ثلاث حقائق:كشفتها الانتخابات البحرينية
كشفت تجربة الانتخابات البرلمانية والبلدية الأخيرة التي جرت في مملكة البحرين يومي 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 2014 و29 من الشهر نفسه (جولة الإعادة) عن مجموعة مهمة من الحقائق السياسية التي تخص البحرين بصفة أساسية والتي يمكن أن تكون لها تداعيات ممتدة على الصعيد العربي الخليجي بشكل عام.
أولا- بيئة إقليمية متداخلة
أولى هذه الحقائق أن أحداث الداخل البحريني ليست معزولة عن بيئتها الخليجية وبالذات ما يتعلق بقضايا التطور السياسي والديمقراطي. فالتفاعلات السياسية البحرينية تلقي بظلالها عادة على جوارها الخليجي، وفي ذات الوقت فإن هذا الجوار الخليجي (العربي والإيراني) يؤثر، ربما بالدرجة ذاتها على ما يحدث داخل البحرين من تفاعلات. فالداخل البحريني، رغم كل استقلاليته يبقى محكوماً بضوابط تداعياته المحتملة على الجوار الخليجي وبالذات الجوار العربي الحريص على تثبيت قدر ما من الانسجام والتجانس بين ذلك النوع من التفاعلات السياسية في دول مجلس التعاون.
ولمزيد من التوضيح نشير إلى أن مطالب المعارضة السياسية البحرينية في فرض إصلاحات، بل وتغييرات، جذرية على النظام السياسي البحريني من نوع إقامة ملكية دستورية، ومطلب الحكومة المنتخبة، والحد من سلطات الملك، رغم أن تفاعلاتها تبقى في البداية والنهاية قرارًا سياديًا بحرينيًا، فإن هذا القرار السيادي له ضوابطه وله أيضاً حساباته، وفي مقدمتها ما يتعلق بمواقف دول الجوار الخليجي العربية من هذه المطالب.
الأمر بالنسبة للجوار الخليجي الإيراني للبحرين فهو أشد وطأة ويصل إلى درجة التدخل المباشر والسافر في الشئون الداخلية للبحرين، حيث إن إيران من الناحية الفعلية مازالت تتعامل مع مملكة البحرين باعتبارها واحدة من المحافظات الإيرانية، كما أنها، وإن كانت تنفي رسميًا اتهامات من هذا النوع، فإن سطوة المرجعية الدينية تفوق كل أنواع التدخل، حيث تلعب فتوى المرجعية دورًا محوريًا في التوجهات والمواقف السياسية لقطاع واسع من أبناء الطائفة الشيعية في البحرين.
خطورة هذه المسألة تتركز في أن الكثير من أبناء الشيعة البحرينيين يقلدون السيد على الخامنئي المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية، وكون خامنئي مرجع التقليد لهؤلاء يعني أنه صاحب الكلمة العليا في خيارات وتوجهات أتباعه ومقلديه، عليه أن يأمر وعليهم أن يطيعوا. وطاعة هؤلاء للخامنئي كمرجع للتقليد تختلط بولاءات هؤلاء الوطنية، هل الملك وهل البحرين لهما الأولوية إذا تعارضت مصلحة الوطن ومطالب الملك مع أوامر الخامنئي كمرجع للتقليد، أم أن الولاء للمرجع يفوق الولاء للوطن؟
عمومًا هذه قضية شائكة ومثيرة للخلاف وشديدة الحساسية بالنسبة لموضوع الولاء الوطني وعلاقته بالانتماء المذهبي والطائفي، لكن الواضح أن إيران تستغل مسألة كون مرشدها الأعلى السيد على الخامنئي هو مرجع التقليد للكثير من البحرينيين الشيعة للتدخل في الشئون الداخلية للبحرين وللتأثير السلبي على مسار الاستقرار السياسي في البلاد، كان ذلك واضحًا جدًا في الانتخابات الأخيرة حيث لجأت "جمعية الوفاق" وزعيمها على سليمان إلى فتوى الشيخ عيسى قاسم أو آية اللـه عيسى قاسم لتحريم أو لتجريم المشاركة في الانتخابات البرلمانية والبلدية الأخيرة، واستخدمت هذه الفتوى هذه المرة، كما استخدمت في مرات أخرى سابقة وعديدة لترويع المواطنين الراغبين في الترشح للانتخابات أو التصويت فيها ورفض قرار المقاطعة. سبق للشيخ عيسى قاسم أن أعطى فتاوى بالمشاركة في الانتخابات، وسبق أن أعطى فتاوي عكسية بالمشاركة، وهذا كله مرتبط بالتقديرات السياسية لقادة الجمعيات السياسية الشيعية وتفاهماتهم مع المرجعيات الدينية، والأهم هو ما تريده طهران.
