المياه الافتراضية: خطوة لمعالجة خطر الشُّح المائي في منطقة الشرق الأوسط
تعامل موارد المياه على الرغم من ندرتها في كثير من دول العالم النامي ومنها مصر على أنها سلعة حرة قد وهبها اللـه للبشر لاستخدامها في أنشطة الإنسان المختلفة بعيدًا عن حسابات التكلفة والعائد الاقتصادي. وقد أدى ذلك إلى تزايد الهدر والاستخدام غير الرشيد للموارد المائية وكذلك تلوث مصادرها. ومن هذا المنطلق نبعت أهمية المياه الافتراضية كمفهوم فرض نفسه في الآونة الأخيرة، وذلك من أجل حل مشكلة محدودية الموارد المائية في المناطق الجافة عمومًا، وفي منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص.
أولاً- تعريف المياه الافتراضية
هو مفهوم حديث نسبيًا فقد ظهر في منتصف التسعينيات، ويعتبر " توني ألن " هو أول من دش هذا المفهوم, وقد عرف " توني ألن " المياه الافتراضية بأنها: المياه المستخدمة في أماكن أخرى لإنتاج الأغذية التي يتم تصديرها إلى مناطق الشح المائي.
وقد طرح ألن هذا المفهوم بهدف حل مشكلة محدودية الموارد المائية في المناطق الجافة وعلى رأسها منطقة الشرق الأوسط حيث يرى أنه: " بما أن المياه من المتغيرات المهمة في إنتاج المحاصيل, لذا ينبغي على مختلف البلدان تحديد كمية المياة اللازمة لإنتاج الأغذية التي هي بحاجة إليها, وعندما يستورد بلد ما طنًا من القمح والذرة, إنما يستورد فعليًا أيضًا مياهًا افتراضية أي المياه اللازمة لإنتاج تلك المحاصيل". وقد ظهر هذا المفهوم عام 1993 على يد ألن ولكنه احتاج عقدًا من الزمان كي يتم اعتماده بوصفة أحد الموارد لتحقيق الأمن المائي على جميع المستويات.
وجدير بالذكر القول إن أول مؤتمر دولي أقيم في هذا الموضوع كان بعنوان" International Expert Meeting On Virtual Water Trade, Duteh City Of deflt, nertherland, 2003"
كما أن هذا المفهوم يشمل المياة المستخدمة في إنتاج وتجارة الأغذية وغيرها من المنتجات الإستهلاكية منذ زراعتها في الحقل وصولًا إلى استهلاكها على المائدة. أي يشمل كمية المياه المستخدمة في كل مراحل إنتاج المنتج.
فإعداد فنجان من القهوة, وفق هذا المفهوم، يستهلك نحو 140 لترًا من المياه التي تستخدم في زراعة وإنتاج وتعبئة وشحن حبوب البن المستخدمة، وعند حساب كمية المياه المستهلكة خلال إنتاج رغيف خبز واحد يتم أخذ المياة المستخدمة في الزراعة وتلك المستخدمة في العجن والخبز في الحسبان, ثم النقل حتي يصل رغيف العيش إلى مائدة المستهلك. كما أنه عندما يكون هناك انتقال للسلع والخدمات من مكان للآخر فإن ذلك يستتبعه انتقال المياه التي تحتويها هذه السلعة أو الخدمة.
وفي ضوء ذلك تعرف المياه الافتراضية " بأنها المحتوى المائي في أي منتج، وعليه فإن المياه الافتراضية المصدرة من بلد ما أو إقليم ما، ما هي إلا تلك المياه المحتواة في المنتج أو البضائع المصدرة من هذا البلد".
