المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

بلقنة أميركا : نار التمرد والانفصال تحت السقف الفيدرالي*

الثلاثاء 25/فبراير/2014 - 05:58 م
المركز العربي للبحوث والدراسات
عرض: هانى سليمان
استطلاعات الرأي المتعددة تشير إلى تنامي الفجوة الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع الأميركي، ومن اليسير التنبؤ بميل المناطق الريفية بشكل إلى عدم الرضا عن البرامج السياسية على المستو

العنوان أعلاه قد يصدم البعض ويعتبره نوعاً من الإثارة والتشويق، نظراً لعدم تلمس وإدراك دقيق لما يمور تحت السطح من إرهاصات وتحركات واحتجاجات متعددة في المجتمع الأميركي، وإنضاج ظروف بعض العوامل الذاتية التي من شأنها أن تحدد وجهة مساراتها المقبلة، وتحديداً لتزايد اتساع الهوة بين شريحة فاحشة الثراء، 1%، والشرائح الاجتماعية الأخرى والمهمشة منها بشكل خاص. كما أنه ليس استعارة لنبوءات الأستاذ الجامعي الروسي، إيغور بانارين، الذي أعرب عن اعتقاده، في منتصف عقد التسعينيات، بحتمية انفراط عقد الكيان الأميركي الموحد وتشظيه إلى عدة تجمعات، والذي لم يعطى حقه من النقاش آنذاك وانتظر عقداً كاملاً من الزمن قبل أن تظهر نظريته للعلن.

        وحتى لا نبقى في إطار ترف النظريات الأكاديمية، نلفت النظر إلى ما تنبأ به أحد أهم رؤساء الولايات المتحدة، قبل نحو قرن من الزمن، ثيودور (تيدي) روزفلت، محذراً من تهميش وإقصاء قطاعات كبيرة في المجتمع من المساهمة في إرساء بنيان الدولة المركزية. وقال: "العنصر الثابت والمؤكد لتركيع البلاد وهلاكها المحقق .. هو بلوغها مرحلة العداوة والشجار بين الإثنيات" المختلفة ونادى بالاندماج التام "وعدم السماح القاطع بازدواجية الولاء أو اللغة."

التقط البوصلة مبكراً السيناتور الراحل تيدي كنيدي عام 1965 بتبنيه مشروع قرار لإدخال إصلاحات واسعة على قوانين الهجرة السارية، مما أتاح دخول نحو مليون مهاجر سنوياً إلى الأراضي الأميركية واعتبره الخصوم بأنه "محاولة شريرة" أسفرت عن دخول "مواطنين ينتمون للعالمين الثالث والرابع ولا زالوا يتخذون من الأكواخ العشبية ملاذاً لهم،" مما يسهم في تصدع البنيان الأميركي.  

النائب الجمهوري، عن ولاية فلوريدا، آلان ويست، اتهم خصومه "الليبراليين الذين يمضون بنا إلى مسار التفرقة والهلاك .. ويتعين علينا جميعاً، دون استثناء، التنعم والتغريد لنمط الحياة الأميركية."

ومضى ويست موضحاً لمن لم يفهم إشارته وإثارته للنعرات بالقول ".. إن لم نمتلك مشاعر العزة الكافية لإنشاد النشيد الوطني الأميركي باللغة الإنجليزية .. فإننا ذاهبون للجحيم .." في تعليقه على دعاية لشركة كوكا كولا الأميركية برز فيها مواطنون حديثو الجنسية ينشدون الكلمات بعدة لغات على ذات الأنغام الأصلية.

          تضافرت عوامل عدة حديثاً تنذر بحالة تشظي الكيان الأميركي، بلقنته، إذ لم يعد سراً حالة الإحباط العامة السائدة بين أفراد المجتمع وإقلاعهم عن المشهد السياسي وتصارع أقطابه فيما بينهم دون تلبية أبسط الحقوق الشعبية المطلوبة، وكذلك تردي الاوضاع الاقتصادية واتساع الفجوة والاستقطاب السياسي والاجتماعي.

        وبرزت تدريجياً حملات وحركات اجتماعية متعددة تنادي بالتقوقع الإقليمي وتقسيم أراضي الولايات، كولورادو وكاليفورنيا مثالاً، إلى عدة كيانات أكثر تجانسا وأُلفة. وشهدت الانتخابات المحلية نهاية العام المنصرم بروز حملات جادة لاستمزاج آراء الناخبين في الانفصال بولاية كولورادو، بصرف النظر عن الهزيمة التي تلقتها الحملة لحداثة تاريخها ربما.

        أحدث الحملات جاءت من ولاية نيويورك، الأسبوع الجاري، التي نادى بعض مواطنيها بالتقسيم الإداري للولاية يفضي إلى فصل توجهات الأغلبية الليبرالية في محيط مدينة نيويورك عن المناطق المحافظة في أعالي مناطق الولاية. كما أن ولاية ميريلاند المجاورة للعاصمة واشنطن شهدت حراكاً مثيلاً، إذ نادى مواطنون في الشق الغربي الريفي والمحافظ من الولاية إلى الانفصال عن الأقسام الليبرالية الأخرى من أراضي الولاية.

