أردوغان المأزوم: هل يفوته القطار الأوروبى؟
الخميس 23/يناير/2014 - 01:30 م
كرم سعيد*
تعيش تركيا على صفيح ساخن منذ ما يقرب من سبعة أشهر، فبعد موجه من الغضب كان عنوانها "حديقة جيزى بارك"، وإصرار حكومة أردوغان على مواجهتها دون الاستجابة لمطالب المحتجين، تشهد أنقرة اليوم توترات داخلية على خلفية فضائح الفساد التى تفجرت فى 17 ديسمبر الماضى.
وما بين جيزى وفضيحة الفساد ينشغل الأتراك فى حوارات صادمة حول مستقبل اللحاق بالقطار الأوروبى، لاسيما وأن الأساليب السلطوية التى انتهجها العدالة والتنمية للقفز على الأزمة من شأنها أن تجرف فى طريقها كل أسس الديمقراطية والدولة الحقوقية التى تتبنها دول الاتحاد.
والأرجح أن سلوك أنقرة إزاء الداخل أفقدها رصيداً وافراً من حماسة الاتحاد الأوروبى، تلك الحماسة التى مكنتها دائماً من الحصول على دعم أوروبى للوجود فى كل مشهد سياسى مهم، إن لم يكن فى الصدارة، فعلى الأقل ضمن مكوناته الرئيسية.
لذلك سعى أردوغان في زيارته لبروكسل في 21 يناير الجارى إلى تهدئة المخاوف الأوروبية والقفز على القلق الذى يعترى مؤسسات الاتحاد، التى يبدو أن قطاعاً معتبراً من نخبها قطع خط الرجعة بشأن التريث فى المفاوضات مع أنقرة.
أزمة الداخل وقلق الاتحاد
تثير الأزمة السياسية فى أنقرة قلق الاتحاد الأوروبى الذى أعلن عدم ارتياحه تجاه سلوكيات أردوغان، ووصفها بالعودة للوراء.
لذلك لم تنجح زيارة أردوغان لمقر الاتحاد فى تحريك المياه الراكدة مع مؤسسات الاتحاد الأوروبى، أو على الأقل إقناع بروكسل بصواب إجراءات استثنائية اتخذتها حكومة العدالة والتنمية، لكنها تتطابق مع معايير الاتحاد.
والأرجح أن ثمة مخاوف عدة تشير إلى أن الأزمة بين أنقرة وبروكسل قد تصل إلى مستوى أعمق أولها الإجراءات غير الديمقراطية التي تنتهجها حكومة أردوغان، وفى مقدمتها فرض الرقابة الشاملة على الإنترنت، والاحتفاظ ببيانات مستخدمى الشبكة العنكبوتية بين سنة وسنتين عبر وضع لائحة بالمواقع التى يدخلون إليها، والكلمات المفتاحية التى استخدموها ، ونقلها إلى السلطات المختصة عند الطلب، بينما لم يحدد مشروع القانون الجهة التى ينبغى نقل البيانات لها أو كيفية ذلك.
وثانيهما أن الاتحاد الأوروبى أعلن عدم ارتياحه تجاه أنقرة بعد إصرار أردوغان على عدم التراجع عن تعزيز الرقابة السياسية على القضاة والمدعين وعدم تخلى حكومته عن مشروع قانون يمنح وزارة العدل السيطرة وحق الإشراف على القضاة وتعيينهم فى المؤسسات القضائية وعلى رأسها المحكمة الدستورية، وهو الأمر الذى اعتبره الاتحاد ردة ديمقراطية تجافى قيمه وتقاليده.
