العابر للأجيال: قراءة في مشروع" السيد يسين"
الأحد 16/فبراير/2014 - 03:26 م
تأليف: نخبة من الباحثين عرض: محمود عبدالله
السيد يسين واحد من رواد البحث في العلوم الاجتماعية من جيل الستينيات. ويصح أن يطلق عليه عابراً للأجيال. نشأ في أحضان الفكر القومي الناصري، وتمرد عليه، واستطاع، طوال تاريخه، أن يحمل في كتابته بذور اختلافه. وفي هذا الكتاب نطل على عالمه الثري والحافل بقراءات متنوعة لمشروعه البحثي.
كتاب" الثقافة الاستراتيجية والمبادرة الحضارية" توثيق للندوة العلمية التي أقيمت في المجلس الأعلى للثقافة تحت إشراف الدكتورة نادية مصطفى والدكتور محمد صفار، وهو يقع في 385 صفحة، وينقسم إلى أربع جلسات، فضلاً عن الجلستين الافتتاحية والختامية.
توزع اهتمام الندوة بحسب نشاطه الفكري، بين دراسة إسهامه العلمي في إنشاء المراصد البحثية المتنوعة، أو إلقاء الضوء على أعماله الفكرية. ونظراً لغياب إطار نظري واضح يرسم حدود هذا الإسهام الهام في التعريف بواحد من مفكرينا الكبار، سيحاول هذا العرض أن يجازف فقط بالتعريف بمجموعة من القضايا الأساسية التي تناولها الكتاب، وعرف بها كتابه، دون اللجوء للتعريف الاستقصائي، والعرض التجزيئي، لصعوبة ذلك، مع توزع الإسهامات، وتباينها في المقاربة وآلية العرض. فقد دار الكتاب حول خمس قضايا: السياسة الجنائية، التحليل السوسيولوجي للأدب، والوعي القومي، والرؤية الحضارية.
أولاً: السياسة الجنائية:
في دراسة هي الأوفق قدم نبيل عبد الفتاح تحليلاً متميزاً للرؤية المنهجية والفكرية للسيد يس بالتطبيق على واحد من أهم أعماله وهو "السياسة الجنائية المعاصرة"، مركزاً على عدد من المحددات الأساسية: تحديد مراحل المشروع الفكري، التكوين الفكري والمنهجي، وضعية المؤلف ضمن الأدبيات القانونية، انتقادات عامة.
والواقع أن التحقيب المطروح للمشروع الفكري للسيد يسين في هذه الورقة العلمية، كان أولى به أن يكون هو الحاكم لمجمل الكتاب، ففي هذا التحقيب نستطيع أن نرى بوضوح التحولات الفكرية ومساراتها ومحطاتها المحورية، وتفصيلها كالتالي:
1. مرحلة التأسيس المنهجي والخطاب حول المنهج في العلوم الاجتماعية.
2. مرحلة البحث في السلوك الإجرامي، والسياسة الجنائية ومعاملة المذنبين والمقاربة السوسيوقانونية.
3. مرحلة الانتقال إلى علم الاجتماع السياسي واستخدامه في تحليل الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والمشكلات الاستراتيجية.
4. مرحلة التحليل الثقافي في مقاربة القضايا المحلية والإقليمية والعولمية.
لقد تشكل التكوين المعرفي للسيد يسين وفهمه للظاهرة القانونية عبر عدة مسارات: التأثر بفقهاء القانون الذين عالجوا الموضوعة القانونية من زاوية تجمع بين الدرس السوسيولوجي والقانوني معاً من قبيل تأثره بأعمال ثروت أنيس الأسيوطي، والتأثر ببعض فقهاء القانون الجنائي الذين اطلعوا على النظريات والمفاهيم الحداثية في مجال التحليل الاجتماعي للقانون الجنائي، والاطلاع على التجربة الفرنسية في دراسة القانون الجنائي.
وفيما يتصل بالموقف الفكري والمنهجي في معالجة السياسة الجنائية، فمن الملاحظ الاعتماد على معجمية مغايرة، فاللغة البحثية تحمل تناصات تجمع بين لغة العلوم القانونية وبلاغتها والسوسيولوجية والفلسفة والاستعارات الثقافية والأدبية، في تعارض مع حشوية وإطناب الخطاب القانوني الكلاسيكي الذي ينهض في منهجيته على الفيلولوجي. وعلى المستوى الفكري يوجد بعض التضمينات الشائعة في الخطاب القومي، وإن لم تؤثر في صلب العملية البحثية، بقدر ما تمثل قناعاً لتمرير المعاني والأفكار "العدالية" ذات الجذر الفلسفي الماركسي. كما تحفل المعالجة البحثية بالتأكيد على أهمية دراسة تقلب الظاهرة الجنائية وتعددية مذاهب السياسة الجنائية، وتقلبها بتقلب التحولات التاريخية.
