تقول هذه النظرية بأن التوزيع غير المتكافئ للقوة والموارد داخل المجتمعات ينتج الصراعات. وهذه الصراعات لديها القدرة على تغيير العلاقات الاجتماعية القائمة في  هذا المجتمع. وبناء عليه، فإن مصالح النخب في المجتمع في تعارض مباشر مع مصالح أولئك الذين هم ليسوا في مواقع القوة أو السلطة. ولذلك للمحرومين من الموارد السياسية أو الاقتصادية مصالح تتعارض مع الوضع الراهن. وهذه المصالح المتضاربة تدفع عجلة التغيير الاجتماعي. هذه النظرية تطبق كثيرًا "دراسات الحالة التاريخية" للحروب الأهلية أو الثورة التي يطاح فيها بدولة تحكمها نخبة حاكمة، على يد السكان الذين هم مهمشون في  السياسة، ومحبطون من الأوضاع الاقتصادية. وغالبًا ما تشير الدراسات السوسيولوجية لتأثير الحرمان النسبي والتهميش الجماعيفي ظهور الحروب الأهلية أو الثورات.
أما نظرية "الحركة الاجتماعية" فتطرح الإطار التصوري لفهم كيف ولماذا ينشأ العمل الجماعي والخلاف السياسي. إذ تفترض أن الأفراد يلجأون للعمل الجماعي عبر طرق: بتعبئة الموارد، وتوفير الفرص ضمن سياق سياسي عام، وصياغة رسائل وخطابات منظمي الحركة.
وتجادل نظرية تعبئة الموارد بأن نشوء الحركات أو أعمال التمرد، تحتاج لوجود مؤسسة وللتدفق المستمر للموارد المادية، والمالية والبشرية. وبالتالي فإن نجاح الحركة يعتمد على مدى حشد هذه الموارد. ويرى بعض الباحثين أن الفاعلين العنيفين هذه الأيام منظمون على غرار تنظيمات الحركات الاجتماعية. فلابد من توفر فريق من المتخصصين الذين يديرون ويوجهون الهجمات، ويقومون بتجميع الموارد، وتنصيب القيادة العامة لقاعدة أوسع من الأنصار. لذا تنطبق نظرية تعبئة الموارد على الجماعات الإرهابية مثل تنظيم "القاعدة".
وقد توصل الباحثون إلى أن دراسة البيئات المتوترة والمعرضة للعنف السياسي تتطلب الاستفادة من نظريات التوتر والمظالم. ولقد وجدت العديد من الدراسات بأن المتمردين أو الأشخاص العنيفين بدافع من القيم المهددة، أو بدافع من العقيدة الدينية المثالية، في  تناقض مع ممارسات المجتمع، ومع ردود الفعل على مسار التحديث في  المجتمع، أو على الاحتلال العسكري الأجنبي والنفوذ الخارجي، أو المظالم العامة الأخرى. ومع ذلك، تدرك نظرية "الحركة الاجتماعية" أن المظالم والحرمان النسبى أو القمع، أو التوترات الاجتماعية لا تكفي  وحدها لتفسير لماذا تتجلى بعض الدوافع في  صورة خلافات وحركات عنيفة فيما لا تتجلى في غيرها.
وهناك نظرية "الشبكة الاجتماعية" وهي ميدان سوسيولوجي واعد لفهم واستدامة العمل الجماعي، وكذلك التمرد. فتقدم النظرية إطارًا لدراسة بناء الشبكات وقوة العلاقات بين أعضاء الشبكة، وكذلك دراسة إمكانية نشوء نقاط يمكن عندها أن تتعرض العلاقات للتفتيت كجزء من الجهود الرامية لمكافحة التمرد.
تجادل نظريات "الشبكة الاجتماعية" بأن بنية الشبكة ورصد العلاقات الناشئة بين أعضاء الجماعة وأنواعها يمكن أن يكون عاملًا حاسمًا في  نجاح الفرد وعمليات اتخاذ القرار، وفي  تشكيل هوية الأفراد الأكثر نفوذًا، والسلوك المحتمل للجماعة، واستجابة الجماعة للصدمات الداخلية والخارجية. ففي  نظرية الشبكة الاجتماعية، سمات الأفراد أقل أهمية من العلاقات المعقودة بين الأفراد والعلاقات القائمة مع الفاعلين الآخرين داخل الشبكة. فالنظرية تدريس وتقيس العلاقات والتفاعلات بين الفاعلين الأفراد داخل الشبكة، الذين يمثلون ما يعرف "بالعقد" Nodes، وتستخدم مخططات الشبكة لفهم تدفق السلطة والموارد (المال، والمرافق، المعدات)، والمعلومات عبر التنظيم وكيف تؤثر الشبكة على تجنيد المؤيدين.
وتبقى أخيرًا "النظرية المؤسسية/ التنظيمية" وهي تدرس حال البيئات المؤسسية والبنى الاجتماعية التي يقبع الأفراد فيها (على سبيل المثال، المدارس، وأماكن العمل، والأسر، بل والبنى السياسية أو الاقتصادية) كما تهتم بالطرق التي تقوم بها تلك المؤسسات والبنى بوضع المعايير والمعتقدات، أو الإجراءات التي تنظم الأفراد وتوجه سلوكهم الاجتماعي والقرارات المعمول بها، والمعتمدة والتي يتم تعديلها وفقًا للأوضاع الاجتماعية. وحين ننظر إلى هذه النظريات المؤسسية في سياق التمرد، نجدها مفيدة في  دراسة كيفية قيام الجماعات المتمردة بوضع قواعد السلوك الاجتماعي وتطبيقها لدفع السكان للانضمام إليها. ومع ذلك فإن هذه النظريات، حتى الآن، لم تطبق التطبيق الملائم كالنظريات السابقة. ويبقى أن نحلل من بعد النظريات الأنثروبولوجية التي حاولت بحث ظاهرة الإرهاب من خلال تحليل الثقافات المختلفة.
4- النقد الذاتى ومراجعة الفكر الإرهابي
من الظواهر السياسية والثقافية والملفتة للنظر أن عددًا من الجماعات الإسلامية المتطرفة التي مارست الإرهاب في  العقود الماضية قامت بمراجعة تراثها النظري وسلوكها العملي، بنشر كتب متعددة مارست فيها النقد الذاتي، وأعلنت عدولها عن استخدام العنف وسيلة لتحقيق أهدافها السياسية.
من هذه الجماعات "الجماعة الإسلامية" التي نشر أقطابها عشرات الكتب في  مراجعة أفكارها، وآخرها جماعة "الجهاد" المصرية التي أصدر "أميرها" الذي مازال مسجونا في  السجون المصرية والذي اشتهر باسم دكتور فضل، وثيقة مهمة عنوانها "ترشيد العمل الجهادى في  مصر والعالم" وقد عقد مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية ندوة مهمة في الأسبوع الثالث من ديسمبر 2007 لمناقشتها بطريقة نقدية.
،، تعرف الخارجية الأمريكية الإرهاب بأنه "أى فعل عنف موجه لتحقيق أهداف سياسية بواسطة فاعلين أقل من مستوى الدول أو بواسطة عملاء سريين لدول ضد أشخاص غير محاربين بغرض التأثير في الناس
وهذه الندوة تمثل حدثًا فكريًا مهمًا لأن المجتمع العلمى عليه دراسة نشوء وتطور الحركات الإسلامية المتطرفة التي تبنت العنف وسيلة لتحقيق أهدافها، وحين تصدر جماعة من هذه الجماعات وثيقة تراجع فيها التفسيرات التي قامت بها للقرآن الكريم وللسنة النبوية، والتي أقامت على أساسها نظرياتها في استخدام العنف وتبرير الإرهاب، فإن مثل هذه الوثيقة جديرة بالدراسة والتحليل.
ولابد أن نذكر في هذا المقام أن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية سبق له أن قام بمشروع رائد بإشراف أستاذنا الراحل الدكتور أحمد خليفة لدراسة الحركات الإسلامية المعاصرة. وقام المركز بنشر حصيلة أبحاثه التحليلية والنقدية في  مجلدين قامت بتحريرهما الدكتور سهير لطفي  بعنوان "المتشددون المحدثون: دراسة لحركات إسلامية معاصرة" وإن كان الكتاب قد وزع توزيعًا محدودًا.
ويمكن القول: إن تحليلنا لوثيقة جماعة "الجهاد" يعد امتدادًا وتجاوزًافي  نفس الوقت لكتاباتنا السابقة في  الموضوع حين تعرضنا بالتفصيل لنقد الفكر السلفي المتشدد والفكر الإرهابي، والتي لم تتوقف حتى الآن، وإن كانت تصدر وفق الظروف والملابسات التي تدعو لكتابتها.