        ولاية كاليفورنيا، السلة الغذائية والتقنية المتطورة لأميركا، أقدمت على التهديد بالانفصال عن المركز نظراً للأزمة الاقتصادية الحادة والعجز العالي في ميزانيتها. وطالب هؤلاء بإنشاء خمسة أقاليم أشد تجانساً فيما بينها تفصل الكثافة السكانية الليبرالية على الشواطيء الساحلية، التي تتحكم بمفاصل السلطة، عن المناطق الريفية في الداخل.

        ولا يجوز إنكار نزعة الانفصال الحاضرة دوماً في ولاية تكساس مترامية الأطراف، والتي تشهد حالياً نمواً اقتصادياً ملحوظاً. وتعددت مطالب بعض أهليها للانفصال عبر تاريخ الولاية المضطرب والتي غذتها اكتشافات النفط من جانب، ووجود مصافي وتكرير النفط الأميركية على أراضيها وبالقرب منها على شواطيء خليج المكسيك.

        استطلاعات الرأي المتعددة تشير إلى تنامي الفجوة الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع الأميركي، ومن اليسير التنبؤ بميل المناطق الريفية بشكل عام إلى التوجهات المحافظة اجتماعياً وتأييد التيار اليميني سياسياً، وعدم رضاها وارتياحها للبرامج السياسية على المستوى القومي، مقارنة مع المناطق المدينية التي تميل إلى تأييد الرئيس أوباما، ولو بتفاوت، بشكل عام. القطاع الصناعي التفت مبكراً إلى خزان اليد العاملة والقوانين المحافظة السائدة في المناطق الريفية ووطد أقدامه فيها بحثاً عن مضاعفة حجم الأرباح وتواطؤ صناع القرار السياسي للضغط على العمال وتحجيم مكتسباتهم وحقوقهم.

        في العام 2008، خلال عهد الرئيس السابق جورج بوش الابن، أعلن الأستاذ في الأكاديمية الديبلوماسية التابعة لوزارة الخارجية الروسية، إيغور بانارين، عن أطروحته السابقة متنبئاً أن الولايات المتحدة مقبلة على مواجهة اضطرابات اقتصادية تعصف بكيانها السياسي الراهن، بحيث يصيبه التشظي والانقسام السياسي مع حلول عام 2010، يعززه فى ذلك معدلات البطالة المرتفعة وتدهور القدرة الشرائية وحجم المدخرات للأميركيين.

        توقعاته بدأت تعود إلى التداول تدريجياً، سيما مع الأزمة المالية الحادة التي شهدتها الأسواق الأميركية عام 2008، أبرزها تدني معدلات الاتجار وقيمة الأسهم في وول ستريت وإعلان عدد من كبريات الشركات حتمية إفلاسها إن لم يتم التدخل لإنقاذها عاجلاً. النبض الشعبي حافظ على وتيرة الإحباط وعدم الرضا لما وصلت اليه الأوضاع، وتشبث ببعض الوعود البراقة إبان حملة الانتخابات الرئاسية آنذاك والتي ظهر فيها باراك أوباما كمنقذ للشرائح الأكثر تضرراً، وسرعان ما انجلى غبار الوعود وهشاشتها للعامة.

        مسح الغبار عن نظرية الأستاذ الروسي بانارين يوحي ببطلانها، إذ لا يزال الكيان السياسي الاميركي راسخاً موحداً، أو هكذا يبدو من بعيد. وسرعان ما لمس المرء إعادة تداول وسائل الاعلام بنظرية بانارين للانقسام، وإن ببعض عناء البحث.

النبض الشعبي حافظ على وتيرة الإحباط وعدم الرضا لما وصلت اليه الأوضاع، وتشبث ببعض الوعود البراقة إبان حملة الانتخابات الرئاسية آنذاك والتي ظهر فيها باراك أوباما كمنقذ للشرائح الأكثر

أعراض الازمة:

        التوزيع الديموغرافي والتنوع الاقتصادي والسياسي أيضاً أصبح بمجمله معطوفاً وملازماً لمعدلات نمو قاعدة الإنتاج الاقتصادية. والقلق حاضر في الأذهان لوجهة انتقال صناعات الأسلحة الضخمة من مناطقها التقليدية إلى مناطق أخرى بديلة نكاية بالرئيس أوباما وسياساته الاقتصادية.

        أعلنت شركة "رمينغتون" للأسلحة الخفيفة والذخيرة مطلع الأسبوع الماضى عن نيتها إنشاء مصنع إنتاج في ولاية ألاباما الجنوبية مما سيؤدي إلى انتقال قاعدة الإنتاج الراهنة من مدينة إيليون في ولاية نيويورك، التي استضافت الشركة منذ عام 1816، إلى منافستها الجنوبية. اشتهرت الشركة بإنتاجها بنادق قناصة دقيقة الإصابة، إلى جانب المسدسات الخفيفة، وكذلك بندقية الرمي الميدانية المستخدمة في القوات المسلحة البولندية.

