خيارات صعبة: تحديات الحكم السعودي الجديد ومستقبل مجلس التعاون الخليجي
بكل المعايير يمكن القول؛ إن وجود العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز على رأس السلطة في المملكة العربية السعودية لم يكن صمام أمان فقط للدولة السعودية بكل تناقضاتها وصراعاتها الداخلية، بل كان كذلك أيضًا بالنسبة لمجلس التعاون الخليجي الذي تأسس قبل عام واحد فقط من تولي الملك عبد اللـه مسئوليته الرسمية في السلطة السعودية كولي للعهد ونائبًا أول لرئيس مجلس الوزراء عام 1982 عقب وفاة الملك خالد بن عبد العزيز وتولي الملك فهد مسئولية الحكم في المملكة ما يعني أن الرجل كان على دراية كاملة بشئون هذا المجلس وتحدياته الداخلية والخارجية، وكان الأكثر حرصًا على النهوض به وتحويله إلى كيان اتحادي قوي قادر عل تحقيق التوازن في القوة مع الأطراف الإقليمية المنافسة، في الوقت الذي كان فيه حجر أساس في نظام الحكم السعودي منذ أن تولى تأسيس ورئاسة الحرس الوطني في أواخر ستينيات القرن الماضي إلى أن توفاه اللـه فجر الجمعة 23 يناير 2015.
كيف وإلى أي مدى يمكن أن يؤثر غياب الملك عبد اللـه على استقرار نظام الحكم في المملكة العربية السعودية وعلى مستقبل مجلس التعاون الخليجي.
أولا- المملكة وتحديات الاستقرار السياسي
تواجه المملكة حزمة من التهديدات الداخلية سوف يكون على القيادة السعودية الجديدة التعامل معها بكفاءة وأساليب مستحدثة تعوض غياب الملك عبد اللـه الذي كان بوجوده الشخصي ومكانته قادرًا على ضبط الكثير من التفاعلات واحتواء الاضطرابات والأزمات، وبالذات ما يتعلق بالصراع على السلطة داخل الأسرة الحاكمة، وما يتعلق بالحرب على الإرهاب وما يتعلق بالتناقض بين تقليدية المؤسسة الدينية المذهبية وتصاعد المطالب الإصلاحية، وأخيرًا احتواء الاضطرابات الطائفية في المنطقة الشرقية المرشحة للتصاعد لأسباب متعددة منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي.
ثانيا- الصراع على السلطة لم يحسم كاملًا
على الرغم من نجاح الملك الجديد سلمان بن عبد العزيز في القفز بثبات في الصراع على السلطة داخل أسرة آل سعود عقب وفاة الملك عبد اللـه بسرعة وكفاءة تحسبان له، إلا أن هذا النجاح يمكن اعتباره نجاحًا ظاهريًا مؤقتًا. ففي ساعات معدودة عقب وفاة الملك صدر عن الديوان الملكي مجموعة من المراسيم المهمة؛ تثبيت الأمير مقرن بن عبد العزيز وليًا للعهد، وهو ما كان متوقعًا منذ أن أصدر الملك عبد اللـه مرسومًا في 27 مارس 2014 بتعيين الأمير مقرن وليًا لولي العهد، ونص هذا المرسوم على أن يبايع الأمير مقرن ملكًا في حال خلو منصب الملك وولي العهد الأمير سلمان بن عبد العزيز الذي كان قد صدر مرسوم ملكي في 19 يونيو 2012 بتعيينه وليًا للعهد خلفًا لشقيقه الأمير نايف بن عبد العزيز. وثانيها وهذا هو الأهم تعيين الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز وليًا لولي العهد في خطوة هي الأولى من نوعها، رغم أنها كانت هاجسًا مسيطرًا داخل أسرة آل سعود بانتقال الولاية من جيل أبناء الملك عبد العزيز (الجيل الثاني بعد الملك عبد العزيز) إلى جيل الأحفاد (الجيل الثالث). وثالثها تعيين الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز (نجل الملك) وزيرًا للدفاع (خلفًا للملك) ومشرفًا على الديوان الملكي.