كان لافتًا للنظر ما ورد على لسان الناطقة بلسان الخارجية الإيرانية مرضية أفخم، في أوج تفاعلات العملية الانتخابية التي قاطعتها "جمعية الوفاق" وأربع جمعيات سياسية أخرى هي جمعية "وعد" والمنبر التقديم الديمقراطي، والتجمع القومي الديمقراطي وجمعية الإخاء الوطني. فقد استنكرت مرضية أفخم ما اعتبرته "اقتحام القوات البحرينية الأربعاء 26 نوفمبر 2014 (أي بعد ثلاثة أيام من إجراء جولة الانتخابات الأولى يوم السبت 22 نوفمبر 2014) منزل آية الله الشيخ عيسى قاسم" ووصفت ما حدث بأنه "خطوة اندفاعية" واعتبرت أفخم أن "الإساءة للمقدسات الدينية والقيادات ورجال الدين الذين يتمتعون بقاعدة شعبية تعتبر من السياسات الأمنية والطائفية الفاشلة التي تتبعها الحكومة البحرينية أمام الاحتجاجات السلمية لأبناء الشعب البحريني".
واضح من تصريح أفخم أن إيران حريصة على أن تتعامل مع البحرين، وبالذات "شيعة البحرين" بمنطق "الوصاية" وتتخذ من ذلك ذريعة للتدخل في الشئون الداخلية للبحرين. وإذا كانت وزارة الخارجية البحرينية قد استنكرت في بيان لها هذا التدخل السافر فإنها كانت حريصة أيضًا على توضيح أن ما حدث لم يكن اقتحامًا ولكنه حصل بإذن من أصحاب المنزل وعلمهم بحثًاعن أحد المطلوبين أمنيًا وفي وضح النهار.
ثانيا- اهتزاز الثقة في المرجعيات الدينية
ثانية هذه الحقائق أن الشعب البحريني والرأي العام البحريني لم يعُدْ مستعدًا أن يرهن مستقبل بلده بفتاوي المرجعية سواء كانت بالمشاركة أو بالمقاطعة، وأنه حريص على أن يحرر إرادته السياسية، وأن يستوعب كل التهديدات والاعتداءات التي تعرض لها المشاركون من المواطنين الشيعة والسنة سواء بالترشح في الانتخابات أو بالتصويت فيها، حيث شهدت هذه الانتخابات أعلى نسبة ترشيح، حيث وصل عدد المرشحين لعضوية مجلس النواب 266 تنافسوا على أربعين مقعدًا هي إجمالي عدد أعضاء المجلس، وبلغت نسبة المشاركة 52.6 في المائة بواقع 183.936 ألف ناخب من حجم الكتلة الانتخابية البالغة 349.713 ألف ناخب.
لم تفلح دعوة المقاطعة ولم تفلح التهديدات والاعتداءات لمنع المواطنين من المشاركة التي حرصت على تأسيس دعوتها على التشكيك في وجود أي فرصة لإصلاح النظام السياسي والسياسة العامة من خلال البرلمان، فقد أصدرت الجمعيات الخمس المقاطعة للانتخابات وعلى رأسها جمعية الوفاق بيانًا أوضحت فيه أن الأزمة السياسية في البلاد "لا تزال مستحكمة وعصيّة على الحل بسبب رفض الحكم الشروع في حوار جدي قادر على انتشال البحرين من أزمتها السياسية" وبينت هذه الجمعيات أن قرار مقاطعة الانتخابات النيابية والبلدية "هو قرار وطني نابع من حرص قوى المعارضة على السير في العملية السياسية، بما يؤسس لديمقراطية حقيقية تؤمن بالرأي والرأي الآخر، وانتهاج طريق السلمية سلوكًا إستراتيجيًا تقدر المعارضة وتنبذ جميع أشكال العنف من أي طرف كان"، وأوضحت أيضًا أن قرار المقاطعة للانتخابات جاء "بعد أن نزع الحكم ما تبقى من صلاحية للمجلس المنتخب، وبعد أن تم تشريع القمع والانتهاكات، ومنح الحق للدولة الأمنية أن تفعل ما تشاء، وأن تستمر في الانتهاكات المستمرة حتى يوم الانتخابات.