        تفوقت الدوافع السياسية لقرار الشركة على الاعتبارات الاقتصادية البارزة، خاصة عند الأخذ بعين الاعتبار تطور المزاج الشعبي في ولاية نيويورك، المناهض لصناعة وانتشار الاسلحة. أما ولاية ألاباما، في هذا النموذج، فبرزت في مقدمة المناطق والولايات المؤيدة لانتشار الأسلحة الفردية وانعكاس ذلك على قوانينها سارية المفعول. بالمقابل، سنت ولاية نيويورك قانوناً صارماً، العام الماضي، يحظر اقتناء عدد من الأسلحة الخفيفة لخطورتها على السلم الاجتماعي، والتي تصنعها شركة "رمينغتون."

انسجام الميل الشعبي أدى لاستصدار القانون المذكور، مما حفز شركة الأسلحة على التفكير بنقل مركزها الإنتاجي إلى ولاية بديلة لأول مرة منذ نحو قرنين من الزمن.

        رمينغتون ليست فريده بقرار النزوح والهجرة لاعتبارات سياسية، إذ احتلت ولاية كاليفورنيا وإلى وقت قريب المركز الأول لصناعات الطيران والفضاء ومشتقاتهما، وأصبحت الآن تعاني من انتقال بعض عمليات الإنتاج إلى مناطق جغرافية بديلة، أبرزها شركة راثيون العملاقة لصناعة الأسلحة والتي تنتج نظم الصواريخ الموجهة. احتلت راثيون المرتبة الخامسة من بين كبريات شركات الأسلحة العالمية، عام 2012، والمرتبة الرابعة في تراتبية شركات الأسلحة الأميركية المتعاقدة مع وزارة الدفاع وهيئات حكومية أخرى. يتضمن إنتاج راثيون صواريخ "ستينغر" المحمولة على الكتف، قذائف تاو وتوماهوك وسايدويندر وجافلين. اتخذت الشركة من حزام كاليفورنيا الجنوبي مقراً لمنشآتها، ونقلتها تدريجياً الى ولاية أريزونا المجاورة.

        هروب الصناعات المتطورة من ولاية كاليفورنيا تجاوز صناعات الأسلحة، إذ أعلنت شركة النفط أوكسيدنتال عن نيتها نقل مقراتها من مدينة لوس إنجليس إلى مدينة هيوستون بولاية تكساس، والتي كانت تضخ مبالغ كبيرة لخزينة الولاية.

        أيضاً، شركة بوينغ الضخمة، الأولى في صناعة الطائرات المدنية والثانية في الصناعات الجوية الحربية، أعلنت عن نقل بعض مصانعها ومنشآتها الأساسية إلى ولاية ساوث كارولينا وإلى ولايات يوتاه وميزوري ومناطق متعددة. يذكر أن بوينغ نقلت مقرها الرئيسي من ولاية واشنطن إلى مدينة شيكاغو قبل وقت قريب، وحازت على رشوة اقتصادية من ولاية واشنطن قيمتها 8.7 مليار دولار كحوافز وإعفاءات ضرائبية مقابل الإبقاء على أحد مصانعها في الولاية ينتج طائرات مدنية من طراز 777.

        بدأت ظاهرة التحولات في القاعدة الإنتاجية وتوزعها على مناطق جغرافية ميزتها وفرة اليد العاملة وقوانين مشجعة لمراكمة الأرباح تتبلور منذ زمن، والتي شكلت ولاية تكساس باكورة هجرة الصناعات المتطورة. وأعلنت شركة "آبل" للكمبيوتر عن توسيع قاعدتها الإنتاجية في مدينة أوستن بولاية تكساس، التي ستستضيف نحو 3،600 عامل وموظف، بالتزامن مع إعلان استثمارها بنحو 5 مليار دولار في مقراتها الرئيسة الواقعة بمدينة كبرتينو بولاية كاليفورنيا.

        يتضح من هذا السرد المقتضب تراجع أهمية ولاية كاليفورنيا كوجهة تقصدها الكفاءات والقوى العاملة طمعاً في الرواتب العالية نسبياً. وانحدرت معدلات الدخل الأسري لمستويات أدنى مما هو عليه الحال في ولايات لا تضاهي أوضاعها. وبلغ متوسط دخل أسرة مكونة من ثلاثة أفراد 67,401 دولار في ولاية كاليفورنيا، و68,848 دولار لولاية بنسلفانيا و73,688 دولار لولاية وايومنغ؛ والأخيرتان يسيطر عليهما الحزب الجمهوري وتتمتعان بمستوى معيشة منخفض قياساً بولاية كاليفورنيا. كذلك تبرز ولاية تكساس كإحدى أهم الأسواق المنافسة لاستقطاب القطاع الصناعي من كاليفورنيا والتي تنعم بمستوى معيشى أدنى من مثيلتها الأصلية.