الأمر المؤكد أن هذه القرارات الثلاثة، وبالذات قرار تثبيت الأمير مقرن في منصب ولاية العهد، وتعيين الأمير محمد بن نايف وليًا لولي العهد، لم تكن وليدة لحظتها، فربما تكون قد نوقشت في وجود الملك عبد اللـه، في أعقاب قراره بتعيين الأمير مقرن في منصب ولي ولي العهد، إذا أخذنا في الاعتبار أن الملك عبد اللـه كان يتحسب للاضطرابات التي سوف تحدث داخل الأسرة في حال رحيله المفاجئ، أو حتى رحيل ولي العهد الأمير سلمان قبل رحيله على نحو ما حدث مع الأميرين سلطان بن عبد العزيز الذي تولى منصب ولاية العهد للملك عبد اللـه عام 2005 عقب رحيل شقيقه الملك فهد، ومن بعده الأمير نايف بن عبد العزيز الذي تولى ولاية العهد مع الملك عبد اللـه عقب رحيل شقيقه الأمير سلطان. فالمرسوم الملكي الذي صدر في 27 مارس 2014 بخصوص تعيين الأمير مقرن وليًا لولي العهد نص كما أشرنا إلى أن "يبايع ملكًا للبلاد في حال خلو منصب الملك وولي العهد"، ما يعني أن الملك عبد اللـه كان يتحسب لاحتمال وفاة ولي عهده الأمير سلمان بعده بقليل أو حتى قبله لكن من المستبعد أن يكون اختيار الأمير محمد بن نايف وليًا لولي العهد قد حسم أمره في وجود الملك عبد اللـه، فحسب ما ورد في تعليق للكاتب البريطاني هيو تومليسون، الذي أشار عقب دخول الملك عبد اللـه إلى مدينة الملك عبد العزيز الطبية للحرس الوطني قبل أسبوعين من وفاته للعلاج من التهاب رئوي، إلى أن الملك (90 عامًا) كان "يحاول تأمين أولاده بإسناد مراكز حكم رئيسية لهم"، فقد سبق أن عين ابنه الأكبر الأمير متعب رئيسًا للحرس الوطني منذ أن تولى الحكم عام 2005، ثم بعد ذلك عين ابنه الأمير عبد العزيز بن عبد اللـه نائبًا لوزير الخارجية، ثم عين ابنه الأمير مشعل بن عبد اللـه أميرًا لمنطقة مكة، ثم عين ابنه الأمير تركي بن عبد اللـه أميرًا لمنطقة الرياض، واقترنت هذه التعيينات بإبعاد لأبناء الأمير سلطان بن عبد العزيز، فقد تم إبعاد الأمير بندر بن سلطان عن رئاسة المخابرات وجرى تعيين اللواء يوسف بن علي الإدريسي مؤقتًا في هذا المنصب، وفي 20 يونيو 2014 جرى إبعاد الأمير سلمان بن سلطان من منصب نائب وزير الدفاع ضمن عملية مراجعة واسعة لإخفاق بندر وشقيقه في إدارة الحرب ضد النظام السوري.
هذه مجرد مؤشرات أوليّة تقول أن تعيين الأمير محمد بن نايف في منصب ولي ولي العهد ليكون ملك المستقبل لن يكون نهاية المطاف، وهو ليس خاتمة المطاف في الصراع على السلطة داخل أسرة آل سعود، وهو صراع مزدوج الأبعاد: صراع بين الأجيال، وصراع بين أجنحة العائلة.
فصراع الأجيال بنقل السلطة من جيل أبناء الملك عبد العزيز إلى جيل أحفاده وتثبيتها في الأمير محمد بن نايف لن يحسم الصراع بين الأحفاد لأن هناك أمراء كُثر لديهم طموح المنصب بأن يصبحوا ملوكًا، وهناك منافسون أقوياء للأمير محمد بن نايف، مثل الأمير متعب بن عبد اللـه رئيس الحرس الوطني نجل الملك الراحل، والأمير خالد بن سلطان، وشقيقه الأمير بندر بن سلطان، الأول كان نائبا لوزير الدفاع والثاني كان رئيسًا للمخابرات وقبلها سفيرًا لأكثر من عشرين عامًا في العاصمة الأمريكية، وهناك الأمير خالد الفيصل وغيرهم لديهم، منذ سنوات التطلع للمنصب، ولن يرضيهم ما حدث من قفز على طموحاتهم التي يرونها مشروعة.
