الفرصة الأخيرة: تحولات العلاقات السعودية – الأمريكية
أصيبت العلاقات السعودية –
الأمريكية بثلاث صدمات كبرى، فاقمت من إدراك بعض القيادات السعودية لخطورة التعويل
الكامل من جانب الرياض على الحليف الأمريكي في دعم الخيارات الإستراتيجية
السعودية.
أولى هذه
الصدمات كان التراجع الأمريكي عن الخيار العسكري ضد النظام السوري،
وانسياق الإدارة الأمريكية، وبالذات وزير الخارجية جون كيري، وراء تخطيط سيرجي
لافروف، وزير الخارجية الروسي، لإحلال خيار نزع الأسلحة الكيماوية السورية بدلاً
من خيار توجيه واشنطن ضربة عسكرية للقوات النظامية السورية يكون من شأنها إرباك
حسابات نظام بشار الأسد، وإجباره على التخلي عن السلطة.
كان
الدافع الأمريكي للتلويح بالضربة العسكرية هو؛ ما اتهم به النظام السوري من تجاوز
للخط الأحمر الذي كان الرئيس الأمريكي باراك أوباما، قد وضعه كخط أحمر لنظام بشار
الأسد، وهو اللجوء إلى استخدام الأسلحة الكيماوية ضد المعارضة. ولكن التشكيك في
اتهامات المعارضة ودول عربية، خاصة السعودية وقطر، إضافة إلى تركيا للنظام
باستخدام تلك الأسلحة من جانب روسيا وإيران، وأطراف دولية أخرى اتهمت المعارضة
بأنها هي من استخدم هذه الأسلحة، أدى إلى تريث أمريكي، صاحبه تحرك دبلوماسي روسي
مكثف جاء على هوى إدارة أوباما، بمقايضة الضربة العسكرية بخيار نزع الأسلحة
الكيماوية التي بحوزة النظام.
هذا
التراجع الأمريكي عن خيار الضربة العسكرية، أسقط رهانات الرياض على هذا الخيار،
وأحبط كل التوقعات الخاصة بإسقاط النظام، خصوصًا أن هذا التراجع جاء في توقيت صعب
بالنسبة لتوازن القوى ميدانيًا داخل سوريا لصالح النظام وتراجع قدرات المعارضة وتفكك
وحدتها، كما أن هذا التراجع أيضًا جاء في وقت اختل فيه توازن القوى بين الجيش
السوري الحر، ليس فقط مع قوات النظام ولكن مع قوات المنظمات التكفيرية القاعدية،
وهو التطور الذي كان له دوره القوي في إقناع واشنطن بالتراجع عن خيار الضربة
العسكرية، خشية أن تقع سوريا في أيدي هذه المنظمات التكفيرية، التي تراها واشنطن
وتراها تل أبيب أيضاً أخطر على أمن الدولة الصهيونية من نظام بشار الأسد.
ثانية
هذه الصدمات، جاءت بانحياز الولايات المتحدة إلى صف جماعة الإخوان في التعامل
مع ثورة 30 يونيو 2013، باعتبارها انقلابًا عسكريًا ضد الشرعية، في الوقت الذي
كانت السعودية قد انحازت فيه إلى جانب التغيير الثوري في القاهرة، وبدأت تدخل، مع
دولة الإمارات كطرفين في المواجهة مع جماعة الإخوان.
أما الصدمة
الثالثة والأهم، فكانت من طهران هذه المرة، عندما نجح الرئيس الإيراني
حسن روحاني، في اختراق جدار الحصار الأمريكي وفتح حوار مع واشنطن، ظهرت معالمه
أولاً في التغطية المبالغ فيها من جانب الإعلام الأمريكي لزيارة روحاني لنيويورك،
على هامش حضوره الاجتماعات الدورية للجمعية العامة للأمم المتحدة، وظهرت ثانيًا في
المحادثة الهاتفية بين الرئيس الأمريكي باراك أوباما والرئيس الإيراني، وقت أن كان
الأخير في طريق عودته من نيويورك إلى طهران عائدًا إلى بلاده، وهي المحادثة التي
أسرف فيها أوباما في الثناء على شخص الرئيس الإيراني، وتفاؤله بإمكانية التوصل إلى
اتفاق جيد مع طهران حول أزمة برنامجها النووي. كذلك ظهرت ثالثًا في الإعلان عن
توقيع "مجموعة دول 5+2" اتفاقًا مرحليًا مع إيران حول برنامجها النووي
في جنيف يوم 24 نوفمبر 2013، وهو الاتفاق الذي رآه البعض مكسبًا مهمًا لإيران
يعطيها الحق في امتلاك برنامج نووي سلمي، بما فيه من حق تخصيب لليورانيوم عند
مستويات آمنة، وتخفيف العقوبات الدولية المفروضة على طهران.