ثانياً- أهمية مفهوم المياه الافتراضية
وتتمثل أهمية المياه الافتراضية في اعتبارها أحد محاور ترشيد استهلاك المياه في الزراعة ولكن إذا نظرنا لهذا المفهوم بشكل أوسع نجد أن الأهمية يمكن أن تتلخص في الآتي:
أولًا: استخدام تجارة المياه الافتراضية كأداة لتحقيق الكفاءة في استخدام المياه والحد من ندرتها حيث يمكن تحقيق الكفاءة في استخدام المياه على المستوي العالمي وعن طريق ما يسمى بتجارة المياه الافتراضية. وإذا كانت المياه عنصرًا نادرًا في دولة ما, وأخذ في الاعتبار أن التجارة في المياه الحقيقية مكلفة بدرجة كبيرة، فقد يكون أكثر معقولية استيراد المياه من خلال استيراد الغذاء بدلًا من استخدام عنصر المياه النادر، وذي التكلفة المرتفعة في إنتاج كل غذائها السنوي. وفي ضوء ذلك اقترح عدد كبير من الباحثين في مجال التجارة الدولية للأغذية أن يكون التبادل التجاري بين الدول سياسة يمكن بواسطتها التخفيف من ندرة المياه سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي، وفي نفس الوقت تمكن الدول( وخصوصًا إقليم الشرق الأوسط وجنوب أفريقيا) من الحصول على واردات الحبوب بأسعار منخفضة( حيث إن المياه الافتراضية الموجودة في الحبوب التي يتم تداولها والاتجار فيها غالبًا ما تكون مدعمة).
ثانيًا: استخدام مفهوم المياه الافتراضية في تحقيق الأمن الغذائي للدولة: في هذا المجال أشار ألن إلى أنه يمكن النظر للمياه الافتراضية باعتبارها خيارًا متاحًا لمواجهة التحدي في توفير الأمن الغذائي الذي يرتبط إلى حد كبير بالأمن المائي عن طريق تجارة المياه الافتراضية، حيث يمكن للدولة تحقيق الأمن الغذائي على الرغم من ندرة مواردها المائية المحلية.
ثالثًا: الحد من إمكانية حدوث حروب على المياه سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي والدولي: فعلى حين يرى البعض أن زيادة الطلب على المياه لأغراض مختلفة في ظل محدودية الموارد المائية سوف يؤدي إلى صراع على المياه سواء على المستوى المحلي ( أي بين القطاعات المستهلكة للمياه من جهة، ومستخدمي كل قطاع من جهة أخرى) داخل الدولة الواحدة أو على المستوى الإقليمي أو الدولي، أي بين الدول وبعضها، أخذًا في الاعتبار أن هناك العديد من الدول التي تحصل على نسبة كبيرة من مياهها من خارج حدودها، وأشار ألن في هذا الصدد إلى أن مفهوم تجارة المياه الافتراضية يمكن أن يستخدم في مجالات أخرى، مما يخفف من الضغط على الموارد المائية المحلية، أما المستوى الإقليمي أو الدولي يمكن النظر إلى تجارة المياه الافتراضية باعتبارها أداة تعاون وتبادل واتصال بين الدول.
رابعًا: حساب ميزان تجارة المياه الافتراضية: تفيد معرفة ميزان تجارة المياه الافتراضية في دولة ما في وضع السياسات الملائمة للاستفادة من هذا المصطلح الجديد، فمفهوم المياه الافتراضية يجب أن يدفع الكثير من الدول التي تعاني من ندرة في مواردها المائية إلى إعادة النظر في سياسة التصدير الخاصة بهم، وخصوصًا حين يدركون أنهم يصدرون مياههم بأثمان رخيصة.
خامسًا: خلق وعي بيئي لدى الأفراد للانتفاع بالمياه: وأخيرًا فإن معرفة المحتوى المائي لمختلف السلع والخدمات يخلق وعيًا لدى الأفراد بالأثر البيئي لاستهلاكهم من هذه السلع والخدمات، بمعنى آخر إن معرفة محتوى المياه الافتراضية في المنتجات يعطي فكرة عن حجم المياه اللازمة لإنتاج مختلف السلع، ومن ثم معرفة أي السلع يكون له تأثير كبير على النظام المائي Water System وكيف يمكن تحقيق وفر مائي من خلال ذلك.