وإلى جانب صراع الأجيال هناك أيضًا صراع الأجنحة بين أمراء الأسرة السعودية الذين يزيد عددهم الآن على 15 ألف أمير منهم على الأقل ألفين من الأمراء يتمتعون بنفوذ واضح داخل نظام الحكم ولهم مكانتهم في الأسرة. هذا الصراع قد يكون الأعنف، أو هو صراع المستقبل بين فروع العائلة حسب توصيفات قبائل زوجات الملك عبد العزيز. هناك فرع الملك سعود وأبنائه، وفرع الملك فيصل وأبنائه، وهناك فرع الملك خالد وأبنائه، وهناك فرع الملك عبد اللـه وأبنائه، وغيرهم. لكن هناك الفرع الأهم الذي ينتمي إلى قبيلة السديري أبناء السيدة حصّة بنت أحمد السديري، والملقبون بـ "السديريين السبعة"، أي الملك فهد وأشقائه الستة (سلطان ونايف وسلمان وعبد الرحمن وتركي وأحمد). وجاء قرار تعيين الأمير محمد بن نايف وليًا لولي العهد ليكشف انحياز الملك سلمان بن عبد العزيز لفرع العائلة الذي ينتمي إليه وليعيد الحكم مجددًا إلى الفرع السديري بعد أن غيب الموت فرصة كل من الأميرين سلطان بن عبد العزيز ونايف بن عبد العزيز من تولي الحكم عقب وفاة الملك عبد اللـه.
إذا أخذنا في الاعتبار الحالة الصحية غير المستقرة للملك سلمان بن عبد العزيز (79 عامًا)، وما يشاع من تلميحات بضعف فرصة الأمير مقرن بن عبد العزيز ولي العهد (69 عامًا) لتولي منصب الملك استنادًا إلى أن والدته كانت من اليمن ولم تكن زوجة للملك عبد العزيز، فإن استقرار الحكم سيبقى معرضًا لهزات ولمرحلة انتقالية سوف تمتد إلى أن يتولى الأمير محمد بن نايف الحكم خلفًا للملك سلمان وعمه الأمير مقرن بن عبد العزيز، ولعل هذا ما دفع سيمون هندرسون الخبير بشئون العائلة السعودية في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى للقول: "على الرغم من أن العديد من الناس يقولون أن عملية انتقال السلطة ستكون سلسة، فإن ثمة حزمة من الأسباب التي تدفع إلى الاعتقاد بأن السعودية تتجه نحو أوضاع صعبة.. فالمناورات داخل العائلة المالكة ستكون كثيفة للغاية، على الرغم من أن الأمراء يكرهون الاعتراف بهذه الحقيقة".
ثالثا- حزمة الصراعات المكثفة
تواجه المملكة في هذه الظروف الصعبة حزمة مكثفة من الصراعات والتهديدات المتداخلة، بين أولوية الحرب على الإرهاب التكفيري سواء من تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) أو تنظيم القاعدة، ولكن هذه الحرب تتعارض مع المواقف المتشددة للمؤسسة الدينية التي تعد من ناحية واحدة من أهم ركائز النظام لكنها في الوقت ذاته تعد الداعم العقائدي لتيار هذه السلفية الجهادية. فالحرب الإرهابية التي تتهدد المملكة في الداخل والتي تشارك المملكة في حملة الحرب ضدها تتعارض مع المؤسسة الدينية ومع أجيال من الشباب السعودي الذي تربى في أحضان هذه المؤسسة، ومع الكثير من المنظمات الأهلية الداعمة لهذه الأصولية السلفية ومن ثم ستجد السلطة الحاكمة عقبات في تجييش الدولة للحرب على الإرهاب دون الدخول في مواجهة مع المؤسسة الدينية وهي مواجهة تتعارض مع احتياجات الدولة لهذه المؤسسة من أجل دعم الشرعية الجديدة.
