"التوظيف المتبادل" لماذا تصاعد الصراع العسكري بين المالكي وداعش؟
على
خلفية عمليات إرهابية عديدة عايشتها المدن العراقية خلال الشهور الماضية أعيدت إلى
الواجهة مواجهات عسكرية دامية بين كل من قوات الأمن والجيش العراقي، من جانب،
وتنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" المعروف بـ
"داعش"، من جانب آخر. وقد تفجرت المواجهات الأخيرة بعد قيام تنظيم الدولة
الإسلامية بعدة عمليات نوعية استهدفت مقرات الجيش وعناصره والعديد من مؤسسات
الدولة المختلفة.
هذه
العمليات تم توظيفها من قبل رئيس الوزراء العراقي، نورى المالكي، لتبرير فض اعتصام
عشائر الرمادي، بدعوى اختراق ساحات الاعتصام من قبل التنظيمات الجهادية في
المحافظات السنية، بما أفضى إلى تصاعد حدة الصراع بين الحكومة وبعض العشائر التي
طالبت بوأد "الفتنة" وانسحاب الجيش من محافظة الأنبار، بما خلق حالة من
التوتر والاضطراب استغلتها داعش سريعاً من أجل احتلال المواقع الحكومية بالمحافظة،
والسيطرة على مساحات كبيرة منها، خصوصاً في مدينتي الرمادي والفلوجة.
ترتب
على ذلك أن أعيد صوغ الاصطفافات السياسية بإعلان بعض وجهاء العشائر انحيازهم لقوات
الأمن - مرحلياً – لحين إخراج التنظيمات الجهادية من الأنبار، هذا فيما رفض البعض الآخر
منهم هذه الإستراتيجية، بما أوجد صراعاً متعدد المستويات والأطراف، حيث داعش
والقاعدة وقوات الأمن الحكومية والعشائر بمواقفها المختلفة.
بروز التنظيم
العلاقة
بين نوري المالكي وتنظيم داعش شائكة وقديمة، هذا على الرغم من أن وجود التنظيمات
الجهادية بالعراق فى مرحلة ما بعد الاحتلال الأمريكي سبق وجود المالكي نفسه على
رأس السلطة، حيث إنه قد تأسس في عام 2004، على يد أبو مصعب الزرقاوي، تحت اسم
جماعة "التوحيد والجهاد" ثم ارتبط بتنظيم القاعدة أواخر ذات العام، تحت
اسم "قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين".
وشهد
التنظيم مراحل صعود وهبوط ارتبطت بالضربات التي وجهت له من قبل القوات الأمريكية،
وتبعاً لتغير نمط القيادة داخل التنظيم ذاته، فبعد مقتل الزرقاوي في يونيو 2006،
جاءت مرحلة أبو عمر البغدادي (حامد عزاوي- ضابط سابق في الجيش العراقي) وأبو حمزة
المهاجر (عبد المنعم بدوي).
ومع
سقوط هذه القيادات أصبح التنظيم أكثر سرية، وغدا أبو بكر البغدادي (إبراهيم بن
عواد بن إبراهيم البدري) أميراً لما يعرف بدولة العراق الإسلامية، وذلك بعد أن
تغير اسمه من "تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين".
وقد
أرسل البغدادي عناصر من تنظيمه إلى سوريا في منتصف 2011 لتأسيس "جبهة
النصرة". وفي إبريل 2013، أعلن توحيد "دولة العراق" و"جبهة
النصرة" لإنشاء "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، وهو ما ووجه
باستعصاء من أبي محمد الجولاني، زعيم "جبهة النصرة"، وأفضى إلى إعلان
أيمن الظواهري تحديد الولاية المكانية لأبوبكر البغداي في العراق لمدة عام، فيما
حددت الولاية المكانية لأبي محمد الجولاني بسوريا، وهو ما رفضه البغدادي، كونه لا
يعترف بالحدود الجغرافية، ويسعى لما يسميه تنظيمه "دولة الخلافة الإسلامية".
وعلى
الرغم من أن مواجهة الجماعات المرتبطة بالقاعدة في العراق مثلت أحد أسباب صعود
المالكي سياسياً وبقائه في الحكم منذ عام 2006 - خصوصاً بعد تشكيل مجالس
"الصحوات" والتي لعبت دوراً بارزاً مع القوات الأمريكية والجيش العراقي
في ملاحقة عناصر التنظيم داخل المدن العراقية المختلفة - ومع ذلك فإن تنظيم
القاعدة ظل حاضراً بعملياته الخاطفة والموجهة إلى مراكز التسوق والأماكن كثيفة
التواجد البشري ومؤسسات الدولة المختلفة، خصوصاً مراكز الشرطة ومقرات الجيش
وعناصره.