وأخيرًا فإن الاعتبارات السياسية والاقتصادية والبيئية ( والتي تكون في الغالب لها الأولوية عن ندرة المياه) تحد من فاعلية التجارة الدولية كأداة يمكن بواسطتها الحد من ندرة المياه.
ثالثاً- أسباب طرح هذا المفهوم
من الأسباب المهمة وراء طرح هذا المفهوم هو إمكانية احتساب حل مشكلة الندرة المائية في بلدان الشرق الأوسط. حيث يمكن للدول التي تعاني من شح مائي أن تقلل من زراعة المحاصيل الكثيفة في استخدام المياه، باستيرادها من الدول ذات الوفرة المائية، وبهذه الطريقة تحقق البلدان المستوردة وفرات من خلال تجارة المياه الافتراضية، ويشير ألن إلى أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تعتمد الآن اعتمادًا كبيرًا على المياه الافتراضية لتغذية سكانها المتزايد عددهم بسرعة، فقد ازدادت واردات الحبوب والدقيق من سبعة ملايين طن في السنة في أوائل السبعينيات إلى أكثر من أربعين طنًا في أواسط الثمانينيات، وهذا الحجم الكبير من الأغذية المستوردة سيعادل 20% تقريبًا من استخدام المنطقة لإجمالي المياه العذبة، لذلك يعد هذا من أهم أسباب ظهور هذا المفهوم.
رابعاً- المفاهيم المرتبطة بمفهوم المياه الافتراضية
1- تجارة المياه الافتراضية: حيث يعتبر هذا المفهوم من الوسائل التي ستزيد كفاءة استخدام المياه على مستوى العالم، حيث يشير إلى أن الدول التي تعاني من ندرة المياة من الممكن أن تقوم باستيراد السلع المنخفضة نسبيًا في محتوى المياه الافتراضية لتعظيم قيمة المياه المحدودة التي لديها، وبهذه الطريقة تحقق الدوله المستوردة وفرًا في المياه الحقيقية لتخفيف الضغط على مواردها المائية، وفي نفس الوقت يمكن استخدام هذا الوفر في أغراض واستخدامات أخرى ذات إنتاجية مرتفعة، أي تولِّد قيمة مضاعفة أكبر لكل وحدة مياه.
2- الوفر المائي: حيث يعتبر الأثر الأكثر إيجابية المترتب على تجارة المياه الافتراضية في الدول المستوردة، ويكون الوفر المائي على المستوى المحلي من خلال استيراد السلع الأكثر استهلاكًا للمياه عن إنتاجها محليًا، وجدير بالذكر أن تجارة المياه الافتراضية لا تنطوي على عملية وفر مائي فقط، حيث تنطوي أيضًا على عملية فقد مائي للدول المصدرة، ونحن نعني بالوفر والفقد هنا من الناحية المادية وليس من الناحية الاقتصادية.
3- ميزان المياه الافتراضية: وهو عبارة عن محصلة المياه الافتراضية المتبادلة من خلال فترة معينة لبلد ما، أي أنه يساوي الفرق بين ما تحتويه الصادرات والواردات من المياه الافتراضية طبقًا لاحتياجات كل سلعة أو خدمة، فإذا زاد ما تصدره الدوله على ما تستورده من مياه، فإن ذلك يحسب كعجز، وإذا زاد الاستيراد على التقدير يصبح هناك فائض من المياه الافتراضية.
4- البصمة المائية: حيث إن الاستخدام الثاني لمفهوم المياه الافتراضية يكمن في حقيقة أن محتوى المياه الافتراضية لمنهج ما يعكس الأثر البيئي لاستهلاك هذا المنتج، بمعنى آخر فإن معرفة محتوى المياه الافتراضية لمنتج ما يعطي فكرة عن حجم المياه اللازمة لإنتاج مختلف السلع، ومن ثم معرفة أي السلع يكون له تأثير كبير على النطام المائي، وكيف يمكن تحقيق وفر مائي من خلال ذلك. والمفهوم الذي يعكس ذلك يعرف بالبصمة المائية والذي قدمته Hoekstrax Hung عام 2003 والبصمة المائية لدولة ما تعرف بأنها " إجمالي حجم المياه اللازمة لإنتاج السلع والخدمات (محتوى المياه الافتراضية) المستهلكة بواسطة كل فرد من أفراد الدولة، ويمكن حساب البصمة المائية لأي مجموعة من المستهلكين مثل(عائلة- شركة- قرية- مدينة- محافظة- دولة)".