الأمر ذاته يمتد إلى حاجة النظام الجديد للتجاوب مع مطالب إصلاحية متجددة سياسية واجتماعية ترفضها المؤسسة الدينية وكل المنتمين لها، كما يمتد إلى ضغوط هذه المؤسسة لمواجهة أبناء الطائفة الشيعية في المنطقة الشرقية الذين باتوا مستهدفين وبقوة من الإرهاب التكفيري ومن المؤسسة الدينية المذهبية في المملكة، الأمر الذي يجعلهم معرضين لاضطهاد مذهبي داخل المملكة، في الوقت الذين يجدون محفزات خارجية للتصدي لهذا التمييز سواء كانت هذه المحفزات من إيران، أو من البحرين حيث تواجه الأغلبية الشيعية في مملكة البحرين الحكومة بسبب مطالبها في التغيير الجذري لنظام الحكم وتأسيس ملكية دستورية لا يقبل بها النظام في البحرين.
رابعا- مجلس التعاون في مهب الريح
هذه التحديات المتنوعة التي تهدد نظام الحكم في المملكة العربية السعودية تتوازى مع تهديدات أخرى لا تقل خطورة على صعيد مستقبل مجلس التعاون الخليجي بعد غياب الملك عبد اللـه بن عبد العزيز. فالملك، وكما أشرنا كان صمام أمان قوي لبقاء وتماسك مجلس التعاون الخليجي أمام رياح الانفراط بسبب تعارض المصالح والسياسات بين دول المجلس كما أنه كان أيضًا صاحب رؤية التطوير للمجلس ليتحول إلى كيان اتحادي قوي يكون قادرًا على المنافسة وعلى التوازن في القوة مع الأطراف الإقليمية.
فالملك عبد اللـه هو من حرص على أن يتصدى للرياح العاتية لموجة الثورات العربية من خلال السعي إلى تقوية المجلس بتوسعته ليضم دولًا عربية غير خليجية (المملكة الأردنية والمملكة المغربية) ليجعل من المجلس "اتحاداّ للمالك العربية" وهو الاقتراح الذي لم يحظ بقبول يذكر من باقي دول المجلس، الأمر الذي حفز الملك عبد اللـه بعد ذلك للمطالبة في القمة الخليجية بالرياض (ديسمبر 2011) ليطالب بتطوير المجلس إلى اتحاد خليجي آخذًا في الاعتبار التهديدات التي واجهت مملكة البحرين في ذلك العام، ودفعت بقيادة المجلس إلى اتخاذ قرار بدخول قوات "درع الجزيرة" التابعة للمجلس "لحماية مؤسسات الدولة" هذه الدعوة لقيت رفضًا عمانيًا صريحًا، كما لقيت عزوفًا من باقي دول المجلس باستثناء مملكة البحرين، وهو عزوف ينسجم من حقيقة غياب الدوافع التكاملية للمجلس منذ تأسيسه في مايو 1981 وهو التأسيس الذي جاء بدافع أمني بحت خوفًا من تداعيات الحرب العراقية – الإيرانية التي كانت قد تفجرت في سبتمبر من عام 1980.