والواقع أن الدراسة النقدية المتكاملة لوثيقة "ترشيد العمل الجهادي في  مصر والعالم"، تمثل مجموعة من التحديات المنهجية والنظرية والعملية، نظرًا لتعدد الأبعاد والزوايا وتنوع الآراء التي تشملها الوثيقة. ولعل أهم قضية تنبغي إثارتها هي أسلوب النقد الذاتي في  المجتمع العربي، بالإضافة إلى ضرورة تشريح ظاهرة التطرف الإيديولوجي، قبل أن نحلل آلية القياس الخاطئ والتأويل المنحرف.  
ومن واجبنا أن نحيي جماعة الجهاد على ممارستها للنقد الذاتي في الوثيقة التي حررها باسمها الدكتور فضل، الذي ينبه في نهايتها بتواضع محمود ويقول "إنني لست عالما ولا مفتيًا ولا مجتهدًافي  الشريعة، وما في  كتبي ليس من باب الفتوى وإنما هو مجرد نقل العلم إلى الناس وهذا لا يشترط فيه بلوغ مرتبة الاجتهاد".
نحيي جماعة الجهاد لأنها مارست النقد الذاتي بشجاعة أدبية ملحوظة، وهو الأمر الذي لم تقدم عليه جماعات إسلامية متعددة، وإن كانت "الجماعة الإسلامية" مارست منذ حين نقدها الذاتي باستفاضة في عشرات الكتب.
غير أن اللافت النظر أن جماعة الإخوان المسلمين، كبرى الجماعات الإسلامية في  العصر الحديث، لم تمارس إطلاقًا النقد الذاتي لطروحاتها النظرية أو لسلوكها العملي، وخصوصًا في مسألة لجوئها للعنف والاغتيالات السياسية على يد الجهاز السري للجماعة. وإن كان بعض الباحثين يرون أن البيان الذي سبق أن أصدره المرشد السابق للجماعة المستشار حسن الهضيبي بعنوان "دعاة لا قضاة" هو نوع من أنواع النقد الذاتي.
وهكذا يمكن القول: إنه يسجل "لجماعة الجهاد" ومن قبلها "للجماعة الإسلامية" ممارسة النقد الذاتي، ومراجعة عديد من أفكارها الخاطئة التي كانت دعامة وسندًا لحوادث متعددة من ارتكاب العنف وممارسة الإرهاب.
ويمكن القول: إن ممارسة النقد الذاتى فضيلة غربية ولم يصبح بعد فضيلة عربية شائعة. وتبدو أهمية النقد الذاتي في  كونه أحد أسباب التقدم الإنسانى بشكل عام. فتشخيص الأخطاء في  الفكر أو في  الممارسة أو فيهما معا وإعطاؤها التكييف الصحيح، مقدمة ضرورية لإصلاح الوضع الإنساني على هدْيِ مقولات صحيحة ومعايير سليمة.
ومع ذلك يمكن لنا أن نتعقب جذور النقد الذاتي العربي الحديث بالعودة إلى عام 1948 تاريخ إنشاء الدولة الإسرائيلية وتاريخ الهزيمة العربية في  حرب فلسطين في  نفس الوقت.
ولا شك أنه في  هذا السياق يمكن اعتبار المؤرخ اللبناني الشهير "قسطنطين زريق" هو رائد النقد الذاتي العربي. فقد نشر كتابة "معنى النكبة" عام 1948، وحدد فيه سببين أساسيين للهزيمة، وهما الافتقار لقواعد التفكير العلميفي  المجتمع العربي، والافتقار إلى الديمقراطية في  نفس الوقت، التي تسمح بالتعددية بكل صورها وأنماطها.  ولا نريد أن نسترسل في  تعقب الموجات المتتالية للنقد الذاتي العربي وقد خصصنا لها على كل حال من قبل دراسة مستقلة. (راجع خطاب الأزمة وأزمة الخطاب في  الموجة الرابعة من موجات النقد الذاتي، الفصل السابع من كتاب: السيد يسين، الوعي القومي المحاصر: أزمة الثقافة السياسية العربية، القاهرة: مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية، 1991، 125 – 133).
وفي  هذه الدراسة تعرضنا للموجة الثانية للنقد الذاتي العربي عقب هزيمة يونيو 1967 والتي شارك فيها أيضًا – ويا للمفارقة – رائد الموجة الأولى "قسطنطين زريق" بطبعة ثانية من كتابه القديم عنوانها "معنى النكبة مجددًا" أكد فيه مرة أخرى على أهمية الديمقراطية والتفكير العلمي.
غير أنه يمكن القول: إن أبرز نقاد الموجة الثانية هو الدكتور "صادق جلال العظم" والذي شارك بكتابه المعروف "النقد الذاتي بعد الهزيمة" والذي ركز فيه على عيوب أساليب التنشئة العربية، بالإضافة إلى وجهة نظر إسلامية عبر عنها "الدكتور صلاح الدين المنجد" بكتابه "أعمدة النكبة السبعة"، ووجهة نظر مسيحية أبرزها "أديب نصور" بكتابه "النكسة والخطأ".
ويمكن القول:إن الموجة الثالثة من موجات النقد الذاتي العربي تتمثل في  الندوة التي نظمتها في  الكويت جمعية الخريجين، وكان عنوانها "أزمة التطور الحضاري في  الوطن العربي" وهي من أهم الندوات العربية لأنه شاركت فيها نخبة ممتازة من المفكرين العرب في  المشرق والمغرب والخليج. وما تناولته من أبحاث حاولت تشخيص الأزمة العربية من منطلق النقد الذاتي. ونصل إلى الموجة الرابعة من موجات النقد الذاتي التي بادرت بها صفحة الحوار القومي في  جريدة الأهرام التي كان يشرف عليها "لطفي  الخولي" والتي أصدرت كتابًامهمًا بالاشتراك مع مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بعنوان "المأزق العربي" عام 1986، ضم عديدًا من المقالات كتبها مفكرون وباحثون عرب من مختلف الأقطار العربية الذين مارسوا النقد الذاتي.
وإذا كنا فيما سبق قد قمنا بمسح عام لموجات النقد الذاتي العربي المتابعة منذ عام 1948 حتى عام 1986، فإننا نريد أن نتوقف عند "دراسة حالة" مهمة لأنها وثيقة الصلة بمراجعات جماعة "الجهاد".
وتتمثل هذه الحالة في  الكتاب المهم الذي حرره وقدم له عالم السياسة الكويتي المعروف "الدكتور عبد اللـه النفيسي" وهو من أنصار الاتجاه الإسلامي.
صدر الكتاب عام 1989 من الكويت (بدون دار نشر) وعنوانه "الحركة الإسلامية: رؤية مستقبلية" وله عنوان فرعي له دلالة مهمة وهو "أوراق في  النقد الذاتي" وقد شارك في  كتابة أبحاث الكتاب كوكبة من أبرز المفكرين والناشطين الإسلاميين على اتساع العالم العربي، وهم توفيق الشاوي وحسان حتحوت وحسن الترابى وخالد صلاح الدين وصلاح الدين الجورشي وطارق البشري وعبد اللـه أبو عزة وعبد اللـه النفيسي وعدنان سعد الدين وفتحي عثمان وفريد عبد الخالق ومحمد عمارة ومنير شفيق ومحمود أبو السعود.
وهم كلهم فيما نرى من أهم رموز الحركة الإسلامية المعاصرة.
وقد قدم النفيسي في  توطئة الكتاب بيانا لما وراء إسهامات المشاركين من مؤسسي الحركة الإسلامية المعاصرة وبعضهم "سجنوا وضحوا وشردوا عن ديارهم وأهليهم من أجلها ومع ذلك ها هم أولئك يضعون أصابعهم على مكامن الخلل ويغوصون في النقد الذاتي وهي عملية جديدة في  الحظيرة الإسلامية"، وقد قدم النفيسي ملاحظاته النقدية على مسار الحركة الإسلامية، فتحدث عن غياب التفكير المنهجي ذي المدى البعيد، وغياب نظرية علمية للاتصال بالجمهور، والوهم الذي تصدر عنه الحركة، والذي يتمثل في  ظنها أن العالم يعيش حالة فراغ فكري وروحي وحضاري، وأن الحركة الإسلامية جاءت لكي تملأ هذا الفراغ وتسده. وهذا تصور – كما يقرر النفيسي – يحتاج إلى مراجعة. وتساءل النفيسي: أين التاريخ الرسمي للحركة الإسلامية؟
ويقرر أن الإخوان المسلمين لم يصدروا كتابًا واحدًا باسمها من حيث هي جماعة – أي رسميا وباسمها لا باسم أفراد – يتناول بالتقويم الموضوعي الفترة الطويلة التي أمضتها الجماعة في  العمل والتحرك. ونكتفي  بهذا القدر من استعراض الملاحظات النقدية للنفيسي للحركة الإسلامية وهي متعددة، لأن المقام لا يسمح بالتفصيل.