        أبرز تجليات نزوح الشركات الصناعية لاعتبارات سياسية كانت حال شركة "باريتا" للأسلحة الخفيفة التي عزمت على نقل مقراتها من ولاية ماريلاند (ذات الأغلبية الليبرالية) إلى ولاية فرجينيا المجاورة (ذات التوجه المحافظ بشكل عام). وفجأة أرجأت قرارها بالرحيل عقب فوز الديموقراطي تيري ماكاليف بمنصب حاكم الولاية والذي فاز بنسبة معتبرة لوعوده بالسعي للحد من انتشار الأسلحة الخفيفة. ومن ثم لجأت الشركة إلى ولاية تنسي الجنوبية التي رحب بها حاكم الولاية الجمهوري، بيل هاسلام، وكافأه نائب رئيس الشركة بكلمات الاطراء والثناء والتأكيد على بعد النظر في استقطاب قطاع الصناعة، مدركاً في الوقت عينه ميل أغلبية مواطني الولاية إلى اقتناء السلاح والمزيد منه، الذي سيعود بالخير والبركة على خزينة الولاية، كما أشيع.

        يشار إلى أن هروب وانتقال مقار ومصانع شركات كبرى إلى مناطق جغرافية بديلة ينطوي عليه كلفة مادية عالية، فضلاً عن التحولات التي تفرض نفسها على أطقم الصناعات والكفاءات المهنية وما يترتب عليها من بدائل قد تضر بنوعية الإنتاج والمنتج. اللافت أن الولايات الليبرالية التقليدية، نيويورك وماريلاند وكونتيكت، بشكل خاص، استضافت أراضيها قاعدة صناعية معتبرة منذ عقود طويلة، ومنها صناعات الأسلحة – سميث آند ويسون؛ روغر وباريتا - ومشهود لها بسن قوانين متشددة ضد انتشار الأسلحة الخفيفة. توفر الكفاءة المهنية العالية كانت أحد أهم العوامل التي حالت دون نزوح تلك الصناعات إلى مناطق بديلة وتعويض تلك الخبرات دون الإضرار بالمنتج والسمعة الرفيعة في سوق الأسلحة.

        تباين نصوص القوانين الضرائبية وسعي التيارات السياسية اليمينية لخفض معدلات الضرائب على القطاع الاقتصادي الحق شديد الضرر بخزائن الولايات المالية، واطلق العنان لتسابق الولايات الاقل تطورا على المنافسة لاستقطاب بعض منها والتبرع بتوفير حزمة من المحفزات الاقتصادية والاعفاءات الضريبية. والتقط القطاع الصناعي أس المعادلة بحثا عن توسيع حجم الارباح التي لن تتأتى الا عبر الاستثمار في مناطق اقامة بديلة.

        من انصع الامثلة على تلك المعادلة الاوضاع التي آلت اليها شركة "كولت" العريقة في تصميم وانتاج المسدسات الخفيفة والتي حافظت على مقراتها الانتاجية الاصلية في ولاية كونتيكت، ذات القوانين شديدة الصرامة على اقتناء السلاح. وانقلبت معادلة التصدير وما تدره من ارباح مع دخول الترتيبات حيز الفعل بين "كولت" وشركة "كاراكال" الاماراتية التي فاقت معدلات صادراتها من الاسلحة الخفيفة للولايات المتحدة مثيلاتها لدى "كولت."

        كما لا ينبغي اغفال أهمية عوامل الاستقطاب السياسي واتساع الهوة الاقتصادية اللذين اسهما بشكل مباشر في تحديد ملامح موجة الهجرة الاقتصادية، طاقات وكفاءات بشرية ووجهة جغرافية على السواء.

        المناطق الميسورة والاوفر حظا تميل الى مناهضة حمل السلاح الفردي، ويتجلى ذلك الأمر في القوانين الناظمة الاكثر تشددا في تلك المناطق من غيرها الريفية. موقف الفئتين يطال امورا سياسية واجتنماعية واقتصادية اشمل من ثمة خلاف حول السلاح الفردي، ونظرة كل منهما الى التعامل مع الاحداث والتحديات العالمية.

        في هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أهمية تصويت عمال مصانع فولكس فاغن، في ولاية تنسي، برفضهم الانضمام إلى نقابة عمال السيارات القومية نتيجة ضغوط هائلة مارسها الساسة المؤيدون للحزب الجمهوري، وتهديد بعض نواب الكونغرس الأميركي عن الولاية للشركة بأنها ستواجه اجراءات وتدابير مالية قاسية إن لم تستجب لرغبة القوى السياسية المحافظة. كما أن تدني مستوى الوعي النقابي بين أوساط الأيدى العاملة في مناطق الجنوب الأميركي، والميل العام للتصويت لصالح الحزب الجمهوري، شكل أحد الحوافز الأساسية لبعض الصناعات، ومنها صناعة السيارات، التوجه جنوباً والهروب من الشمال الصناعي الأوفر تطوراً ووعياً.

        بخصوص شركة فولكس فاغن، من الضروري الإشارة إلى تأييد الشركة لمطالب العمال وحقهم بتشكيل نقابة تدافع عن مصالحهم، أسوة بأوضاع الشركة الأم في ألمانيا؛ بل ذهبت لتقييد حرية الأقطاب اليمينية لاستقطاب العمال لصالحها. ومع ذلك، صوت العمال ضد مصالحهم، مرة أخرى، مما أصاب الأوساط السياسية في واشنطن بدهشة كبيرة لما تنذر به من تحولات اجتماعية في الموسم الانتخابي المقبل لصالح التيار اليميني والتوجهات المحافظة.