فقبل تأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربية في مايو عام 1981 وقبل أن تتفجر الحرب العراقية – الإيرانية في سبتمبر 1980 وقبل سقوط نظام شاه إيران وتأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية في 11 فبراير 1979 كانت معظم الدول الخمس الخليجية (الكويت وسلطنة عمان والإمارات وقطر والبحرين) تراوغان من مطالب سعودية صريحة بالتوقيع على اتفاقيات أمنية ودفاعية مشتركة، والسبب الأساسي هو حداثة معظم تلك الدول التي ظهرت إلى الوجود بعد الانسحاب البريطاني العسكري الرسمي في ديسمبر 1971، والكثير من المشاكل الحدودية المشتركة فيما بينها وبالذات مع المملكة العربية السعودية (سلطنة عمان والإمارات مع السعودية حول واحة البوريمي) ومشاكل حدودية أخرى للإمارات مع السعودية ولكل من الكويت وقطر مع السعودية، ومشاكل حدودية قطرية – بحرينية، لكن السبب الأكثر أهمية كان اختلال توازن القوى الشديد بين هذه الدول الخمس والمملكة العربية السعودية. فهذه الدول كانت تواجه ضغوطًا لنمط محدد بعينه من العلاقات مع المملكة العربية السعودية يمكن تسميته بـ "علاقات الاستتباع" أي فرض نمط من علاقات التبعية تحول دون أي تواصل مباشر بين أي من هذه الدول وكل من القوتين الخليجيتين المنافستين للسعودية حول الزعامة الإقليمية (إيران والعراق) وتمنع أي تواصل مباشر بين كل من هاتين القوتين وأي من الدول الخمس. هذا النمط من العلاقات كان مرفوضًا من معظم هذه الدول وخاصة من سلطنة عمان التي كانت تلجأ عادة إلى إيران الشاهنشاهية للاحتماء بها كموازن للضغوط السعودية، وكانت الكويت تلجأ إلى العراق كموازن للاحتماء من الضغوط السعودية أيضًا. وإذا كانت السعودية قد نجحت في التوقيع على معاهدات أمنية ثنائية مع أربعة من هذه الدول الخمس فإن الكويت نجحت في الإفلات من التوقيع على هذه الاتفاقية.
عوامل كثيرة أكسبت هذه الدول الخمس قدرًا أكبر من حرية الحركة وحرية التحالف كدول صغيرة متواجدة في نظام إقليمي يعاني من شدة اختلال توزيع عناصر القوة البشرية والجغرافية والاقتصادية بين خمس دول صغيرة وصغرى وثلاث قوى كبيرة هي إيران والسعودية والعراق (خمسة سناجب وثلاثة أفيال). من أبرز هذه العوامل الثروة النفطية الضخمة التي تملكها هذه الدول. هذا العامل رفع من قيمتها وأهميتها لدى القوى الدولية الكبرى وجعلها مطمعًا لمعظم هذه الدول التي كانت على استعداد دائم للتجاوب مع أي استدعاء بالتدخل لحمايتها. يأتي الموقع الاستراتيجي للخليج وصراع القوى الدولية الكبرى خاصة في سنوات الحرب الباردة ليزيد من أهمية وقيمة هذه الدول، أما العامل الثالث فهو وجود قوتين إقليميتين كبيرتين في الخليج هما إيران والعراق قادرتين على تقديم الدعم والحماية اللازمة عند الطلب وعند الحاجة.
هذه الأسباب كلها أعطت للدول الخمس القدرة على التمرد على الشقيقة الكبرى، كما أعطتها عزوفًا مبررًا عن الانخراط في أي شكل من أشكال الاتحاد مع المملكة العربية السعودية، لذلك كان انخراط هذه الدول الخمس في مشروع مجلس التعاون الخليجي انخراطًا اضطراريًا بضغوط من مخاوف وتداعيات الحرب العراقية – الإيرانية والثورة الإسلامية الإيرانية ومن هنا جاءت الوثيقة التأسيسية للمجلس مفعمة بالكثير من الضوابط التي تحمي استقلالية القرار الوطني لكل دولة وتجعل من المجلس مجرد إطار استشاري خال من أي التزام في قراراته التي جرى النص على صدورها بالإجماع كي يبقى لكل دولة حق الاعتراض (الفيتو)، على الرغم من الإشارة في نص هذه الوثيقة على نزوع شعوبها نحو الاتحاد وتطلعها إلى تحقيقه.
إذا أخذنا هذه الخلفية في الاعتبار سوف تتكشف لنا مجموعة من الحقائق:
أولى هذه الحقائق أن الميول الاستقلالية والحرص على الكيان الوطني لكل دولة تحظى بالأولوية على أي ميول اتحادية عند الدول الخمس الصغيرة على وجه التحديد.