وأيا ما كان الأمر فيمكن القول:إن النقد الذاتي يصبح ضرورة أساسية بالنسبة للحركات الإسلامية التي مارست من قبل التطرف الإيديولوجي مثل الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد مما أوقعها في  حبائل استخدام العنف ونشر الإرهاب، والذي سقط عشرات من ضحاياه من المسلمين وغيرهم.
5- نظرة تكاملية لظاهرة الإرهاب
حين تعرضت للإرهاب في  تحديه للديمقراطية، وفي علاقته بالعولمة لم أشأ أن أتعرض للمشكلة الشائكة التي تتعلق بتعريف الإرهاب. ونعرف جميعا أن هذه المشكلة، وإن كانت محل جدل واختلاف بين خبراء الأمن القومي والمسئولين عن الأمن الوطني في عديد من البلاد، إلا أنها ثارت في  العالم العربي والإسلامي على وجه الخصوص بصدد أفعال المقاومة في  الانتفاضة الفلسطينية. وتم الخلاف أساسا بالنسبة للعمليات التي يُقدِم فيها شخص على تفجير نفسه، أى يتحول إلى قنبلة متحركة، يؤدي انفجارها عادة إلى إيقاع خسائر بشرية متعددة للمحيطين به أيا كانوا أعداء أو مواطنين. هذه الأفعال وصفت بأنها عمليات انتحارية لدى البعض، وعمليات استشهادية لدى أنصار الجماعات الإسلامية على وجه الخصوص، الذين لا يرون فيها انتحارًا وإنما هو استشهاد في  سبيل اللـه، وهي في  نظرهم عمل من أعمال المقاومة.
وابتداء نريد أن نؤكد على المبدأ المستقر القانون الدولي، من كون الشعب المحتل من حقه مقاومة الاحتلال. وعلى هذا الأساس من حق أبناء الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، ولكن يبقى السؤال: هل أفعال المقاومة الموجهة ضد المدنيين الإسرائيليين مشروعة أم لا وفقًا للتعريف السابق، أم أنها ينبغي أن تقتصر على توجيهها ضد العسكريين الإسرائيليين؟
مشكلة خلافية دارت حتى بين فصائل المقاومة الفلسطينية ذاتها، التي دعا بعضها إلى قصر عمليات المقاومة ضد العسكريين الإسرائيليين داخل نطاق غزة والضفة الغربية، في  حين أيد البعض الآخر الهجوم حتى على المدنيين الإسرائيليين خارج الخط الأخضر، مثل العمليات الانتحارية التي تمت في  تل أبيب وغيرها من المدن الإسرائيلية خارج نطاق الضفة الغربية. ولعلمي أن تعريف الإرهاب مشكلة معقدة، لم أشأ في  مقالاتي الماضية التطرق لها، لأنني كنت أتحدث بشكل عام عن الإرهاب والديمقراطية، والإرهاب والعولمة.
  غير أنه عقب نشر مقالاتي الأخيرة عن "الإرهاب كظاهرة عالمية" اتصل بي صديق وهو عالم اجتماعي مرموق قائلًا أريد أن أعاتبك، لأنك وصفت من ارتكب حادثة الأزهر في  مصر بأنه إرهابي، وأعترف أنني دهشت للغاية من مكالمته التليفونية، وسألته: كيف أصفه إذن؟ قال إن الإرهاب هو الذي تمثله الدول الظالمة، أما هذا الشخص الذي فجر نفسه فإنه – نظرًا لحساسيته الشديدة – لم يطق أن يصبر عما يراه كل يوم من عدوان محلي ودولي على حقوق الشعوب العربية والإسلامية.
وقلت له الإرهاب هو القتل العشوائي للبشر – أيا كانت دوافعه السياسية – لأن المجني عليهم سواء في  حادثة الأزهر في  القاهرة، أو في  حادثة طابا أو في  غيرها من الحوادث، هم أشخاص أبرياء لا علاقة لهم بالمشكلات التي أثرت في  نفسية الإرهابيين ودفعتهم لارتكاب جرائم التفجير والقتل.
واختلفنا في  الرأي، غير أنني أدركت أن هناك حاجة ملحة لتعريف الإرهاب، حتى لا تختلط الأوراق بين أفعال المقاومة المشروعة لقوى الاحتلال، والإرهاب الخالص الذي يوجه للبشر الذين لا علاقة لهم على الإطلاق بالظواهر التي يشكو منها من يفجر نفسه.
وفي  هذا المجال ـ حتى لا يضيع الموضوع الرئيسي في  اختلاف التعريفات ـ سنقتصر على تعريفات الإرهاب كما نصت عليها قوانين محاربة الإرهاب في  كل من ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية. ليس لأن تشريعاتهم أسمى من غيرها، ولكن لأنها واردة في قوانين خصصت لمواجهة الظاهرة، وتم تطبيقها فعلًافي  العمل.
ووفقًا لمكتب حماية الدستور، فإن إدارة الأمن الداخلي في ألمانيا تعرّف الإرهاب بأنه "صراع موجه لتحقيق أهداف سياسية يتم بالاعتداء على الحياة أو الممتلكات لأشخاص آخرين، وخصوصًا عن طريق ارتكاب جرائم عنيفة مثل القتل العمد وخطف الأشخاص والحريق.
أما في  بريطانيا فإن التشريع الخاص بمنع الإرهاب الصادر عام 1974 يعرّفه، بأنه "استخدام العنف ليحقق أهدافًا سياسية ويتضمن ذلك أي لجوء للعنف بفرض ترويع الجمهور ككل أو جزء منه".
ومن ناحية أخرى، فإن وزارة الخارجية الأمريكية تعرف الإرهاب بأنه "أى فعل عنف موجه لتحقيق أهداف سياسية بواسطة فاعلين أقل من مستوى الدول أو بواسطة عملاء سريين لدول ضد أشخاص غير محاربين بغرض التأثير في  الناس".
وتعرف القوانين الأمريكية الفعل الإرهابي بأنه عنف إجرامي يمارَس بقصد ترويع أو قهر جمهور مدني، أو التأثير على سياسة حكومة ما عن طريق الترويع أو القهر، أو التأثير على سلوك حكومة ما عن طريق القتل العمد أو خطف الأشخاص".
من هذه التعريفات جميعًا نخلص إلى العناصر المشتركة لتعريف الإرهاب، وهو كونه فعلا من أفعال العنف عادة ما يتضمن ارتكاب جرائم خطيرة مثل القتل العمد أو الإطراق أو اختطاف الأشخاص، وهو غالبًا ما يتم تحقيقًا لأهداف سياسية للتأثير على سياسات الدول، أو ترويع القائمين عليها.
والواقع أن هذه التعريفات التي قد تبدو مجردة، تنطبق على كل أنواع الإرهاب وسواء كان إرهابًا غربيًا أم إرهابًا تقوم به جماعات إسلامية متشددة.
وحين نقول إرهابًا غربيًا فينبغي أن يقر في  الأذهان أن هناك إرهابًا غربيًا يساريًا وإرهابًا غربيًا يمينيًا، إن صح التعبير!
الإرهاب الغربي اليساري يمثله أصدق تمثيل جماعة الألوية الحمراء الإرهابية التي تشكلت في  إيطاليا في  أواخر الستينيات، وقادها مثقفون ماركسيون أرادوا القضاء على النظام الرأسمالي باستخدام العنف. وكان على رأس هذه الجماعة الإرهابية توني نيجري أستاذ الفلسفة الإيطالي الذي حكم عليه بالإعدام وهرب إلى فرنسا، واحتضنه اليسار الفرنسي وعين أستاذًا للفلسفة في  جامعاتها، وكان يرعاه على وجه الخصوص الفيلسوف الفرنسي الشهير ميشيل فوكو. وبعد أكثر من خمسة عشر عامًا ضاق نيجري بالمنفى، وعاد إلى بلده إيطاليا، وحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة. غير أنه سمح له بالخروج من السجن كل صباح لكي يقرأ في  مكتبة الجامعة، ويعود في المساء لكى يبيت في السجن!
وهكذا استطاع هذا الفيلسوف المرموق أن يستفيد من هذا النظام العقابي الفريد، فيؤلف مع مؤرخ أمريكي هو مايكل هاردت كتابًامهمًا بعنوان "الإمبراطورية" قدم فيه نظرية مهمة عن مستقبل العالم في  القرن الحادي والعشرين.