لم تكتف المعارضة بذلك بل شككت أيضًا في قانون ترسيم الدوائر الانتخابية الذي وصفته بأنه "مصمم بشكل يضمن تزييف الإرادة الانتخابية، وهو الاتهام الذي قالته الوزيرة سميرة رجب المتحدث باسم الحكومة، التي أكدت أنه "ليست هناك مطالب معلنة للمعارضة لم تنفذ، وأن ما تحقق عبر المشروع الإصلاحي يفوق بكثير مطالب المعارضة"، كما أوضحت أن "كل ما يقال عن الدوائر الانتخابية أو أي مطالب أخرى أصبحت اليوم عملية مكشوفة يراد منها فقط تبرير المعارضة المرتبطة بالأحداث الإقليمية والتي لا علاقة لها بما يحدث داخل البحرين".
ثالثا- تراجع دور الجمعيات السياسية
الحقيقة الثالثة لا تقل أهمية، فإذا كانت نتائج الانتخابات قد أكدت تحرر الناخب البحريني من سطوة الجمعيات السياسية، فإنها أكدت أيضًا تحرر المزاج العام الداعم للتيار الإسلامي السياسي السني السلفي والشيعي معًا. رفض الناخب الشيعي لمقاطعة الانتخابات كان إعلانًا منه برفض سطوة الجمعيات السياسية الدينية الشيعية وخاصة جمعية الوفاق وجاء رفض الناخب السني مشابها في تجنبه التصويت لمرشحي الإخوان "جمعية المنبر الإسلامي"، والسلفيين "جمعية الأصالة". فقد تراجع عدد المقاعد النيابية التي حصلت عليها جمعية المنبر الإسلامي من أصل 7 مقاعد في أول انتخابات نيابية عام 2002 إلى مقعد واحد فقط في الفصل التشريعي الحالي 2014. أما جمعية الأصالة فإنها في الفصول التشريعية الثلاثة، وحتى هذا الفصل الأخير، احتفظت بـ 5 – 6 مقاعد من أصل 40، لكنها لم تحصل إلا على مقعدين اثنين فقط. كان المرشحون المستقلون هم الأكثر توفيقاً في الفوز، وكانوا الأكثر حرصًا، طيلة حملتهم الانتخابية، على نفي أي انتماء لعضوية أي جمعية سياسية.
رابعا- التغير في المزاج العام للناخبين
ما الذي حدث حتى يتغير المزاج الانتخابي ضد الجمعيات السياسية وضد الجمعيات الدينية إلى هذا الحد؟
السؤال في حاجة إلى بحث وتدقيق، وإن كان تطلع الناخب إلى المزيد من التحرر والاستقلالية وفقدان الثقة في صراعات وأداء الجمعيات والخشية على الوطن ومستقبله، كلها عوامل تقف وراء هذا العزوف عن الجمعيات السياسية، لكنه بات أشبه بالمقاطعة للجمعيات الدينية وخاصة جماعة الإخوان في ظل العداوة الإخوانية لكثير من نظم الحكم الخليجية.
هذا التغير في المزاج الانتخابي العام بالبحرين سيفرض نفسه حتمًا على الجمعيات السياسية والدينية، التي ستكون مطالبة بمراجعة إستراتيجياتها في العمل السياسي خاصة جمعية الوفاق وحلفاءها التي تراهن على التغيير من خارج البرلمان وتراهن على الشارع السياسي البحريني من ناحية، وعلى الضغوط الخارجية على الحكومة البحرينية من إيران من ناحية ومن الغرب وخاصة الولايات المتحدة من ناحية أخرى من منظور طرح القضية باعتبارها اعتداء على الحريات والحقوق السياسية، واعتبارها أيضًا سياسة تمييزية من الحكومة ضد فصيل وطني بحريني هو الشيعة على وجه التحديد.