        وامتداداً، تتأثر الاستقطابات والاصطفافات السياسية بانقسامات مماثلة لا سيما في مسألة تجسس وكالة الأمن القومي على المواطنين والساسة الأميركيين. بل تشهد الساحة السياسية تحركات لم تكن في الحسبان لناحية تضافر جهود قطبي الاصطفاف السياسي ضد سلطة الدولة المركزية. يذكر في هذا الصدد انضمام ولاية ماريلاند الليبرالية وولاية يوتاه المحافظة إلى حملة ناشئة تتبلور في أوساط مجالس الولايات المحلية بغية استصدار قرارات تقيد حرية حركة وكالة الأمن القومي على أراضيها، وفصل الخدمات الأساسية من كهرباء ومياه عن مقراتها إن لم تمتثل لطلبها.

من المبكر استشراف وجهة هذه الحملة الوليدة، غير أن الدولة المركزية ليست غافلة عن أبعادها وتأثيرها واتساع مساحة الرفض الشعبي لتقييد الحريات.

المسببات:

        تفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية أسهم في إنضاج ظروف الصدام والاشتباك والانقسام في الداخل الأميركي، لمستويات حادة لم يشهدها من قبل. رأس الهرم السياسي القيادي هو أحد أسباب الاستقطاب والانقسام لا ريب، مما انعكس على تدني نسبة شعبيته إلى مستويات مقلقة. وتكفي الإشارة إلى تحكم غالبية خصومه من الحزب الجمهوري في منصب حكام الولايات، 29 مقابل 21 للحزب الديموقراطي، برفقة 27 من مجالس الولايات المحلية تقع تحت سيطرة الحزب الجمهوري مقابل 17 مجلس لصالح الحزب الديموقراطي.

        في المشهد المركزي، الفيدرالي، تزداد حدة قلق الحزب الديموقراطي والرئيس أوباما، سيما وأن مجلس الشيوخ أصبح قاب قوسين أو أدنى لسيطرة أغلبية الحزب الجمهوري، في أعقاب جولة الانتخابات المقبلة؛ وبذلك تصبح السلطة التشريعية بمجلسيها، النواب والشيوخ، تحت رحمة الخصوم. آفاق وضوابط السلطة السياسية تفرض على الرئيس أوباما، في مثل هذه الحالة، تقديم تنازلات إضافية قاسية لخصومه أسوة بما قام به الرئيس الأسبق بيل كلينتون عام 1994. للتخفيف من وطأة ذلك، يسعى الرئيس أوباما لتوسيع حيز المناورة المتاح باستخدام واسع لصلاحياته الرئاسية في تعيين الأطقم البشرية لإدارة مرافق الدولة دون اللجوء للحصول على موافقة السلطة التشريعية، كما يقتضي الدستور في بعض نصوصه.

بوادر التمرد على الصعد المحلية:

        في ظل تسيد حالة الإحباط في أوساط القاعدة الانتخابية، وضيق ذرعها من الوسائل القانونية المتاحة لإحداث التغييرات المطلوبة، اتجهت الأنظار لإدخال تعديلات على مستويات سياسية أوفر حظاً – صعد مجالس الولايات المحلية. وهنا يمكن رصد تنامي ردود الفعل الحادة ضد السياسات الراهنة، بشكل عام، والشلل السياسي بين الحزبين في المشهد القومي. من المفيد الإشارة في هذا المجال إلى تنامي المعارضة الشعبية لاستخدام الرئيس أوباما صلاحياته الدستورية في ملء المناصب الشاغرة بنسبة الثلثين، واستطراداً تدعم توجهات المجالس المحلية المناهضة للرئيس أوباما.

        يشار أيضا إلى اتساع حجم الهوة بين الولايات في مواقفها من مسألة الأسلحة الشخصية، إذ بينما نجح خليط من الولايات، نيويورك وكنتيكت وماريلاند وكولورادو، بتشديد القيود المفروضة على انتشار السلاح الفردي، لجأ البعض الآخر إلى تدابير تسهيل متعمدة، بل ذهب البعض منها إلى إبطال مفعول القوانين المركزية، الفدرالية، على أراضيها. مثلاً برزت ولاية كانساس الريفية في سن قانون يلغي أولية القانون المركزي في شهر نيسان الماضي، ويخول مواطنيها إنتاج وتسويق الأسلحة الأوتوماتيكية في الولاية بمعزل عن أي رقابة أو قانون مركزي آخر.