أن إستراتيجية المواجهة للجماعات الإرهابية يجب أن متعددة الأوجه تستعمل فيها الوسائل الأمنية والثقافية والتعبئة والإجراءات السياسية في خطة متكاملة
غير أن هناك إرهابًا غربيًا يمينيًا، تمثله الميليشيات العسكرية الأمريكية التي تعتنق مذاهب دينية متطرفة، وتتبنى رؤى مختلفة عن العالم، ويقوم بالقتل الجماعي في  بعض الأحيان. وربما ينتمي تيموثي ماكش، المقاتل السابق في حرب فيتنام والذي فجر المبنى الفيدرالي في  أوكلاهوما، ومات في  الحادث قرابة 400 من النساء والرجال والأطفال إلى جماعة إرهابية يمينية.
غير أن الذي يهمنا في  الواقع هو؛ الإرهاب الذي تمارسه الجماعات الإسلامية المتشددة، التي تريد في  الواقع تقويض أسس الدولة العربية المعاصرة لبناء الدولة الدينية التي تحكم بالشريعة الإسلامية. بل إن الإرهاب الإسلامي المتشدد طال المملكة العربية السعودية، والتي هي بحسب التعريف دولة دينية، لاحتجاج أنصار تنظيم القاعدة على وجود الأجانب الكفار على أرضها المقدسة.
نحن في  العالم العربي في مواجهة الإرهاب أمام ظاهرة بالغة التعقيد. ومن هنا فالتفسيرات الاختزالية التي تذهب إلى أن السبب هو الفقر المدقع للناس والذين يخرج من صفوفهم الإرهابيين ليس صحيحًا. والدليل على ذلك أن الإخوان المسلمين في  مصر حين شكلوا الجهاز السري ليكون أداة إرهابية لتنفيذ أحكامهم بالموت على خصومهم من القضاة أو السياسيين (اغتيال المستشار الخازندار والنقراشي باشا رئيس وزراء مصر) لم يكن الدافع هو الفقر، ولكن كان تقف وراء ذلك إيديولوجية دينية تريد إقامة الدولة الدينية، ولأهداف سياسية هي الاستيلاء بالقوة على الحكم في  مصر.
ولعل ما يجعلنا ننحِّي جانبًا هذا التفسير الاختزالي للإرهاب في  مسألة الفقر، هو حالة زعيمي القاعدة المشهورين بن لادن السعودي والظواهري المصري. بن لادن من أكبر الأثرياء، وبالتالي فالزعم بأن الفقر دفعه لارتكاب جرائم الإرهاب أو التخطيط لها لا يستقيم، وكذلك الظواهري الطبيب الذي ينتمي إلى أسرة مهنية ثرية. وهناك عشرات الأمثلة من أعضاء الجماعات الإرهابية سواء في  الغرب أو لدينا لا علاقة لسلوكهم الإرهابي بالفقر.
المشكلة هي رؤى العالم التي يتبناها أعضاء الجماعات الإرهابية، وقد تكون هذه الرؤى ماركسية تحلم بعالم يسوده العدل وينتفي  فيه الظلم الطبقي، وقد تكون إسلامية متشددة تحلم باستعادة الفردوس المفقود الذي يتمثل في إعادة نظام الخلافة من جديد، أو على الأقل قلب الدول العلمانية التي تحكم بالدستور والقوانين الوضعية، وتأسيس الدولة الدينية التي تقوم على الفتوى.
أمام ظاهرة الإرهاب لا ينبغي أن نقنع بالتفسيرات الاختزالية المسطحة، مثل الفقر، أو حتى القهر الذي تمارسه النظم السياسية السلطوية، لأن الإرهاب الغربي تم في  حالات عديدة ضد نظم سياسية ديمقراطية لا تمارس القهر على شعوبها.
المشكلة الحقيقية هي كيف يتشكل العقل الإرهابي؟
هذا العقل الإرهابي على الرغم من الاختلافات الجوهرية بين الثقافة الغربية والثقافة العربية الإسلامية له بنية متماثلة. ولهذا حديث آخر.
6- كيف يمكن مواجهة الإرهاب؟
ليس هناك شك في أن الإرهاب على مستوى العالم أصبح هو القضية التي تملأ الدنيا وتشغل الناس.
 ويكفي  في هذا المجال أن نشير إلى الخطورة الشديدة لتنظيم "داعش" الإرهابي الذي أقام "خلافة إسلامية" مزعومة تمتد من سوريا إلى العراق. ووقائع هذا التمدد الذي سمح لهذا التنظيم أن يحتل مساحات شاسعة في العراق، وأن يستولي على مدن كبرى كالموصل وغيرها تبعث على الدهشة الشديدة. ووصلت الخطورة إلى أن تنظيم "داعش" سيطر على بعض آبار النفط وبدأ بيعه في السوق من خلال شبكات سرية تورطت فيها أطراف دولية شتى، مما جعل المراقبين يقررون أن تنظيم "داعش" أصبح أغنى الجماعات الإرهابية في العالم!
وفي مواجهة داعش تشكل تحالف دولى تشارك فيه بعض الدول العربية. ومع كل هذا فإن التصريحات الأمريكية تقول: إنه لا يمكن القضاء على داعش إلا بعد سنوات، وكأن هذا التنظيم يمثل قوة عسكرية جبارة لا تستطيع الدول الكبرى هزيمتها في ميدان المعارك!
والعالم مشغول بالجرائم الإرهابية والمذابح الجماعية التي يرتكبها تنظيم "داعش" كل يوم، وإذا بالهجوم الدموي على محرري جريدة "شارل إبدو" الفرنسية الساخرة يوقع أحد عشر قتيلًا مرة واحدة. وهو الحادث الإرهابي الذي هز العالم لأن معناه؛ أن الدول الغربية أصبحت هدفًا للإرهاب.
والإرهاب الذي تقوم به جماعات تكفيرية متشددة لا يوجه ضرباته الغادرة ضد الأجانب فقط، ولكنه في سيناء- يمارس جرائم يوميًا ضد المواطنين المصريين سواء في سيناء أو في الوادي، مما يطرح تساؤلات جدية حول أنجح الوسائل لمكافحته وفق خطة متكاملة.
وقد تعرض مؤتمر شباب الباحثين الذي نظمه المركز العربي للبحوث بالتعاون مع وزارة الشباب لهذا الموضوع من خلال أبحاث علمية رصينة عرضت في المؤتمر وأثمرت مناقشات خصبة، أدت إلى صياغة عدد من التوصيات المهمة من المهم أن نعرض لها لكي نعرف كيف يفكر الشباب في هذه المشكلة، وخصوصًا أن أنصار الجماعات التكفيرية الإرهابية يتشكلون أساسًا من الشباب.
وقد التفتت التوصيات بذكاء إلى ظاهرة العائدين من صفوف الجماعات الإرهابية في سوريا والعراق، فاقترحت إعداد قاعدة بيانات عن الشباب المنضمين للجماعات الإرهابية في دول الإقليم ومدى انخراطهم في العمليات القتالية التي تقوم بها تلك التنظيمات.
ويرتبط بهذه التوصية "ضرورة إنشاء مرصد يقوم عليه مجموعة من الباحثين المتخصصين لرصد الممارسات الإرهابية وصياغة برامج للأمن الفكري تتناسب مع الأوضاع المجتمعية والاقتصادية السائدة في الدولة".
ويلفت النظر في التوصيات توصية مهمة، وإن كان يعيبها أنها مجملة وتفتقر إلى التحديد لتوضيح الأبعاد المختلفة للمقترحات التي تدعو لها.
تقول التوصية "أن تكون إستراتيجية المواجهة للجماعات الإرهابية متعددة الأوجه تستعمل فيها الوسائل الأمنية والثقافية والتعبئة والإجراءات السياسية في خطة متكاملة".
وإذا بدأنا بالوسائل النفسية التي يمكن أن تلجأ إليها الدولة في مواجهة الجماعات الإرهابية لقلنا إنها لابد أن تركز اولًا على ظاهرة التطرف الإيديولوجي بصوره المتعددة، والذي يقوم أساسًا على تبنى أفكارًا متشددة تعلى من قيمة الذات وتنظر نظرة دونية للآخر أيًا كان.
وفي  هذا المجال تعرف بحوث علم النفس الاجتماعي مبحثًا خاصًا يتعلق بالأساليب الفاعلة لتغيير الاتجاهات المتطرفة.