على صعيد ذى شأن حذر مجلس أوروبا لحقوق الإنسان، الحكومة التركية من محاولة تسييس القضاء والسيطرة عليه. وقال مويزنكس، مفوض المجلس، إن "الحد من استقلال القضاء سيشكل خطراً على واقعه ويقلل من ثقة الجمهور ليس في المؤسسة القضائية فحسب، بل في الدولة برمتها" وأضاف إن "ما يثير لدي قلقاً كبيراً هو أن مشروع القانون يهدف إلى حرمان الجمعية العامة للمجلس الأعلى للقضاء والقضاة من بعض صلاحياتها لمنحها وزير العدل عكس ما تدعو إليه عدة هيئات في مجلس أوروبا".
أما ثالث مؤشرات القلق لدى الاتحاد الأوروبى فتعود إلى استمرار مسلسل إقصاء رجال الشرطة من مواقعهم الوظيفية أو نقلهم إلى أعمال أخرى دون سند قانونى، فضلاً عن اتساع دائرة الخوف وتنامى الهواجس لدى قطاع معتبر من الشعب التركى بشأن المستقبل.
هكذا أفسدت الحملة التي تتبنها حكومة أردوغان ضد القضاء والشرطة ناهيك عن جهود تأميم الإعلام العلاقات مع الاتحاد الأوروبى فى الوقت الذي بدا فيه أن مساعى تركيا المتعثرة للانضمام إلى عضوية الاتحاد تكتسب قوة دافعة.
خلف ما سبق تشير مزاعم إلى اتساع الرتق بين جناحى الحكم في تركيا، خاصة بعد أن رفض الرئيس عبدالله جول مشروع قانون هيكلة السلطة القضائية، ودعوته صراحة للمرة الأولى إلى ضرورة إعادة النظر فى مجمل السياسات الداخلية والخارجية مبدياً اعترافاً ضمنياً بوجود فشل على الأصعدة كافة.
أما رابع هذه المخاوف فيعود إلى أن أردغان لا يزال مصراً على أن يضرب بالدستور عرض الحائط ويلغى الفواصل بين السلطات وتجميع كافة الصلاحيات بيده، وكان بارزاً، هنا، تمرير البرلمان التركى في يوليو الماضى، وعقب أحداث 30 يونيو المصرية وانحياز الجيش لها، تعديل المادة 35 من قانون الخدمة الداخلية للمؤسسة العسكرية التركية بضغط من الحزب الحاكم.
وكانت المادة الـ35 من قانون المؤسسة العسكرية، الذي صدر في 1960، تنص على "أن وظيفة القوات المسلحة التركية هي حماية الوطن التركي ومبادئ الجمهورية التركية كما هى محددة فى الدستور".
وبموجب الصيغة الجديدة، التي جرى التصويت عليها بأغلبية في 13 يوليو 2012، فقد أصبحت "مهمة القوات المسلحة تتمثّل في الدفاع عن الوطن والجمهورية التركية تجاه التهديدات والأخطار الخارجية، والسعي إلى الحفاظ على القوة العسكرية وتعزيزها، بحيث تشكل قوة رادعة للأعداء، والقيام بالمهمات الخارجية التي تسند إليها من قبل البرلمان التركى، والمساعدة على تأمين السلام العالمي".
والأرجح أن إسراع أردوغان بهذا التعديل كشف عن هشاشة قاعدته السياسية التي أقلقت دول الاتحاد الأوروبى، بينما لا تزال الصورة النمطية للجيش في الوعى الجمعى التركى إيجابية، ولذلك لم تفلح محاولات اتهام بعض ضباطه بالخروج عن الانضباط أو الإسراف فى شرب الخمر ولعب القمار أو تسريب معلومات سرية إلى وسائل الإعلام فى سحب البساط من تحت أقدامه.
خصوصية المشهد وفتور أردوغان
تأسيساً على ما سبق فإن العراك السياسى والمجتمعى الذى تعيشه أنقرة اليوم ربما ينال من جهودها فى اللحاق بالقطار الأوروبى، خصوصاً وأن ما تشهده أنقرة الآن يبدو مختلفاً عما حدث من قبل لعدة أسباب: أولها خصوصية الوضع السياسى فى البلاد، وتظاهرات الاحتجاج التى تضرب تركيا منذ عدة أشهر، واكتسبت هذه الاحتجاجات تعاطفاً داخلياً من التيارات العلمانية وكذلك المؤسسة العسكرية.