        وسعت المجالس المحلية في ولايتي ميزوري وأريزونا محاكاة لـ "كانساس" وسنت قوانين تتيح للسلطات الأمنية والشرطة المحلية عدم الامتثال للقوانين المركزية، بل اصطفت المحكمة العليا في البلاد وأصدرت حكماً قضائياً مؤيداً لمثل تلك الخطوات، في قضية شهيرة عام 1997، استناداً إلى أرضية قانونية صلبة تعرف بمناهضة التجنيد بالإكراه. ووفقاً لتفسير "العليا"، لا تستطيع الحكومة المركزية إكراه الولايات على تطبيق تدابير أو إرشادات مركزية – بصرف النظر عن امتثالها للنصوص الدستورية.

        استطراداً، لا يقتصر حكم العليا على قضية اقتناء السلاح. وعليه، استند نواب المجالس المحلية في ولاية ماريلاند إلى خلفية ذلك القرار لتحريض زملائهم باستصدار قرار يحرم على الولاية تقديم تسهيلات وخدمات أساسية للمقر الرئيس لوكالة الأمن القومي، الواقع على أراضيها على مقربة من العاصمة واشنطن. أيضاً، ينظر المجلس المحلي لولاية يوتاه بجدية للانضمام إلى حملة واسعة بين الولايات "لحماية مادية التعديل الرابعة من الدستور" الأميركي، التي تحظر على الولاية، أي ولاية، توفير الدعم المادي أو المشاركة أو توفير التسهيلات العملية لأي هيئة حكومية تعمل في نطاق جمع معلومات إلكترونية دون الحصول على قرار قضائي مسبق يبرر العمل دون أدنى جدل. للدلالة على جدية تأثير قرار ماريلاند، نذكر أن منشأة وكالة الأمن القومي في ولاية يوتاه تستهلك نحو 1,7 مليون غالون من المياه يومياً لتبريد أجهزة الكمبيوتر العملاقة.

        كذلك انضمت كل من ولاية أريزونا وكاليفورنيا وتنسي وواشنطن إلى جهود ماريلاند ويوتاه لمواجهة سلطة وكالة الأمن القومي، لإقرار الإجراء على المستوى المحلي، في أعقاب إعلان الرئيس أوباما أنه سيستخدم حقه في الفيتو ضد أي قرار مركزي يعيق صلاحيات وكالة الأمن القومي.

        تزامنت تلك الإجراءات والتصريحات المضادة مع معارضة معتبرة داخل مجالس الولايات المحلية لبرنامج أوباما في الرعاية الصحية الشاملة، الذي مثل تمريناً حياً لتضافر الجهود المحلية المناهضة لقرارات الدولة المركزية. وجاءت النتيجة مقلقة للرئيس أوباما، إذ انضمت مجالس نحو 22 ولاية إلى مناهضته واستصدارها قرارات واتخاذ تدابير لمقاومة سيطرة الدولة في هذا الشأن، أو التصويت لصالح عدم الانضمام إليه وتضحيتها بخسارة أي دعم مالي مركزي ينتج عنه.

        مع دخول عامل سياسة الاغتيالات بطائرات الدرونز في الخارج وللمراقبة والتجسس في الداخل وما يرافقها من جدل واسع أعطى معارضة السياسة المركزية ذخيرة إضافية لمناهضة السيطرة عن بعد، واتخذت عشرة (10) ولايات تدابير محلية مناهضة للسياسة المركزية ومقاومة السماح للطائرات التحليق في أجوائها بصرف النظر عن الأهداف المرجوة، فضلاً عن قرب انضمام ولايات أخرى لهذه الحملة. كما شكلت مسألة الدرونز وانتهاكها لخصوصيات المواطنين والسلطات المحلية على السواء أرضية مشتركة لتلاقي جهود الحزبين السياسيين على المستوى المحلي في مناهضة سبل التجسس المركزية. كما تجدر الإشارة إلى تعدد السبل والتدابير التي تقدم على اتخاذها السلطات المحلية في مواجهة الحكومة المركزية، وننوه إلى قائمة الإرشادات الصادرة عن "معهد غولدووتر" تفصل الخطوات المتاحة أمام المجالس المحلية في الولايات لإعاقة التدابير المركزية، ومن ضمنها مبادرة المسؤولين المحليين في الامتناع عن المشاركة أو استقبال أي من المسؤولين الحكوميين.

        التمرد عالي الوتيرة الذي أظهرته تحركات المجالس المحلية في الولايات أعاد إلى الأذهان حركة احتجاج قديمة كانت تنادي بتثبيت حقوق الولايات أمام سيطرة الدولة المركزية، والتي اعتقد  البعض أنه تم دفنها تحت أنقاض التحولات الاقتصادية منذ 50 عاماً مضت. وسجلت المجالس المحلية في الولايات المختلفة، ليبالية ومحافظة على السواء، مقاومة ملحوظة وقدرة على تحييد القرارات المركزية لأول مرة منذ منتصف القرن الماضي.