وقد تكون عملية تجديد الخطاب الديني من بين الوسائل الفعالة في مجال تفكيك الآراء المتشددة وتذويب الجمود الفكري لأعضاء هذه الجماعات. كما أن ترسيخ قواعد النقد الذاتي في المجتمع يعد آلية فاعلية وخصوصًا حين يصبح ذلك تقليدًا اجتماعيًا تمارسه كل الجماعات الإيديولوجية التي تتوزع بين اليمين المتطرف واليسار المتطرف.
وفلسفة النقد الذاتي أنه ليس عيبًا أن يمارس السياسيون أو المنضمون لأحزاب أو جماعات دينية النقد الذاتي للاعتذار عن الأخطاء التي ارتكبوها، ولمراجعة المسلمات الفكرية التي دفعتهم دفعًا للتطرف.
ولدينا في مصر تجربة ثرية في هذا المجال، وهي المراجعات التي قامت بها جماعة "الجهاد" و"الجماعة الإسلامية" اللتان مارس أعضاؤها الإرهاب ضد فئات عديدة من الشعب المصرى، وقامت الدولة بناء على سياسة أمنية فاعلة بالقبض عليهم وإصدار أحكام قضائية بالسجن على أعداد كبيرة عليهم.
وقد قام بعض قادة هذه الجماعات بصياغة إستراتيجية مدروسة للنقد الذاتي تمثلت في زيارات منظمة – بالتعاون مع الجهات الأمنية- للمحكوم عليهم من هذه الجماعات في السجون المختلفة، وممارسة النقد الذاتي عن طريق عدد كبير من كتب المراجعات، والتي تبين بالأدلة الشرعية الأخطاء التي ارتكبها القادة والأعضاء في مجال تفسير الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
وقد قمت من قبل بدراسة عن كتب المراجعات، واكتشفت أن الذي دفع قادة الجماعات المتطرفة للغلو والتورط في الأعمال الإرهابية هي "آلية القياس الخاطئ والتأويل المنحرف" للآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
وقد نجحت هذه المراجعات في إقناع أعضاء هذه الجماعات، مما شجع الحكومة على الإفراج عنهم، وأصبحوا من بعد مواطنين صالحين يمارسون حياتهم العادية بغير حدود ولا قيود.
أما السياسة الثقافية التي تدعو لها التوصيات فهي تتعلق في الواقع بإعادة صياغة العقل المصري، والذي هو عقل تقليدي صاغته برامج التعليم الفاسدة الحريصة على خلق عقل "اتباعي" وليس "عقلا نقديًا" يضع كل أمور الحياة موضع المساءلة.
ولو تحدثنا عن الإجراءات السياسية، فلابد هنا أن نجسّر الفجوة القائمة بين الدولة والمجتمع المدني، لأن هناك شكوكا متبادلة بين الطرفين. فلا الدولة تثق في المؤسسات الأهلية ولا هذه المؤسسات -التي تشكو من تقييد حريتها بواسطة التشريعات- تثق في الدولة.
مع أن مؤسسات المجتمع المدني يمكن أن تستقطب الشباب التائهين بغير دور يلعبونه في المجال العام، مع أنهم يمتلكون الطاقة والحيوية التي يمكن أن تكون دافعة للنهوض الاجتماعي، وخصوصًا إذا ما توجهت مؤسسات المجتمع المدني إلى برامج التنمية والتنوير الثقافي.
ولا شك أن أحد المداخل المهمة لسياسة ثقافية فاعلة هو التعرف العلمي الدقيق على ثقافة الشباب، ورسم الملامح الدقيقة لرؤيتهم العالم، وخصوصًا استخدامهم الواسع المدني لوسائل الاتصال الاجتماعي الجديد، والتي أصبحت شبكات فاعلة لنشر الأفكار صحيحة كانت أو زائفة، وكذلك للترويج للقيم الاجتماعية والتي قد يكون بعضها قيما اجتماعية أو دينية منحرفة.
بعبارة موجزة المواجهة الفاعلة للإرهاب تقضي ثورة تعليمية وثورة ثقافية تسعى إلى تأسيس العقل النقدي، وفق قيم اجتماعية جديدة قادرة على التفاعل مع الأوضاع الحضارية للعالم المعاصر.

ثانيًا: تجديد الخطاب الديني
1- إشكالية تجديد الخطاب الديني
يمكن القول:إن قضية "تجديد الفكر الديني" التي آثارها مفكرو النهضة العربية الأولى تحولت في السنوات الأخيرة إلى ما يطلق عليه "تجديد الخطاب الديني". والتي تحولت من موضوع مطروق على ألسنة المتحدثين وبأقلام الكتاب من موضوع إلى إشكالية!
ولو حاولنا أن نتتبع الجذور الأولى لقضية تجديد الفكر الديني لوجدنا أنها نبعت من النماذج الأساسية لاستجابة المفكرين العرب للتحدي الغربي، والذي لم يتمثل فقط في التحدي الاستعماري لعديد من البلاد العربية، وإنما تجاوز ذلك إلى التحدي الثقافي.
ذلك أن الغرب أصبح مصدرا للتهديد السياسيالذي أثر من خلال الاستعمار على استقلال الدول العربية، ولكنه تحول ليصبح –في  صوره البارزة- غزوًا ثقافيا يهدف إلى مسح الملامح البارزة للشخصية العربية الإسلامية، وغرس بذور الأفكار الغربية الأساسية في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة. ومن هنا كان من المنطقي أن يهب المفكرون العرب – بحسب اتجاهات كل واحد منهم – للاستجابة للتحدى الغربي.
ويقدم لنا المؤرخ المغربي المعروف "عبد اللـه العروي" في كتابه الشهير "الإيديولوجية العربية المعاصرة" ثلاثة نماذج مثالية Ideal Types– إذا استخدمنا لغة عالم الاجتماع الألماني "ماكس ﭬيبر" تعبر عن الاستجابات المختلفة للتحدى الغربي.
النموذج الأول هو "وعي الشيخ"، ويعبر عنه الشيخ "محمد عبده" الذي شغل منصب مفتي الديار المصرية.
والنموذج الثاني هو "وعي الليبرالي"، ويعبر عنه الدكتور "أحمد لطفي السيد" والذي شغل منصب رئيس الجامعة المصرية.
والنموذج الثالث هو "وعي داعية التقنية". ويشير بذلك إلى المفكر المصري الماركسي "سلامة موسى".
الشيخ "محمد عبده" كان مصلحا دينيا، وأراد أن يجعل الإسلام معاصرا، وكتب كتابه المعروف "الإسلام والعلم". والدكتور "أحمد لطفي السيد" كان متعصبا تعصبا شديدا لليبرالية كمذهب سياسي، وهو الذي أدخل مفرداتها الأساسية إلى اللغة العربية وكان يسمها "مذهب الحريين"، غير أنه -بالإضافة إلى ذلك- دعا إلى القطع التام مع التراث العربي بما فيه التراث الديني.
أما "سلامة موسى" فقد كان داعية للتنمية التي تقوم على التصنيع والتكنولوجيا.
الشيخ "محمد عبده" فشل في  تكوين مدرسة فكرية تواصل جهوده التجديدية في  الفكر الديني، ولكنه أورثنا الشيخ "رشيد رضا" مؤسس مجلة "المنار" والذي كان مفكرا إسلاميا محافظا ورجعيا ومتزمتا. وهو الذي أثر على أفكار الشيخ "حسن البنا" مؤسس جماعة الإخوان المسلمين (1928) والذي حوّل تجديد الفكر الديني من مشروع فكري إلى مشروع سياسي انقلابي يقوم على أساس القضاء على الدول العربية الإسلامية المدنية، وتأسيس دول دينية على أنقاضها، سواء من خلال الانتخابات أو عن طريق الإرهاب الذي مثله "التنظيم السري" الذي أنشأه البنا داخل الجماعة، والذي قام باغتيال "النقراشي" باشا رئيس وزراء مصر، وكذلك المستشار "الخازندار" القاضيالذي حكم بأحكام قاسية على الإرهابيين من أعضاء الجماعة والذين قاموا بجرائم اغتيال.
وخلاصة هذه اللوحة التاريخية الوجيزة التي قدمناها، أنه في مرحلة أولى لم ينجح التيار الديني المتطرف في  الوصول إلى السلطة بعد أن دخل في  مصادمات شتى مع النظم السياسية العربية الليبرالية ولذلك انزوى، أما تيار التصنيع والتكنولوجيا فلم يتح له التحقق إلا بعد قيام ثورة يوليو 1952 والتي قامت بثورة تصنيعية كبرى.