ثانية هذه الحقائق أن القبول بصيغة مجلس التعاون كانت بدافع من درء المخاطر وليس تحقيق المكاسب أي أن التحديات الخارجية لعبت الدور الأهم والأبرز في قبول هذه الدول لخيار التكامل والاتحاد. وأن تحقيق المنافع يأتي في المرتبة الثانية أو الثالثة، حتى مكسب امتلاك القدرة على الدفاع عن الأمن الوطني ليس له أولوية كدافع اتحادي نظرًا لثقة كل من هذه الدول في قدرتها على تأسيس تحالف مع قوة كبرى قادرة على القيام بالمهمة وهو الدور الذي استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية أن تلعبه، وبصفة خاصة منذ دخول قواتها العسكرية بشكل مكثف في الخليج ابتداءً من عام 1987 وباستدعاء كويتي لحماية ناقلات النفط الكويتية من تهديدات "حرب الناقلات" التي فرضتها إيران ردًا على "حرب المدن" التي نجح العراق في خوضها ضد يران بامتلاكه الصواريخ والطائرات القادرة على الوصول إلى العمق الإيراني في الأعوام الأخيرة من الحرب العراقية – الإيرانية. وبعد انتهاء هذه الحرب في أغسطس 1988 وانخراط إيران والعراق في مفاوضات تصفية تركة هذه الحرب أعلنت القيادة العسكرية الأمريكية إصرارها على البقاء القوي والمكثف في الخليج ورفض دعوات إيرانية وعراقية بسحب القوات الأمريكية. هذا الوجود العسكري الأمريكي في الخليج ازداد كثافة بعد قيادة الولايات المتحدة لحرب تحرير الكويت عام 1991، وتوقيعها على معاهدات دفاع ثنائية مع كل من الدول الست كل على حدة.
ثالث هذه الحقائق الوجود الإيراني والعراقي المكثف في قبول أو رفض هذه الدول لخيار التكامل والاتحاد. كان الخوف الدائم من إيران والعراق أحد أهم دوافع هذه الدول للاستمرار في مسيرة مجلس التعاون الخليجي. والآن تتفرد إيران بكونها المصدر الرئيسي للتهديد بالنسبة لمعظم دول الخليج. وإذا أخذنا في الاعتبار التحفظات الإيرانية والعراقية السابقة على تشكيل مجلس التعاون الخليجي في غيبة من هاتين القوتين والدور الإيراني المناهض دائمًا لمواقف مجلس التعاون الداعمة للإمارات والبحرين لتأكد لنا أن خلفيات الرفض الإيراني والهواجس الإيرانية المكثفة من أي تجمع عربي في الخليج يستثني إيران من المشاركة فيه كانت وما زالت تفرض نفسها على العقل الإستراتيجي الخليجي، الذي يفضل عدم الخوض في تجارب اتحادية أكثر جذرية كي لا تتعرض لضغوط إيرانية ترفض أي وجود أجنبي في الخليج (بما فيه أي وجود عربي) وتحرص على استبدال مجلس التعاون بإطار إقليمي أوسع يضم إيران والعراق مع الدول الست ويضع نهاية للوجود الأمريكي والأجنبي (غير الخليجي) في إقليم الخليج وهي مطالب تخشاها وترفضها معظم الدول الست.
رابعة هذه الحقائق تتعلق بخصوصية السلطة في الدول العربية الخليجية، فالسلطة تكاد تكون محتكرة بالكامل وحدود المشاركة الشعبية محدودة باستثناء التجربة الكويتية. ولذلك فإن هذه الخصوصية تحول دون رغبة الاندماج في كيان أكبر تخشى فيه السلطات الحاكمة أن تفقد هيمنتها وسيطرتها لصالح سلطة أكبر وأوسع هي السلطة الاتحادية.