وثانيها تصاعد الاحتقانات الطائفية، وبدا ذلك في تظاهرات الأقليات الكردية والعلوية طوال الأسابيع التى خلت، رغم سلسلة من الإصلاحات هدفت إلى تعزيز حقوق الأقليات، ومعالجة الاستقطاب المجتمعي الذى أخذت ملامحه في الازدياد طوال الشهور الماضية.
وراء ذلك تراجع الرصيد التقليدى لتركيا الذي سجل تآكلاً ملحوظاً كشفته مناخات التوتر مع دول الجوار الإقليمى وفشل سياسة تصفير المشاكل التي روج لها أحمد داود أوغلو.
لذلك تعرض رئيس الوزراء التركى، فى أول زيارة لبروكسل منذ خمس سنوات، لانتقادات حادة من زعماء الاتحاد الأوروبى بسبب فشله في تعزيز حقوق الأقليات، ومعالجة الاستقطاب المجتمعى التي أخذت ملامحه في الازدياد طوال الشهور التي خلت، لاسيما وأن الإصلاحات المجتمعية التي طرحها أردوغان ليست أكثر من طقس احتفالي يخفي أكثر مما يبدي، خصوصاً في ظل إصرار حكومة العدالة والتنمية على استخدام سياسة العصا الغليظة فى مواجهة أقلياتها دون الاستجابة لمطالبهم الملحة.
وعلى الرغم من تأكيدات تركيا أن عدم اللحاق بالقطار الأوروبى لا يعنى بالنسبة لها نهاية المطاف، فإن الواقع يشير إلى عكس ذلك، وهو ما عجز أردوغان نفسه عن إخفائه قبل ثلاث سنوات في مقالته المنشورة بمجلة الـ"نيوز ويك" من "أن تركيا لديها الحماس الذى يحتاجه الاتحاد الأوربى بشدة".
أوروبا: حلم أردوغان
لا تزال قضية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي هي الشغل الشاغل لتركيا، فهي تحمل أولوية خاصة على أجندتها السياسة الخارجية ، وعلى الرغم من عضوية تركيا فى حلف شمال الأطلنطى (الناتو)، فإن مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، والتي بدأت منذ العام 2005 تبقى هي الأهم لأردوغان وحكومته.
غير أن مستجدات الداخل وكشف النقاب عن تورط نخب الحكم فى قضايا فساد أدى إلى تدهور حاد فى صورة تركيا فى الشارع الأوروبى، وبدا ذلك فى توبيخ الاتحاد الأوروبى لأنقرة عقب فض تظاهرات ميدان تقسيم بالقوة واستخدام العصا الغليظة مع المحتجين دون الاستجابة لمطالبهم، مما أجل جولة جديدة من محادثات انضمامها إلى الاتحاد.
واتهمت التصريحات الخشنة التى أطلقها قادة الاتحاد الأوروبى بشأن أحداث تقسيم والإجراءات الاستثنائية للتغطية على فضائح الفساد، نخب الحكم فى تركيا بالبعد عن المسار الديمقراطى، وهو الأمر الذى اعتبرته أنقرة، على لسان رئيس وزرائها طيب أردوغان، تدخلاً فى شئونها الداخلية. ودخل المناخ مرحلة الشحن بين الطرفين قبل عدة أيام حين دعا المفوض الأوروبى لشئون توسيع الاتحاد حكومة تركيا إلى "استشارة الاتحاد قبل عرض مشروع مراجعة النظام القضائى".