غير أن أهم ملمح من ملامح التاريخ الفكري منذ العشرينيات هو رفض التيار الإسلامي المتطرف بكل صوره للحداثة الغربية. ولذلك لم يكن غريبًا هجوم الإسلاميين على الحضارة الغربية ورفضهم القاطع لها، باعتبار أنها هي - وليس غيرها- التي أفرزت القوى الاستعمارية التي حطمت الخلافة الإسلامية من جانب، واستعمرت بلادًاعربية وإسلامية عديدة من جانب آخر.
وقد يكون مقبولًا هجوم الإسلاميين على القوى الاستعمارية الغربية، غير أنه من غير المقبول في الواقع النظر إلى الثقافة الغربية وكأنها كتلة واحدة صماء، لا تمايز فيها ولا تنوع.
ومن ثم، لا ينبغي التعميم الجارف على الثقافة الغربية، وادعاء أنها بطبيعتها مضادة للقيم الإنسانية الرفيعة، التي تتعلق بالحرية والعدل والمساواة، كما أنها ليست معادية أيضًا للإسلام وللمجتمعات الإسلامية.  
ويمكن القول:إن الأخطر من الرفض المطلق للثقافة الغربية هو ادعاء الإسلاميين المتشددين أن الخراب لم يلحق بالبلاد العربية والإسلامية إلا بسبب تبنِّي مبادئ الحداثة الغربية، ومن بينها تطبيق القوانين الوضعية ووقف تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، وهو ادعاء ليس له من أساس.
غير أن نقطة الانقطاع التاريخية في التاريخ العربى المعاصر هو تحول هذه المناظرات الفكرية بين أنصار الحداثة الغربية والرافضين لها من جماعات الإسلام السياسي المتطرفة إلى معارك دموية يسقط فيها عشرات الضحايا، بعد أن تحولت الجماعات المتطرفة إلى جماعات إرهابية صريحة قامت من خلال القياس الخاطئ والتأويل المنحرف لنصوص القرآن الكريم والسيرة النبوية إلى إضفاء المشروعية على قتل المسلمين وغير المسلمين واستحلال أموالهم. وقامت هذه الجماعات -ومن أبرز نماذجها في  مصر "جماعة الجهاد" و"الجماعة الإسلامية"- بارتكاب عديد من جرائم الاغتيال، ونشرت الترويع في  كل أنحاء البلاد إلى أن استطاعت الدولة المصرية القضاء المبرم عليها.
غير أن هناك تغيرات كبرى حدثت في  مجال السياسة والاقتصاد والثقافة في  العالم العربي أدت إلى بروز جماعات إرهابية على المستوى الإقليمي العربي وعلى المستوى العالمي، وأبرزها تنظيم القاعدة بقيادة "أسامة بن لادن".
وهكذا تحول ما أطلق عليه "الإرهاب الإسلامي" إلى إرهاب معولم أصبح يمثل خطرا داهما على أمن الدول الغربية ذاتها مما دعا إلى حملات متعددة لمحاولة وقف هذا المد الإرهابي الخطير.
وها نحن أمام المشهد "الداعشي" – إن صح التعبير- حيث تمدد تنظيم "داعش" من سوريا إلى العراق واحتل مناطق هائلة، وتسرب بعد ذلك إلى ليبيا وأصبح يهدد السعودية مما دعا إلى تكوين حلف دولى لمواجهة تشترك فيه دول عربية شتى.
غير أن الذي يهمنا التركيز عليه هو أن هذه التطورات الخطيرة دعت إلى حملات متعددة شعارها ضرورة "تجديد الخطاب الديني"، ولم تنطلق هذه الحملات من إطار منهجي مدروس يجيد وضع المشكلة والتماس الحلول لها.
وقد قام شيخ الجامع الأزهر الدكتور "أحمد الطيب" يوم الثلاثاء "26 مايو 2015" بدعوة مجموعة كبيرة من المثقفين المصريين ورجال الدين لمناقشة إشكالية تجديد الخطاب الدينى.
وقد شاركت في  هذا الاجتماع المهم، كما شاركت من قبل في  عدة ندوات دعا إليها شيخ الأزهر وأصدرت وثائق بالغة الأهمية عن "مستقبل مصر" و"بيان لدعم إرادة الشعوب العربية" و"بيان لمنظومة الحقوق الأساسية" و"بيان حول استكمال أهداف الثورة" و"أخيرا بيان عن القدس الشريف".
وقد عرضت في مداخلتي التي قدمتها في الندوة لثلاث رسائل أساسية تصلح محاور لتجديد الخطاب الديني.
الرسالة الأولى موجهة للعالم بأسره لتنقية صورة الدين الإسلامي من الصور المشوهة التي يذيعها تنظيم "داعش" مفادها؛ أن القرآن الكريم يتضمن آية مبهرة في سورة الحجرات تقول "يا أيها الناس إنا خلقناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير".
وهذه الآية تصلح أن تكون شعارا إنسانيا لحوار الحضارات في  العالم.
والرسالة الثانية ضرورة أن يقوم الأزهر بنقد التفسيرات الإرهابية المغلوطة للقرآن الكريم، وأبرزها أن كل من لم يؤمن بالإسلام يجوز قتاله في الداخل والخارج. والرسالة الثالثة والأخيرة هي الأهمية القصوى في مجال السنة للانتقال من نقد "السند" إلى نقد "المتن"، لأن هناك  متونا تجاوزها الزمن، ولم تعد تصلح لتوجه السلوك الإنسانى في الحقبة التاريخية المعاصرة.

ثالثًا: الدور التنويري للإعلام المصري
1- تكوين العقل النقدي
اهتممنا منذ سنوات بمشكلة تكوين العقل النقدي العربي، إيمانا منا بأن هذا التكوين يعد إحدى المهام الرئيسية لأي ثقافة معاصرة.
وقد سبقتنا الثقافة الأوربية في  تشكيل هذا العقل منذ رفعت شعارات الحداثة، وأهمها أن العقل هو محك الحكم على الأشياء وليس النص الديني، كما كان شائعًافي  العصور الوسطي بتأثير الجمود العقائديالتي مارسته الكنيسة، والذي أدى إلى تعطيل العقل الأوربي ردحًا طويلًا من الزمان.
ومنذ أن أعلنت الثقافة الأوربية ثورتها المعرفية ضد قيود التفكير، وأرست مبادئ الشك الفلسفي الذي من تقاليده مساءلة كل الأفكار المسبقة وحتى المعتقدات الميتافيزيقية، تم إرساء قواعد التفكير النقدي.
ويمكن القول دون أدنى مبالغة؛ إن ممارسة التفكير النقدي الأوربي في مسائل السياسة وموضوعات الاقتصاد ومشكلات المجتمع والثقافة بواسطة الفلاسفة والمفكرين والسياسيين، هو الذي دفع بالمجتمعات الأوربية إلى آفاق التقدم.
ولا يعني ذلك أن التفكير النقدي بمفرده قادر على تطوير المجتمعات، فلابد أن يصاحبه – كما حدث فعلًا – نهضة صناعية وتكنولوجية وعلمية.
 وهكذا حين انتقلت أوربا من نمط الإنتاج الزراعي إلى نموذج المجتمع الصناعي بكل ما يتضمنه ذلك من تطور تكنولوجي ونهضة علمية، انفتحت أمامها أبواب التقدم المجتمعي، وأصبح المجتمع الأوربي ينضح بالحيوية بعد أن كان مجتمعًا سكونيًا جامدًا. وإن كنا سجلنا رأينا منذ التسعينيات عن أهمية "تكوين العقل النقديفي  مجتمع متغير" وذلك عقب نهاية الحرب الباردة ونشوء عالم جديد، فإننا اليوم نؤكد عليه مرة أخرى، ولكن في  سياق ثورة المعلومات التي أدت إلى تدفقها في كل المجالات المعرفية، مما يستدعيفي  المقام الأول عقلًا نقديًا يستطيع تصنيف هذا الفيض من المعلومات، والتفرقة بين المعلومات الصحيحة والمعلومات الخاطئة، والمعلومات المتحيزة والمعلومات الموضوعية.
ولكن أهم من ذلك كله أن العقل النقدي هو الوسيلة الوحيدة لتحويل المعلومات إلى معرفة، لأن المعلومات بذاتها لا تشكل معرفة. ومن هنا أصبح يقع على عاتق المجتمعات العربية المعاصرة مسئولية تشكيل العقل النقدي، وهذا التوجه ينبغي أن ينعكس على السياسة الثقافية بشكل عام، مع تركيز على التغيير الجوهري لنظام التعليم الذي يقوم على التلقين وليس على التحليل، وترشيد النظام الإعلامي ليصبح أداة للتفكير الخلاق. ويستدعى ذلك في المقام الأول تغيير نمط التنشئة الاجتماعية لكي يقوم على أساس تنمية الإبداع وتشجيع الحوار الخلاق.