اشتعال المواجهة
تعددت
وتنوعت أسباب اشتعال المواجهة العسكرية متعددة الأطراف والمستويات في العراق، ويمكن
رصد ذلك على النحو التالي :
الاستخدام
الوظيفي-
ثمة توظيف للحاجات المتبادلة بين نوري المالكي من جانب، وتنظيم داعش من جانب آخر،
ففيما يسعى التنظيم إلى استغلال النزعة الطائفية التي تسم سياسات المالكي لترسيخ
تواجده على الأراضي العراقية خصوصاً في مناطق تمركز السنة، فإن المالكي يرى في
التنظيم فرصة دائمة لإثبات القوة بالوقت المناسب، ووسيلة يمكن من خلالها القضاء
على الخصوم بدعوى الارتباط بالتنظيمات الجهادية والتورط في عمليات إرهابية.
العلاقة
العكسية-
ارتبطت عمليات التنظيم بعلاقة عكسية مع الاستقرار السياسي، ليظهر دورها الأساسي في
أوقات الأزمات، والتي يأتي في مقدمتها الأزمة السياسية والأمنية التي تشهدها مدن
غرب العراق (المثلث السني)، منذ ديسمبر 2012، والتي تجلت في تعدد ساحات الاعتصام
في هذه المدن اعتراضاً على سياسات المالكي
الاقصائية والطائفية.
تراجع
الصحوات-
تراجعت المعادلة الأمنية التي تشكلت بمقتضى الشراكة بين الحكومة و"مجالس
الصحوات"، والتي أدت دوراً ملموساً في ملاحقة عناصر القاعدة، هذا إلى أن
انتهت أدوار هذه المجالس بعد انتهاء المهمة التي أوكلت لها، وتقاعس الحكومة عن
استيعاب عناصرها سياسياً وعسكرياً في أجهزة الأمن المختلفة.
ووفق
بعض التقديرات هناك المئات ممن تركوا تنظيم القاعدة في العراق خلال السنوات
الماضية، قد عادوا إليه خلال السنوات الأخيرة بسبب ممارسات السلطات العراقية سواء
حيال المواطنين السنة، أو أعضاء الصحوات بعد انتهاء مهمتها الرئيسية في محاربة
القاعدة.
تصاعد
القوة-
ثمة معادلة سياسية تستهدف إيجاد قدر من التهديد يسمح بالتصعيد العسكري لإظهار
القوة والقدرة على الحسم وفي بعض الأحيان تصفية "الخصوم"، غير أن تصاعد
التهديدات بسبب العمليات النوعية التي يقوم بها تنظيم القاعدة، الذي يتجاوز الدور
الممكن تحمله، يدفع بحتمية التصعيد الذي يرتبط في غالب الأحيان باستهداف قيادات عسكرية
بارزة.
لذلك
يمكن تفهم نمط التصعيد الأخير حيال داعش وذلك بعد عملية استهدفت الفرقة (12)، والتي
أفضت لمقتل نحو 24 من الجنود وضباط وقيادات الفرقة، كان من أبرزها آمر لواء (47)
العميد الركن محمد الكروي، والذي كان أحد القائمين على عملية استهداف المحتجين في
الحويجة في أبريل من العام الماضي.
وقد
مثلت عملية استهداف الكروي أحد المحركات التي استخدمها رئيس الوزراء المالكي
لتبرير اقتحام قوات الأمن خيم المعتصمين على الطريق الدولي الرابط بين بغداد وعمان
ودمشق، واعتقال النائب أحمد العلواني، كأحد أبرز زعماء ساحات الاعتصام، التي وجه
إليها المالكي خلال الشهور الأخيرة اتهامات متواصلة بأنها غدت مخترقة على نحو كامل
من قبل القاعدة.
الحاضنة
الاجتماعية- تسبب إهمال السلطات الحكومية لمحافظات المثلث السني إلى
اندماج العديد من عناصر القاعدة في البيئة الاجتماعية لهذه المحافظات، وتعايش
البعض منهم مع العوائل العراقية ومصاهرتها.