صدمة
توقيع هذا الاتفاق على السعودية كانت مزدوجة فمن ناحية رأت الرياض أن هذا الاتفاق
ربما يكون مقدمة لاتفاقيات أمريكية – إيرانية أوسع تخص قضايا إقليمية وعربية بصفة
أساسية تعطي واشنطن بموجبها لإيران حق التدخل المدعوم أمريكيًا في هذه القضايا،
ومن ناحية أخرى ما تأكد من كون سلطنة عمان العضو المؤسس في مجلس التعاون الخليجي،
هي الطرف الخفي الذي احتضن محادثات سرية أمريكية – إيرانية من مارس 2013، مهّدت
للتقارب الأمريكي – الإيراني، ولنجاح مفاوضات جنيف الخاصة ببرنامج إيران النووي.
ثلاث صدمات أمريكية
قاسية للرياض، جاءت في ظل مناخ لا يوحي بالثقة بين الحليفين عقب الخروج الأمريكي
من العراق، الذي كان بمثابة ضوء أخضر لتوسيع النفوذ الإيراني في العراق، كما جاءت
في أجواء مشحونة بالتوتر بين الرياض وواشنطن، بسبب ما أدركته السعودية من انحيازات
أمريكية لدعوة التغيير وإسقاط نظم الحكم ضمن ما عُرف بـ "الربيع العربي"
ومخاطر تداعيات هذا الربيع على السعودية والدول العربية الخليجية الأخرى، إضافة
إلى هذا كله، جاءت هذه الصدمات ضمن ما يتردد عن "أفول القوة الأمريكية"
من ناحية، وعن توجه إستراتيجي أمريكي جديد بالتركيز على إقليم جنوب شرق آسيا،
كأولوية إستراتيجية بما يتضمنه ذلك من احتمالات لرحيل أمريكي عن إقليم الشرق
الأوسط.
مجمل هذه الصدمات
والتطورات فرض على المملكة سؤالاً مهمًا هو: إلى أي مدى يمكن المراهنة على استمرار
التحالف الأمريكي – السعودي؟
أولا: بدائل سعودية
صعبة
مشكلة
هذا السؤال تتركز في غياب البدائل الأضمن للمملكة في حال التخلي عن إستراتيجية
التحالف مع الولايات المتحدة، فالسعوديون يعرفون أنه لا يوجد طرف دولي مأمون وقادر
على القيام بمهام الدفاع عن المملكة، والانحياز لخياراتها الإستراتيجية يمكن أن
يشكل بديلاً لواشنطن. ما هو متاح من خيارات هو أن تكون للمملكة علاقات متوازنة
وقوية مع أطراف دولية وشركاء دوليين مثل الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين وباقي
القوى الصاعدة، لكن كل هذه الأطراف ليس في مقدورها أن تحل محل الولايات المتحدة في
علاقاتها مع المملكة على الأقل في الأجلين، القريب والمتوسط.
المعضلة
الثانية؛ أن المملكة تمر بظروف داخلية شديدة الخصوصية تتعلق بـ "الخلافة
السياسية" والصراعات المحتملة داخل البيت السعودي الحاكم، وهي ظروف تعد غير
ملائمة، وغير مناسبة للإقدام على خطوة شديدة الجذرية بالنسبة للتحالفات الإستراتيجية
للمملكة.
أما
المعضلة الثالثة فهي؛ البيئة الخليجية غير المواتية والبيئة العربية المضطربة.
فتداعيات الربيع العربي ما زالت تفاعلاتها صاخبة في الدول العربية الرئيسية خاصة
مصر وسوريا، ناهيك عن الاضطرابات الصاخبة في العراق شمالاً واليمن جنوبًا، إضافة
إلى حالة السيولة غير المنضبطة التي يمر بها النظام العربي، وكلها تطورات تمثل
أعباءً ثقيلة للرياض تمنعها من مغامرة استبدال الحليف الإستراتيجي بحليف بديل.
وجاءت التطورات
الخليجية – السعودية وداخل مجلس التعاون الخليجي لتحدّ من أي توجه سعودي لإجراء
مراجعة جذرية للعلاقة مع الولايات المتحدة. فقطر تمارس الآن دور الطرف المناوئ
للمملكة ليس فقط داخل إطار إقليم الخليج والجزيرة العربية، بل وعلى المستوى العربي
كله.
قطر
حليف قوي للإخوان، وشريك في التحالف الإقليمي الجديد الذي تشرف عليه الولايات
المتحدة مع إسرائيل وتركيا والإخوان، وتقوم بأدوار تتعارض تمامًا مع الأدوار
السعودية وبالذات في العلاقة مع كل من مصر واليمن، ناهيك عن إقدامها على مراجعة
علاقاتها مع إيران نكاية في السعودية. وجاء الدور العماني الجديد بمقارباته
المثيرة مع إيران من ناحية، وبرفضه لدعوة تطوير بنية مجلس التعاون الخليجي إلى
اتحاد خليجي، وتهديده بالانسحاب من المنظومة الخليجية في حال اتخاذ قرار يقضي
بتحويل المجلس إلى اتحاد خليجي. هذا الرفض العماني جاء متضمنًا لتحفظات عمانية على
إدارة المملكة لسياسة خارجية باسم المجلس سواء إزاء الأزمة السورية، أو بنهج سياسة
عدائية ضد إيران.