وأخيرا يقدم عبد الفتاح نقداً هاماً، يتمثل في غياب معالجة الجرائم السياسية، كالاعتقالات ونظام القانون الاستثنائي سواء في قانون الطوارئ أو غيره من القوانين المقيدة للحريات، إلى جوار الابتعاد عن الشواهد الإمبيريقية في مقاربة السياسة الجنائية. ويرجع ذلك لأسباب: أولها طبيعة الإكراهات السياسية والأمنية المفروضة على حرية البحث. والواقع أنها سمة لازمته حتى اللحظة الراهنة، في تأكيد ضمني على استمرار ذهنية التحريم. وثانيها، الطابع الاحتكاري للدولة في مجال المعلومات، وغلبة تقليد النزوع النظري على الطابع الإمبيريقي، وهي حجة غير دقيقة، فالسيد يس واحد من باحثي المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية الذي يعتمد في خطابه العلمي على الإمبيريقية التي وصلت، في اللحظة الراهنة، إلى "إمبيريقية فائقة"، أو إمبيريقية دون أساس نظري، في تأكيد على الخضوع للإكراهات السياسية. والواقع أن النزوع للتنظير وغلبة الواقعة الفكرية على نظيرتها الإمبيريقية، مرده هو رغبته في مصارعة هذا التوجه الإمبيريقي ذاته والخروج عليه، وكشف عورته.
ثانياً: التحليل السوسيولوجي للأدب:
قدم السيد يسين كتاباً حول التحليل الاجتماعي للأدب، وكان كتاباً رائداً، أصل فيه نظرياً ومنهجياً لحقل فرعي جديد. وحول هذه المساهمة طرح أيمن تعيلب قراءة، عبرت عن همومه الذاتية/ الموضوعية كمشتغل بالنقد الأدبي. فكان أن دارت رؤيته حول موضوعات تشغل بال الناقد، لا المشتغل بالسوسيولوجيا، وسيوسيولوجيا الأدب بالتحديد، فاهتم بما يطرحه الكتاب من قضايا جديدة، وما يؤصل له من ضرورات كالتوطين الفكري للمفاهيم والنظريات والمنهجيات، والانتقال من ثقافة الاستفسار لثقافة السؤال، ومن منطق الانفصال إلى منطق الجدل، ومعاينته لمقولة الجيل.
لقد قدم السيد يسين في كتابه مجموعة من التصورات المنهجية النظرية والتطبيقية، مثل الدراسة الاجتماعية للمؤلف ووضعه الاجتماعي الطبقي والاقتصادي والمهني، والدراسة الاجتماعية للعمل الأدبي، ودراسة الأشكال والأنواع الأدبية، كما قدم تصورات منهجية لدراسة الجمهور أو جماهير القراءة. كل هذه التصورات تدعو إلى توطين المباحث الاجتماعية والجمالية في الواقع الثقافي العربي.
علاوة على ذلك يلفت المؤلف الأنظار لما قدمه السيد يسين من رؤى تتعلق بالناقد ودوره وأسئلته، فهناك ضرورة لامتلاك النقاد وعلماء الاجتماع العرب صوراً معرفية واجتماعية وتاريخية وثقافية رصينة عن طبيعة المجتمع والوعي والذات والآخر والبنى الذهنية والروحية للعقل الجمالي والاجتماعي العربي، حال اشتباكها المعرفي مع النظريات النقدية والاجتماعية الغربية، ففي غياب الوعي النظري العربي بحواضنه الثقافية والتاريخية والمعرفية والجمالية الخاصة به لن يحدث أي توطين للمعارف والمناهج والممارسات الجمالية الأصيلة في واقعنا الثقافي. كذلك من الأهمية بمكان أن ينتقل الفعل النقدي من منطق الانفصال والقطيعة إلى منطق الجدل والتداخل والتعدد.
كما أحدث يسين نقلة نظرية في تصور طبيعة العلاقة بين الأدب والمجتمع، ورؤية الأجيال. فالعلاقة بين طرفي الأدب والمجتمع ليست من جهة الانعكاس، حيث لا يعكس الأدب الواقع الاجتماعي بصورة آلية ولا حتى بصورة جدلية مادية وكفى، بل يسعى إلى خلخلة وتغيير منطق الجدل التاريخي والجمالي المكون لبنية المعنى في الوجود، بما يحدث تغييراً كيفياً جذرياً في نمط العلاقة بين أشكال الوعي الاجتماعي والعلمي والسياسي والأشكال الجمالية السائدة. كذلك فإنه، عبر استخدامه لمقولة الجيل، يفكك ضمناً مفهوم العبقرية، أو مفهوم الرائد، فالشكل الجمالي هو صناعة جماعة من الأدباء، بدأ مع أحدهم وتطور فيما بينهم.
ثالثاً: الوعي القومي:
إن تحليل الوعي القومي، فضلاً عن دراسته، ضرورة أساسية لأي مفكر معني ومهتم بالشأن العربي وبمفهوم القومية العربية في تواصله مع الصيرورة التاريخية. وعادة ما يتشكل الوعي كجزء من النضال أو التفاعل مع الآخر، بحيث ينمو ويتطور بانتقاده لذاته وللآخر في آن. والنقد الذاتي، نفسه، أداة هامة وأساسية في لحظات الأزمة. وهو ما اهتم به يسين، برأي محمد الصفار، فسعى للتأريخ له وتتبع مراحله. فكان أن قسم مراحل النقد الذاتي إلى موجات أربع: موجة النكبة ما بعد قيام دول إسرائيل، وموجة النكسة بعد هزيمة 1967، موجة ما بعد حرب 1973، وموجة تشخيص الأوضاع.