فالمعارضة الشيعية على وجه الخصوص حريصة على طرح القضية السياسية في البحرين من منظور كونها قضية "تفضيل مذهبي" بالتمييز بين السنة والشيعة على أساس الطائفة على نحو ما يؤكد هادي الموسوي، الذي أوضح في مقابلة تليفزيونية مع قناة أمريكية أن الشيعة ليس بمقدورهم الحصول على وظائف في الأجهزة العسكرية والأمنية أو وزارة الخارجية وغير ذلك من المناصب، كما أوضح أن الحكم في البحرين ليس حريصًا على التوصل إلى حلول، ودليله في ذلك أنه كان قد تم في مارس 2011 الاتفاق مع ولي العهد الأمير سلمان على عدد من النقاط تعتبر مخرجًا لأسباب التوتر في البحرين، لكن لم يتحقق منها شيء، بل إن الأوضاع ساءت، فزاد التمييز في شتى مناحي الحياة، واستمرار التجنيس السياسي (تجنيس أفراد سنة من خارج البحرين) بدون توقف من أجل تغيير التركيبة الديموجرافية في البحرين في غير صالح الشيعة، واستمر الفساد المالي والإداري وتفاقمت انتهاكات حقوق الإنسان.
والآن وبعد نجاح الحكم في البحرين في إجراء الانتخابات النيابية والبلدية رغم مقاطعة المعارضة، وبعد ظهور النتائج التي جاءت في غير صالح الجمعيات السياسية والدينية تجد المعارضة نفسها في مأزق، فالشارع تغير ويتغير في مزاجه السياسي والانتخابي ولم يعد أسيرًا لتوجيهات الجمعيات، والبرلمان بات خاليًا من أي وجود فاعل للمعارضة. اضطرت المعارضة إلى تجديد طلب الحوار مع النظام. فقد جاء في البيان الذي أصدرته المعارضة عقب إجراء الانتخابات وظهور نتائجها تأكيد بأن "الانتخابات الحالية لن تحل الأزمة السياسية، بل ستكرس الانتهاكات وتعمق الاستبداد، وأن الحل لا يمكن أن يكون منفردًا كما مارسه النظام السياسي، بل جامعاً لكل المكونات، وذلك عن طريق الجلوس على طاولة المفاوضات الجادة بوجود مراقبين دوليين من منظمة الأمم المتحدة بعد أن تعمقت أزمة الثقة بين الحكم والمعارضة".
وعلى الفور جاء رد الحكومة حاسمًا وعلى لسان سميرة رجب وزيرة الإعلام المتحدثة الرسمية باسم الحكومة (السابقة) فقد أكدت رفض الحكومة للتصنيفات في شأن فوز السنة أو الشيعة بمقاعد البرلمان الجديد، وقالت: "نحن أبناء البحرين لدينا الحقوق والواجبات والكفاءة نفسها، ونتعامل وفقًا لتكافؤ الفرص، والشارع البحريني انتخب ممثليه، ونحن ضد التصنيفات الطائفية، ونرفض المحاصصة فالبحرين للجميع، وكلنا رجاء من الجميع أن يحترموا التجانس والوحدة في البلاد كما كنا عبر التاريخ". وفي ذات الوقت ردت على مطالب المعارضة بحوار جامع ومراقب دوليًا للخروج من الأزمة أوضحت أن "الحوار بين الحكومة والمعارضة (الشيعية) التي قاطعت الانتخابات سيكون تحت قبة البرلمان فقط، ومع ممثلي الشعب كافة، وهم الكفيلون بتحقيق مطالب الشعب البحريني".
المعنى واضح وهو أن المعارضة خسرت المشاركة بمقاطعتها الانتخابات هذا من ناحية، لكن ومن ناحية أخرى فإن فحوى ردود الوزيرة سميرة رجب أن الأزمة السياسية ستبقى مستمرة، وإن كانت ستعبر عن نفسها بوسائل متعددة لن تكون حتماً وسائل سلمية أو ديمقراطية.