ولو تأملنا المشهد المعرفي العربي الراهن لاكتشفنا أننا لم نستطع كعرب أن نجتاز عتبات الحداثة الفكرية كما فعلت أوربا، وأعلنت أن العقل هو معيار الحكم على الأشياء. وإخفاقنا في  تحقيق الحداثة على النمط الأوربي وتركيزنا على تجارب التحديث العشوائية التي نجحت أحيانًا وفشلت أحيانًا أخرى، هو الذي أدى إلى هيمنة النص الديني على جنبات المجتمع، وشيوع التأويلات الجامدة له، والتي وصلت إلى درجة الانحراف في  بعض الأحيان، مما أدى إلى تكوين الفكر الديني المتزمت، الذي عوق الحركة السياسية والاجتماعية، وشيوع الفكر المتطرف الذي أدى في  نهاية المطاف إلى  الإرهاب.
والواقع أننا لو ألقينا نظرة شاملة على مسيرة التنمية العربية منذ الخمسينيات حتى اليوم، لاكتشفنا أنه تم التركيز على الأبعاد الاقتصادية، والتي عنيت بالنهوض بالمجتمعات العربية، على حساب التطور السياسي والتقدم المعرفي.
لقد سبق لنا أن وصفنا الثقافة العربية بأنها ثقافة تحت الحصار! وذلك لأنه لا يمكن لمجتمع ما مهما بلغت إنجازاته الاقتصادية أن يتقدم في  ظل سيادة الشمولية والسلطوية، التي من شأنها أن تمنع إطلاق المبادرات الخلاقة للأفراد والجماعات والتنظيمات السياسية والمؤسسات الاجتماعية. والمشكلة تبدو خطورتها في السياق التاريخيالذي نعيش في  ظله حيث تنتقل البلاد المتقدمة من نموذج مجتمع المعلومات إلى نموذج مجتمع المعرفة بالمعنى الشامل للكلمة، مما يستدعي فتح باب الإبداع واسعًا وعريضًا ورفع القيود أمام حرية التفكير وحرية التعبير.
وإذا كانت المجتمعات العربية المعاصرة قد نجحت في  أن تلحق بالتطور العالميفي  مجال إرساء قواعد مجتمع المعلومات العالمى وفي  قلبه شبكة الإنترنت، إلا أنه تم تجاهل أن مجتمع المعلومات ليس مرادفًا لتكنولوجيا المعلومات!
بعبارة أخرى لا تتعلق المسألة بعدد أجهزة الكمبيوتر في  بلد معين، ولا بالزيادة المطردة في عدد مستخدمي الإنترنت وهي حقًا ظاهرة إيجابية، ولكن أخطر من ذلك تجاهل أن مجتمع المعلومات العالمي هو نموذج حضاري متكامل يتجاوز بقيمه تكنولوجيا المعلومات. فهو يقوم أولًا على الديمقراطية، وثانيًا على الشفافية، وثالثًا على حرية تداول المعلومات.
ومعنى ذلك أنه لا يمكن الحديث عن وجود مجتمع معلومات حقيقي في العالم العربي إذا لم تتحقق الديمقراطية، ولم تتوفر الشفافية، ولم تقنن حرية تداول المعلومات، بحيث يصبح من حق كل مواطن الحصول على المعلومة مجانًا وفي  أى وقت.
ولا يمكن للمجتمع العربي المعاصر الانتقال من مرحلة مجتمع المعلومات العالمي إلى مرحلة أرقى هي مجتمع المعرفة، وهو التطور الحادث اليوم في  المجتمعات الصناعية المتقدمة، بغير القضاء النهائي على آفة الأمية. وإذا صدقت التقديرات التي تذهب إلى أن معدل الأمية في  العالم العربي لا يقل عن 40%، فمعنى ذلك أننا أمام كارثة ثقافية قبل أن نكون أمام عقبة معرفية!
وذلك لأن الأمية تعني أساسًا الانخفاض الشديد في  الوعي الاجتماعي العام، مما يؤثر سلبًا على اتجاهات الجماهير العريضة وقيمها، وحتى على سلوكها الاجتماعي.
ولذلك ليس غريبًا في الواقع أن تسود اتجاهات الفكر الخرافي، وأن يصبح الفكر الديني المتزمت هو المسيطر على عقول الناس!
وإذا كانت الثقافة العربية واقعة تحت الحصار، كما أشرنا، فإن من بين مشكلاتها المزمنة شيوع عقلية التحريم فيها. وذلك لأن الثقافة العربية المعاصرة المحاصرة بالنظم السياسية الشمولية والسلطوية تضع قيودًا متعددة على حرية التفكير.
ولو تأملنا تاريخ التقدم في  مختلف الحضارات لأدركنا أنه كان محصلة لممارسة حرية التفكير بغير قيود ولا حدود.
ولننظر لتاريخ التقدم الغربي، وسنجد أن أوربا لم تستطع أن تخرج من عباءة القرون الوسطى بكل تخلفها وأثقالها، إلا بعد أن حطمت المؤسسات التي كانت تحجر على الفكر وتضع قيودًا لا حدود لها على العقل الإنساني، بل وتمارس البطش الشديد والقمع بمختلف صوره على كل مفكر أو مثقف أو باحث، جرُأ على تحدى المسلمات العلمية أو الفكرية أو السياسية أو الدينية السائدة.
لقد سمحت حرية التفكير للعقل الأوربي أن يستطلع آفاق ميادين الاجتماع والسياسة والاقتصاد من خلال بلورة علوم كاملة تدرسها، ودفعت به أيضًا إلى تنمية المنهج العلمي المنضبط لدراسة الظواهر الطبيعية بمختلف تجلياتها. وفي هذا المجال لم يتردد العقل الأوربي إطلاقًا في أن يُبنَى على القواعد الراسخة التي وضعها العلماء المسلمون في  عصر ازدهار الحضارة الإسلامية في  الطبيعة والكيمياء والفلك والطب. ولم يزعم بعض الأوربيين أن الفكر العلمي الإسلامي فكر وافد لا ينبغي الاستعانة به، ولم ترتفع أصوات غبية ترفع شعارات الغزو الثقافي، أو تندد بالتبعية الحضارية، كما يحدث اليوم في  بلادنا في  مواجهة الفكر العلمي والإنساني المتقدم.
ولذلك – نتيجة للتزمت الديني والجمود الفكري – تشيع دعاوى "الحسبة" التي يرفعها أنصار الفكر المحافظ ضد الأدباء والمفكرين، وهي علامة بارزة على التخلف الثقافي  العربي.
وأيا ما كان الأمر فيمكن القول: إن من أبرز الكتب العربية التي نشرت أخيرًا أو ناقشت باستفاضة موضوعات المعلومات والمعرفة والتفكير النقدي، كتاب الدكتور نبيل عليالذي سبق أن أشرنا إليه وعنوانه "العقل العربي ومجتمع المعرفة" (الكويت، عالم المعرفة، ديسمبر 2009).
وهو بعد استعراض عميق لتعريفات التفكير النقدى ومعاييره وحضارته من المنظور العربي، يؤكد في  مجموعة نقاط مركزة على أهمية أن نأخذ التفكير النقدي مأخذ الجد وذلك لعدة أسباب رئيسية.
من أهمها تعليميا أن التفكير النقدى هو الحل البديل والأصيل لتخليص التعليم العربي من "وحتمية التعليم بالتلقين وسلبية التلقين".
ومن الناحية الإعلامية تبدو أهمية التفكير النقدي في كونه أكثر الوسائل فاعلية لمواجهة حملات الخداع والتضليل، ورفع الوعي الإعلامي للجماهير.
أما من الناحية الثقافية فهو ضرورة من ضرورات التنمية كما أشرنا بالإضافة - كما يقول نبيل علي – إلى كونه سلاحًا ماضيًا للتصدى للحملة الضارية التي يشنها الغرب على الثقافة العربية والحضارة الإسلامية.
وتبقى وظيفته الأساسية، والتي أشرنا إليها مرارًا وهي قدرته الفاعلة على تحويل المعلومات إلى معرفة، لأنه الذي يستطيع وحده بلورة المعانى الكامنة، واستخلاص الدلالات المتضمنة في  فيضان المعلومات الزاخر. بعبارة موجزة بغير عقل نقدي لا يمكن تحقيق النهضة العربية!
2- تأسيس العقل النقدي بداية تجديد الفكر الديني
نخطئ خطأ جسيمًا لو ظننا أن تجديد الفكر الدينى يتمثل أساسا في  مراجعة ونقد بعض الأفكار المتطرفة المبثوثة في  الخطاب الديني، سواء تمثل هذا الخطاب في  الكتب الأزهرية المقررة على طلبة الأزهر، أو في  بعض الكتب التي ألفها كتاب متطرفون مارسوا القياس الخاطئ أو التأويل المنحرف للآيات القرآنية، للترويج للفكر التكفيري والذي هو أساس العمل الإرهابي.