صحيح أن أنقرة عاودت في نوفمبر الماضي، محادثات العضوية مع الاتحاد الأوروبي، بعد ثلاث سنوات من الجمود والتوتر، إلا أن الغموض وغياب الرؤية تبقى السمة الأبرز للعلاقة بين الطرفين.
فى هذا السياق العام كانت زيارة أردوغان لبروكسل فى 21 يناير الجارى فى محاولة لتدشين عهد جديد فى العلاقات التركية الأوروبية بعد موافقة الاتحاد على إعادة إطلاق مفاوضات انضمام تركيا إليه مجدداً.
معوقات اللحاق بالقطار الأوروبى
والحقيقة أن تركيا التي تتبع سياسة خارجية نشطة تبدو وكأنها لا تعول في دورها كلاعب دولي جديد على الاتحاد، فهذا الأمر يبدو شكلياً فحسب، ولعل زيارة أردوغان تلك دليل بارز على أن تركيا تسعى جاهدة للحاق بالقطار الأوروبى.
غير أن ثمة عوامل عدة ما زالت تقف حجرة عثر أمام انضمام تركيا للاتحاد يتركز أولها فى عزوف بعض دول الاتحاد الأوروبي قبول هذا البلد الكبير، فمواقف دول رئيسية عدة فى الاتحاد تشددت حول هذه المسألة، واعتبرت أن تركيا ما زالت بحاجة إلى سلسلة أخرى من القوانين التطبيقية خاصة فيما يتعلق بإقرار حقوق قانونية ودستورية للقوميات والأقليات غير التركية التي تعيش داخل أراضيها ومن ضمنها القومية الكردية والعلوية.
من ناحية ثانية ما زالت دول الاتحاد تنظر إلى المحاولات الإصلاحية التركية على أنها إصلاحات هامشية لا تعدو كونها مجرد محاولة للاقتراب من معايير الاتحاد الأوروبي، كما أنها ليست نهاية المطاف، فثمة حاجة ملحة لإصلاحات أخرى في مجالي حرية التعبير والدين، لاسيما وأن أوروبا تبدو قلقة إزاء ذلك الحجم الكبير للتقاليد والتراث المحافظ الذي يتمسك به حزب العدالة والتنمية، وللدين لدى الأتراك بعد ثمانين عاماً من العلمانية، وهو ما يختلف شكلاً ومضموناً عما هو قائم في المجتمعات الأوروبية.
على جانب ثالث يمثل العامل الديموجرافي عقبة كئود أمام انضمام تركيا البالغ عدد سكانها ما يقرب من 75 مليون نسمة للاتحاد الأوروبي والمتوقع أن يصل إلى 100 مليون خلال السنوات القليلة القادمة، وستصبح بذلك أكثر كثافة سكانية من ألمانبا التي تحتل المرتبة الأولى سكانياً بين دول الاتحاد.
ويبقى أخيراً العامل الثقافي والحضاري، وهو أحد أهم الأسباب التي ما زالت تحول دون دخولها النادي الأوروبي، خصوصاً وأن أوروبا لم تتمكن من تجاوز المذابح التي ارتكبها العثمانيون في القارة ضد الأرمن، إذ راح ضحيتها الآلاف من شعب أرمينيا، بينما تغض أنقرة الطرف عن الواقعة، وتسعى للالتفاف عليها.
المهم أنه من المرجح أن تشهد العلاقات التركية – الأوروبية الكثير من الصعود أو الهبوط خلال الفترة المقبلة، على ضوء التعاطي الأوروبي مع عضوية تركيا، فإذا ما فشلت أنقرة في معالجة الاحتقان السياسى، فإن الأوروبيين لا يمكنهم التفاوض مع نظام يكرس الأساليب السلطوية في قمع الداخل، بدلاً من الحوار معه، وهو الأمر الذى يتعارض مع سياسات الاتحاد التى تشجع على الانفتاح الديمقراطى.
• باحث بمركز الأهرام للترجمة والنشر