لكل هذه الحقائق تعثرت تجربة مجلس التعاون الخليجي على مدى 32 عامًا، حيث لم يستطع المجلس تحقيق الحد الأدنى من الاندماج والتكامل. ونظرًا لأن أي من هذه الحقائق لم يتغير بدرجة ملحوظة فإن عوامل الاتحاد ما زالت غير متوفرة، ولذلك فإن الرفض العماني للاتحاد ليس هو الرفض الوحيد، ولكنه ربما يكون الرفض العلني الوحيد، هناك رفض وهناك تحفظات، غير معلنة من جانب دول أخرى أعضاء في المجلس، لكن الأهم هو وجود إدراك قوي يرى أن الدافع السعودي للاتحاد لا يختلف كثيرًا عن دافع تأسيس مجلس التعاون وهو مواجهة خطر خارجي قد يكون طارئًا وقد يكون مستمرًا، وهو خطر تداعيات الربيع العربي التي ظهرت بقوة في مملكة البحرين وبدرجة أقل في سلطنة عمان التي نجحت في احتواء موجة الرفض المحدودة بسياسات اقتصادية واجتماعية وسياسية، في حين أن التدخل العسكري لقوات درع الجزيرة المدعومة من السعودية في الأزمة السياسية البحرينية في مارس 2011 لمواجهة ما سمي بـ "مؤامرة خارجية" أو "مؤامرة إيرانية" كان هو الرد الأوضح أو الاستجابة الأوضح لمطالب التغيير في البحرين.
ولعل ذلك ما يفسر رفض جمعية الوفاق الإسلامية (الشيعية) المعارضة في البحرين لتحمس مملكة البحرين في تأييد الدعوة السعودية لتشكيل اتحاد خليجي. فجمعية الوفاق البحرينية التى تتمسك بمشروعها السياسي الطائفي المدعوم من إيران ترفض اتحاد البحرين مع السعودية أو الانخراط في اتحاد خليجي أوسع بحجة أنه "يفقد البحرين استقلالها" وهو تبرير يخفي النيّات الحقيقية لدى الجمعية وهي الخوف من أن انخراط البحرين في اتحاد خليجي أو حتى الاتحاد الثنائي مع السعودية سوف يفقد هذه الجمعية ويفقد الأغلبية السكانية الشيعية في البحرين مكانتها وثقلها السياسي حيث ستذوب هذه الأغلبية الشيعية البحرينية في بحر أوسع من الأغلبية السنية في المملكة السعودية وباقي دول المجلس، وهو أمر ترفضه جمعية الوفاق كما ترفضه إيران التي تحرص على أن تبقى البحرين ورقة تهديد مستمرة لوحدة الخليج، وأداة تدخل دائمة لفرض الهيمنة الإيرانية. ففي الوقت الذي أعلنت فيه الحكومة البحرينية تجاوبها مع الدعوة السعودية لاستبدال مجلس التعاون باتحاد خليجي أعلنت جمعية الوفاق الإسلامية رفضها لدعوة الاتحاد وأعلنت على لسان رئيسها على سلمان أن أي تغيير في شكل مجلس التعاون يجب أن يكون بإجماع خليجي وبعد استفتاء الشعوب في كل دولة عضو على حدة، كما أعلن على سلمان أن النظام في البحرين "لا يملك أن يقوم بالاتحاد مع أي دولة أخرى دون تفويض من الشعب، وهو قرار باطل لن نعترف به ومن حق الشعب أن يقاومه". وقال بوضوح "أن فكرة إلحاق البحرين بالسعودية في اتحاد ثنائي دون الرجوع إلى الشعب البحريني وتحويلها من مملكة إلى إمارة يضع البحرين في مهب الريح ويضع المنطقة في دائرة الزلزال، ولا يوافق على ذلك وطني شريف مخلص لمصلحة البلدين ومصلحة هذه المنطقة". كما أعلن موقفه بوضوح على النحو التالي: "نحن مع فكرة تطوير مجلس التعاون ولكن بشرطين أساسيين: أن يكون هذا القرار جماعيًا لكل دولة، وأن يكون بعد استفتاء الشعب على هذا الخيار". هذان الشرطان يعرف علي سلمان أنه وحده من يملك مفاتيح الإجابة عنهما في البحرين، لأنه يتزعم الأغلبية الشيعية في مملكة البحرين، ولذلك فإنهما شرطان مرتبطان بإرادة طرف واحد هو الأغلبية الشيعية التي باتت منخرطة للأسف في مشروع سياسي طائفي تغذيه إيران، وهو ما تكشف من تطابق الرفض الإيراني لمشروع الاتحاد الخليجي مع الرفض الشيعي البحريني للمشروع على نحو ما جاء على لسان علي لاريجاني رئيس مجلس الشورى (البرلمان) في إيران.