ثانيا: زيارة
أوباما وخيار تثبيت التحالف
جاءت
زيارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما للرياض، ولقاؤه مع الملك عبد اللـه ضمن كل هذه
الظروف الصعبة والحسابات السعودية المعقدة، ولذلك لم تتجاوز نتائجها حدود ما يمكن
تسميته بـ "تطييب الخواطر" من جانب الرئيس الأمريكي للملك عبد اللـه بن
عبد العزيز، عاهل السعودية.
كان
المفترض أن تشهد الرياض قمة خليجية – أمريكية على هامش زيارة الرئيس الأمريكي
للرياض (27 مارس 2014)، ولكن أوباما تراجع عن هذه الفكرة حسب توضيحات سوزان رايس،
مستشارة الأمن القومي الأمريكي، حيث أرجعت تخلي أوباما عن فكرة هذه القمة
بالانقسامات داخل مجلس التعاون الخليجي خاصة بعد سحب كل من السعودية والإمارات
والبحرين سفرائها من العاصمة القطرية الدوحة، احتجاجًا على السياسات القطرية التي
تهدد الأمن والاستقرار الداخليين للدول الخليجية بانحيازها ودعمها لمنظمات إرهابية
خاصة جماعة الإخوان.
كان
المعنى المباشر لذلك هو؛ أن الزيارة لن تتجاوز أمرين: أولهما، تثبيت التحالف
الأمريكي – السعودي على المستوى الذي يخص العلاقات الثنائية بين البلدين، وبالذات
الدعم الأمريكي للمملكة في حربها ضد الإرهاب، وتطوير علاقات التعاون الثنائي
العسكري والاقتصادي. وثانيهما، إعطاء تطمينات أمريكية للقيادة السعودية بخصوص عدد
من القضايا المهمة، وبالذات ما يخص تقديم دعم عسكري أمريكي بتمويل سعودي للمعارضة
السورية المدنية، أي التي ليست لها أدني علاقة بالمنظمات التكفيرية الإرهابية تشمل
بعض التسليح والتدريب اللازم، كما تشمل تطمينات أمريكية بخصوص البرنامج النووي
الإيراني.
كانت
هذه هي حدود التوقعات من الزيارة، وجاءت النتائج الفعلية لتؤكد هذه التوقعات. فقد
جاء بيان للبيت الأبيض، عقب اختتام هذه الزيارة السريعة أن "الولايات المتحدة
والسعودية تعملان معًا على معالجة عدد من القضايا الحرجة الثنائية والإقليمية بما
في ذلك حل الأزمة في سوريا، ومنع إيران من امتلاك سلاح نووي، وجهود مكافحة
الإرهاب، ومساندة المحادثات الهادفة إلى إحلال السلام في الشرق الأوسط". كما
جاءت معظم التعليقات لتتحدث عن أن أوباما والعاهل السعودي ناقشا بعض
"الخلافات التكتيكية" لكنهما اتفقا على أن المصالح الإستراتيجية للبلدين
لا تزال متوافقة.
ما يفهم من هذه
التوضيحات، أن هناك إقرارًا بوجود خلافات، لكن الأهم هو قبول الطرفين للنأي
بالعلاقات الثنائية عن هذه الخلافات، وأن زيارة أوباما للرياض جاءت من جانب حرْص
أوباما ليكاشف العاهل السعودي عن قرب بوجود خلافات لا تضر بالتحالف الإستراتيجي،
مع حرص على طمأنة أوباما للعاهل السعودي بإصراره على منع إيران من امتلاك سلاح
نووي. وحسب ما جاء في بيان البيت الأبيض كان هناك حرص على توضيح أن الاجتماع كان
فرصة للتأكيد للملك " أننا لن نقبل باتفاق سيئ (مع إيران)، وأن التركيز على
القضية النووية لا يعني أننا غير مهتمين بأنشطة إيران لزعزعة الاستقرار في
المنطقة، أو لا نركز كثيرًا على هذه المسألة".
لقاء
طمأنة لم يستطع أوباما أن يقدم أكثر منه، ما يعني أمرين، أولهما: أن واشنطن ماضية
في خياراتها الجديدة سواء بالانفتاح على إيران، أو العلاقة الخاصة مع قطر، أو بضبط
حدود الدعم العسكري للمعارضة السورية وحصرها في حدود السعي لتحقيق توازن قوى يجبر
الرئيس السوري على تليين مواقفه. ثانيهما أن المملكة الواعية لهذا التطور في مواقف
الحليف الأمريكي رضيت بالحدود المتاحة، وأنها باتت مطالبة من الآن بالبحث عن
بدائل، أو حزمة من البدائل دولية وإقليمية وخليجية، وربما أيضًا داخل المملكة تكفي
لتوفير حدود ومتطلبات خيارات المملكة الإستراتيجية خليجيًا وعربيًا.