وثمة
من انخرط في مجموعات مسلحة تبين لاحقاً أنها مازالت قائمة على المستوى التنظيمي
مثل "الجيش الإسلامي" و"حماس العراق" و"كتائب ثورة
العشرين" و"جيش المجاهدين" و"أنصار السنة" وغيرها، إضافة
إلى مسلحي الصحوات، وعناصر أمن الفلوجة أنفسهم المنخرطين في سلك الشرطة من مرجعيات
عشائرية أو من مجموعات "الصحوة" أو حتى من مجموعات مسلحة قاتلت القوات
الأميركية.
إن
الكثير من هؤلاء ينتمون إلى هذه البيئة وينحدرون منها، وهناك العديد من العناصر الرئيسية
من القيادات السابقة في الجيش العراقي، مثل حاجي سمير الذي كان رئيس أركان تنظيم
الدولة الإسلامية في العراق، وكان ضابطاً طياراً في الكامب السادس بالجيش العراقي.
الفترة
الثالثة-
ترتبط استراتيجية المالكي للبقاء في السلطة طيلة السنوات الثماني الخالية، على
إظهار أنه رجل العراق القوى الذي استطاع أن يخوض غمار المواجهة العسكرية مع تنظيم
القاعدة في العراق، لذلك فإن توظيف المواجهة مع القاعدة تمثل تكتيكاً تقليدياً
طالما استخدمه لإعادة انتخابه، وهو ما يسعى لتكراره للبقاء لدورة ثالثة كرئيس
للوزراء، خصوصاً في ظل تراجع شعبيته، التي انعكست في نتائج الانتخابات البلدية
الأخيرة، أبريل الماضي، وذلك في مقابل التيار الصدري والمجلس الإسلامي الأعلى.
لذلك
فإن التصعيد الحكومي الأخير حيال محافظة الأنبار يعد تطوراً منطقياً، كونه يسبق
الانتخابات البرلمانية المقرر إجراؤها في أبريل المقبل.
ضعف المعارضة- لم تستطع المعارضة، خصوصا
السنية، أن تنجز استراتيجية متماسكة لمعارضة سياسات المالكي الذي استهدف رموزها
عشية الانسحاب الأمريكي من العراق في 2011، كما خلق جدراناً صلبة بين قادتها،
وحاول فصل وزرائها في الحكومة عن جسدها الصلب.
وعلى
الرغم من أن سياسات المالكي الأخيرة حيال محافظة الأنبار، كانت قد دفعت نحو 44
نائب من الطائفة السنية (أغلبهم من كتلة متحدون بقيادة أسامة النجيفي) من مجلس
النواب العراقي، غير أن هذه التكتيك لم يكن فاصلاً نظراً لتأخره، وقرب الانتخابات
البرلمانية، فضلاً عن إعادة طرح النجيفي نفسه مبادرة ثم تأييده لمبادرة مماثلة
طرحها عمار الحكيم، لن ينفذ منها حال تبنيها إلا ما يخرج المالكي فائزاً من صراع
تتعدد مستوياته وأطرافه.
الأزمة
السورية-
بعد سقوط العديد من العناصر البارزة في تنظيم الدولة الإسلامية بالعراق وخفوت
وتيرة تدفق المقاتلين إلى العراق ظهرت القيادات الجديدة التي استفادت من الصراعات
الدائرة على الساحات الإقليمية المجاورة، وبالتحديد في سوريا.
ذلك
أنه تم استغلال اتساع مساحة صحراء الأنبار(أكبر المحافظات، حيث وتبلغ مساحتها ثلث
مساحة العراق) كظهير للتحرك حيال الأراضي السورية والعمق العراقي، بما جعل خط
العمليات لداعش يمتد من الأنبار في العراق إلى حلب في دمشق إلى الجنوب في لبنان.
الموقف
الإقليمي والدولي- اتخذ نوري المالكي من القضاء على داعش
هدفاً ومحركاً أساسياً لدفع الجيش إلى التدخل في الأنبار، وذلك بهدف شحذ الدعم
الدولي والإقليمي لما يسميه حرباً على الإرهاب، فضلاً عن الحصول على أسلحة يقف الكونجرس
الأمريكي حجر عثرة أمام إمداده بها، تخوفاً من استخدامها في تصفية الخصوم
السياسيين وانتهاك حقوق الإنسان.