الحلول البديلة:

        أصبح يسيراً استحضار نبوءة بانارين مبشراً بحالات تمرد وانقسام في النسيج الاجتماعي الأميركي. اصطفافات القوى الاقتصادية مجدداً تسهم في إفقار بعض الولايات وإثراء أخرى على حسابها، دون أن يعني ذلك تعديلاً في توزيع الثروة، بل تمركزها بصورة أبشع في أيدي قلة من الأفراد. ويتجلى ذلك بشكل كريه في اتساع الهوة الاجتماعية وما يرافقها من تدهور الأوضاع على كافة المستويات. بالمقابل، تتجه ارهاصات المجالس المحلية وحركة التمحور الشعبية المناهضة لتلك التوجهات الاقتصادية إلى قبول نزعة الانفصال وتوسيع هامش الحكم الذاتي بعيداً عن السيطرة المركزية.

        بالمقابل، تشهد حركة التمسك بالسلطة المركزية تراجعاً بيِّناً واقلاع خليط من الحزبين السياسيين عن مواجهة النبض الشعبي المناهض لذلك، ومضي السلطات المحلية في انتهاج سياسة مستقلة حتى لو تعارضت مع السلطات المركزية، كما تشير إليه بوضوح مسائل عدة بدءاً بحق امتلاك السلاح الفردي مروراً ببرنامج الرعاية الصحية الشامل وانتهاء بجهود التجسس المكروهة لوكالة الأمن القومي.

        ويمكننا القول إن العقبات والصعوبات التي يواجهها الرئيس أوباما على الصعد الداخلية هي امتداد لسلسلة من الفشل السياسي الأميركي في المنطقة العربية والإقليم بشكل عام، ولم يقدم على التسليم بحق المجالس المحلية للولايات في السيادة على أراضيها وطبيعة علاقاتها مع الولايات المجاورة. ولجأ، كما هو معهود، لكل سلطة مستبدة إلى فرض إرادته الممثلة بالسلطة المركزية على الآخرين، وحصد بذور الفرقة والفتنة. سياساته الخارجية أصبحت مثيرة للجدل الداخلي ومنبت انقسامات عمودية وأفقية، بعضها ثابت وينمو باضطراد، والكشف عن جهود التجسس الداخلي لوكالة الأمن القومي اضاف رصيداً آخر لخسائره الشعبية.

        تفرض هذه التحولات صعوبات جديدة أمام الرئيس أوباما الذي يتعين عليه تقديم بعض التنازلات للمجالس المحلية في كافة الولايات الخمسين، ربما مذلة في بعض جوانبها، حفاظاً على تسيد ونفوذ الحكومة المركزية. في هذا الصدد، تعدد وتباين مصالح الولايات يحفز سلطاتها التنفيذية، ممثلة بحكام الولايات، تدفعهم إلى السعي للوصول لحلول مرضية في تجديد مجالات التعاون مع الحكومة المركزية، كما يدل عليه تاريخ متواصل وثابت في هذا المجال لنحو نصف قرن من الزمن.

        تلكؤ أو إخفاق أوباما في هذا الصدد يدفع بنبوءات بانارين إلى الواجهة والتجسد، وينزع زمام المبادرة من يد الحكومة المركزية للحيلولة دون تشظي وانقسام البلاد.

        تجدر الإشارة إلى أن السلطات المحلية في كافة الولايات أصبحت العين الساهرة على تطبيق القوانين المركزية على أراضيها، نظراً لوفرة الموارد البشرية بشكل خاص. إذ أشار مكتب التحقيقات الفيدرالي، إف بي آي، في عام 2009 إلى طاقم متواضع من موظفيه لا يتعدى 13،412 موزعين على كافة أرجاء الأراضي الأميركية. بالمقابل، بلغ مجموع الأطقم البشرية للأجهزة الأمنية المركزية المختلفة نحو 110,00 ألف، منهم نحو 75% يخضعون لسلطة وزارة الأمن الداخلي.

        طواقم الأجهزة الأمنية والشرطة في الولايات المختلفة بلغ تعدادها نحو 1.1 مليون لعام 2008، ضمت زهاء 765،000 ضابط مسؤول. وعليه تتضح الصورة لمدى اعتماد الحكومة المركزية على طواقم السلطات المحلية في تطبيق قوانينها وبسط سيطرتها؛ الأمر الذي يشير إلى جدية تهديد السلطات المحلية للحد من نفوذ المركز، مدعومة بقرار المحكمة العليا.

        أمام إصرار المجالس المحلية على ممارسة أوسع لحقوقها، يضيق نطاق الخيارات المتاحة للرئيس أوباما ومن سيخلفه في المنصب لاحقاً. اللجوء لزيادة تعداد الأطقم البشرية للأجهزة الأمنية المختلفة يقتضي طلبه بزيادة الضرائب لتمويل الإجراء مما يضعه في مواجهة حتمية مع الكونغرس الذي يرفض بشدة زيادة معدلات الضريبة. فضلاً عن أن التحولات البنيوية المرتقبة في مجلسي الكونغرس ستضاعف من تعقيد الأمر بالنسبة للرئيس أوباما وتقيد مجال المناورة السياسية المتاح أمامه.

        ما يتبقى من خيارات للرئيس أوباما ينحصر في أمرين: إما المضي في استخدام صلاحياته الدستورية لإقرار ما يراه مناسباً وما يرافقه من استقطابات ومعارضات جديدة، أو اللجوء إلى استخدام القوة العسكرية بغية تخويلها بتطبيق القرارات الرئاسية، الأمر الذي يعد انتهاكاً صارخاً للدستور الاميركي، وخطاً أحمر لمعظم مكونات المجتمع الأميركي لإقحام القوات العسكرية في قضايا داخلية، وربما وصفة تقارب تجدد الحرب الأهلية.

تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن ما يتوفر من قوات عسكرية لا يتجاوز تعدادها نصف مليون فرد منتشرة داخل قواعدها في أميركا ودول أجنبية متعددة، والتي لا تضاهي تعداد القوى الأمنية المختلفة المتوفرة لدى السلطات المحلية، كما ورد سابقاً.

        الأغلبية من الولايات الخاضعة لسيطرة الحزب الجمهوري ستعارض استخدام القوات العسكرية بشدة، دون أن يعني ذلك قبول الولايات الأخرى التي يتحكم بها الحزب الديموقراطي؛ وهي معادلة خاسرة بكل المقاييس.

        نزوح صناعات الأسلحة إلى الولايات الجنوبية المحافظة، ومناهضة مواطنيها بالفطرة للسلطات المركزية، يوفر المكونات والبنى الصناعية التحتية الضرورية لتلك المناطق لإنعاش مشاعر الانتماء الإقليمي والابتعاد عن الحكومة المركزية، ويعيد إلى الأذهان أجواء الحرب الأهلية الأميركية قبل قرن ونصف من الزمن. فهل يقدم أي مسؤول سياسي على المجازفة باستعداء سكان الجنوب والذين توفرت لديهم تدريجياً بنية تحتية للتقنية الحديثة تضاهي وتنافس الولايات الميسورة التقليدية في الشطر الشمالي من البلاد.

الخلاصة:

        المقدمات السالفة تقودنا إلى القول إن مسار "بلقنة" الولايات المتحدة قد بدأ، وغيابه عن التداول العلني لا يعني عكس ذلك بالضرورة. الخلافات السياسية والاجتماعية وما يترتب عليها من تحولات في المجتمع الأميركي ماثلة وحاضرة بقوة، وما يشد كافة أطراف البلاد لبعضها وإضفاء اللحمة عليها هو سطوة الحكومة المركزية والإمكانيات الواسعة المتاحة لديها.

        إحدى خصائص عهد الرئيس أوباما هو سعيه لمفاضلة نفوذ الدولة المركزية ضارباً عرض الحائط باهتمامات وطموحات الولايات ومجالسها المحلية، سيما تلك الخاضعة لسيطرة الحزب الجمهوري. وعليه، لجأت تلك المجالس إلى مقاومة ورفض الوصفات المركزية لإدارة شؤونها، مسلحة بقرار المحكمة العليا لحماية حقوقها.

        بالنظر إلى الخيارات المتاحة أمام السلطة المركزية، مع فرضية تشبث الولايات ومجالسها المحلية بمطالبها ومواقفها الراهنة، نستطيع القول إن الرئيس أوباما مقبل على تقديم بضعة تنازلات لخصومه في الحزبين إحدها زيادة حجم المعونات والإغاثة المقدمة للولايات بغية ثنيها عن المضي في مسار التمرد الراهن على السلطة المركزية. ومن بين الخيارات أيضاً مضي الرئيس أوباما في سياسته الحالية بإغفال وتجاهل مطالب الولايات، مما سيترتب عليه ردود فعل قاسية قد تعصف بنفوذ السلطة المركزية، ويمنح الولايات حيزاً أوسع لإدارة شؤونها الذاتية الأمر الذي لم يشهده النظام الأميركي منذ تجربة الحرب الأهلية الدموية. في آخر سلم الخيارات يجد أوباما إمكانية اللجوء لبسط سيطرة ونفوذ الدولة المركزية بالقوة، وما يرافقه من مجازفة عالية وانتهاك للنصوص الدستورية.

        من العسير التحكم بكافة العناصر والعوامل التي تؤدي لتشظي كيانات سياسية محددة، خارج دائرة التدخل العسكري الخارجي. فالاتحاد السوفياتي لم تبرز عليه عوارض الانقسام وتعرضه للخطر في مطلع عام 1989، وسرعان ما انكشف المستور في غضون بضعة أشهر بدء بإزالة جدار برلين. الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك هو الآخر لم تظهر عليه عوارض انهيار حكمه، بل اعتقد أن نظامه سيستمر إلى زمن، لحين اندلاع موجات الاحتجاج البشرية التي أطاحت به. الاتحاد اليوغسلافي بقي موحداً إلى حين ما بعد وفاة مؤسسه الرئيس جوزيف بروس تيتو. الشعور المفرط بالثقة من صلابة النظام السياسي ينطبق أيضاً على الحالة الأميركية، فمؤشرات الانقسام قريبة من السطح وتبرز بقوة في ظروف الاستقطاب الحاد وتنتظر تبلور حدث معين من شأنه التسريع في عملية التشظي. أما حقيقة حدوث ذلك قبل نهاية الفترة الرئاسية لأوباما تندرج في خانة التخمين والاعتقاد الراجح.

 

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