وذلك لأن المطلوب قبل إحداث ثورة دينية -تركز على المقاصد العليا في  الإسلام والتي تتمثل في  الحرية الإنسانية والعدالة الاجتماعية والحفاظ على الكرامة الإنسانية- هو القيام "بثورة معرفية" تركز على مناهج التعليم العتيقة البالية سواء في  المعاهد الأزهرية التي تخصصت في  تعليم الفكر الديني، أو في  مؤسسات التعليم المدني الزاخرة بقشور العلم، والتي لا محل فيها لفكر ديني مستنير.
وهذه الثورة المعرفية المقترحة لها أركان أساسية، أهمها على الإطلاق تأسيس العقل النقدى الذي يطرح كل الظواهر الاجتماعية والثقافية والطبيعية للمساءلة وفق قواعد التفكير النقدى المسلم بها في  علوم الفلسفة والمنطق. وتشتد الحاجة إلى تكوين العقل النقدي بعد ثورة المعلومات التي أدت إلى تدفقها في  كل المجالات المعرفية على شبكة الإنترنت، مما يستدعيفي  المقام الأول عقلا نقديا، لأن المعلومات لا تكون معرفة، ومن هنا أهمية تصنيف هذا الفيض من المعلومات للتفرقة بين الصحيح والزائف والمتحيز والموضوعي. والركن الثاني تجسير الفجوة بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية على أساس مبدأ وحدة العلوم، والركن الثالث هو الدراسة العلمية للسلوك الديني لمعرفة صوره وأنماطه السوية والمنحرفة على السواء. والركن الرابع والأخير استخدام الاكتشافات الجديدة في  علم اللغة والمنهجيات المستحدثة في تحليل الخطاب لتأويل الآيات القرآنية حتى تتناسب أحكامها مع روح العصر.
ويبقى السؤال المهم كيف نصوغ العقل النقدي؟ والإجابة عن ذلك بتعليم الطلاب منذ المرحلة الثانوية أيا كان تعليمهم دينيًا أو مدنيا قواعد التفكير النقدي.
وقد أتيح لى أخيرا أن اأطلع على كتاب بالغ الأهمية في  هذا الصدد بعنوان "التفكير النقدي" ألفه كل من "تريسي بويل" و"جاري كمب"، ونشر بالإنجليزية عام 2010 في  طبعته الثالثة، وترجمه ترجمة ناصعة إلى اللغة العربية الدكتور "عصام زكريا جميل" مدرس المنطق والتفكير العلمي بجامعة القاهرة، ونشره المركز القومى للترجمة بالقاهرة عام 2015.
وبعد اطلاعي الدقيق على هذا الكتاب أستطيع أن أذكر أنه يمثل مرجعا فريدا في  مجال تعليم التفكير النقدي، وهو موجّه أساسا للشباب وغيرهم ومكتوب بسلاسة نادرة ووضوح فكري.
وفي  تصورنا أنه يصلح أساسا لتدريس الموضوع في  المدارس الثانوية وفي الجامعات، وينبغي أن يكون مقررا على كل الطلبة سواء كانوا يدرسون العلوم البحتة أو العلوم الاجتماعية والإنسانيات.
والكتاب الذي نتحدث عنه وهو "التفكير النقدى" له عنوان فرعي هو "دليل مختصر".
وفي  بداية الكتاب فقرة بعنوان مدخل للفصول تقول "نحن نواجه الحجج باستمرار، وما هي إلا محاولات لإقناعنا والتأثير على معتقداتنا وأفعالنا من خلال منحنا من الأسباب ما يدفعنا إلى تصديق هذا أو ذاك، أو إلى التصرف بهذه الطريقة أو تلك. وسوف يزودك هذا الكتاب بالمفاهيم والأساليب التي تستخدم في  تبين وتحليل وتقييم الحجج. أما غرضنا فهو الارتقاء بقدرتك على تبين ما إذا كانت هناك حجج بالفعل وطبيعة الحجة".
في  تصورنا أن هذه الفقرة تحتوي على الأهمية القصوى لتعليم قواعد التفكير النقدي. فالكتاب بذكاء بالغ يركز على أننا كمواطنين نواجه في  المجال الاجتماعي بحجج مختلفة سواء كانت سياسية من قبل أحزاب سياسية للترويج لبرامجها، أو من قبل جماعات دينية تدعو المواطنين لكى يلتحقوا بصفوفها، سواء من أجل الدعوة أو من أجل الجهاد في  سبيل اللـه، والذي قد يتحول إلى إرهاب منظم سواء ضد الدولة أو مؤسساتها أو حتى ضد المواطنين العاديين، كما تفعل الآن جماعة الإخوان المسلمين التي تمارس اغتيال ضباط الشرطة والقوات المسلحة ورجال القضاء ونسف أبراج الكهرباء عقابا للشعب – كما يقول قادتهم- الذي أيد 30 يونيو.
من هنا أهمية الهدف من الكتاب وهو معرفة المفاهيم والأساليب التي تستخدم في  تبين وتحليل وتقييم الحجج.
وبناء على هذا الدرس نستطيع أن نقيم الحجج السياسية التي تتبناها الأحزاب السياسية أو الجماعات الدينية. فإذا زعمت جماعة دينية متطرفة – على سبيل المثال- أن الدولة كافرة لأنها لا تطبق أحكام الشريعة الإسلامية، وأن الخروج عليها بمعنى الانقلاب ضدها ولو باستخدام العنف والإرهاب مشروع، فإن علينا – وفق مبادئ التفكير النقدى- أن نفحص صحة هذه الحجج. غير أنه في  المجال الدينى لا يمكن اكتشاف صحة هذه الحجج من زيفها إلا لو قرأنا النصوص الدينية سواء كانت آيات قرآنية أم أحاديث نبوية قراءة صحيحة، وإلا وقعنا في  الفخ الذي ينصبه قادة الجماعات التكفيرية والإرهابية وهو اللجوء إلى القياس الخاطئ والتأويل المنحرف للنصوص.
ولو ألقينا بعد ذلك نظرة سريعة على محتويات كتاب التفكير النقدى لوجدناه ينقسم إلى ثمانية فصول. في  الفصل الأول تعرّف بمفهوم الحجة كما ينبغي أن يفهم في  أغراض التفكير النقدي، والثاني يعالج مختلف السبل اللغوية التي تصاغ بها الحجج، والثالث يقدم معايير صحة الحجج ودقتها، والرابع مواصلة لتعميق مسألة تقييم الحجج، والخامس مناقشة تفصيلية لكيفية إعادة بناء الحجة حتى تستقيم، والسادس يهتم بالمزيد من مفاهيم وأساليب تقييم الحجة، والسابع مناقشة مستفيضة للمغالطات وأساليب الحجة المغلوطة، والفصل الثامن والأخير يتناول بعض المسائل الفلسفية التي تتعلق بالصدق وعلاقته بالاعتقاد والمعرفة، ويربط بين تلك المسائل ومفهوم الإقناع العقلاني.
في  ضوء هذا العرض السريع لمحتوى كتاب "التفكير النقدي" - تتبين الأهمية القصوى لتدريسه في  المراحل الثانوية والجامعية، لأن الشباب على وجه الخصوص يجابهون بأسئلة حاسمة في  مجال السياسة والاقتصاد والدين.
في  مجال السياسة أثير سؤال جوهري: هل 30 يونيو انقلاب عسكري أم أنه انقلاب شعبي أيّدته القوات المسلحة؟ وفي  مجال الاقتصاد هل الاقتصاد الحر ينبغي أن يطبق بغير حدود ولا قيود بحجة تشجيع الاستثمار والمستثمرين أم لابد من وضع حدود معينة لكفالة تحقيق العدالة الاجتماعية والتي هي أحد شعارات ثورة 25 يناير الأساسية؟
وفي  مجال الدين هل الحجج التي تقدمها جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية عن شرعية مقاومة الدولة المصرية بل وعقاب الشعب المصري لأنه أيد 30 يونيو، صحيحة أم زائفة؟
وهكذا يتأكد أن الثورة المعرفية ينبغى أن تبدأ قبل ثورة تجديد الفكر الديني أو تكون على الأقل مصاحبة لها، حتى يمكن للمواطنين التمييز بين الحجج الزائفة والحجج الصحيحة.
*أستاذ علم الاجتماع السياسي - مـديـر المـركز الـعربي للبـحـوث

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