فالبصمة المائية الداخلية تعرف بأنها " استخدام الموارد المائية المحلية لإنتاج السلع والخدمات المستهلكة بواسطة كل فرد من أفراد الدولة ".
خامساً- مدى جدوى هذا المفهوم بالنسبة لمصر
تعد مصر من الدول التي يمثل الماء فيها موردًا نادرًا كما تعاني من ارتفاع معدلات الزيادة السكانية التي نتج عنها تناقص نصيب الفرد من الأراضي الزراعية والمياه العذبة، مما نشأ عنه عدم كفاية الإنتاج المحلي، وبالتالي استيراد كميات إضافية من الغذاء لسد احتياجات الاستهلاك وما يصاحب ذلك من استيراد لكمية من المياه الافتراضية اللازمة لإنتاج تلك الكمية المستوردة محليًا، وعليه فإن استيراد نحو 4585.05 ألف طن من القمح خلال متوسط الفترة (2000-2007) أدى إلى توفير نحو 3338.52 مليون م3 من المياه الافتراضية، وعلى الجانب الآخر تقوم مصر بتصدير مجموعة أخرى من السلع الزراعية تحقق عائدًا مناسبًا من نشاطها الإنتاجي والتجاري، في حين أن أثر هذه التجارة قد يكون سلبيًا إذا أخذ في الاعتبار قيمة المياه المستهلكة في إنتاجها، وخير مثال على ذلك محصول الأرز الذي يعتبر من أكثر المحاصيل استهلاكًا للمياه بعد قصب السكر، حيث قدرت كمية المياه المفقودة نتيجة تصدير نحو 739.58 ألف طن من الأرز بنحو 1718.75 مليون م3 من المياه خلال متوسط الفترة من (2000-2007).
ومن ثم فإنه يجب إدراج هذا المفهوم في السياسة المائية، والزراعية, والتجارة الخارجية المصرية ولكن ليس عن طريق التوقف كلية عن إنتاج السلع الزراعية وإنما الاستفادة من إيجابيات هذا المفهوم في تحقيق وفر في مواردنا المائية مع تجنب سلبياته بقدر الإمكان وذلك من خلال:
1- زيادة الصادرات من السلع الزراعية الأعلى كفاءة في استخدام المياه.
2- تخفيض المساحة المنزرعة بالأرز وقصب السكر.
3- زيادة التطور التكنولوجي في زراعة وري الأرز وقصب السكر.
4- تقييم تجارة المياه الافتراضية يجب أن يتم في إطار أكبر من الأهداف القومية.
5- الأخذ بمبدأ الميزة النسبية للإنتاج بالإضافة إلى الميزة والقدرة التنافسية في إطار العولمة وحرية التجارة الدولية، وذلك في ظل ارتفاع معدلات الزيادة السكانية ومحدودية الموارد مع الأخذ في الاعتبار تحقيق مستوى ملائم من الأمن الغذائي.
6- ضرورة إدخال قيمة المورد المائي ضمن حسابات التكاليف والعوائد الاقتصادية حالة اتخاذ القرارات الاقتصادية المتعلقة بالسياسات الإنتاجية والتصديرية والاستيرادية.
7- عمل توليفة بين قطاعي الزراعة والصناعة وذلك من خلال تعديل التركيب المحصولي القائم بما يتلاءم مع سياسة الدولة المائية والإنتاجية والتصديرية.
8- تعزيز سبل التعاون بين مصر والدول العربية، ودول حوض النيل.
9- عدم الاعتماد على تجارة المياه الافتراضية فقط لمواجهة مشكلة ندرة المياه في مصر بل تطبيق إستراتيجية شاملة لإدارة الموارد المائية.