وثمة
تخوفات غربية لدى اتجاهات رسمية وحقوقية، بشأن جوهر استراتيجية المالكي، خصوصاً أن
بعض التقديرات تشير إلى أن فض اعتصام الرمادي، والسكوت على استراتيجية القاعدة
خلال الشهور الماضية - والتي عرفت بـ"تكسير الجدران" عبر عمليات منظمة
لتهريب عناصره من السجون العراقية، كسجني التاجي وأبو غريب- يكشف أن ثمة توجهاً
أساسياً للانخراط "شكليا" في الاستراتيجيات الإقليمية والدولية للقضاء
على التنظيمات المتطرفة وذلك لتحقيق مكاسب سياسية.
يعزز
ذلك تصريحات وزير العدل العراقي حسن الشمري، الذي فجر سيناريوهات
"المؤامرة" إلى أقصاها عندما أعلن أن هروب عشرات المعتقلين من السجون
العراقية، ومعظمهم من قيادات القاعدة كان "مدبراً" بمعرفة مسئولين
عراقيين كبار، وأن الهدف من ذلك يتمثل في إقناع واشنطن بالتخلي عن خططها لضرب نظام
الرئيس السوري بشار الأسد، عبر تعظيم دور "داعش".
اتجاهات التصعيد
قد
لا تبدو معركة القاعدة في العراق في محطاتها الأخيرة، وإنما في مرحلتها الأصعب منذ
الانسحاب الأمريكي من العراق، فخلال عام 2013 قتل نحو 7 آلاف شخص، وهو المعدل
الأعلى منذ عام 2008، والذي شهد مقتل نحو 9 آلاف عراقي. بات ذلك يدفع المالكي إلى
خوض معركة غير محسوبة لدفع العشائر وتنظيماتها المسلحة - والتي يبدو أنها كانت
تستعد مسبقاً لهذا التصعيد - إلى فض ساحات الاعتصام، التي ساهمت في خلق حالة شحن
وتعبئة تنذر بتفجر صراع طائفي.
ومع
ذلك فإن محاولة دفع العشائر إلى إعادة التموضع وتجاوز المطالب الخاصة بإنشاء إقليم
حكم ذاتي للسنة أو بدفع المالكي للتخلي عن السياسات الإقصائية – الطائفية إزاء المحافظات
السنية، لن تجدى نفعاً، خصوصا أن التكتيكات التقليدية باتت مكشوفة، بما يجعل البعض
يلجأ للمناورة من خلال استجابة جزئية لمطالب المالكي، هذا في وقت يتجه فيه البعض
الآخر إلى إعلان الاستعداد للسير لنهاية الطريق في التصعيد السياسي والعسكري، في
مواجهة سياسات حكومة المالكي وقواته العسكرية.
لذلك،
فإن قدرة المالكي على التمادي في مغامرته العسكرية في مدن محافظة الأنبار ستواجه
بالعديد من التحديات، خصوصاً أنه بات يعتمد على واشنطن في دفع قيادات العشائر ذاتها
إلى إعادة تجميع قوات الصحوات لمحاربة القاعدة، فضلاً عن كونه لا يستطيع حتى الآن اجتياح
الفلوجة، والتي من شأن التدخل فيها عبر القوات البرية أن يطلق شرارة بدء مواجهة غير
متعادلة لصالح داعش وما يعرف بـ"جيش العشائر"، والذي برز أسمه في منتصف
عام 2013، كرد فعل على مجزرة "الحويجة".
هذا
إضافة إلى أن المالكي من المحتمل أن يعتمد توجيه ضربات عسكرية عبر القوات الجوية
وبواسطة الوحدات العسكرية الثقيلة إلى بعض المناطق الخارجة عن سيطرته، وذلك في
مقابل ضربات عنيفة وانتقامية سيواجهها من قبل عناصر داعش وبعض التنظيمات العشائرية،
وهذه العمليات ستتجاوز المحيط الجغرافي لمحافظة الأنبار لتصل لقلب العاصمة بغداد،
بما يضع المالكي في مأزق، وقد ينقض الاستراتيجية التقليدية للبقاء في السلطة، لنبقى
مقاربة أخيرة أكثر جدوى تتمثل في تحرك حقيقي للاستجابة لمطالب مواطني العراق
السنة، بما ينزع فتيل التوتر ويهدأ الاحتقانات الطائفية والتوترات الأمنية ويعيد
ترتيب القوى السياسية وأوزانها النسبية.
باحث بمركز الدراسات الساسية والاستراتيجية بالأهرام