ففي معرض إجابته على مطالبة أحد النواب باتخاذ إجراء دبلوماسي جاد فيما يتعلق بخطة السعودية والبحرين لإقامة اتحاد سياسي قال: "إن البحرين ليست لقمة سائغة بإمكان السعودية ابتلاعها بسهولة والاستفادة منها"، وأضاف أن "هذا النوع من الممارسات يثير الأزمات في المنطقة" جاء ذلك ردًا على مداخلة من النائب حسين علي شهرياري نائب محافظة زاهدان الذي خاطب المجلس بقوله: "تعرفون أن البحرين كانت المحافظة الرابعة عشرة في إيران حتى عام 1971، ولكن للأسف وبسبب خيانة الشاه والقرار السيئ الصيت للبرلمان الوطني آنذاك انفصلت البحرين عن إيران" وأضاف: "إذا كان من المفترض حدوث أمر ما في البحرين، فإن البحرين من حق إيران وليس السعودية، ونتوقع من مسئولي السياسة الخارجية متابعة هذا الموضوع بشكل جاد".
كل هذه التحديات كانت موجودة وضاغطة، وكان الملك عبد اللـه يكافح من أجل التغلب عليها لكن بعد غياب الملك سوف تصعد هذه التحديات، وسوف تتراكم الخلافات سواء حول مستقبل مجلس التعاون الخليجي، أو حتى حول العلاقات الخليجية - الخليجية بعد المصالحة الوليدة والهشة بين كل من السعودية والبحرين والإمارات مع قطر، وهي المصالحة التي امتدت إلى العلاقات المصرية – القطرية.
فالمصالحة الخليجية – الخليجية يمكن أن تتعرض للخطر إذا لم تجد اهتمامًا ورعاية من القيادة السعودية الجديدة، وكذلك سيكون مجلس التعاون الخليجي ومستقبله في مهب الريح خصوصًا في ظل التحديات الخطيرة التي تواجه النظام الأمني الإقليمي الخليجي خاصة ما يتعلق بالتشكك في جدية النوايا الأمريكية للدفاع عن دول المجلس والوفاء بالالتزامات الأمنية والدفاعية مع دول المجلس في ظل متغيرات جديدة أبرزها وجود اهتمام أمريكي على تأمين فرص التعاون مع إيران وإنجاح مفاوضات أزمة البرنامج النووي الإيراني، والانعكاسات المحتملة لنجاح هذه المفاوضات على الدور الإقليمي الإيراني المنافس، وتراجع الوزن الخليجي في أولويات المصالح الأمريكية في ظل تراجع الاحتياج الأمريكي للنفط الخليج مع نجاح الولايات المتحدة في استخراج النفط الصخري بكميات تجارية وبأسعار منافسة لأسعار النفط في السوق العالمية، إضافة إلى ما يتعلق بوجود قوى دولية منافسة تريد أن تكون طرفًا في معادلة الأمن الخليجي أبرزها بالطبع حلف الناتو الذي تشارك أربع دول من أعضاء المجلس هي (الإمارات والكويت والبحرين وقطر) في إطار تعاوني مع الحلف يحمل اسم "مبادرة إسطنبول" إضافة إلى بريطانيا التي حظيت بتوقيع عقد قاعدة عسكرية لها في البحرين لأول مرة منذ خروجها الرسمي من الخليج عام 1971ـ وقبلها فرنسا التي أقامت قاعدتين عسكريتين لها واحدة في سلطنة عمان والثانية في الإمارات العربية المتحدة.
ستكون القيادة الجديدة معنية بالتعامل مع كل هذه التحديات في وقت تفرض فيه التحديات الداخلية نفسها كأولوية غير قابلة للمنافسة على القيادة السعودية الجديدة، الأمر الذي يعني أن هذه القيادة ستكون مفعمة بالتحديات.