ويسين يطور، هو الآخر، نقداً للوعي القومي، حين يعاود النظر في تاريخ الوعي بالآخر، مستعيداً نقطة بداية، يراها البداية الفعلية. ولكن العودة تتطلب مبدئياً فهم طبيعة اللحظة التاريخية الحاضرة، وما تحويه من تغيرات جوهرية في النظام الدولي. فكان أن رأى أن البداية في التلاقي مع الحملة الفرنسية، وهي بداية لم يفهمها المثقفون وكان من أثر ذلك أن تم اعتبار أوروبا قبلة التقدم، وبدلاً من تطوير التقاليد الفكرية وتحديث التراث الثقافي القومي، جرى إرساء قطيعة معرفية بين الماضي والحاضر، قادت بدورها إلى تواصل عمليات الاستعارة الممسوخة والشائهة لأفكار وقيم ومؤسسات انتزعت من سياقها. ومن هنا يتم تفسير أسباب إخفاق التجربتين الليبرالية والاشتراكية في مصر بإسقاطهما لنماذج وأطر مؤسسية انتزعت من سياقها على واقع مغاير تماماً مع افتقار لأي وعي بنشأتها وتطورها.
لقد توزعت الاستجابة الثقافية للوعي القومي على ثلاثة أشكال: استجابة جديدة عند الأفغاني ومحمد عبده، وليبرالية عند لطفي السيد، واستجابة تقنية- تصنيعية عند سلامة موسى. هذه الاستجابات معاً امتازت بطابعها المركزي، فهي تركز على بعد واحد.. كيان الإنسان وبناء نموذج للمجتمع على ذاك البعد وحده، دون أن تقدر على بناء نموذج متعدد الأبعاد يسع الجوانب الأساسية في الحياة الإنسانية.
رابعاً: الحوار الحضاري
تمتاز تحليلات يسين بطابعها التاريخي، فهو عادة ما يهتم بمقاربة موضوعاته عبر ثلاث لحظات: الماضي، والحاضر، والمستقبل. حين يتعرض للأزمات التي يواجهها المجتمع، فيرسم حدود الأزمة، وأبعادها الطوبغرافية (الحدود الدولية والإقليمية والقومية) وأبعادها الزمنية، ثم يضع الحلول اللازمة لها، أو يومئ لها.
وفي كتابه "الثورة الكونية الثالثة: عاضفة سبتمبر والسلام العالمي"، يجسد ما تعرض له الحوار الحضاري، وليس الصراع، من أزمة يعيشها بعد الهجوم الذي تعرضت له الولايات المتحدة. فقد خرج خطاب الكراهية إلى الواجهة، بحيث لم يقتصر على حدود السلطة الرسمية، بل غدا خطاباً متبادلاً بين المثقفين على الطرفين القومي والغربي.
وبطبيعة الحال فإن التعريف بالأزمة على هذا النحو يستلزم تحديد جذورها. فالملاحظ أنها تمتد إلى عجز المثقفين العلمانيين عن الوصول إلى الجماهير العريضة مما ترك الساحة خالية أمام الناشطين من الإسلاميين، ووجود صراع في الرؤى الفكرية بين رؤية الدولة التسلطية ورؤية القوى المعارضة وعلى رأسها الإسلامية، وأن هذا الصراع هو صراع سياسي ذو أبعاد ثقافية ينبغي أن تحلل.
على أن المسألة لا تتوقف عند حد التشخيص، بل تتجاوزه إلى تحديد المنهجية التي ينبغي استخدامها في تحليل العلاقة بين طرفي الحوار الحضاري. وتتمثل في مجموعة من القواعد:
1. الكشف عن الأفكار الأساسية التي كونها كل طرف عن الآخر من أجل تحليل موضوعي.
2. التعريف بأدبيات الصورة المتبادلة بين الطرفين، فمن خلالها نتعرف على المفاصل التاريخية المهمة في التفاعل الحضاري.
3. التركيز على الممارسات الفعلية للدول في فهم السياسات الدولية بكل تعقيداتها السياسية والاقتصادية والثقافية، إلى جوار تحليل الخطاب الأيدولوجي أو السياسي.
4. الوعي بضرورة تعريف أطراف الحوار، دون التعامل معهما ككيانات مصمتة، فليس ثمة شرق (أو إسلام) واحد، كما ليس ثمة غرب واحد، في السياسة والفكر.
ثم يركز يسين، في الأخير، على خطابات المثقفين العرب والغربيين تجاه الأزمة، مؤكداً على ضرورة الحوار الخلاق الذي يزيل الالتباس ويبني جسور التواصل لا القطيعة المهددة للتقدم والرخاء الإنساني.